لعبة المواعدة
اللعبة ليست فقط وسيلةً جيدة للبدء في معرفة موضوعٍ ما، بل إنه لا يقع على المرء أيُّ ضررٍ عند الخسارة فيها، وقد أُتِيحت لمؤلف هذا الكتاب — الذي أمضى معظمَ سنوات حياته يعمل طيارًا — فرصةُ قيادة رحلة داخل محاكي الطائرة دي سي ١٠ في المصنع. (وكم كانَتْ آلةً رائعةً تشبه قمرة الطائرات الحقيقية؛ إذ تثب من على الأرض وتدور بواقعية، إضافةً إلى المشاهد الخلَّابة التي مرَّتْ من أمام زجاجها الأمامي المقلَّد، مع أنها مثبتة على الأرض بقوة.) ومع أنه هوى بالطائرة بشكلٍ مُخْزٍ وفقَدَ قدرًا كبيرًا من مكانته وسمعته، فقد غادَرَ دون خدش؛ فإن كانت لديك رغبةٌ لا تُقاوَم لتحطيم طائرة دي سي ١٠، فتلك هي الطريقة كي تزيح الأمرَ عن كاهلك. يمكن أن تخسر الملايين في لعبة المونوبولي، بينما تتعلَّم كيف تستخدم أساليبَ متحايلة في مجال العقارات، وبعدها تستيقظ صباحًا لتجد نفسك قادرًا على الوفاء بالتزاماتك. تُمارَس لعبة «جو» بِوَلع شديد في جميع أنحاء شرق آسيا، وبخاصة في الصين واليابان (نشأت هذه اللعبة في الصين منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام)، مع أنها غير معروفة تقريبًا في الولايات المتحدة. وقد لخَّصَتْ هذه اللعبةُ على لوحةِ لعب بسيطةٍ أهمَّ أُسُسِ استراتيجيات الحرب في صورة مبادئ أساسية، ويمكن ممارستها دون إحداث أي ضرر، سواء للأشخاص أم الأشياء (فيما عدا الضرر الذي تلحقه بغرور معظم أبناء الغرب الذين يلعبونها). وليس من قبيل المصادفة أن تحتوي لعبة الشطرنج على ملوك، وملكات، وفرسان، وأفيال، وبيادق؛ كما اختار الجيش لعبةً من ألعاب آركيد تدور حول معارك الدبابات كأداةِ تدريبٍ أساسية لقائدي الدبابات المستقبليين؛ وغير ذلك الكثير. فلا تقلِّلْ من أهمية الألعاب كتمهيد لما يحدث في الحياة.
أول خطوة في كتابٍ عن القرارات هي إقناع القارئ بأن هناك سُبُلًا بالفعل لصنع قرارات بعقلانية، وأن هذا يمكن أن يُحدِث فارقًا. والخطوة الثانية هي الإفصاح عن كيفية ذلك بالطبع. سَيُصرُّ معظمنا على أننا لا نصنع قراراتٍ مهمةً إلا بعد «التفكير مليًّا»، لكن مَن يدري مغزى ذلك؟ فحينما نتعرَّض لبعض الضغط، عادةً ما نعترِف بأننا بين الحين والآخَر «نخاطِر» ببساطة. في بعض الأحيان، لا يكون هناك في الواقع الكثيرُ من الخيارات، ويخضع الأمرُ للقَدَر وغير ذلك، فينتهي بنا الأمر بالبقاء بلا دورٍ إيجابيٍّ في أي شيء. إنَّ خيار هوبسون (والذي سُمِّي على اسم حارس إنجليزي لإسطبل خيول) هو خيار يقضي بأنه لا يوجد خيار من الأساس؛ وهو يشبه تعليقَ هنري فورد الشهير بأن أيَّ عميلٍ يستطيع أن يقتني سيارةً بأي لونٍ ما دام أنه أسود. لكن في بعض الأحيان يكون الاختيارُ ذا أهمية، والمخاطر أعلى، والتفكير السليم «يمكن» أن يُحدِث فارقًا بالفعل؛ ومن ثَمَّ فالأمر يستحق أن نفعل الأشياء بصورة سليمة.
وإليكم الآن لُغْزَنا الأول عن كيفية صنع القرارات الفردية، والمشكلةُ التي اخترناها معروفة جيدًا لعلماء الرياضيات، ولها ما يناظِرها بالطبع في الحياة الواقعية، كما أنها مشوِّقة في حدِّ ذاتها. ليس هناك عيبٌ في أننا قدَّمنا المشكلةَ في سياق التودُّد والمواعَدة؛ فذاك هو السياق الذي يتَّخِذ فيه العديدُ منَّا أهمَّ القرارات الشخصية، ويمكننا أيضًا الاستفادة من أي عونٍ نحصل عليه فيه. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي أن نتَّخِذَ الألعابَ بشكلٍ حرفيٍّ مبالغ كدروس في الحياة؛ فهي مجرد ظلال باهتة تعكس الظروفَ الإنسانية؛ وهذا اللغز بعينه له عدة أسماء أخرى.
لعبة المواعدة
تخيَّلْ نفسك امرأةً قرَّرَتْ — لأسباب لا يمكن شرحها — أن تتزوَّج (ولا نقصد أيَّ تحيُّزٍ لجنس بعينه هنا؛ فيمكن تغيير النوع من امرأة إلى رجل إنْ كنتَ تفضِّل ذلك، وستظل اللعبة كما هي)؛ بالطبع تودِّين الزواجَ من أكثر الرجال جاذبيةً، لنَقُلْ من بين ذلك الجَمْع من مئات العزَّاب الممتازين المتاحين في محيط دائرتكِ الاجتماعية. إن ثاني أفضل خيار لن يُجدِي نفعًا مع شخصيةٍ بِسِماتكِ البارزة ورُقِيِّكِ، فضلًا عن تطلعاتكِ، ولكن العثور على الأفضل من بين مجموعةٍ من مئات الاحتمالات لن يكون شيئًا يسيرًا؛ فأنتِ بحاجة لاستراتيجية معينة.
قطعًا لا ينبغي لكِ أن تتزوَّجي أول رجل تصادفينه؛ فاحتمالُ تفوُّقِه على مجموعةٍ بها مائة شخص يبلغ واحدًا في المائة بالطبع، وهذا احتمال ضئيل للغاية، بل هو مغامَرة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ سيئة، ولكنَّ هذا ينطبق على الشخص الثاني، والثالث … وهكذا؛ فأيٌّ منهم لا يملك سوى احتمال، يُقدَّر بواحد في المائة، أن يكون أفضلَ مَن بالمجموعة. ولا يمكنكِ الاختيار بشكل عشوائي إنْ كنتِ تريدين الوصولَ إلى أفضل شخص بطريقة واقعية؛ إن الأمر أشبه باختيار أفضل تفاحة في صندوقٍ مليء بالتفاح، فحينئذٍ حَرِيٌّ بكِ البدء بمقارنة بعضهم ببعض؛ فأيٌّ منهم يمكن أن يكون الأفضلَ، ولكن أيضًا يمكن أن يكون الأسوأ.
إذن عليكِ أن تواعِديهم — وإلا فكيف سيتسنى لكِ مقارنة بعضهم ببعض؟ — لكن قواعد اللعبة ليسَتْ كقواعد فحْصِ التفاح في صندوقه؛ لأنكِ في حالة التفاح يمكنكِ النظرُ إلى ثمار التفاح معًا، واحدة بجانب الأخرى، أما في هذه اللعبة، فلا يُسمَح لكِ إلا بموعِدٍ واحد مع كلِّ مُرشَّحٍ، وعليكِ بعد كل موعد أن تقرِّري على الفور إن كان هذا الشخص يبدو الأفضل، حتى إن كان هناك مَن لم تلتقي بهم بعدُ (إن جميعهم متلهف للزواج منك — تذكِّري أنها لعبة — لذا فالأمر يعتمد على اختياركِ). وبمجرد أن يقع اختياركِ على سعيد الحظ، توقَّفي حينها عن المواعَدة؛ فالألعاب يجب ألَّا تكون واقعيةً بالكامل. هناك قاعدة أخرى لِلُّعبة تقضي بأنه إذا حدث أنه لم يقع اختيارُكِ على أحد المرشحين بعد لقائكِ به، فاعلمي أنكِ قد خسرتِه للأبد، وَلْتتخيَّلِي أنه قد تزوَّجَ من أخرى، أو تَرَهْبَنَ، أو ألقى بنفسه من أعلى أحد المنحدرات الصخرية الشاهقة؛ والمغزى هنا هو أنه ليس بمقدوركِ أن تواعِديهم جميعهم، واحدًا تلو الآخَر، وتضعي كلًّا منهم على رفٍّ بأحد المخازن بعد انتهاء اللقاء ربما بعد أن تلصقي عليهم بطاقات تقييم، ثم تزيحي الغبارَ عن أفضلهم فيما بعدُ؛ فيجب ألا يتكدَّس المرشحون. ويطلِق علماء الإحصاء على تلك العملية «صنع القرارات التتابُعي»؛ بمعنى أن تقرِّري على الفور بينما لا تزالين تجمعين المعلومات.
يحدث ذلك طوال الوقت في التجارب الإكلينيكية أو عند اختبار فاعلية أحد العقاقير؛ حيث يُقدَّم لمجموعة من المرضى أحدُ العقاقير المحتمَل نفعُها، بينما يُقدَّم لمجموعة أخرى علاجٌ غير ضار ولكنه غير فعَّال؛ أي علاجٌ وهمي. وينبغي أن يكون الأشخاص الذين يُجْرُون الاختباراتِ مستعدين في أي لحظة لأنْ يتخذوا قرارَهم بإنهاء التجربة، فتُعطَى المجموعة الضابطة العقَّارَ (إذا ما تبيَّنَ نفعُه)، أو يُسحَب العقَّار من المجموعة التي تُعالَج (إنْ بَدَا ضارًّا)، ولا ينبغي أن تستمرَّ فترةُ اختبارهم لما بعد اتخاذ القرار. وأنتِ أيضًا عليكِ ما عليهم بالمثل، إلا إنْ كنتِ تستمتعين بالمواعَدة أكثر من فكرة الزواج، فتلك مسألة أخرى.
إن مشكلة الاختيار يسهل إدراكُها؛ فأنتِ تريدين أفضلَ شريك للحياة، لكن كيف يمكن توسيع نطاق فرصتكِ في العثور عليه إلى أقصى حدٍّ في إطار تلك القواعد؟ إذا ما انخرطتِ في المواعَدة في مرحلةٍ مبكرةٍ للغاية من مشواركِ مع المواعدات، فمن المرجح أنكِ ستجدين أمامكِ رجلًا أفضل لم يُواعِدْ نساءً من قبلُ، ولربما تقضين عمرَكِ نادمةً على تسرُّعِكِ في الزواج؛ يحدث ذلك أكثر ممَّا نود أن يحدث في الحياة الواقعية، وكما تقول الحكمة: «تزوَّجْ سريعًا وخُذْ وقتَكَ في الندم». ومع ذلك، فلو انتظرتِ فترةً أطول من اللازم، فقد يتسلَّل أفضلُ المرشحين من بين أصابعكِ، وحينها يكون الأوان قد فات، وهذا أيضًا يحدث كثيرًا على أرض الواقع؛ وقد تناولَتِ الأغاني والقصائد الشعرية والروايات كلتا المأساتين.
فما هي إذن استراتيجية الفوز؛ تلك التي تمنحكِ أفضلَ فرصة للنجاح؟ لا يمكن أن تعرفي يقينًا، ما تريدينه فقط هو أفضل فرصة. وتلك لعبة بسيطة؛ فأنتِ تعرفين ما تريدين، وكلُّ شيء واضح ومعروف، وأنتِ وحدكِ مَن يصنع القرارَ المصيري، وكلُّ ما عليكِ فعله أن تحسِّني من عملية اختياركِ؛ فهل هناك طريقة مُثلى لذلك؟
قطعًا هناك واحدة، ومع أنها لا تمنحكِ شيئًا مؤكدًا، فإنها تعطيكِ أفضلَ فرصة لتحقيق هدفكِ. ومهما كانت جودةُ تنظيمكِ لشئونكِ من أجل تحقيق النجاح، فهناك دائمًا مخاطَرةٌ محدَّدة متمثِّلة في أن يتعثَّر حظكِ وينتهي بكِ الأمر بعدم مصادفة مَن تبحثين عنه؛ فعلى أي حال، هناك مَن يَحدث له ذلك، فدَعِينا نتناول الأمر.
كما قلنا من قبلُ، عليكِ ألَّا تختاري أولَ مرشَّح يأتيكِ — كم ستكون مصادَفةً رائعةً (وهو احتمال يَحدث بنسبة واحد في المائة) لو أتاكِ أفضلُ مَن في المجموعة أولًا! — لذا فمِن المنطقي أن تتعاملي مع أول مجموعة من المواعدات — وَلْنقل عشرةً — كعينات (تمامًا مثلما يحدث في محل الحلوى أو متجر المخبوزات)، ثم تتزوَّجي بالمرشح الذي يسجِّل تقييمًا أعلى من أيٍّ مِن هؤلاء العشرة. تلك وسيلة لمقارنتهم جميعًا، وهي ليسَتْ ببعيدة عمَّا يحدث في الحياة الواقعية؛ فبمقدوركِ إعطاءُ كلِّ مواعَدةٍ درجةً ما في مفكرتكِ (لنَقُلْ من عشر درجات)، ثم اعقدي العزم على أن أول شخص يسجِّل درجات أعلى من أيِّ شخص في مجموعة العشرة هذه هو الفائز النهائي. إنَّ كل ما تفعلينه هو استخدام أول عشر مواعدات لاكتساب خبرة، ولتقييمِ ما في الساحة؛ وهذا هو جوهر المواعَدة.
لكنَّ هناك طريقتين يمكن أن تخسري بهما أيَّما خسارة إذا ما سلكتِ هذا السلوكَ: فإذا ما تصادف أنْ كان أول عشرة أشخاص هم أسوأ مَن في المجموعة المتاحة — وذلك حظٌّ لا حيلةَ لنا فيه — وتصادَف أيضًا أن كان الشخص التالي هو الحادي عشر من أدنى، سينتهي بكِ المطاف بخيار سيئ للغاية — لكنه ليس الأسوأ — دون الاقتراب ولو مِن بعيد مِن الأفضل؛ فقد وقع اختيارك على الشخص الحادي عشر من أدنى لأنه أفضل من أي فرد من العشرة الأوائل — وتلك هي الطريقة التي اتبعتِها — بينما يكون الشخص الأفضل لا يزال في انتظار دعوتكِ. لكن في تلك المرحلة المبكرة من مواعداتكِ، لا تتوافر لكِ وسيلة لمعرفة ذلك؛ فالأمر يكون أشبه بمصادقة مجموعةٍ من الأشخاص الغريبي الأطوار؛ إذ تُشوِّه التجربةُ انطباعَكِ عمَّا يكون عليه الأشخاص الطبيعيون. أما الطريقة الأخرى التي قد تجعلكِ تخسرين، فهي عكس ذلك تمامًا؛ فبالمصادفة البحتة، ربما يوجد أفضل الأشخاص ضمن أول عشرة، ممَّا يدفعكِ لوضْعِ معيار أعلى يستحيل تحقيقُه بعد تجربة مواعداتكِ المبكرة؛ ومن ثَمَّ سينتهي بكِ المطاف بمواعَدة التسعين مرشَّحًا الباقين دون مصادفة مَن يضاهيه، وفي النهاية يستقرُّ بكِ المقام مع الشخص رقم مائة؛ لأن المَعِين يكون قد نضب، والشخص رقم مائة سيكون — في المتوسط — عاديًّا، وبعدها تَمضين حياتَكِ بائسةً تتخيَّلين ما كان سيحدث لو قَبِلْتِ الشخصَ الذي أَفْلت منكِ. يعني ذلك أن لديكِ فرصةً للفوز، ولكن هناك أيضًا مجالًا لخسارة كبيرة. وليس من الصعب إيضاح أن لديكِ فرصةً للفوز (أيِ الزواج بأفضل مَن في المجموعة) تُقدَّر بنحو ٢٥ في المائة من خلال هذه الاستراتيجية (لكن الحسابات الرياضية المعنِيَّة هنا تتجاوز طموحات هذا الكتاب). ليس ذلك بالشيء الأكيد، لكنه أفضل من الخيار العشوائي، ولبقية الوقت سيكون عليكِ القبول بثاني أفضل خيار، أو ثالث أفضل خيار، أو خامس أفضل خيار، أو أيًّا ما كان سيأتي حينها.
ولكن هل يمكن أن تفعلي ما هو أفضل؟ حسنًا، إن احتمالية وقوع النوع الثاني من الخطأ — أيْ ترك فرصة الزواج من الشخص الأفضل تتسلَّل من بين أصابعكِ — هي احتمالية بسيطة جدًّا في تلك الحالة؛ فإذا ما تعاملتِ مع عشرة مرشَّحين — من بين مائة — على أنهم عينات، فستكون أمامكِ فرصةٌ واحدةٌ من عشرٍ أن يكون الشخص الأفضل ضمن تلك المجموعة؛ وقد يكون لديكِ الاستعدادُ للتعامُل مع مرشَّحِين آخَرين على أنهم عينات بالمثل دون أن تكون هناك مخاطرة كبيرة بأن يقع خطأ من هذا النوع، وبذلك تتحسَّن معرفتكِ بما هو متاح، كما ستحصلين على مزيد من الخبرة. لكنْ ماذا عن استخدام نفس الاستراتيجية بالضبط، لكن مع مواعَدة عشرين مرشَّحًا قبل أن يقع اختياركِ على الأفضل؟ إنكِ بذلك سوف تزيدين فرصة خسارة الشخص الأفضل من واحد من بين كل عشرة، إلى واحد من بين كل خمسة، وذلك قبل أن تكوني مستعدةً للزواج، لكنكِ في ذات الوقت ستقلِّلين بشدة من احتمالية تحديد معيار منخفِض للغاية. إنها عمليةُ مبادَلة؛ جيدة من ناحية وسيئة من ناحية أخرى. لكن ماذا عن ثلاثين أو أربعين مواعَدة؟ إذا ما بالغتِ في هذا، فمِن المؤكَّد أن القطار سيفوتكِ؛ ولذا ينبغي أن يكون هناك اختيار أفضل لحجم العينات في هذا الصدد.
يتضح إذن أن أفضل استراتيجية في بحثكِ عمَّن هو أفضل، هي تقييمُ المواعدات بالدرجات والانتظار؛ فتتركين ستة وثلاثين متقدِّمًا للزواج يذهبون بهدوء قبل أن تختاري الشخصَ الذي يَلِيهم، والذي يُعَدُّ أفضلَ من أيٍّ منهم. لكن تظل هناك مخاطَرةٌ (تُقدَّر بنحو ٣٠ في المائة) تتمثَّل في ضياع الشخص الأفضل، لكنكِ بذلتِ أقصى ما في وسعكِ، وتبقى لديكِ بالفعل فرصةٌ تُقدَّر بنحو الثلث للعثور على الشخص الملائم الذي كنتِ تبحثين عنه من بين مائة. واحتمال العثور عليه بنسبة ٣٠ في المائة ليس سيئًا؛ عندما تبحثين عن أفضل شخص من بين مائة. (وبالمناسبة، نحن لا نتحرَّى الدقةَ عندما نقدِّر الاحتمالَ ﺑ ٣٠ في المائة؛ فهناك نسبة دقيقة، لكنَّ تحديدَ النسبة بدقةٍ تصل إلى ستة منازل عشرية ليس شيئًا منطقيًّا على الإطلاق عند اتخاذ قرارٍ في الحياة الواقعية.) وفي حالة عَقْد مقابلات مع المتقدِّمين لشَغل وظيفةٍ ما، فإن نفس المنطق سيؤتي ثماره.
لكنِ انتظري، فَلْنتوقف لحظةً لننظرَ إلى بعض العوامل الأخرى التي قلَّلنا من شأنها: هل أنتِ على ثقة تامة من دوافعكِ وطموحاتكِ؟ هل أنتِ بهذا «تطالبين» بالفعل بنَيْل الشخص الأفضل على الإطلاق من بين المائة عاشق ولهان؟
هناك جانب سلبي لِسَعينا الدائم نحو الأفضل؛ فإذا ما كان أفضل مرشَّح في المجموعة الأولى، فسينتهي بكِ الأمر بأن يكون عليكِ الزواج من آخِر مَن تواعدين من بين المائة شخص؛ سيكون آخِرهم لكنه ليس بالضرورة أسوأهم. وفي هذه اللعبة قد يكون شخصًا عاديًّا، لكنه في الحياة الواقعية ربما لا يكون حتى بهذا المستوى، فهناك نساء غيركِ يحاولْن اصطيادَ أزواج أيضًا؛ ومن ثَمَّ فإنك تراهنين على ثلث العدد المتاح أمامكِ للحصول على الأفضل، في مقابل النسبة نفسها المقدَّرة بالثلث أيضًا للقبول بشخص متوسط أو قد يكون أسوأ. الأمر أشبه بمحاولة إرسال ضربة ساحقة لا تُرَدُّ في لعبة التنس على الدوام.
إذن فَلْنَعد إلى تلك الحالة التي لا تواعدين فيها سوى عشرة لتحديد المعيار، وَلْننظر إليها عن كثب. ما حدث أنَّ أفضل الأشخاص المرتقَبين ليس لديه سوى احتمالٍ يُقدَّر بواحد من عشرة لأنْ يكون ضمن تلك المجموعة الأولى؛ ولذا فمن المحتمل أيضًا أن يكون لا يزال منتظرًا بين المجموعة الكبيرة المكوَّنة من التسعين شخصًا الذين لم تواعديهم بعدُ. والسبب الوحيد في أنه لن ينتهي به المطاف معكِ بالتأكيد هو أنَّ هناك احتمالًا كبيرًا أنْ يكون الشخصُ الذي يليه خارجَ نطاق مجموعة العشرة أيضًا، وهناك احتمالية مماثِلة أن تجديه قبل أن تواعِدي الأفضل، وأيٌّ منهما سيكون أفضل من أول عشرة أشخاص؛ ولذا فإنك — طبقًا للقواعد — ستختارين مَن يأتي أولًا. وفي الواقع، هناك احتمالية مماثِلة بأن يكون هناك شخص ثالث خارج نطاق المجموعة، وهكذا. ما يحدث هو أنكِ عندما تواعدين عددًا قليلًا للغاية من الأشخاص قبل الزواج، تكونين بذلك قد قلَّلْتِ من فرصة ضياع أفضل الأشخاص المحتملين من بين يدَيْكِ، لكنكِ في المقابل تزيدين من فرصة فقدانه من أجل أحد منافسيه الذين يَلُونه في الأفضلية. لكن هل يُعَدُّ ذلك سيناريو سيئًا؟ حسنًا، إن الإجابة تعتمد على ما إذا كنتِ تظنين أنكِ ستكونين تعيسةً مع ثاني أفضل الاختيارات من بين مجموعةٍ تتكوَّن من مائة شخص. يبدو هذا ضربًا من الغرور، ألَيس كذلك؟
ربما يكون من الأفضل ممارسةُ اللعبة بتحفُّظ أكثر قليلًا؛ أي باتِّباع نفس القواعد لكن مع وجود أهداف مختلفة. لا تُصرِّي على تعظيم فرصتكِ في نَيل أفضل الاختيارات إلى الحد الأقصى، ولكن حاولي أن تتجنَّبي الاختيارَ من بين أسوئها، وهذا ما يُطلَق عليه تجنُّب المخاطَرة؛ فإذا ما كنتِ تقامرين (وأنت كذلك بالفعل، ولكن ليس لأجل المراهنات المعتادة)، فقد تحاوِلين تقليلَ حجم الخسائر بدلًا من السعي دومًا لتحقيق فوزٍ ساحِقٍ احتمالاتُه ضعيفة. فقد تراهنين على المركز الأول أو الثاني، أو الأول أو الثاني أو الثالث، في سباق الخيول من أجل المزيد من الأمان؛ فكيف ستتغيَّر استراتيجيتكِ إذن؟
بمجرد أن تقرِّري، في النهاية، أن ثاني أفضل خيار في مجموعةٍ تتكوَّن من مائة راغب في الزواج ليس على الأرجح خيارًا سيئًا للغاية، فليس عليكِ المواصلة — بعد أول ستة وثلاثين شخصًا رأيتِهم — حتى آخِر عشرة أشخاص كي تتمتَّعي بفوائد طريقتكِ الأكثر استرخاءً في الاختيار؛ فيتبيَّن لكِ أنه من الأفضل أن تنسَي أمرَ أول ثلاثين شخصًا من الشركاء المحتملين، وكما ذكرنا من قبلُ تختاري التالي الذي يكون أفضل من أيٍّ منهم. وبالرغم من أن فرصة اختيار الأفضل تتضاءل قليلًا، فإنه سيكون لديك فرصة أفضل — تفوق نسبة الخمسين في المائة — لاختيار «إما» الأفضل في المجموعة، وإما ثاني أفضل ما فيها. وفي نفس الوقت تكونين قد قلَّلْتِ بشكل هائل من احتمالية الاستمرار في المواعَدة دون اتخاذ قرارٍ حتى اللحظات الأخيرة؛ وهذا منطقيٌّ للغاية.
بمقدوركِ أن تأخذي تلك الاستراتيجية لِما هو أبعد من ذلك؛ فإذا ما استقررْتِ على أيٍّ ممَّن يمثِّلون أفضلَ خمسة أشخاص في المجموعة، يتضح لكِ أن عليكِ مواعَدة عشرين شخصًا فحسب والتعامل معهم كعينات؛ وحينها تكون لديكِ فرصةٌ تُقدَّر بنحو ٧٠٪ للقبول بواحد من بين أفضل خمسة. وَلْنتخيَّل ذلك الآن، إذ تكون النسبةُ التقريبية لأرجحية الزواج من أحد الأشخاص بين أفضل خمسة مرشحين — وذلك في مجموعةٍ مكوَّنة من مائة راغب في الزواج — هي ثلاثة إلى واحد؛ وذلك فقط في حالة الاختيار بناءً على العقل. وفي الواقع، إن هذه الاستراتيجيةَ الأكثرَ تحفُّظًا لا تقلِّل من فرصتكِ كثيرًا في الزواج من أفضل شخص؛ إذ تجعلها تهبط من قرابة ٣٧٪ إلى ٣٣٪، وهي نسبة بالكاد تكون ملحوظة؛ فلقد حسَّنْتِ من متوسط أدائكِ تحسينًا ملحوظًا، وقلَّلْتِ من فرصة نفاد المتقدِّمين للزواج إلى النصف تقريبًا، وذلك من خلال تخلِّيكِ عن جزء بسيط من فرصتكِ في الحصول على الجائزة الكبرى. لكن احذري من المبالَغة في فعل ذلك؛ فإنْ فعلتِ، فقد تعودين أدراجَكِ إلى الزواج من أول شخص تواعِدينه.
هناك العديد من الاستراتيجيات المحتمَلة والمختلفة في هذه اللعبة، وتعتمد أفضلها بالنسبة إليكِ — وهي القاعدة التي من المفترض أن تتَّخذي على أساسها قرارَكِ الشخصي — اعتمادًا كاملًا على جودة تحديدكِ للأهداف؛ فبإمكانكِ الرهان على الشخص الأفضل — وهي الاستراتيجية الأولى — لكن عليكِ حينها تقبُّل احتمال الخسارة الشديدة، أو بإمكانكِ تقليل معاييركِ قليلًا لتقليل حجم الخسارة إن لم تؤتِ الاستراتيجيةُ الأولى ثمارَها. يجب أن تكوني على دراية بذلك، وأن تكوني مستعِدَّة لتوضيح ما تبحثين عنه مقدمًا؛ ففي مقابل كل مجموعة من الأهداف — المحددة والمُدركة بوضوح — هناك استراتيجية مثلى للعمليات المختلفة لتقييم المواعدات وانتظار النتائج، ولا ينبغي أن يكون ثمة شيء يثير الدهشة في ذلك؛ فالأشخاص يفعلون ذلك على أرض الواقع. ليس بوسعكِ الحصول على كل شيء — وأقولها بأسفٍ — لذا فمن الأحرى أن تكوني واقعيةً بشأن أهدافكِ. (قد يقول لك معلِّموكِ بالمدرسة، أو بعضُ الواعظين، إنَّ عليكِ دومًا التطلُّع للأفضل، ولكن هذه استراتيجية سيئة حينما تُطبَّق على شيء مهم؛ فالخيار الأفضل ألَدُّ عدوٍّ للأشياء الطيبة.) في الواقع، ربما يمكنكِ تعديل أهدافكِ كلما ازددتِ تعلُّمًا؛ إما بخفض سقف المعايير وإما برفعه، كلما اكتسبتِ الخبرةَ، أو كلما نضبَتِ المواردُ المتاحة. معظم الناس يفعلون ذلك بصورة تلقائية؛ فيما يُطلَق عليه «استراتيجية ديناميكية»؛ فإن كان بمقدوركِ التعبير عمَّا تريدينه بالفعل، فهناك وسيلة مثلى للحصول عليه، وبالطبع ليس هناك شيء مؤكَّد في أغلب الحالات. ووفق المقولة التي ربما يكون دامون رَنيون هو قائلها: «لا يفوز الأسرع في السباق دائمًا … فالفوز يعتمد على أسلوب المراهَنة.»