الحرب: قانون لانكستر
من المدهش، بالنظر إلى أهمية الحرب في التاريخ الإنساني المسجل (وبالتأكيد قبل أن يبدأ تسجيل التاريخ بزمن طويل)، مدى ضآلة الانتباه المنهجي الذي أُولِيَ لعملية البحث عن مبادئ أساسية استراتيجية وتكتيكية، مقارَنةً بالجهد الذي أُنفِق على تطوير أسلحة جديدة. بالطبع هناك المبادئ الكلاسيكية لِصن تزو، التي وُجِدت قبل ألفَيْ وخمسمائة عام، ومبادئ نابليون، قبل ما يناهز الثلاثمائة عام، وحتى تعاليم كلاوزفيتز الأكثر حداثةً، فضلًا عن الشعارات والمبادئ الرنانة على غرار «فَلْتكن في موضع أعلى من خصمك»، و«كُنِ الأسرع وصولًا وبأكبر عدد من قواتك»، و«فرِّقْ تَسُدْ»، والتي تُعَدُّ جميعًا شعارات مفيدة في أنواع معينة من الحروب، ولكنها تظل مجرد شعارات. لعل من اللافت مدى ضآلة ما نُشِر من التفكير «النوعي» حتى عن هذه الموضوعات المصاغة في صورة شعارات. ثمة ابتكارات كمية في كلٍّ من الاستراتيجية والتكتيكات تظهر من آنٍ لآخَر، مصحوبة في الغالب بتعديل من قِبَل قادة ذوي مواهب فذَّة على الأسلحة الجديدة، من إدخال الخيل في المعارك في الألفية الأولى قبل الميلاد، مرورًا باستخدام القوس الطويل في مطلع الألفية الثانية بعد الميلاد، واستراتيجية الردع الأكثر حداثةً، التي جاءت مع ظهور الأسلحة النووية، وأسفَرَ حلولُ عصرِ الكمبيوتر عن ظهور صناعة صغيرة في ألعاب محاكاة ساحات المعارك والحروب الواقعية، التي تُستخدَم بشكل مكثَّف لتدريب القادة العسكريين. وعلى الرغم من ذلك كله، من الصعب العثور على مبادئ عامة لصنع القرار في وقت الحرب، وإذا كان هناك أي مكان على الإطلاق تتكلَّف فيه كل غالٍ ونفيس من أجل تعلُّم وظيفتك عبر المحاولة والخطأ، فهو ساحة القتال.
غير أن القرارات التكتيكية في ساحة أي معركة هي موضوعات تتعلق بالتنظيم العقلي (الذي يُعَدُّ جوهرَ صنع القرار)، شأنها شأن جميع تطبيقات صنع القرار الواردة في هذا الكتاب؛ فحين تواجه خصمًا مفكرًا، يصبح الموضوع متعلِّقًا بنظرية الألعاب؛ مما يجعله أقلَّ شفافيةً ووضوحًا، ولكن من الممكن أيضًا أن تكون هناك حالات يمكن أن يكون فيها سلوك الخصم مفهومًا بقدر كافٍ، أو غير ذي تأثير، بشكل يجعل اتخاذ القرارات من قبيل الأمور الفردية فعليًّا؛ حينئذٍ يمكن أن تكون الطرق الأبسط ذات نفع.
أحد الأمثلة لتطبيق التنظيم الشكلي على دراسة التكتيكات الحربية وضعه مهندس إنجليزي يُدعَى فريدريك لانكستر، أحد الرواد الأوائل في تاريخ الطيران والسيارات المبكر، والذي أقام نظريته على أساس دراسة للمعارك الجوية في الحرب العالمية الأولى. إن عمله الممتاز والمنطوي على رؤًى ثاقبةٍ ليس معروفًا إلا لقلة قليلة من الضباط العسكريين المعاصرين؛ وهو مذكور في مناهج الأكاديميات العسكرية، ويُعتبَر في غاية الأهمية. إذا بَدَتْ نبرتنا تهكميةً، فسوف نرى سببًا محتملًا لذلك بعد قليل.
درس لانكستر نموذجًا افتراضيًّا (مبسطًا لحد السذاجة بالطبع) لمعركة، كانت فيها القوات المتحاربة يُطلِق بعضها النارَ على بعض ببساطة، دون أي تفوق في الدقة أو العنصر البشري أو خصائص الأسلحة لأيٍّ من الجانبين. (كانت الحرب العالمية الأولى، شأنها شأن العديد من الحروب الأقدم أو الأحدث، زاخرةً بالكثير من الأمثلة لمثل هذه المعارك الحمقاء.) كانت نظريتُه ذاتُ الأهمية البالغة تتمثَّل في أن قوتك النارية في مواجهةٍ كهذه تتناسب طرديًّا مع عددِ ما لديك من وحدات قتالية — سواء أكانت قوات عسكرية، أم سفنًا، أم طائرات — بينما عدد الأهداف التي تبرزها للعدو يتناسب طرديًّا أيضًا مع عدد وحداتك؛ وعلى ذلك تعتمد فاعليتك مرتين على الأعداد؛ مرة بزيادة معدل إطلاق النار، والأخرى بالتخفيف من نيران العدو. والفرضية الأساسية لتلك النظرية هي أن كل جانب يطلق النار في اتجاه الآخر، مع وجود احتمالٍ، مهما كان ضئيلًا، لإصابة هدف (إذا كانوا يطلقون النار بعنف في الظلام — وهي عادة يجلها العسكريون بالتعبير المطنب «نيران المنع والتضييق» — فالأمور حينئذٍ تختلف). وفي النهاية تظهر نتيجتان مهمتان، يسهل التوصُّل إليهما رياضيًّا.
النتيجة الأولى تتمثَّل في أن قوة قواتك تقاس ﺑ «مربع» عدد وحداتك، وليس مجرد العدد؛ ومن ثَمَّ يصبح التفوُّق العددي على العدو ميزةً أعظم مما كنتَ تعتقد؛ فمضاعفة عدد الوحدات (من قوات، وطائرات، ودبابات … إلخ) ثلاث مرات يؤدي إلى مضاعفة الفاعلية والقوى بمقدار تسع مرات. في الأفلام السينمائية وعلى شاشة التليفزيون دائمًا ما يتغلَّب الأخيار (الممثِّلون ذوو الوسامة والمظهر الرث) على عصاباتٍ مكوَّنة من عشرات الأشرار، ولكن يجب ألا تعتمد على ذلك في الواقع؛ فقانون التربيع يعتمد على انخراط الجميع في القتال في وقت واحد؛ أحيانًا في الأفلام يتبادل الأشرار قتال الطيب المتواجِد بمفرده (تكتيكات يرثى لها)؛ ومن ثَمَّ يتمكَّن البطل من القضاء عليهم كلٍّ على حدة، دون حتى أن يلهث؛ وعليه فإن الشروط فيما يتعلَّق بقانون لانكستر ليست متحققة.
ثمة حالة أخرى لا تتحقق فيها الشروط وتتمثَّل في امتلاك أحد الجانبين أسلحةً أفضل من تلك المتوافرة للآخر. بإمكان بطل واحد في الوزن الثقيل أن يقضي بسهولة على عشرة أشخاص في حجم الكاتب، دون الاضطرار لأخذ نفس عميق. ويحب العسكريون أن يطلقوا على الأسلحة أو المهارة الأفضل «مضاعفات القوة».
ولكن حين تكون الشروط الخاصة بقابلية تطبيق قانون التربيع متوافرةً في الواقع، تكون له نتائج مثيرة. كانت هناك فترة في الماضي تواجدت فيها طائرتان مقاتلتان عسكريتان في وقتٍ واحد في سلاح الطيران الأمريكي، إف ٤ المهيبة، وإف ١٥ الأحدث والأفضل. كان الطيارون المقاتلون (بالطبع) يفضلون الطائرة الحديثة؛ فقد كانت قيادتها أكثر إثارةً ومتعةً، ولكن للأسف، كانت الأعداد المنتجة من الإف ٤ ضخمة، وكانت تكلفة الطائرة الواحدة حوالي ٤ ملايين دولار فقط في ذلك الوقت، فيما كانت تكلفة الإف ١٥ حوالي ٢٠ مليون دولار. وقد اعتاد هذا الكاتب أن يسأل أصدقاءه في سلاح الطيران إذا ما كانوا يفضِّلون، في المعارك، أن تكون لديهم طائرة إف ١٥ واحدة أم خمس طائرات إف ٤ بنفس التكلفة، فكانوا يفضِّلون بشكلٍ شبه دائم طائرة إف ١٥ واحدة؛ «لأنها طائرة أفضل». تلك هي الإجابة التي تحصل عليها دون تفكير. إن التمتع بمعاملِ تَفَوُّقٍ قيمتُه ٢٥ — يتم الحصول عليه عن طريق تربيع الأعداد وفقًا لقانون لانكستر — مقابل نفس السعر لَهُوَ أمر لا يُستهان به. وفي الواقع إن ألعاب محاكاة المعارك (والتي لا يروج لها على نطاق واسع من جانب سلاح الطيران) كانت تؤكِّد بشكل واسع على صحة النظرة القائلة بأن الأكثر أفضل (في المعارك الجوية الحديثة، تُعتبَر القذيفة التي تحملها الطائرة أهم بكثير من الطائرة التي تحمل القذيفة)، ولكن تلك الحقيقة تفقد أهميتها أمام الرغبة الشديدة في قيادة طائرة حديثة متطورة، لا سيما في وقت السلم.
النتيجة الثانية المهمة لِقانون التربيع تكمن في التكتيكات؛ وهذا هو ما دفعنا لإدراج هذا الفصل في كتابٍ عن صنع القرار. والأمر أقل وضوحًا بدرجة طفيفة على المستوى الرياضي؛ فبينما يطلق الجانبان في المعركة النارَ أحدهما في اتجاه الآخَر، يكون هناك ما يطلِق عليه الفيزيائيون ثابت الحركة؛ وهي كمية لا تتغير نتيجة الضرب المتبادل، وهذا الثابت هو «الفرق» بين «مربعات» عدد الوحدات على كل جانب. على سبيل المثال، إذا واجهَتْ قوةٌ مِن خمس وحدات قوةً أخرى من ثلاث وحدات تحت الظروف الملائمة، يكون فارق التربيعات خمسًا وعشرين ناقصة تسعًا؛ أيْ ست عشرة؛ على ذلك ستكون النتيجة المتوقعة للمعركة أن القوة الأصغر سوف تُمحَى، بينما سيتبقى لدى القوة الأكبر أربع وحدات (جذر ١٦). (بالطبع غالبًا ما لا تكون الجيوش الحقيقية مُخْلِصة للقضية لدرجة تدفعها للقتال حتى الفناء؛ هذا مجرد نموذج.) هكذا ستكون القوة الأكبر قد دمرت قوة للعدو مؤلَّفة من ثلاث وحدات بخسارة وحدة واحدة فقط من قوتها، وهذه السمة هي التي لها مثل هذه التداعيات التكتيكية المهمة، حيث يمكن تطبيقها.
قبل التطرق إلى التفاصيل قد نتساءل إن كان أيٌّ من هذا صحيحًا، أو إذا ما كان ساذجًا على نحو مستحيل لدرجة تجعله لا يمتُّ بصلة لمعركة حقيقية؛ الإجابة هي نعم ولا على كلا السؤالين. هناك بالتأكيد حالات عديدة في التاريخ العسكري تمكَّنَتْ فيها قوًى أقلُّ عددًا بشكل بالغ من انتزاع انتصارات؛ تارة بفضل الأسلحة الفائقة، وتارة بفضل تفوقها من حيث الذكاء، وتارة بفضل الحظ المحض. وما من ملاحظة إحصائية ستجسد نفسها طوال الوقت.
ولكن العنصر الأساسي في الأمر، مثلما نقول غالبًا في الكتاب، هو الحصول على أفضل نتيجة «متوسطة» من مواردك الحالية؛ وبناء على هذا المعيار، يصمد قانون لانكستر بشكل لافت. في واحدة من أشهر معارك جزر المحيط الهادئ في الحرب العالمية الأولى تمَّ الاقتتالُ حتى آخِر جندي (من جانب واحد)، دون تعزيزات، وأمكن فيما بعدُ ترميمُ آثار الاستنزاف المتبادل بين الطرفين خلال المعركة، وقد كان هذا قريبًا بشكل مذهل مما تم التنبؤ به باستخدام قانون لانكستر. غير أن هذا ليس مفاجئًا حقًّا؛ لمَّا كانت المبادئ الأساسية الكامنة — زيادة القوة النارية بالأرقام، وتخفيف فاعلية نيران العدو — قابلةً للتطبيق بشكل واضح. كلُّ هذا معروف تمامًا لمحلِّلي العمليات العسكرية، ومعظمهم من المدنيين، ولكنه يلقى مقاومة من قِبَل عدد كبير للغاية من كبار الضباط؛ فهذا الأمر يبدو نوعًا من العمليات الرياضية، وليس من أعمال البطولة والجسارة.
كيف يمكنك، في الواقع، استخدام هذه الحكمة من أجل صنع القرار في موقف تكتيكيٍّ ما، على فرض أن قانون لانكستر صحيح تمامًا؟ لنختلق حالة بسيطة، تُصدِر فيها أمرًا لقوة من خمس عشرة وحدة (لنُسمِّها رجالًا) بمواجهة قوة من قوات العدو، قوامها سبعة عشر رجلًا على نفس القدر من الكفاءة. يفوقك العدو عددًا، وليس لديك ميزة خاصة في الأسلحة أو الموقع. وبما أن مربع الرقم ١٥ هو ٢٢٥ ومربع الرقم ١٧ هو ٢٨٩، فبإمكان عدوك أن يُجهِز على قوتك بالكامل بينما ينجو ٨ من رجاله (٢٨٩ ناقص ٢٢٥ تساوي ٦٤، وهو مربع الرقم ٨). سيكون قد تكبَّد خسائر شنيعة، تُقدَّر بأكثر من نصف جيشه، ولكن قواتك ستكون قد أُبِيدت بالكامل. وإذا كان الأمر يهمه بما يكفي، فسوف تُنجَز المهمة لا محالة.
ولكن هل يمكن أن تنتصر على أي حال، على الرغم من نظرية لانكستر (أو بفضلها)؟ يمكنك الانتصار إذا أمكنك شق صفوف العدو؛ بحيث تقاتل جزءًا من قوته بكل قواتك. هَبْ أنك تستطيع، بمناورة ذكية، أن تعزل ١٢ من رجاله، وتمكَّنت من جلب جيشك المكوَّن من ١٥ رجلًا لتَوَلِّي أمرهم، بينما رجاله الخمسة الآخرون إما نائمون وإما يحاولون العثور على موقع المعركة. إذن، وبموجب قانون لانكستر، فإن ٢٢٥ ناقص ١٤٤ تساوي ٨١، ويمكنك أن تقضي على هذه القوة المنفصلة، محتفظًا ﺑ ٩ من أصل ١٥ رجلًا، هم عدد رجالك، على قيد الحياة. مرة أخرى تتكبَّد خسائر حادة، تُقدَّر ﺑ ٤٠٪ من جيشك، ولكنك ستحرز الانتصار. عليك الآن بالطبع أن تتعامل مع رجاله الخمسة الآخرين، ولكن لديك ٩ رجال من أجل المهمة، ولديك التفوق العددي، ومع انتهاء الأمر برمته، ستكون قد قضيتَ على قوته المتفوقة، وسيتبقى معك حوالي نصف قواتك.
إن المحصلة هنا أنك — على الرغم من التفوق العددي للعدو — استغللتَ قانونَ التربيع بذكاء وبراعة لشق قوات العدو بالطريقة الصحيحة تمامًا، وكان النصر هو مكافأتك. وكل العسكريين يَعُونَ أهمية شق تشكيلات العدو، وتأتي هذه الفكرة تحت مسميات على غرار مبدأ الاختراق، أو مبدأ الحشد، ولكن نادرًا ما تتجاوز كونها مفهومًا كميًّا.
هناك حالات عديدة في التاريخ العسكري تَحقَّقَ فيها النصر لقوة أقل عددًا، ولكن لا توجد حالات كثيرة يمكن بها تحديد إذا ما كانت هذه المبادئ قد لعبت دورًا أم لا. (تاريخيًّا، لا يستسلم أي جيش حين يُهزَم، ولكن حين «يعتقد» أنه قد هُزِم. ومن الممكن في بعض الأحيان إقناعه بالهزيمة بينما لا يزال هو القوة المتفوقة.) كانت الحالة التي استشهد بها لانكستر كمثال في عمله الأصلي هي معركة ترافلجار البحرية، التي دارت رحاها أمام سواحل إسبانيا في عام ١٨٠٥، وانتصر فيها لورد نيلسون على أسطول تحالُفِيٍّ (فرنسي وإسباني) كان متفوِّقًا عدديًّا. زعم لانكستر أن نيلسون كان يعرف بالغريزة أين يقطع خط سير الأسطول التحالفي بشكل مثالي. ربما يكون الأمر كذلك، وربما لا — لا أحد يعرف ما كان يدور بعقل نيلسون، لا سيما أنه قُتِل في المعركة — ولكن المبدأ صحيح بلا شك، ولن يضير القادة المعاصرين أن يحاولوا فهمه بشكل أفضل.
ينطبق قانون لانكستر على معركة بين قوتين تُطلِق كلٌّ منهما النار تجاهَ الأخرى؛ فهل هناك مكافئ لحالةٍ فيها ثلاث قوًى تقاتل كلٌّ منها الأخرى؟ (لو احتجتَ مثالًا لهذا فكِّرْ في المسلمين والكرواتيين والصرب، فيما كانت في الماضي دولة يوغوسلافيا.) حينها يكون هناك احتمالان متطرفان. في أحد الاحتمالين يطلق الجميع النارَ كلٌّ منهم على الآخَر (أطلِقِ النار أولًا، ثم اعرف مَن تحديدًا أطلقتَ عليه النار)؛ وفي الحالة الثانية يتحالف طرفان ضد الثالث. الحالة الأولى تُعَدُّ بمنزلة مسألة رياضية قابلة للحل، وهي معقدة بشكل يتعذَّر معه تناولها بالمعالجة التفصيلية في هذا الكتاب، بينما الأخرى مطابقة لإشكالية لانكستر، مع اعتبار التحالف قوةً واحدة مفردة.
لنتناول حالةً محدَّدة، مع اختيار الأرقام بعناية بحيث تؤدِّي إلى إجابات بسيطة. هَبْ أن القوى الثلاث المتحاربة، المسمَّاة ألفا وبرافو وتشارلي، تبدأ ﺑ ٤٥، و٤٠، و٣٥ وحدة (دبابات، رجال، طائرات) على التوالي، ثم يبدأ إطلاق النار. بموجب قوانين لانكستر يطلِق الجميعُ النارَ على أيِّ غريبٍ في مرمى البصر، سواء أكانوا يجيدون التصويب أم لا. حين يهدأ غبار المعركة تكون القوة الصغرى قد انتهت، بينما سيتبقَّى لدى ألفا وبرافو قواتٌ مؤلَّفة من ٤٠ و٢٠ وحدة على التوالي. (ثِقْ بالكاتب، ليس من الصعب إجراء العملية الحسابية.) لن تكون القوة الصغرى شيئًا من الماضي فحسب، بل ستكون برافو، ثاني أكبر قوة، قد استُنزِفت بشكل بالغ مقارَنةً بألفا؛ إذ ستكون قد فقدت نصف قوتها الأصلية المقدَّرة ﺑ ٤٠ وحدة، بينما ستنخفض وحدات ألفا من ٤٥ إلى ٤٠؛ حينئذٍ سيكون من السهل على ألفا أن تقضي على برافو، وتخرج منتصرةً بخسائر محدودة نسبيًّا. يُعتبَر إطلاق النار العشوائي خيارًا رائعًا للقوة الكبرى، وأي طلقات نارية سدَّدتها قوَّتا برافو وتشارلي إحداهما تجاه الأخرى، لم يكن لها تأثيرٌ سوى أن تفيد ألفا.
ولكن هَبْ أن قائدَيْ برافو وتشارلي على علمٍ بكل هذا، واتفقَا على التعاون ضد ألفا (فيما يُعَدُّ تحالُفَ مصالح)، مرجئَين حسْمَ الخلافات بينهما إلى المستقبل؛ إذن ستبدأ القوة التحالفية ﺑ ٧٥ وحدة، متفوِّقة بشكل ضخم على وحدات ألفا، ويمكنها أن تُجهِز على ألفا بخسارة ١٥ من وحداتها اﻟ ٧٥. لا شك أن ذلك أفضل من التضحية بالنفس، وهذا هو السبب الأساسي وراء الانتشار الشديد للتحالفات. (بالطبع لا تنجح تلك التحالفات بهذا الشكل دائمًا؛ لأن كل عضو من عضوَيِ التحالف يعلم بشأن المواجهة التالية التي تنتظره، ومن المرجح ألَّا يقاتل بكلِّ قوته لهذا السبب؛ ولهذا السبب كان دعم قوات الحلفاء للاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية دعمًا فاترًا.)
ثمة مسألة واحدة لا تزال متبقية؛ الخسائر «النسبية» التي تتكبدها برافو وتشارلي بينما لا تزالَا منهمكتين في محاولة سحق ألفا. هذا بالطبع ما يمثِّل أهميةً لكلٍّ منهما بالنسبة إلى الجولة القادمة. مرة أخرى قد تمثِّل الرياضيات ترفًا زائدًا، ولكنَّ المحصلة هي أن كلًّا منهما سوف تخسر ٢٠ بالمائة من قوتها، فيتبقى لِبرافو ٣٢ من أصل ٤٠ وحدة، ويتبقى لِتشارلي ٢٨ من أصل ٣٥ وحدة، بينما في هذه الحالة تكون ألفا هي التي مُحِيت من الوجود، وستكون برافو وتشارلي قد تكبَّدَتَا خسائر متساوية ومتناسبة أثناء التخلُّص من العدو المشترك. بالطبع سيكون الفوز في المواجهة القوية التالية لِبرافو، ولكن بخسائر فادحة؛ إذ سينتهي بها الحال ﺑ ١٥ أو ١٦ من أصل قوتها الأصلية ذات اﻟ ٤٥ وحدة، وقد تقرِّر أن الأمر لا يستحق.
إن الدرس المستفاد من ذلك والمتمثِّل في أن مِن الجيد دائمًا في أي نزاعٍ ثلاثيِّ الاتجاه أن تتحد قوتان ضد الثالثة؛ يُعتبَر قاعدةً عامة تنبثق بشكل مباشر من نظرية الألعاب ذات اللاعبين المتعدِّدين. علاوة على ذلك، كلنا نعرف تلك القاعدة من واقع الخبرة. (مع ذلك، ما زلنا حتى كتابة هذه السطور ندعم قيام حكومة ثلاثية من الكرواتيين والمسلمين والصرب في البوسنة. لن تنجح.)
ما من سبب للاعتقاد أن قادة المستقبل العسكريين الذين يتلقَّون تدريبهم (بل تعليمهم أيضًا؛ فالتدريب والتعليم مفهومان مختلفان) الآن في الأكاديميات العسكرية الثلاث؛ غير قادرين فكريًّا على التعرُّف على مبادئ القتال، حتى عندما يتخلَّل هذا بعض الحساب. ووزير الدفاع في وقت كتابة هذه السطور، ويليام بيري — وهو رجل مُلِمٌّ بالرياضيات بحكم تدريبه — يعرف هذا تمام المعرفة، ولكن على المستوى الأعلى لا يُعتبَر ذلك ذا صلة بالأمر.
إن الفارق بين التدريب والتعليم هو ما يجعل دراسةَ قانون لانكستر أمرًا ذا أهمية؛ فالتدريب يتضمن استجابةً شرطيةً لمواقف معروفة، أما التعليم والذكاء فيؤتيان ثمارهما في حالات غير مألوفة. اعتاد أحد أصدقاء الكاتب — يعمل طبيبًا نفسيًّا — أن يُلقِي خطبًا يقول فيها إنه لا يمكنك أن تدرِّس قوانين نيوتن للحركة لكلب، وذات مرة سأله أحدهم إن كان قد سبق له أن رأى كلبًا يلتقط قرصًا هوائيًّا، واضطر لتغيير موضوع خطبته. ولكنه كان محقًّا في المقام الأول؛ فمن الممكن تدريب كلب على التقاط قرص هوائي — بل إن بعض الكلاب لا تبدو حتى في حاجةٍ للتدريب — ولكن لا يمكن تعليمه. من الممكن تدريب الضباط العسكريين بسهولة، ولكن يكون للتعليم ضرورة في المواقف غير المألوفة، والجمع بين التدريب والتعليم يسفر عن أعلى مستويات الأداء.