سَفَر المؤلِّف إلى حرب طرابلس
وذهبت بعدها إلى برقة وبقيت في الجهاد زهاء ثمانية أشهر ورجعت في رمضان، فعَيَّدت في الإسكندرية وأنا ضيف على الجناب الخديوي في سراي رأس التين.
(١) مشاهدته لشوقي بعد رجوعه منها وذلك في سراي رأس التين
وشاهدت شوقي نهار العيد عندما اكتظَّت السراي بوفود المهنِّئين، وبعدها لم أشاهد شوقي إلَّا في الآستانة لأول نشوب الحرب الكبرى.
فسَنَة إعلان الحرب الكبرى كان الخديوي السابق في الآستانة، كما لا يخفى، فأطلق عليه الرصاص شابٌّ مصريٌّ من الوطنيين المتهوِّسين فجرحه عدة جراحات، وذلك أمام الباب العالي، والحرس الأتراك الذين كانوا بجانب مركبة الخديوي أنحَوا على ذلك الشاب المصري بالسيوف فقرطبوه وقتلوه في الحال. وهي قصة ليس موضعها هنا ولكنَّنا أشرنا إليها لمناسبتها مع اجتماعي بشوقي في الآستانة؛ فإنه بعد هذه الحادثة قدِم إلى الآستانة عددٌ كبير من المصريين ليعودوا الجناب الخديوي ويُظهِروا للدولة اهتمامهم به، وكان من هؤلاء أحمد شوقي شاعره وربيب نعمته.
(٢) التقاء الأخوين في استانبول في أول الحرب العامة
فبينما أنا مرة في باخرة تسير في البوسفور؛ إذ صادفت أخي شوقي فسُرِرت بهذه المصادفة، وقال لي إنه كان يريد أن يقابلني لأجل مسألة ذات بالٍ. قلت له: وما المسألة؟ فقال لي: أنت تدري هذا الحادث الفظيع الذي وقع مع الخديوي، وتدري أيضًا أنه ساء تأثيره في مصر، وإن الذين لا يحبون الخديوي هم أنفسهم امتعضُوا من هذا الحادث، وسواء كانت الدولة لا تعلم أسرار هذه الواقعة أو كانت على عِلْم بها فإن الواجب عليها أن تتلافى هذا الأمر جمعًا لكلمة الأمَّة وتَفادِيًا من الفرقة بين الآستانة ومصر. فقلت له: كل هذا عندي مُسلَّم، فماذا تريد أن أصنع لك؟
(٣) اقتراح شوقي على المؤلِّف عيادة السلطان للخديو
قال لي: إن الخديو لا يزال في فراشه يعاني آلام جراحه، وإنه يليق بمولانا السلطان أن يجبر خاطره الكسير بعيادته له في قصره بالشبوقلي، وليس في هذا ما يحطُّ من قدر السلطان، بل فيه ما يستنطق كلَّ الأفواه بالثناء عليه والدعاء له، وما الخديوي إلَّا أمير من أمرائه، بل هو أكبر أمرائه؛ فزيادة تشريف السلطان للخديو تعود على السلطان نفسه. وأبدى شوقي وأعاد في هذا الأمر، وقال لي: كلُّ مَن حادثتهم في هذا الموضوع أجابوني أنه ليس لهذه المسألة غيرك، فإن لم تَقْدِر عليها أنت فلن يقدر عليها أحد. فأجبته بكلِّ إيجاز: بعد يومين تعالَ إليَّ فأخبرك بما عملت وأنا معك في هذه الفكرة.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى طلعت؛ وكان ناظرًا للداخلية فأخبرته بالخبر وقلت له: إني مؤيد لهذه الفكرة التي عرضها شوقي، ولا أرى حلًّا لهذه المسألة أحسن من هذا. فقال لي طلعت في أول جوابه: أنجرُّ هذا الشيخ الكبير — يعني السلطان — إلى محلٍّ بعيدٍ مثل الشبوقلي (لأنه في آخر البوسفور)؟
وقبل أن أجيبه على هذه الجملة قطع عليَّ الكلام، وقال لي: حسن أنت صديق للأمير سعيد حليم الصدر الأعظم، فاذهب واعْرِض عليه هذا الاقتراح، فإني لا أقدِر أن أبتَّ في مسألة عائدة للعائلة الخديوية بدون علمه، ولا يجيء هذا منِّي، وإنما أنت تقدِر أن تُقنِعه، فإذا اقتنع فأنا موافق كل الموافقة. كُنْ من هذا على ثقة. فذهبت إلى الأمير سعيد حليم في منزله في بني كوى على شاطئ البوسفور فوجدت عنده إبراهيم بك صاحب زاده ناظر العدلية وإسماعيل مشتاق بك رئيس كتاب مجلس الأعيان وأشخاصًا آخرين، وكلُّهم جلوس أمام قصره على رصيف البحر، وكانوا ينتظرون الخبر من الدردنيل عن وصول الدارعتين غوبن وبرسلاو الألمانيَّتين اللتين طاردهما الأسطول الإنجليزي والأسطول الإفرنسي ببوارج عديدة فاضْطُرتا أن تقصدا مياه تركيا وعبرتا الدردنيل، فلم يقدِر أسطول الحلفاء على العبور وراءهما، ولكن فرنسة وإنجلترة احْتَجَّتا على تركيا بإيوائها البارجتين الألمانيَّتين؛ ولذلك اتَّفق الأتراك مع الألمان على أن يُجِيبوا دول الحُلَفاء بأن تركيا اشترت الدارعتين بدلًا من الدردنوت رشادية التي كانت تركيا أوصت عليها في معامل إنجلترة وأنفقت عليها ملايين من الجنيهات، وعندما حان أوانُ تَسْليمها للدولة ضبطها الإنجليز قائلين إنهم على باب حرب فقد يحتاجون إليها. فدخلت غوبن وبرسلاو إلى مياه البوسفور ولَبِسَ بحريتُهما الطرابيش الحُمْر علامةً على أنهم دخلوا في خدمة الدولة العثمانية، وما كان ذلك إلَّا بالتواطُؤ بين تركيا وألمانيا قطعًا لحجَّة الحلفاء.
فساعة ذهابي لمواجهة الصدر الأعظم كانت الساعة التي كانوا ينتظرون فيها وصول غوبن وبرسلاو إلى جناق قلعة، فجلست أنتظر انصراف القوم من حَضْرة الصدر فطال جلوسهم وتبرَّمت بطول مُكْثهم؛ لأنه كان عندي ذلك الكلام المهمُّ الذي أريد أن أُفْضِي به إلى الصَّدْر وهو قضية عيادة السلطان للخديوي. فلما غابت الشمس قلت للأمير سعيد حليم همسًا في أذنه: إن لي كلامًا خاصًّا معك. فقام من فوره وتنحَّى جانبًا وسألني عما عندي، فحكيت له الحكاية وأبديت له ضرورة إجابة هذا الرجاء؛ لأن فيه جبرًا لخاطر المصريين وسدًّا لباب الشقاق وإصماتًا للقال والقيل وتَطْييبًا لنفس الخديوي الذي جُرِح أمام الباب العالي وكاد يموت لولا لطف الباري به وتأخُّر أجلِه. فقال لي: ولماذا تُدخِل المصريين في هذا الموضوع؟ قلت له: لأن الرجل هو خديويهم ولا شكَّ في أنهم لا يرضون بالاستخفاف بأمره حتى الذين منهم يكرهونه لا يهون عليهم ما حصل له لأسباب مُتعدِّدة. فقال لي رحمه الله: إنك أنت تعرف هذا الرجل معرفة جيِّدة؛ فقولك هذا هو خلاف ضميرك. وبينا كنَّا نتكلم كنَّا نمشي غير مُتباعِدَين عن الجماعة الذين كانوا جالسين، فلما رأوا حديثنا قد طال انسلُّوا نجيًّا ونحن دخلنا حينئذٍ إلى القصر. فكلمة الأمير سعيد حليم لي: كلامك هذا خلاف ضميرك رددْتُ عليها بشدَّة، قائلًا له: هذه مسألة غير شخصية، وأنا الآن لا أقترح هذا الاقتراح لأجل شخص الخديوي، بل لأجل مقامه ولأجل أنه أمير مصر من قِبَل السلطان الأعظم، ومن العجب أنك تعاكس هذا الاقتراح وأنت تعلم ما أعلم أنا من ضرورته حَوْصًا لهذا الشقِّ الذي وقع، وبالتالي فالخديوي هو ابن عمِّك، وكلُّ شرف يناله هو أنت قَسِيمه فيه سواء كان لك عدوًّا أو صديقًا.
وكان كلامي بشدَّة وحِدَّة وحضره علي باشا جلال بعد أن دخلنا إلى القصر، واشمأزَّ الصدر الأعظم من هذا الاقتراح ومن إصراري عليه، وبقي يجادل بقوله إن المؤيد جريدة الخديوي تزعم أننا نحن أرسلنا نقتل الخديوي، فإن أرسلنا إليه السلطان يعوده فلا عجب أن يقولوا إنه لمَّا لم يمت عادوا الآن يحاولون استرضاءه. فقلت له وقد يئست منه: والله لا أعلم لماذا أغيظك وأغيظ نفسي في أمرٍ كان الأخْلقُ بك أنت أن تقترحه. ونهضت مُنصرِفًا وتركته واجِمًا وظننت بعد أن فصلت من عنده أنِّي لن أتصافى بعدها معه.
ولكن ما مضى أيام حتى صادفته في بيت خليل بك رئيس مجلس النواب أو المبعوثين كما يقولون؛ فأراد خليل بك أن يقدِّمني للأمير سعيد الصدر الأعظم بصفته رئيسًا للمجلس وبصفتي أنا من أعضائه، فضحك الأمير وقال له: أنا أعرفه قبلك بكثير، وهذا هو أرسلان اسمٌ على مُسمًّى، يشير إلى معنى هذا الاسم بالتركية والفارسية وهو الأسد؛ فإن هذه اللفظة هي من جملة ألفاظ دخلت بين العرب من القديم وسمَّوا بها أعلامًا، ولو لم يكن سعيد حليم صاحبَ أخلاقٍ لما كان رضي عنِّي بعد ذلك الجدال العنيف، ولكنَّه كان عالي الهمَّة صحيح المبدأ حافظ الذمام، وكان يعلم نبالة مقصدي في ذلك الاقتراح ولم يكن يسيء الظن بي، فتحمَّل منِّي ذلك الكلام الذي كله تأنيب ولم يتغيَّر فِكْره من جهتي، وبَقِيتْ بيننا الصداقةُ مثل ذي قبل لم يَشُبْها شائبة.
ثم نعود إلى اقتراح شوقي، فإنه جاءني بعد يومين يستطلع نتيجة المسعى، فأخبرته بأنني قابلت طلعت واقتنع بكلامي وأسعف في المسألة، ولكنه أرسلني إلى الصدر الأعظم وربط المسألة به، وهذا حتى هذه الساعة يُبْدي شيئًا من الصعوبة. ولم أزِدْ على هذه الجملة، ولا أخبرت شوقي بما حصل بيني وبين الصدر من الجدال والحِدَّة حتى لا أزيد الفتنة بينه وبين الخديوي، ونحن كنا نسعى في رَأْب الصَّدْع لا في توسيعه، وكنت في جوابي لشوقي آسفًا كاسفًا؛ إذ كنت أؤمِّل تحقيق أمله وأملي فخاب أملُنا نحن الاثنين. وكان الوقت رمضان فدعوت ثاني يوم المرحوم عبد الحميد بك عمار من أعيان المصريين للإفطار معي في «بك أوغلي»، ورويت له القصَّة مُحتجِنًا منها ما وقع من معارضة الصدر الشديدة، ومُكتفِيًا بالقول إن هذه المسألة لا تزال قَيْد المذاكرة. فذهب عبد الحميد بك عمار إلى الخديوي وأخبره بالقصة، ولم أعلم كيف كان وقعها عنده.
ودخلنا بعد ذلك في الحرب العامة وانقطع كلُّ اتصال عاديٌّ بين الدولة وبين مصر، وأصبحت لا أعلم عن أصحابي بمصر كثيرًا ولا قليلًا إلى أن مضى على هذا عام أو عامان، فعلمنا أن الإنكليز دفعوا إلى مالطة جمًّا غفيرًا وأزعجوا آخرين إلى أوروبا، وكان فيمن أُزعِج عن بلاده إلى أوروبا أحمد شوقي فانتجع إسبانية وناح على الأندلس، ولكنه خفض هناك في عيشة راضية وبيئة هادية، ولم يَعُد إلى وطنه إلَّا بعد أن انطفأت نار الحرب.