الألعاب التنافسية
حتى الآن لم تكن توجد أيُّ منافسة في مشكلات صنع القرار؛ فما من أحدٍ يعمل ضدنا، حتى الطبيعة وقوانين الاحتمالية أنفسهما لا تدعمان أطرافًا بعينها؛ فهما لا تُباليان إنْ كنَّا نربح أم نخسر. لكنَّ وهْم أننا مسئولون عن أقدارنا بينما بقية العالم لا يبالي، هو أمر غير واقعي؛ فالمنافسة من أجل البقاء هي شأن من شئون الحياة منذ أن توافرَتْ لدينا أي معلومات عن الإنسان، أو عن النبات والحيوان والتاريخ، وهذا التاريخ يبلغ مقداره مليون عام أو نحو ذلك بالنسبة إلى البشر، اعتمادًا على ما نعنيه بكلمة إنسان، أكثر ممَّا نعنيه بأشكال الحياة الأخرى. ولم يكن من المحتمل أن يكون سبب وصول جنسنا البشري لوضعه المهيمِن الحالي (والمتغير) على الكوكب هو قدرة أسلافنا على الوثب لمسافات أعلى، أو الركض أسرع، أو العض والخدش أفضل من المنافسين، وإنما السبب أنهم كانوا، إلى حدٍّ ما، أكثر قدرةً على التكيُّف مع المواقف والبيئات المتغيرة؛ وسواء أكان بإمكانهم النجاة من الكارثة التي قضَتْ على الديناصورات منذ سبعين مليون عام أم لا — فقد جاء ظهور نوعنا متأخِّرًا للغاية بما يستحيل معه تحديد ذلك — فتلك مسألةٌ محل خلاف، لكن قدرتهم على استخدام أدواتٍ للتعامُل مع الصعوبات البيئية والغذائية التي واجهتهم تعود إلى العصر الحجري القديم. لقد كان تطويرُ مهاراتٍ أعلى عمليةً بطيئةً، لكنها كانت مستمرةً بالفعل يحرِّكها الصراع التطوري من أجل البقاء. وبالرغم من ثرثرة أنصار نظرية الخَلْق، فإن التطوُّر شيء حتميٌّ في عالمٍ يغلب عليه التنافس، وهو يؤتي ثماره بالفعل؛ فالأصلح، سواء راقَ لك ذلك أم لا، لديه فرصة أفضل للبقاء، بل للأهم من ذلك؛ التكاثر. (هناك مخلوقات يمثِّل التكاثرُ بالنسبة إليها شيئًا مهلكًا، لكنها تفعله على أي حال.) وإذا لم يَعُدِ الأصلح يملك مزيةً، فسيتوقف التطور. ربما يتعرَّض التطوُّر لعملية ارتداد وانحسار نتيجة للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، لكن ذلك موضوع مختلف.
وذلك التطور الذي طرأ على الشخصية البشرية عبر العصور جَعلَنا (نحن الناجين) حيوانات متنافسة. وتقدِّم لنا الألعاب التنافسية نماذجَ للحياة الواقعية، ودراستُها تُعِيننا على فهم عملية صنع القرار في بيئةٍ ربما — بل بالتأكيد — يعمل فيها المشاركون ضدنا. والغريب أن الجهود الحثيثة لتحليلِ حتى أبسطِ الألعاب التنافسية — تلك التي تكون ضد خصم مفكِّر — يعود تاريخها فقط إلى النصف الأول من هذا القرن، وكان من الإسهامات المميزة في هذا الشأن الكتابُ الغامض «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي»، من تأليف كلٍّ من جون فون نيومان وأوسكار مورجنسترن الصادر عام ١٩٤٤، مع نسخة لاحقة صدرت عام ١٩٤٧، ومنذ ذاك الحين ظهرت مئات الكتب في هذا المجال. كان فون نيومان، الذي كتب بعض الأوراق البحثية عن الموضوع في العشرينيات، واحدًا من علماء الرياضيات البارعين حقًّا — ونحن لا نستخدم مطلقًا هذا المصطلح باستخفافٍ — بينما كان مورجنسترن عالمَ اقتصادٍ شهيرًا. ويؤكِّد الجمع بين الموضوعين في كتابهما على حقيقة أن نظرية الألعاب لها تطبيقات عملية مهمة؛ فقد كان علماء الاقتصاد هم مَن نظروا إليها بحماس. وهذا الفصل مخصص بالكامل تقريبًا لأبسط الحالات: الألعاب الصفريةِ المجموع ذات اللاعبَين؛ فهي توضِّح المبادئ العامة بشكل رائع بأقل قدر من الزيادات، ويزداد الأمر صعوبةً مع وجود مزيدٍ من اللاعبين، ويظل العديد من المشكلات بلا حل.
وها هي أبسط الألعاب الممكنة ذات اللاعبَين: تمدُّ يدَيْك المغلقتين وبإحداهما — لنَقُلْ — حصاة مخبَّأة؛ إذا ما خمَّنْتُ أنا اليد التي بداخلها الحصاة، أربح شيئًا، لنَقُلْ عشرة سنتات، وإنْ كان تخميني خطأً، أخسر السنتات العشرة. تبدو الاحتمالات متكافئةً، وهي لعبة صفرية المجموع (بمعنى أن أيَّ شيء أربحه، تخسره أنت، والعكس صحيح). يبدو أن الأمر لا ينطوي على أي مهارات؛ فبمقدوري التخمين من خلال قذف العملة، أو التفكير بتروٍّ، ما دمتُ لا أمتلك عينًا بها أشعة سينية أو معرفةً مُسبَقة باليد التي تحوي الحصاة، لكن ذلك لا يكون صحيحًا إلا في المرات القليلة الأولى فقط؛ فإذا لاحظتُ (على سبيل اختيارِ حالةٍ مبالغ فيها) أنك تفضِّل يدك اليمنى، أو أنك تميل لتبديل يدَيْك بين المحاولات، أو لك أيُّ نمط آخَر يمكن إدراكه؛ فسرعان ما سوف أدركه، وأشرع في توقُّع خطواتك بشكل صحيح، وأبدأ في الفوز؛ وإذا ما لاحظتَ أنت أنني عادةً ما أختار اليد اليسرى، أو أتحرَّى التبادُل، أو أيًّا كان ما أفعله، فستبدأ في التلاعب كي تثبِّط معنوياتي؛ وإذا نجحتُ أنا في تجنُّب إظهار نمطٍ بإمكانك استغلاله، فإن من مصلحتك — بالقطع — أن تتجنَّبَ أنت أيضًا إظهارَ نمط معيَّن؛ خشية أن أدركه. إن من مصلحة كلٍّ منَّا أن يلاحظ متى يطوِّر الآخَرُ عاداتٍ يمكن التنبؤ بها.
عندما تبدأ تلك المنافسة في التخمين وتتجه نحو الاستمرار، يبدأ الذكاء يؤتي ثماره؛ فهذه اللعبة — بالرغم من قواعدها البسيطة — تنطوي على تحدٍّ (منذ أربعين عامًا مضَتْ، صمَّم كلود شانون — وهو عالم رياضيات موهوب وضع نظرية المعلومات الحديثة — في «معامل أبحاث بل للهاتف» ماكينةَ تخمينٍ لكي تمارس اللعب أمام البشر، وكانت اللعبة ناجحةً بصورة مذهلة في المنافسة المباشرة مع الأشخاص الحقيقيين، الذين كانوا يجدون مشكلةً في إخفاء أنماطهم). إن أفضل استراتيجية في هذه اللعبة، بالنسبة إلى كل لاعب، هي البحث عن نمط مميز في سلوك الآخَر؛ ومن ثَمَّ تكون أفضل استراتيجية مضادة لكلٍّ منهما هي التصرُّف بعشوائية قدر الإمكان — لتجنُّب الأنماط الواضحة — مع استغلال نقاطِ ضعفِ الآخر أثناء ذلك (ويسري هذا على معظم الألعاب التنافسية؛ ففِرَق كرة القدم تبذل أقصى ما باستطاعتها لكي تخلط ما بين الجري والتمريرات، ورماة البيسبول الموهوبون يخلطون ما بين الكرات السريعة والكرات المنحنية، ولاعبو البوكر الماهرون لا يخادعون كثيرًا، لكن إذا ما فعلوا هذا، فهو لا يحدث إلا بشكل غير متوقَّع، وهذا أيضًا نمط). إنِ استطاع لاعبَا الحصى أن يغلِّبَا السلوكَ العشوائي على حركاتهما بمهارة متساوية، فسيصلان لنقطة التعادُل على المدى الطويل. وتعني المهارة في اللعبة تعلُّمَ استغلالِ قابلية سلوك الآخَر للتنبؤ به، بينما من ناحية أخرى تتصرَّف أنت بطريقةٍ لا يمكن التنبؤ بها. جرِّبْ هذا؛ إنها لعبة تفكير تنافسية جيدة. (حقَّقَتْ آلة شانون سلسلةً من الفوز المبهر قبل أن تخسر مباراة في النهاية أمام مديرٍ تنفيذيٍّ بإحدى الشركات، كانت أنماط تفكيره عشوائية إلى حدٍّ بالغ؛ فهل مِن درسٍ مستفاد هنا؟)
الآن دعونا نجرِّب شيئًا أكثر واقعيةً بعض الشيء، وهو ما نحتاج معه أن نطلق أسماءً على بعض المتنافسين، لنَقُلْ جاك وجيل. مرة أخرى ستكون لعبةً صفرية المجموع، لكن بمزيدٍ من الخيارات، والتصميم سيماثل نموذجَ جيري وكيث لصنع القرار في الفصل السابق، لكن بدلًا من مُدَد السجن لكل لاعب، ستوجد خطوات تنافسية يتخذها اللاعبان المتنافسان. غير مسموح بأيِّ تواصُل؛ فبما أنهما متنافسان، فهما لا يرغبان في الكشف عن استراتيجياتهما على أي حال؛ ستبدو الصورة على هذا النحو، مع تسمية خطوات جاك المحتملة بحروف من أ حتى د، وخطوات جيل من ﻫ حتى ح. تتمثَّل اللعبة ببساطة في قيام جيل سرًّا باختيار صفٍّ (خط أفقي)، بينما سيختار جاك على نحوٍ مستقِلٍّ عمودًا (خطًّا رأسيًّا)، وتعتمد نتيجة الجولة على ما يوجد في المربع المتقاطع عندما تنكشف الخطوات (لنَقُلْ إنهما سلَّمَا خطواتهما في مظروف مغلق، يفتحه الحكم فيما بعدُ).
جاك | |||||
---|---|---|---|---|---|
أ | ب | ﺟ | د | ||
ﻫ | ٥٦ | ٣٢ | ٢٧ | ٦٠ | |
جيل | و | ٦٣ | ٢ | ١٩ | ١٥ |
ز | ٢ | ٢٩ | ٢٣ | ٣٨ | |
ح | ٢٦ | ١٠ | ٢١ | ٤٩ |
الرقم الموجود في كل مربع هو مكسب جيل بالنسبة إلى هذين الخيارين بعينهما، ويمثِّل خسارة جاك على التوازي. لقد اخترنا الأرقام بعشوائية تقريبًا (ليس تمامًا بالطبع؛ فالمؤلفون دائمًا ما يحتفظون بحق التلاعب بأرقامهم لتوضيح نقطةٍ ما). إن كلا اللاعبين يدرك المخاطر؛ فهما يضعان هذا الشكل البياني أمامهما، وقد جعلنا اللعبة تنحاز لصالح جيل باستخدام الأرقام الموجبة فقط؛ فبالطريقة التي تُقرَأ بها، لا يمكن أن تخسر، وهذا لا يغيِّر من الاستنتاجات التي سنخلص إليها؛ بل يجنِّبنا فقط الإزعاجَ الطفيف للأرقام السلبية. سترغب جيل في تعظيم مكاسبها، فيما سيرغب جاك في تقليلها (لنجعل الأمر أكثرَ واقعيةً، لنفترض أنها تدفع لِجاك أتعابًا شاملة لدخول اللعبة، وتأمل في أن تستردها في صورة مكاسب). لقد اخترنا أيضًا جدولًا مربعًا — لكل لاعب فيه نفس عدد الخيارات — لكن ذلك ليس ضروريًّا. إن كان هناك فريق مهاجِم في مباراةٍ لكرة القدم، والفريق الآخَر هو المدافع، فسيكون أمامهما قوائم مختلفة تمامًا من الخيارات (يمكن النظر إلى الرياضات التنافسية مثل كرة القدم على أنها ألعاب صفرية المجموع؛ لأن أي نقاط يحرزها أحد الفريقين يمكن اعتبارها نقاطًا سلبية بالنسبة إلى الفريق الآخَر، والفريق الذي يُحرِز معظمَ النقاط في النهاية هو الذي يفوز. هناك رياضات يمكنك أن تحرز فيها نقاطًا سلبية، تأتي عادةً من خلال توقيع الجزاءات على اللاعب).
إن مهمة جيل الآن هي التفكير في خطوتها المثلى، وهي لا تدري ما الذي سيفعله جاك (والعكس صحيح بالطبع). لا يوجد تواطؤ؛ فهما يكشفان عن خطواتهما في نفس الوقت. قد تميل جيل لمحاولة تحقيق فوز أكبر باختيار الصف و، على أمل أن يضطر جاك لاختيار العمود أ، مما يمنحها ٦٣ نقطة، وهو أفضل المتاح؛ لكن جاك ليس أحمق، وهو أيضًا يعي تمامًا ما في الجدول؛ ومن ثَمَّ قد يقوم بتخمين خطواتها ويختار ب لنفسه، مقلِّلًا بذلك من مكسبها إلى ٢ فقط، وهو مكسب لا يكاد يستحق جهدها. وبالتفكير برويةٍ في خطوات جاك الممكنة والمضادة لخطواتها، قد تقرِّر جيل أن تلعب بتحفُّظ، وأن تختار خطواتها لتعظيم مكاسبها بغضِّ النظر عمَّا يفعله جاك؛ بهذه الطريقة سوف تقرُّ بتمتُّعه ببعض الذكاء، وتحاول أن تضع هذا في الاعتبار. يمكنها أن تلعب بهذا الشكل من خلال النظر لكل صف (خط أفقي) يمثِّل خطوة محتملة لها، وتختار الصف الذي يكون «حده الأدنى» — والذي يمثِّل أفضل خطوة لِجاك ضدها — أكبر ما يمكن. هذا ما يُطلَق عليه استراتيجية «أقصى الأدنى»؛ فهي ستحاول تعظيم الحد الأدنى لمكسبها الذي يمكن أن يسمح لها به جاك، وبهذا النوع من التفكير، ستميل لاختيار الخيار ﻫ؛ لأن أقل رقم في هذا الصف، ٢٧ — الذي يمثِّل أسوأ ما يمكنها فعله إذا اختارت ﻫ — أكبر من أصغر رقم في أي صفٍّ آخَر. ليس هناك شيء يمكن أن يفعله جاك في خطوته يمكن أن يجعل مكسبها أقل من ٢٧، بينما أي خطوة أخرى من جانبها ستجعلها معرَّضةً لطريقة لعب جاك المضادة غير المتوقَّعة.
لاحِظْ أن المنطق هنا ليس نفس المنطق الذي استخدمناه من قبل عند الحديث عن الاحتمالات؛ حيث كان الهدف هو الحصول على أكبر مكسب «متوقَّع»، في ظل الأرجحيات المتوافرة لكل نتيجة ممكنة لأي لقرار. إن الطبيعة وقوانين الاحتمال أشياء جديرة بالثقة، ولا تحابي أحدًا، لكن الخصم الماكر يغيِّر كلَّ شيء؛ إن ما فعلَتْه جيل هو البحث عن أسوأ تصرُّف يمكن أن يُوقِعه بها جاك، وتجعله أفضل ما يمكن أن يكون؛ إنها طريقة متحفظة، ويُطلَق عليها في بعض الأحيان التخطيط لأسوأ الحالات، وهي طريقة شائعة في الحياة العملية؛ إنها تعكس نفورًا من الخسارة بدلًا من تحمُّس للفوز، وبالنسبة إلى مثل هذا الهدف، تكون استراتيجية الحد الأدنى منطقيةً بالنسبة إلى جيل.
ما زلنا لم ننظر إلى اللعبة من وجهة نظر جاك، بالطبع هو يريد تقليل حجم خسارته أمام جيل؛ لذا قد يميل لتبنِّي استراتيجية «أدنى الأقصى»، باحثًا عن «الحد الأقصى» في كل «عمود» (خط رأسي) يمكنه اختياره، ويختار العمود الذي «يقلِّل» هذا الرقم؛ سيكون هذا تمامًا بمنزلة استكمالٍ لاستراتيجية جيل، وسيكون له أثر في أن يجعل أسوأ حالاته جيدة بقدر المستطاع؛ وهو بذلك يمنح جيل التقدير لبذلها أفضل ما تستطيع، محاوِلًا فقط أن يجعل ذلك غير مجزٍ بالنسبة إليها قدر المستطاع. حسنًا، إن أصغر حدٍّ أقصى يمكن أن يجده جاك في أي عمود هو ٢٧ في العمود ﺟ؛ لذا إن كان سيختار العمود ﺟ، فليس ثمة شيء يمكن أن تفعله جيل — فليس هناك صفٌّ يمكنها اختياره — يمكن أن يكلِّفه أكثر من ٢٧ نقطة. وتحقيقًا لمصلحته الشخصية، متصرِّفًا مرة أخرى بتحفُّظ، من المحتمل أن يختار جاك ﺟ، بينما من المحتمل أن تختار جيل ﻫ، وهي تتصرف بتحفُّظ أيضًا لمصلحتها، وستكون النتيجة فوز جيل ﺑ ٢٧ نقطة من أيٍّ ما يتمُّ الرهان عليه، وهو الحد الأدنى الذي اعتمدت عليه، بينما حجَّمَ جاك خسارته لأدنى مستوًى مخطَّط له، وهو ٢٧ نقطة أيضًا. يمكننا أن نطلق على هذه اللعبة لعبة مستقرة؛ إذ يتبيَّن أن الخطوة المثلى لكل لاعب هي الأفضل، حتى عندما تنكشف خطوات اللاعب الآخَر في النهاية، بل إن الأمر لا يستلزم إخفاء الخطوات في تلك الحالة؛ فليس هناك ما يمكن أن يفعله جاك لتحسين نتيجته النهائية، حتى بعد أن يعرف خطوة جيل؛ وبالعكس، لن تغيِّر معرفةُ خطوات جاك من قرار جيل على الإطلاق.
لكن من قبيل المصادفة، في تلك الحالة، أن استراتيجية أقصى الأدنى التي مارسَتْها جيل تؤدِّي بالضبط إلى نفس نتيجة استراتيجية أقصى الأدنى التي اتَّبَعَها جاك — مجموع نقاط يبلغ ٢٧ نقطة — وأنه لا يمكن أن يضمن جاك أو جيل نتيجة أفضل. والكلمة المفتاحية هنا هي «يضمن»؛ إذ إن هناك العديد من توليفات الخطوات التي من شأنها أن تُنتج أرقامًا أكبر أو أصغر إذا ما لعب أحد اللاعبَين بطريقة سيئة. وعلى كل حال، فالرقمان الأكبر والأصغر في الجدول هما ٢ و٦٣، ويمثِّل كلٌّ منهما توليفةً ممكنةً من الخطوات. ومع هذا، فعند إحراز ٢٧ نقطة، يكون كلُّ لاعب قد بذل أفضل ما لديه، بينما وضع في اعتباره تصرُّف المنافس بذكاء. ولما كان من غير الحكمة عادةً (لكن ليس دائمًا) الاعتمادُ على عدم كفاءة خصمك، فمن الحكمة والعقل بالنسبة إلى جيل أن تلعب الصف ﻫ، وأن يلعب جيل العمود ﺟ؛ فاللعبة مستقرة.
لكن تلك كانت مصادفة دبَّرَها المؤلِّف خلسةً. لنفترِضْ أنه قد تمَّ تبديل الرقمين ١٩ و٢٧ في العمود ﺟ في الجدول الثاني.
جاك | |||||
---|---|---|---|---|---|
أ | ب | ﺟ | د | ||
ﻫ | ٥٦ | ٣٢ | ١٩ | ٦٠ | |
جيل | و | ٦٣ | ٢ | ٢٧ | ١٥ |
ز | ٢ | ٢٩ | ٢٣ | ٣٨ | |
ح | ٢٦ | ١٠ | ٢١ | ٤٩ |
حينئذٍ سيقود نفس المنطق السابق جاك لأن يلعب العمود ﺟ باستراتيجية تخفيض الحد الأقصى للخسائر، بخسارة قصوى متوقَّعة مقدارها ٢٧، بينما ستظل جيل مدفوعةً للالتزام باستراتيجية أقصى الأدنى وتختار الصف ﻫ، لكن الآن بمكسب أدنى متوقَّع مقداره ١٩. إذا ما لعب كلٌّ منهما وفق النموذج السابق، فستفوز جيل ﺑ ١٩ نقطة فقط بدلًا من اﻟ ٢٧ نقطة السابقة، لكن في تلك الحالة لن يكون هناك اختيار منطقي تلقائي؛ إنها لعبة حقيقية. ربما تتخيَّل جيل نفسها في مكان جاك، وتفهم المنطق الذي ربما دفعه لاختيار العمود ﺟ؛ ومن ثَمَّ تختار لنفسها بمهارةٍ الصفَّ و، وفي هذه الحالة سوف تخاطِر بمكسب مقداره نقطتان فقط إذا ما استشَفَّ جاك تلك الاستراتيجية واختار العمود ب، لكنها ستفوز باﻟ ٢٧ نقطة كاملة إذا لم يفعل. بالطبع يمكن أن تفترض أن جاك يعتقد أن بمقدوره التنبُّؤ بطريقة تفكيرها تلك؛ ومن ثَمَّ قد يختار ب؛ فإذا ما حاوَلَ ذلك بالفعل، فسيكون بمقدورها حينئذٍ أن تخدعه في المستوى التالي من خلال اللعب باختيار خيارها الأصلي؛ وهو ﻫ. وهكذا سيكون هو قد خدع نفسه، وهلم جرًّا. في أي لعبة تنافسية حيث تكون كل الحقائق على الطاولة (كلعبة الشطرنج على سبيل المثال)، يكون هذا النوع من التخطيط والتخطيط المضاد هو المقصد من اللعبة، ومَن يفعلونه بطريقة الأفضل، ويخطِّطون لمعظم الخطوات مقدمًا؛ هم مَن يفوزون. وبما أن هذه اللعبة من ألعاب الخطوة الواحدة، فليس هناك الكثير ممَّا يتعلَّق بالذاكرة والتذكُّر، لكنَّ لعبتَيِ الشطرنج وجو من الألعاب التي تتضمَّن خطواتٍ عدةً؛ حيث يخرج عدد الاحتمالات عن نطاق السيطرة سريعًا إذا ما حاولتَ أن تبالغ في التفكير مقدَّمًا. وحتى برامج الكمبيوتر الجيدة لِلَعب الشطرنج لا تدَّعِي تقييمَ كلِّ الخطوات المحتملة، لكنها تهزم كبارَ أساتذة الشطرنج بانتظام إلى حدٍّ ما هذه الأيامَ؛ ليس دائمًا، لكن بانتظام.
لكن هذا ليس نهاية الأمر؛ فهناك طريقة أفضل للعب في لعبة غير مستقرة، وكان هذا هو الإسهام الأعظم لِفون نيومان.
لقد تعلَّمنا من لعبة إخفاء الحصى في اليد أنه من المفيد في بعض الأحيان تبنِّي استراتيجية عشوائية لمجرد إحباط خصمٍ يمكنه تحسين موقفه من خلال تخمين خطواتك؛ ولعبة جاك وجيل ليست استثناء من هذا، لكن علماء الرياضيات جعلوا هذه الحالة تتجاوز ما نطمح إليه في هذا الكتاب. ومع ذلك لا يزال بمقدورنا أن نرى بشكل بديهي كيف ينجح الأمر إذا ما غيَّرنا قوانين اللعبة قليلًا؛ فبدلًا من أن نطلب من جاك وجيل أن يختار كلٌّ منهما خيارًا واحدًا فقط، سنجعلهما يقلِّلان من فُرَص خسارتهما من خلال اختيار عدة خيارات؛ فبالنسبة إلى جاك، على سبيل المثال، بدلًا من اختيار أ، أو ب، أو ﺟ، أو د، قد يكون بمقدوره أن يضع نصف الرهان على أ، ولا يراهن بشيء على ب، ويراهن بالربع على كلٍّ من ﺟ، ود — أو أي توليفةٍ تروق له — وبالمثل بالنسبة إلى جيل. تخيَّلْ أن كلًّا منهما يمتلك كومةً من الرقاقات يراهن بها، تمامًا كما في لعبة الروليت.
لنَعُدِ الآن إلى استراتيجية جيل بالنسبة إلى النسخة غير المستقرة من اللعبة، وهي الجدول الثاني الوارد أعلاه. لقد كانت مشكلتها تكمن في أن أفضل استراتيجية لتعظيم الحد الأدنى من المكاسب ستقودها للخطوة ﻫ التي من شأنها — بالاندماج مع أفضل خطوة يتَّخِذها جاك لتخفيض الحد الأقصى للخسائر وهي ﺟ — أن تتيح لها الفوز ﺑ ١٩ نقطة فقط، ولو أنها كانت على ثقة «بالفعل» من أن جاك سيختار ﺟ، لَكان من الأفضل لها أن تختار و وتفوز ﺑ ٢٧ نقطة؛ إذن لِمَ لا تغطِّي كلا الاحتمالين بوضع جزء من الرقاقات على كلٍّ منهما؟ فعلى سبيل المثال، يمكن أن تضع ثلثَيِ الرقاقات على ﻫ، والثلث على و كحماية ضد خداع جاك؛ حينئذٍ إذا ما مضى جاك قدمًا نحو الاختيار المتوقَّع ﺟ، فستصيب ١٩ نقطة بثلثَيْ رهانها، و٢٧ بالثلث الآخَر بإجمالي ٢١٫٧ تقريبًا، وذلك أفضل بكثيرٍ من اﻟ ١٩ نقطة المضمونة بالأساس. وإذا ما حاوَلَ جاك بالفعل أن يخدعها باللعب على ب، فستصل إلى ٢٣ نقطة بثلثَيْ رهانها، و٢ فقط ببقية الرهان، ولكن يظل الإجمالي ٢٢، وهذا لا يزال أفضل. (من منظور المدققين، ليست هذه الاستراتيجية المثلى للرهان بالنسبة إلى جيل، لكنها تقترب منها، ويتطلب اختيار استراتيجية مثالية حقًّا وجودَ علماء رياضيات أكثر براعةً قليلًا.)
بالطبع لم يكن جاك مستغرِقًا في أحلام اليقظة خلال كل هذا؛ فهو يعلم أن هذا النوع من الرهان لتقليل حجم الخسارة متاح أمام جيل، وبمقدوره توزيع رهاناته لكي يحجِّم من مكاسبها. يمكنه وضع بعض الرقاقات على ﺟ كأفضل خطوة متحفظة، ولكن مع وضع بعض الرقاقات القليلة على ب ليحبط استراتيجية جيل المحتملة. سنترك الأمر للقارئ كي يستنبط كيف يمكنه تحسين موقفه من خلال توزيع رهاناته بدلًا من وضعها ببساطة على عمود واحد؛ والنتيجة النهائية هي أنه بالنسبة إلى «أي» لعبة من هذا النوع، سواء أكانت مستقرة أم لا بالنسبة إلى الرهان الفردي، هناك طريقة مثلى لكل لاعب كي يقلِّل من خسارته ممَّا يؤدي إلى موقف مستقر.
هذه هي النظرية الأساسية بشأن الألعاب الثنائية الصفرية؛ فهناك استراتيجية مثلى للحماية ضد الخسارة بالنسبة إلى كل لاعب، ويمكن لكل لاعب أن يحسِّن موقفه بغضِّ النظر عن رهان الآخَر. من النادر أن يكون الخيار الأفضل هو وضع البيض كله في سلة واحدة، وهذا الأمر ليس بديهيًّا، لكنه يظلُّ موجودًا. يتبقى فقط أن نقول إن تخفيف صرامة القوانين التي تمنح اللاعبين القدرةَ على تقسيم رهاناتهم ليست ضرورية في الواقع إذا ما كانوا يمارسون اللعبةَ كثيرًا بما يكفي؛ فيمكن لِجيل أن تراهن على ﻫ لثلثَيِ الوقت، وعلى و لثلث الوقت، على أن تحرص على خلط رهاناتها عشوائيًّا، وهو ما سيكون جيدًا مثل تقسيم الرهان على المدى الطويل؛ وبالطبع في أي لعبة فردية سيكون ذلك بمنزلة مقامرة. وأفضل استراتيجية مضادة بالنسبة إلى جاك هي خلط رهاناته خشيةَ أن تدرك جيل النمطَ الذي يتَّبِعه. ويطلق خبراء نظرية الألعاب على هذه الاختيارات العشوائية «الاستراتيجيات المختلطة».
يُعَدُّ تحليل الألعاب الصفرية التي تضم أكثر من لاعبَين أكثر تعقيدًا، لكننا لن نتناولها الآن؛ خشيةَ انصراف العديد من القرَّاء مبكرًا عن الكتاب؛ ستظهر معظم المبادئ في الوقت المناسب عند تناولنا للاستراتيجيات المتعددة الأطراف، غير أنه يجدر بنا ملاحظة سمة خاصة من سمات الألعاب الثلاثية الأطراف التي ستطفو على السطح ثانيةً خلال مناقشتنا لقانون لانكستر في الفصل السادس عشر. فمن الاستراتيجيات الجيدة «دومًا» أن يوحِّد اثنان من اللاعبين قواهما (أو يتآمَرَا) ضد اللاعب الثالث، وأن يسويَا خلافاتهما عندما يكون هو قد أُقصِي. وبتنويعات مناسبة، ينطبق هذا الدرس على الألعاب التي تضمُّ المزيدَ والمزيدَ من اللاعبين، وللأسف ينطبق على الحياة أيضًا.