لقاء في باريز بعد الحرب العامة
ولم يُسعِدْني القَدَر بعد ذلك بلقاء أخي شوقي إلى سنة ١٩٢٦، وذلك في باريز، حيث كان شوقي جاء يقيظ في أوروبا، وكنت أنا مع زميلي إحسان بك الجابري نتذاكر مع الحكومة الإفرنسية بدعوة منها في القضية السورية، وكنَّا نازلين في أوتل «ماجستيك»، فما أنا ذات يوم إلَّا وشوقي قد طلع عليَّ بدون ميعاد ولا سابِق علم لي بوجوده في باريز، فدخل على قلبي من السرور برؤيته ما يدْخُل على الأخ الذي غاب عنه أخوه منذ بضع عشرة سنة ومَن لا تسمح له دواعي السياسة أن يراه كلَّما أراد؛ لأنه من قبل ذلك الحين كانت صدرت الأوامر بمنْعِي من دخول مصر، وفشل كلُّ سعْيٍ في حلِّ هذه العقدة، فكيف يمكنُنِي بعد هذا أن أشاهد شوقي إلَّا بقَدَر لا يخْطُر في الفكر وفي بلاد الغربة، وقد كان لا يُؤذَن لي بدخول باريز — والآن لا يُؤذن لي فيه — إلَّا بدعوة خاصَّة من حكومة فرنسة:
فذهبت أردُّ الزيارة لشوقي في الفندق الذي كان فيه في الحي اللاتيني فلم أجده، وبينما أنا صادر إذا بمقهًى جالس فيه شوقي مع محمد أفندي عبد الوهاب وآخرين حسبما تقدَّم الكلام على هذه النكتة؛ لأن هذا المقهى هو المُسمَّى بقهوة داركور، وكنَّا نجلس فيها منذ ستٍّ وثلاثين سنة ونحن شبَّان فعُدْنا نجلس فيها ونحن شُيوخ.
(١) في مقهى الجامع
وأخذنا مذ ذاك نجتمع في مقهى الجامع؛ حيث كان يوجد رجل أديب باهِر الذكاء واسع الرواية فصيح اللهجة اسمه السيد طاهر الصبَّاغ، مكيُّ الأصل تونسيُّ الدار، كان وجوده في ذلك المقهى باعِث نشوة وسبب سَلْوة لكلِّ مَن ينتاب المحل، وكان يروي كثيرًا من شعر شوقي وغيره من الشعراء المُفلِقين، كما أنه كان يقرأ أكثر مقالاتي ويتتبعها، فكان إذا جئت أنا وشوقي ومحمد عبد الوهاب ومَن معنا من الأصحاب وجلسنا للمنادمة وسماع الألحان الشجيَّة على نقرات العود يأخذ السيد طاهر الصباغ الطربُ ولا يسعه المكان من الفرح، وكان يتحيَّر كيف يصنع ليوفِّر أسباب راحتنا وسرورنا، ولكنه في آخر الأمر عَتَبَ على أخي شوقي لكونه وعده بنسخة من ديوانه وذهب من باريز ولم يُنجِز وعده هذا، فلما كاشفني بهذه الموجدة أخبرته عن غرائب شوقي في الذهول، وقلت له: لو عرفت أمره في هذا الشأن لعذرته.
وقد تُوفِّي الصبَّاغ إلى رحمة ربِّه قبل وفاة شوقي بقليل، رحمهما الله تعالى.
(٢) شوقي الناثر
ولم يكن شوقي شاعرًا فذًّا فحسب، بل كان ناثرًا بليغًا مترسلًا ضليعًا متين العبارة سلسها، يقِلُّ في الكتَّاب والمترسلين مَنْ يصوغ صياغته إلَّا أن شعره قتل نثره؛ فبينما هو في الشعر الفذُّ الذي يجري ولا يُجرَى معه إذا هو في النثر أحدُ جماعة يجري معه الناس مَثْنى وثُلاث ورُبَاع، ولا شكَّ أن كفَّة نظْمه رجحت بكفة نثره رجحانًا بينًا حمل الناس على الظنِّ بضعف منَّته في صنعة الكتابة، وليس الأمر كذلك، بل كان له نثر رائق وترسُّل مُؤنَّق وفصول شائقة كانت تخلد في عالم الأدب لو لم تفْتِك بها قصائده.
(٣) كلمة المنفلوطي في شوقي والمؤلف
وقد كان السيد المنفلوطي — رحمه الله — يوم ترجم شعراء العصر وكتَّابه المعدودين، حكم لشوقي بالسبق في ميدان الشعر وجعل لكلِّ واحد من هؤلاء تعريفًا كان آية في الإيجاز، ولما وصل إلى كاتب هذه السطور قال: لو لم يكن أكْتَبَ كاتبٍ لكان أشْعَرَ شاعرٍ، ولكنهما كفَّتان كلما رَجَحت الواحدة أشالت الأخرى. ويظهر أنه راجع نفسه فيما بعدُ أو أنَّ بعض الناس اعترضوا عليه في قوله عن هذا العاجز: لو لم يكن أكْتَبَ كاتبٍ لكان أشْعَرَ شاعرٍ، فعاد إلى نفس العبارة وأنزلها إلى قوله: لو لم يكن كاتبًا فريدًا لكان شاعرًا مجيدًا، فهما كفَّتان كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى.
ولست أقصد بهذا النقل شيئًا من الاعتراض عليه، ولا أنا ممَّن يسوقه الغرور إلى أن يظنَّ في نفسه أنه أشعر شاعر أو أكتب كاتب، ولا أنه كاتب فريد وشاعر مجيد، وما حفلت في حياتي بشيء من هذه الألقاب، ولا احلولى في صدري ما ينحلني الناس إياه منها؛ كأمير البيان، وما أشبه ذلك، والجواد عينه فراره، والشاعر لقبه شعره، والكاتب سِمَته بَيانه، والإنسان حِلْيته عمله، ولكني ذكرت عبارة المنفلوطي في عرض الكلام عن كفَّتي النظم والنثر اللتين إن غلبت إحداهما على الأخرى سحقتها في أعين الناس كما جرى لشوقي.
(٤) مثال من نثر شوقي
وكان أبو العلاء يصوغ الحقائق في شعره ويُوعي تجارب الحياة في منظومه، ويشرح حالات النفس، ويكاد ينال سريرتها، ومَن تأمَّل قوله من قصيدة:
وقابِلْ بين هذا البيت وبين قول أبي فراس:
ثم انظر إلى الأول كيف شرع سُنَّة الإيثار وبالغ في إظهار رِقَّة النفس للنفس وانعطاف الجنس نحو الجنس، وإلى الثاني كيف وضع مبدأ الأثرة وغالى بالنفس ورأى لها الاختصاص بالمنفعة في هذه الدنيا تعيش فيها جافية ثم تخرج منها غير آسية، علم أن شعراء العرب حكماء لم تعزب عنهم الحقائق الكبرى، ولم يَفُتْهم تقرير المبادئ الاجتماعية العالية، وأنهم أقدر الأمم على تقريبها من الأذهان وإظهارها في أجلى وأجمل صور البيان.
وكان أبو العتاهية ينشئ الشعر عبرة وموعظة وحكمة بالغة موقظة، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — يُرجع إليه كذلك في الوعظ والإرشاد، والتحذير من الرذائل، والإغراء بالفضائل …
اشتغل بالشعر فريقٌ من فحول الشعر جنَوا وظلموا قرائحهم النادرة وحرموا الأقوام من بعدهم؛ فمنهم مَن خرج من فضاء الفكر والخيال ودخل في مضيق اللفظ والصناعة، وبعضهم آثر ظلمات الكلفة والتعقيد على نور الإبانة والسهولة، ووقف آخرون بالقريض عند القول المأثور «القديم على قِدَمه»، فوصفوا النوق على غير ما عهدها العرب عليه، وأتَوا المنازل من غير أبوابها ودخلوا البيداء على سراب. وانغمس فريق في بحار التشابيه حتى تشابهت عليهم اللجج، ثم خرجوا منها بالبلل، وزعمت عصبة أن أحسن الشعر ما كان بوادٍ والحقيقة بوادٍ، فكلما كان بعيدًا عن الواقع مُنحرِفًا عن المحسوس مُجانِبًا للمحتمل كان أدنى في اعتقادهم إلى الخيال وأجمع للجلال والجمال، حتى نشأ عن ذلك الإغراق الثقيل على النفس والغلوِّ البغيض إلى العقول السليمة.
على أن الكل قد مارسوا الشعر فنًّا على حدة، واتخذوه حرفة وتعاطوه تجارة إذا شاء الملوك ربحت، وإذا شاءوا خسرت. ثم لم يكفِهم ذلك حتى هجوا الشعر وذمُّوه بكلِّ لسان فزعموه مجلبة الشقاء، وقالوا إنه محسوب على الشعراء يفيض من أرزاقهم وينحت من قلوبهم ويعرِّضهم لإراقة ماء الوجوه. ولقد والله زعموا صدقًا وقالوا حقًّا، وإن هذا لَجزاء فئة يتوقَّعون أرزاقهم من ملوكٍ كرامٍ يخلقهم الله لرواج حرفتهم، فإذا لم يُخلَقوا كَسَدتِ الحِرْفة وأخطأت الأرزاق، على أنه يُستثْنَى من هؤلاء قليلٌ لا يُذكَر في جنب الفائدة الضائعة بضياع الشعر مديحًا في الملوك والأمراء، وثناءً على الرؤساء والكبراء، وإلَّا فمن دواوينهم ما يخلق أن يكون المثال المُحتذَى في شعر الأمم كابن الأحنف مرسل الشعر كتبًا في الهوى ورسائل، ومُتخِذه رسلًا في الغرام ووسائل، وكابن خفاجة شاعر الطبيعة ومجنون ليلاها وواصف بدائعها وحلاها، وكالبهاء زهير سيد من ضَحِك في القول وبَكَى، وأفْصَح مَن عَتَب على الأحبَّة واشتكى، وحسبك أنه لو اجتمع ألف شاعر يعزِّزهم ألف ناثر على أن يحلُّوا شعر البها أو يأتوا بنثر في سهولته لانصرفوا عنه وهو كما هو.
ولا أرى بدًّا من استثناء المتنبِّي مع علمي أنه المدَّاح الهجَّاء؛ لأن معجزه لا يزال يرفع الشعر ويُعلِيه ويغري الناس به فيجدِّده ويحييه، وحسبك أن المشتغلين بالقريض عمومًا والمطبوعين منهم خصوصًا لا يتطَّلعون إلَّا إلى غُبارِه ولا يجدون الهدى إلَّا على مناره، ويتمنَّى أحدهم لو أُتِيح له ممدوح كممدوحه ليمدحه مثل مديحه أو لو وقع له كافُور مثل كافُورِه ليهجوه مثل هجائه، فمَثَل أبي الطيب في تشبُّه الشعراء به وسعيهم لبلوغ شأوه في المدح أو الهجو كمَثَل قائد مشهور الأيام معروف بالحزم والإقدام، قد أُشْرِبَتْه قلوب الجند ومُلِئت نفوسهم ثقةً منه، فلو قذف بهم في مهاوي الهلاك وهم يعلمون لما جَبُنوا ولا أحْجَموا، هذا مع اعترافهم بأن المتنبي صاحب اللواء، والسماء التي ما طاولتها في البيان سماء، ولو سلم من الغرور وسلم الناس من لسانه لأجللته إجلال الأنبياء.
والحاصل أن إنزال الشعر منزلة حِرْفة تقوم بالمدح ولا تقوم بغيره تَجْزِئة يجِلُّ عنها ويتبرَّأ الشعراء منها. إلَّا أن هناك ملكًا كبيرًا ما خُلقوا إلَّا ليتغنَّوا بمَدْحِه ويتفنَّنوا بوصْفِه ذاهبِين فيه كلَّ مَذْهب، آخِذين منه بكلِّ نصيب، وهذا الملك هو الكَوْن؛ فالشاعر مَنْ وقف بين الثريَّا والثَّرَى يقلِّب إحدى عينيه في الذرِّ ويجعل أخرى في الذرى، يأسر الطير ويطلقه ويكلِّم الجماد ويُنْطِقه ويقف على النبات وقْفةَ الطلِّ، ويمرُّ بالعراء مرور الوبل، فهنالك ينفسح له مجال التخيُّل ويتسع له مكان القَوْل، ويستفيد من جهته علمًا لا تحويه الكتب ولا توعيه صدور العلماء، ومن جهة أخرى يجد من الشعر مسلِّيًا في الهم ومنجيًا من الغمِّ، وشاغلًا إذا أملَّ الفراغ ومُؤنِسًا إذا تملَّكت الوحشة، ومن جهة ثالثة لا يلبث أن يفتح الله عليه، فإذا الخاطر أسرع، والقول أسهل والقلم أجرى، والمادة أغزر، بحيث لا تمضي السنون حتى تتداول الأيدي مؤلفاته. وإذا مات أكبر الناس من بعده مخلفاته، أوَلم يكن من الغبن على الشعر والأمَّة العربية أن يحيا المتنبي مثلًا حياته العالية التي بلغ فيها إلى أقصى الشباب ثم يموت عن نحو مائتي صفحة من الشعر تسعة أعشارها لمَمْدُوحيه والشعر الباقي هو الحكمة والوصف للناس؟
هنا يسأل سائل: وما بالك تنهى عن خُلُقٍ وتأتي مثله؟ فأجيب أني قرعت أبواب الشعر وأنا لا أعلم من حقيقته ما أعلمه اليوم، ولا أجد أمامي غير دواوين للموتى لا مظهر للشعر فيها، وقصائد للأحياء يحذون فيها حَذْوَ القدماء. والقوم في مصر لا يعرفون من الشعر إلَّا ما كان مدحًا في مقامٍ عالٍ، ولا يرون غير شاعر الخديوي صاحب المقام الأسمى في البلاد. فما زلت أتمنَّى هذه المنزلة وأسمو إليها على دَرَج الإخلاص في حبِّ صناعتي وإتقانها بقدر الإمكان وصونها عن الابتذال، حتى وُفِّقت بفضل الله إليها. ثم طلبت العلم في أوروبا فوجدت فيها نور السبيل من أوَّل يوم، وعلمتُ أنِّي مسئول عن تلك الهِبة التي يُؤتِيها الله ولا يُؤتِيها سواه، وأني لا أؤدِّي شُكْرها حتى أشاطر الناس خيراتها التي لا تُحَدُّ ولا تنفَد، وإذ كنت أعتقد أن الأوهام إذا تمكَّنت من أمَّة كانت لباغي إبادتها كالأفعوان لا يُطاق لقاؤه ويُؤخَذ من خلف بأطراف البنان، جعلت أبعث بقصائد المديح من أوروبا مملوءة من جديد المعاني وحديث الأساليب بقدر الإمكان إلى أن رفعت إلى الخديوي السابق قصيدتي التي أقول في مطلعها:
والتي غزلها في أول هذا الديوان، وكانت المدائح الخديوية تُنشَر يومئذٍ في الجريدة الرسميَّة وكان يُحرِّر هذه أستاذي الشيخ عبد الكريم سلمان، فدفعت القصيدة إليه وطلبت منه أن يُسقِط الغزل وينشر المدح، فودَّ الشيخ لو أسْقَط المديحَ ونشر الغزل، ثم كانت النتيجة أن القصيدة برُمَّتها لم تُنشَر، فلما بلغني الخبر لم يَزِدْني علمًا بأن احتراسي من المفاجأة بالشعر الجديد دفعة واحدة إنما كان في محلِّه، وأن الزلل معي إذا أنا استعجلت.
اجتزأنا بهذا القسم من مقدمة «الشوقيات»؛ لأن فيه ما يدلُّ على غيره، وهو ولا شكَّ قد أجاد هنا ما لم يُجِدْ في مكانٍ آخر من نثره؛ لأنه الموضوع الذي هو أملى به وأقوم عليه، وكلما كان الإنسان علَّامة بأمرٍ كان كلامه فيه أوضح وأبين، وعنه أسلس وأحسن، وقد حاول شوقي أن ينثر وينشر من نثره حتى لا يُقال إن الشعر قَعَد به عن النثر قعودًا لا يرضاه لنفسه، فلم يبالِ الناس نثره ولا تلقوه بالاحتفال اللائق بمثل شوقي، لا لأنه كان ركيكًا بحدِّ ذاته، بل لأنه كان غثًّا في جانب سِمَن شعره.