شوقي في بداية أمره
ولما نشر شوقي الجزء الأول من ديوانه؛ وذلك في سنة ١٩٠٠ بعث إليَّ بعددٍ لا أتذكَّر مِقْداره من النُّسخ فنشرتها في بيروت ولبنان وسورية، وأعلنت عن ذلك الديوان في الجرائد السورية، وقُلْتُ في الإعلان: إذا كان الشعراء أربعة فإن الشاعر الذي يَجْري ولا يُجرَى معه في هذه الأيام، والذي أحيى بشعره عهد أبي نواس وأبي تمام، إنما هو أحمد شوقي بك شاعر مصر وصنَّاجة العصر … إلى أسطرٍ لم تبقَ في بالي. وكان شوقي قد اشتهر وسار شعره في برِّ الشام، ولكن هذا الديوان زاد في لمعانه وجمعتُ أثمانَ النُّسَخ وبعثت بها إلى شوقي، ولما كان الكثيرون لم يدفعوا أثمان النُّسَخ التي خَصَصْناهم بها، كما هي عادة الشرقيين في استهداء المطبوعات مجانًا، فقد أرسلت من جيبي بثمن ما لم أقبض بَدَله إلى شوقي، ولم أُخْبِره بأن ذلك هو منِّي؛ لئلا يَرُدَّه إليَّ.
الآن أدخل في الحديث مع فريق طلبُوا منِّي أن أجعل صورتي في هذه المجموعة، وآخرين رغبوا إليَّ في كلمةٍ تُقال عنها وعن صاحبها وألا يقولَها سواي. معذرتي إلى الفريق الأول أنَّ مَنْ يعرِض صورتَه على الناس كمَنْ يعرِض وجهه عليهم، وأعوذ بالله وبالمحبِّين أن أكون ذلك الرجل. على أن صورتي ما عِشْت بينهم ينظرون إليها، فإذا متُّ فليأخذوها من أهلي إذا جدَّ بهم الحِرْص عليها. وللآخرين أقول: إني لا أزال في أول النشأة وإن حياتي لم تَحفِل بعدُ بالعجائب، ولم تمتلئ من الفوائد ولا المصائب حتى أحدث الناس بأخبارها، لكني لا أثق بيومي الآتي وأخاف بعدي رجومَ الظنِّ وضلَّات الأحاديث، فلي العذر أن أجيب طَلَبَهم على أن يكون الحديث بيني وبينهم كما يكون بين الأحباب. سمعت أبي — رحمه الله — يردُّ أصْلَنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قَدِم هذه الديار يافعًا يحمل وصاةً من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا، وكان جدِّي، وأنا حامِلٌ اسمَه ولَقَبَه، يُحْسِن كتابة العربيَّة والتركيَّة خطًّا وإنشاء، فأدخله الوالي في معيَّته ثم تداولت الأيام وتعاقب الولاة الفخام وهو يتقلَّد المراتب العالية ويتقلَّب في المناصب السامية إلى أن أقامه سعيد باشا أمينًا للجمارك المصريَّة، فكانت وفاته في هذا العمل عن ثروة راضية بدَّدها أبي في سكْرَة الشباب، ثم عاش بعمله غير نادِم ولا مَحرُوم، وعِشْت في ظلِّه وأنا واحدُه أسمع بما كان من سعة رِزقه ولا أراني في ضيق حتى أندب تلك السعة، فكأنه رأى لي كما رأى لنفسه من قبلُ ألا أقتات من فضلات الموتى.
أما ولادتي فكانت بمصر القاهرة وأنا اليوم أحبو إلى الثلاثين. حدَّثني سيِّد ندماء هذا العصر المرحوم الشيخ علي الليثي قال: لقيتُ أباك وأنت حَمْل لم يُوضَع بعدُ، فقصَّ عليَّ حلمًا رآه في نومه، فقلتُ له وأنا أمازحه: ليُولَدنَّ لك ولدٌ يخرق — كما تقول العامة — خَرْقًا في الإسلام.
ثم اتفق أني عُدتُ الشيخَ في مرض الموت، وكانت في يده نسخةٌ من جريدة الأهرام، فابتدر خطابي يقول: هذا تأويل رؤيا أبيك يا شوقي، فوالله ما قالها قبلُ في الإسلام أحدٌ. قلتُ: وما تلك يا مولاي؟ قال: قصيدتك في وصف «البال» التي تقول في مطلعها:
وها هي في يدي أقرؤها. فاستعذت بالله، وقلت له: الحمد لله الذي جعل هذه هي «الخَرْق» ولم يضرَّ بالإسلام فتيلًا. ا.ﻫ.
أخذتني جدَّتي لأمِّي من المهد، وهي التي أرْثِيها في هذه المجموعة، وكانت مُنعَّمة مُوسِرة، فكَفَلَتْني لوالدي، وكانت تحنو عليَّ فوق حنوِّهما، وترى لي مخايل في البرِّ مرجوة، حدَّثتني أنها دخلت بي على الخديوي إسماعيل وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه؛ فطلب الخديوي بَدْرةً من الذهب ثم نَثَرها على البساط عند قدميه، فوقعتُ على الذهب أشتغل بجمعه واللعب به، فقال لجدتي: اصْنَعِي معه مثل هذا، فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض. قالت: هذا دواء لا يخرج إلَّا من صيدليتك يا مولاي. قال: جيئي به إليَّ متى شئتِ، إنِّي آخر مَن يَنْثُر الذهب في مصر. ا.ﻫ. ولا يزال هذا الارتجاج العصبي في الإبصار يعاودني وكان المرحوم الشيخ علي الليثي كُلَّما التقت عينُه بعيني ينشد هذا المصراع للمتنبي: «محاجر مسك رُكِّبت فوق زِئْبق.» انتهى.
وعَدَدْتُ ذلك اليوم علماء آخرين ترجموا أنفسهم، فلم يجاوِب المويلحي على ردي وقطع عن الكلام لعدم اتساع المجال للمُماحَكة، فكتب شوقي إليَّ على أثر هذه المناقشة كتابًا يقول لي فيه: «دفعتَ اليازجي عنِّي بيَدٍ هَدَمَتْ كَيانه وألغت بيانه، وتحامل عليَّ المويلحي فرددتَ عنِّي الردَّ الذي قطع حُجَّته، فبعد أن كانوا يرمونه بالحسد والتحامل جعلوا يرمونه بالجهل والتطاوُل، فسبحان مَن جعلك جلَّادًا لأعدائي وروبرتسًا لحُسَّادي … إلخ.» يريد بروبرتس القائد الإنجليزي الذي دوَّخ الترانسفال، وكان العهد بحرب الترنسفال قريبًا.