اجتماع بعد انقطاع
وذهب الخليل وجاءني ثاني يوم، وقال لي لِنذهب إلى أوتيل كونتننتال، فسِرْنا إلى هناك فإذا بشوقي ينتظرنا، فجلسنا نحن الثلاثة ساعتين من الزمن، وفي ذلك المساء كان تمثيل رواية صلاح الدين الأيوبي؛ لأجل ضمِّ رَيْعها إلى الإعانات الخاصَّة بجرحى طرابلس الغرب، وكانت أُقِيمت سُوقٌ خيريَّة للغرض نفْسِه وأقبل الناس يشترون منها. وكان الشيخ علي يوسف سألني: أتريد في هذه الليلة أن تُنشِد شيئًا من الشعر، فإنه يُحتَمل أن تتقدَّم الرواية قصائدُ تُتْلَى على الجمهور؟ فقلت للشيخ علي: لا أرى نفسي هاتفةً هذه الأيام بالشعر. وذلك أنِّي كنت في كلِّ صبيحة أكتب في المؤيد مقالة افتتاحية خمسة أو ستة أعمدة أكتبها قطعة وراء قطعة، ومرتِّب الحروف يصفُّها بينما أنا لم أنتهِ منها. فرجحت في هذه المدة كفَّة النثر وأشالت كفَّة الشعر، وصرت أخشى أني إذا حاولت الشعر لا أبلغ منه درجة الإجادة، فلما اجتمعنا، الخليل وشوقي وكاتب هذه السطور، قال لنا الخليل: دعاني أن أتلو عليكما القصيدة التي هيَّأتها لهذه الليلة، فقرأ لنا قصيدة رائيَّة مطلعها:
وأتى عليها كلِّها وهي كسائر شعر الخليل، دقة معنًى ورقة شعور وجزالة لفظ وعلو طبقة، وما كان لقَبُ الخليل بشاعر القطرين تجوُّزًا ولا تسامحًا. وأبديت له ملاحظة على بيتٍ من تلك القصيدة فأسرع بتغييره. فأما أنا وشوقي فكنَّا لم ننظم شيئًا لتلك الحفلة، وسأَلَنا الخليلُ عمَّا إذا كنَّا سنقول شيئًا، فقال كلٌّ منا: ما هيَّأتُ شيئًا. إلَّا أننا بعد أن انصرفنا وجئت أنا إلى مركز الهلال الأحمر وجدت المكان خاليًا وقلْتُ لأستفيدَنَّ من هذا السكون وأنظم بضْعَة أبيات بالأقل، فلما بدأت بالنظم انبعث بي الشعر وانثالت عليَّ الأبيات كأنها تنْحَدِر من صَبَب، فما مضت ساعة إلَّا وهي في يدي قصيدة تامَّة. وأصاب شوقي ما أصابني كما حدَّثني فيما بعدُ؛ وهو أنه انتبذ موضع مناجاة بعث به الشعر فنَظَم قصيدةً كما نظمت أنا بدون أن تكون سبقت له نيَّة، ولما جئنا ملهى الأوبرا جئنا نحن الثلاثة وكلٌّ منا قصيدته في جيبه، وكان الخليل قد علم منَّا أننا لم نهيِّئ شيئًا، فما راعه إلَّا وأنا أنشد قصيدتي وأحد الشعراء ينشد من بعدي قصيدة شوقي.