إعادة لما سبق
إذن أين نحن؟ ذكرنا في البداية أن الكتاب سوف يبدأ من القرارات البسيطة التي يتَّخذها فردٌ على علمٍ بكلِّ الحقائق، مرورًا بمشكلات المجموعات، ثم المجالات التي لا نعرف فيها ببساطةٍ أيَّ طرقٍ متَّسقة لاتخاذ قرارات مثلى للمجتمع بأكمله، أو للأفراد المعنيِّين بالأمر. تندرج لعبة المواعَدة التي بدأنا بها تحت الفئة الأولى، وكل القضايا الخاصة بالحكم تقع ضمن الفئة الأخيرة، ولكننا حاولنا التأكيدَ على بعض السمات المشتركة بين كلِّ هذه المشكلات، وقد يكون من المفيد إعادة سردها. (من المخاطَرة قليلًا القيام بذلك؛ إذ إننا جميعًا نميل للمبالغة في تبسيط الحياة، لا سيما في هذا العصر الذي صارت فيه اللقم الصوتية بديلًا لنشرة الأخبار، والدراما الوثائقية بديلًا للتاريخ، ومراجعات الكتب بديلًا للكتب.) لذا لا ينبغي أن تعتقد أن ما سيلي هو ملخصٌ للكتاب.
إن اتخاذ قرارات عقلانية ضربٌ من المستحيل ما لم تتبيَّن من البداية ما ترغب في تحقيقه، وما ترغب في تجنُّبه، ويسري هذا على القرارات الفردية والجماعية على حدٍّ سواء، وإنْ كان بديهيًّا أن يكون الأمرُ أصعبَ بالنسبة إلى الأخيرة.
إذا أمكنك أيضًا أن تُضفِي قيمةً على النتائج المحتملة، بالزيادة أو النقصان، وتقرن تلك القِيَم بالأرجحيات الخاصة بنتيجة معيَّنة، فإن هذا المزيج يمنحك كلَّ ما تحتاج إليه لاتخاذ قرار عقلاني.
حتى القرار العقلاني الذي يقف على أرضية صلبة يمكن أن يتَّضِح خطؤه (والعكس بالعكس)؛ لذا لا يوجد سببٌ للانغماس في الشعور بالذنب أو احتقار الذات إذا سارَتِ الأمورُ في اتجاه خاطئ بشكل غير متوقَّع؛ فإن كانت نتيجةٌ ما غيرَ مؤكَّدة، فهي غير مؤكَّدة، وكلُّ ما يمكنك فعله هو المخاطرة؛ وسوف تفوز أكثر ممَّا تخسر إذا خاطرْتَ بذكاء.
من الطُّرُق الأكيدة لاتخاذ قراراتٍ سيئة فصْلُ صنَّاع القرار عن المستفيدين منه؛ أيْ فصل المقرِّرين عن المقرَّر لهم، إذا جاز التعبير، كما في التمثيل بلا ضرائب، وهيئات المحلفين. وعلى الرغم من أن الناس يتحدَّثون بأسلوب متعالم بشأن اهتمامهم بصالح المجتمع، فإن هذا الاهتمام يتجلَّى في أوضح صُوَره حين يمكن إبداؤه دون أن يتكبَّدوا أي تكلفة شخصية، لكن حين تكون للإيثار تكاليف مزعجة، نجده يتوارى خجلًا.
إن صنع القرار العقلاني يستلزم نوعًا من فهم الاحتمالية على مستوًى ما؛ وكلما ازداد الفهم، كان ذلك أفضل، والتمرُّس عليه ليس بهذه الصعوبة.
تُعَدُّ القرارات الجماعية أصعبَ جوهريًّا في صبغها بالعقلانية من القرارات الفردية، وهناك مجال كبير في آليات عملية صنع القرار الجماعي للتلاعب والخداع، ولا توجد وسيلة انتخابية محصنة من هذا، ولكن هناك وسائل أكثر مقاوَمةً للمرض من أخرى.
لا توجد طريقة مُقنِعة لترجمة التفضيلات الفردية إلى تفضيل جماعي، تخلو من العواقب غير المرغوب فيها؛ هذا هو فحوى نظرية أرو، وهي صحيحة بلا جدال؛ لذا فإن لكلِّ وسيلةِ تصويتٍ عيوبًا، والطريقة الأكثر مرغوبيةً في أي موقف هي تلك التي يترتَّب على عيوبها أقلُّ قدرٍ ممكن من الضرر.
ليس صحيحًا بالضرورة أن تكون القراراتُ الجماعية التي تستهدف الحصول على موافقة الأغلبية ذاتَ نفع للأغلبية، أو للمجتمع ككلٍّ؛ وليس صحيحًا أيضًا أن ثمة شخصًا يعرف حلًّا مُرضيًا لتلك المشكلة الجوهرية؛ فالمدارس تعلِّمنا عكسَ ذلك، والقيام بذلك يعطي نتائج عكسية تمامًا، وخيرٌ لك أن تعرف مشكلاتك من أن تتظاهر بأنها ليست موجودةً؛ وأي طبيب نفسي يمكنه أن يخبرك بذلك.
من المؤكد أن الأكذوبة التي تقضي بأنه إذا كان المتحكِّم في سلوك كلِّ فرد هو المصلحة الشخصية المستنيرة فسوف تكون النتيجة إيجابية للمجتمع؛ لا تعدو أن تكون مجرد أكذوبة، ومن المؤسف أيضًا أنها أكذوبة تعمل بمنزلة تمويه لنتائج المصلحة الشخصية غير المستنيرة.
وعلى الرغم من أن هذه الأفكار تجد طريقَها داخل عملية صنع قراراتنا الخاصة، على مستوًى عميق، فإن الكثير من سياساتنا العامة تبدو مرتكزةً على الافتراض الخاطئ بأنه لا شيء ممَّا سبق له أساس من الصحة.
وكنتيجة ملازمة لذلك، لم يخترع الجنس البشري بعدُ أيَّ شكلٍ مُرْضٍ بشكل تام للحكم، في صورة صنع قرار جماعي يصبُّ في مصلحة الجميع؛ والخرافة التي تزعم أن نظام الحكم الخاص بنا تجسيدٌ لذلك الاختراع هي مجرد أكذوبة أخرى؛ فحقيقة أننا لا نعرف أيَّ صورة أخرى أقرب لا تعني إثباتَ صحةِ ذلك الزعم.
إذا أردتَ أن تقامر، أو تمارس رياضةً، أو تستثمر في سوق الأوراق المالية، أو تختار شريكَ حياةٍ، أو تُشعِل حربًا؛ فمن المفيد أن تعرف ما تفعل.
إن صنع القرار، على جميع المستويات، وفي كل المجالات، يمكن أن يتحسَّن بالمعرفة، ونرجو أن يكون هذا الكتاب قد ساهَمَ ولو قليلًا في تلك المعرفة، ونرجو أيضًا أن تكونوا قد استمتعتم بقراءته.