شوقي واليازجي
وأنْحَى اليازجي في مجلته «البيان» على شوقي بنقد شديد في روايته «عذراء الهند» تجاوز فيه الحدَّ وجار عن القَصْد، وتعقَّبه في ألفاظٍ وجُمَل زعم أنها ممَّا لا تُجِيزه قواعد العربية؛ وكأنه أراد أن يُسقِط منزلة شوقي بين الأدباء؛ لأن الأديب لا يصحُّ أن يُسمَّى أديبًا إلَّا إذا استكمل أداته من اللغة والنحو والصرف والبيان، وإلَّا فإنه يبقى متأخِّرًا في صفوف المتأدِّبين مهما سمت معانيه وزهت تصوُّراته وأثَّر كلامه ونفذت طعناته؛ وذلك أن الناس أجمعوا على أن الفصاحة واللحن لا يجتمعان، وأن مَن نقَصَ حظُّه من النحو نقَصَ حظُّه من الأدب، وليس هذا مُنحصِرًا في العرب بل هو عند الإفرنج أيضًا؛ فليس عندهم لمنقوص النحو مكانة أدبيَّة تُذكَر. وقال «أناطول فرانس»، وهو من أعظم أُدَباء أوروبا: «لا يقول الكاتب قولًا سديدًا إلَّا بنَحْوٍ مَتِين ولغة صحيحة.» وقال بوالو: «أعلى الكُتَّاب كعبًا إذا حُرِم الرسوخ في اللغة فليس بكاتب.» فمهما نبغ شوقي وفاق أقرانه في سعة التخيُّل ولطف التأثُّر، فإنه كان يكون منقوص البهاء لو آنس الناس فيه ضعفًا من جهة العربيَّة.
هذا في الحقيقة لا نزاع فيه لو كان شوقي ممَّن يصْدُق عليه مثل هذا الوصف، ولكن شوقي كان شاعرًا كامل الأدوات وكان ريَّانَ من العربية الفصحى، وكانت لغته متساوية مع فكرته، فإذا سألت عليه شِعاب الفكر جاء بكلِّ لفظ فَحْل ومعنًى بِكْر، وحاط كلامه من قرنه إلى قدمه بنحْوٍ راسخ ولغة تَبْعُد عنها الركاكة فراسخ. فأما أن يجد اليازجي مُتعلَّقًا لانتقادٍ ومُتسلَّقًا لانتقاص، فإننا لو عرضنا كلام القوم بأسْرِه على علماء النحو وحَفَظة اللغة لَمَا عزَّ عليهم أن يجدوا في كلِّ قَوْل مقالًا، ولَمَا بَعُد أن يجدوا في كلِّ جملة مأخذًا؛ لا سيَّما إذا كان النحوي أو اللغوي يتقصَّد إظهار طوله وإثبات إحاطته.
(١) علم اليازجي وتعنُّته
وقد كان اليازجي في عصرنا من أبصر جهابذة اللغة وأفرس فرسان الإنشاء، ولم يكن يُؤتَى من جهةٍ كهذه، وكان من أمتن مَن عرفنا تركيبًا وأجودهم سَبْكًا، ولكنه كان مولعًا بالتعنُّت مُتهافِتًا على التنقُّص، ضيِّق العطن لا يتردَّد في تحجير الواسع مهما اتَّسع، وكان إذا لم يطَّلع على مسألة من المسائل نفاها عن العربية، وإن لم يجد في المعاجم المعروفة بين أيدينا لفظًا من الألفاظ أسجل بأنه ليس بعربي، ولم يتنبَّه إلى أن اللغة بحرٌ لا ساحِلَ له، وأن تحجير الواسع في العربية ضَرْب من العَبَث، وأنه ما انتُقدت عبارة إلا رُدَّ عنها بتخريج، وأنه ليطول بنا أن نصف غلوَّه في هذا المذهب ونُحْصِي الكلمات التي كان يمنعها بحُجَّة أنها لم تَرِد في المعاجم، ولكننا من قبيل التمثيل نذكر أنه كان يمنع لفظة «احتمى» إلَّا بمعنى الحِمْية عن الطعام، فأما احتمى مطاوع حمى فكان يراها خطأً في اللغة، ولو اطَّلع على قول عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي:
لعلم أنه هو الذي أخطأ بتخطئته للوارد من كلام العرب، وكان يمنع أن يُقال «نوال» بمعنى «نَيْل»، ولا يرضى لها تخريجًا، ولو قرأ، وأظنه من شعر الحماسة:
لعلم أنه لم يكن على صواب فيما ذهب إليه.
وعابني مرة في مجلته باستعمالي «النواقيس» بمعنى الأجراس؛ وذلك لأنه قرأ في كتب اللغة أن الناقوس إنما هو الخشبة التي يضرب عليها القسيس يدعو بها النصارى للصلاة، فتمسَّك بهذه الخشبة تمسُّك أعمى في قرنة، كما يُقال، ولم يشأ أن يُجِيز الناقوس للجرس الذي من نحاس وخطَّأ كلَّ مَن استعمل ذلك حتى من الكتَّاب الأوَّلين، واضطررنا أن نردَّ عليه وأن نُفْهِمه أنه إذا كان يتمسَّك بكلِّ تحديد نقله علماء اللغة ولا يقبل فيه توسُّعًا، فإنه ينتهي الأمر بأن يقاتل نفسه بسلاحه، فإنه هو يستعمل البيت بمعنى هذا البناء المبني من الحجر أو من الطين، والحال أن العرب عرَّفت البيت أنه من الوَبَر، وأنه هو يستعمل الشبَّاك للنافذة التي يكون فيها شُبَّاك من حديد، والحال أن كتب اللغة تعرِّف الشباك بأنه ما شبك من القصب. فإذا كان التمسُّك بتعريفات المعاجم اللغوية حتمًا لا مناص منه فاستعمال الشبَّاك إذا كان من حديد واستعمال البيت إذا كان من حجر أو لبن يكون إذن غلطًا! والحقيقة أن هذه الألفاظ ربما كانت في الجاهلية موضوعة لتلك المعاني على الصورة التي كانت فيها أيام البداوة، فلما دخل العرب في طور الحضارة والترف استعملوا تلك الألفاظ لِمَا ناسب درجة مدنيَّتهم. فالبيت الذي كان من شَعْرٍ صار من حجر، وربما من حجر منحوت وبقي يُسمَّى بيتًا؛ لأنهم جعلوه بمعنى المأوى ولأن أصله من المبيت، فسواء بات الإنسان في مأوًى من الشَّعْر أو من الحجر فيصح أن يُقال لمأواه هذا «بيت». وكذلك الشبَّاك الذي كان من قَصَبٍ أيام لم يكن الحديد مَبْذولًا بقي يُقال له الشبَّاك بعد أن سخَّر الله الحديد للناطقِين بالضاد وأَلَانُوا منه القضبان، وكذلك الناقوس كان خشبة في أيام الجاهليَّة فصار في أيام المدنية نحاسًا وبقي يُقال له «ناقوس» ونطق به الفصحاء. وقلنا لليازجي: إنك تعيب كُتَّاب هذا الزمان في فصلٍ تنشره تباعًا تحت عنوان «لغة الجرائد»، ومن قال لك إن الجريدة يُعنَى بها هذه الورقة المكتوبة التي تصدر في أوقات معلومة ويقرؤها الناس؛ فالجريدة بهذا المعنى إنما هي من مواضعات المُولَّدين. وإذا بحثت عن تحديد الجريدة في كتب اللغة لم تجد سوى «سعفة النخل اليابسة» أو «الخيل لا رَجَّالة فيها»، فهل أنت تريد أن تقول «لغة سعفات النخل اليابسة» أو «لغة الخيل لا رَجَّالة فيها»؟ وتعقَّبناه ذلك اليوم في ألفاظ كثيرة وقد ضاع هذا الفصل من بين أوراقنا.
نعم، لو كنا نجاري الشيخ إبراهيم اليازجي فيما كان يحجر فيه من واسع اللغة لما كان في لغات العالم أضْيَق من العربية، ولكن تحْجِيره هذا إنما كان في انتقاداته لغيره، فإذا رجعنا إلى مجلته «الطبيب» التي كان يُنشِئها في بيروت مع الدكتورين بشارة زلزل وخليل سعادة أو إلى مجلته «البيان» التي كان يصدرها في مصر، وطالعنا ما فيها من فصول شائقة لا سيما في المواضيع الطبيعية والفلكية والكيماوية وما أشبه ذلك، فإننا نجد اليازجي وسَّع على نفسه ما حَجَر على غيره، واستعمل الألفاظ العربيَّة للمعاني العصريَّة بأقل ما بينها من ملابسة، وسيأتيك في اعتراضاته على شوقي ما يجزيك في معرفة مذهبه في الانتقاد على غيره.
(٢) ردُّ المؤلِّف على اليازجي في الدفاع عن شوقي
ليس تحت يدي الآن العدد الذي فيه انتقاد اليازجي لرواية «عذراء الهند»، ولو كان تحت يدي لأثبتُّ هذا الانتقاد برُمَّته وقابلته بردِّي أنا عن شوقي. على أن القارئ قد يعلم من الردِّ أساس الاعتراض؛ فجوابي فيه الأخذ والردُّ معه، ولهذا ننشره نقلًا عن جريدة الأهرام «عددها ٦٠٣٢» المُؤرَّخ في يوم الثلاثاء ٢٥ يناير سنة ١٨٩٨ وفق ٣ رمضان سنة ١٣١٥، أي إن هذا الردَّ مضى عليه أكثر من سبع وثلاثين سنة:
لعل للعذراء عذرًا
أُجِلُّ العلماء عن أن يُقال ليس لهم صداقة، وإنما يُقال: إن ليس لهم صداقة على العلم، ولا مشايعة على الحكمة، ولا تسامُح في الحقائق، وإنهم لا يرعون في الحقِّ خليلًا، ولا يرضون من أمانة العلم بدلًا قليلًا، ولا سيما في هذا العصر الذي إذا انتسب إلى خاصَّةٍ تغلِب عليه كانت الانتقاد، أو اتصف بمزية تفضُل سائر المزايا فهي التحقيق.
ولذلك لا ينبغي أن يُحمَل انتقاد «البيان» رواية «عذراء الهند» للشاعر المُفلِق أحمد بك شوقي إلَّا مَحْمَل البحث الأدبي الصرف، وألا يُحسَب إلَّا من قبيل تَوْفِية النقد حقَّه والقيام بواجب الخدمة العلمية، ونعمَ الغرض هذا وحبَّذا القَصْد. وبناء على قاعدة البيان وتشبُّهًا به، والتشبُّه بمثله فَلَاح، أتطفَّل بإبداء بعض خواطر خطرت لي بين هذه المآخذ التي أخذها البيان على عذراء الهند، بقدر ما طال الفكر ووسع اللحظ، مائلًا في بعضها إلى تصويب رأي البيان، وفي البعض الآخر إلى تأييد نصِّ الرواية وتاركًا الحكم في ترجيح الآراء إلى أهل الفضل وأرباب الدراية، فإن كنت أصبت المرمى في بعض ما رأيت فقد تُصاب الرمايا ولو لم تشتد السواعد، وإن كنتُ واقعًا في الوَهْم وظهر الحقُّ في جانب سواي، فليس بثقيلٍ الإقرارُ لمثل شوقي بك، وليس بمغلوب من غَلَبه الشيخ!
أما اعتراض البيان على الإهداء في مقام تقديم الرواية إلى الجناب الخديوي فهو من التَّعْمِية بحيث لم أفهم وجهه جليًّا، وإنما استدللت على أن المقصود عدم مناسبة إتحاف الجناب العالي برواية موضوعة فيما هي موضوعة فيه، وقد يعتذر ناسج الرواية بأن ليس ثمة ما يمنع تقديم كتاب يتصل بتاريخ مصر القديم إلى عزيز مصر الآن، فلكل من المعترِض والمعترَض عليه وجهة.
وأما أخذه على «الكاتِب وما كَتَبَ غراس نَعْمائك وجنى ظلِّك ومائِك» بأنه لا يصحُّ إلا من تلميذ لأستاذه، ولا يصحُّ من مربوب لوليِّ نعمته، وأنه لا يمكن أن يكون ما كتبه من غراس الأمير وأي علاقة بين النعماء والإنشاء؟
فقد استغربته جدًّا من البيان على سعة اطلاع المُعترِض وطول باعِه ورسوخه في آداب العرب، وكونه قد طالع ولا شكَّ من هذا المعنى شيئًا كثيرًا.
وإن مثله لا يخفى عليه أن الكتَّاب والشعراء طالما تكلَّموا في معنى أن إنعام الممدوح هو مصدر فصاحة المادح، وأن درَّ القول مُستنبَط من بحر الجُود.
وقالوا أيضًا: إن اللُّهى تفتح اللَّها، وأظن أنَّا نستغني في مقامٍ كهذا عن التعزيز بالشواهد المُستفِيضة في النَّظْم والنثر خصوصًا لمن كان يحفظ ديوان المتنبي، وقد شرحه وهو غير خالٍ من هذه المعاني، فكيف لا يجوز — لعمري — لشاعر الخديوي أن يقول لمولاه وولي نعمته: إنني أنا وما أكتب غراس نعمائك، وأيُّ غرابة فيه؟ بل أي غُبار عليه؟
وأما قوله: «وجنى ظلك ومائك.» فلا أُنْكِر أنها بالشعر أليق منها بالنثر، لكنها قد تتمشَّى مع العبارة الأولى ولا لزوم لخرطها فيما لا يجوز والذهاب لأجل توجيه الاعتراض إلى بعيد من قبيل أن الظلَّ لا يكون سببًا للجَنَى، وأن الغراس في الظلِّ لا يثمر وأنت تعلم أنه لا غراس بلا ظلٍّ وأن الظلَّ غير مانع من الجنى.
وليس من الضروري في سجعة كهذه استيفاء جميع العناصر التي تخرج الثمر، وذكر الحرارة والرطوبة والكربون والهيدروجين، فضلًا عن كون الظلِّ هنا مأخوذًا بالمعنى المجازي والعبارة كلُّها مجازيَّة، والمجاز هو أصل وضع البيان.
وأين نذهب مع ظلِّ الله وظلِّ الأمن وظلِّ العدل وظلال مجردة كثيرة ممتدة في الكلام العربي ليس لما تُضاف إليه أدنى حَجْم؟
وأما غموض قوله: «فإذا وُفِّق ليرفع إليك عملًا فقد أسند أفعالك في الفضل إلى أسمائك»، فلا أجادل فيه فإن غموضه واضح، لكني أقول: إن شوقي بك غالبٌ عليه الشعر فيحسب نفسه وهو في النثر أنه في النظم، بل هو يحكي المتنبي أحيانًا في عدم وضوح معانيه لأول وَهْلة فلا يفهم القارئ بعض جُمَلِه إلَّا بعد التأمُّل بل التعمُّل.
وأما اعتراض «البيان» على «أحب إخوته الكثيرين إلى الأمم» بأنه من التراكيب التي منعها أهل العربية حسبما نصَّ على ذلك الحريري في درَّة الغواص، وأن ردَّ الخفاجي عليه لا يسلم من الردِّ، فأقول فيه: إن الردَّ على الخفاجي لا يسلم من الردِّ أيضًا، وهو قد أورد في مقام الدفاع عن جواز هذا التركيب ما يستحق النظر وإنه وإن لم يكن هنا مقام استيفاء تعليلاتٍ كهذه فلا بأس بإيراد بعضها كقولهم: إن أفعلَ التفضيل قد يُخلَع عنه ما امتاز عن الصفات ويتجرَّد للمعنى الوصفي.
وكقولهم: إنه قد يكون للدلالة على زيادة مُطلَقة لا مُقيَّدة نحو قولهم: يوسف أحسن إخوته، وكما قالوا إن أفضل إخوته بمعنى أفضل الإخوة على حدِّ قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ؛ أي حق التلاوة، وأنشدوا قول عبد الرحمن العتبي:
وناهيك أن نحويًّا كابن خالويه أجاز هذه العبارة، ولا نظن أديبًا مثل شوقي بك، قد رأينا ما رأينا له من الآثار الدالة على سعة اطلاعه في العربية يقْدُم على هذا الاستعمال إلَّا وهو يرى رأي الذين أجازوه، ويستحيل أن يكون مثله لم يمرَّ بهذه الاعتراضات وردِّها.
وأخذ البيان على قوله: «وأمتنهم أعلاقًا في القلوب.» وذلك بأن الأعلاق جمع عِلق بالكسر؛ وهو الشيء النفيس، وأن حقَّها أن تكون علائق، وقد استغربنا وايم الله صدور ذلك عن لغوي ثقة مثل الشيخ، والأعلاق تأتي جمعًا لغير العِلق بالكسر فتأتي جمعًا للعلق بالتحريك.
والعلق يأتي بمعنى البكرة وأداتها.
وبمعنى الحبل المعلَّق بالبكرة.
وبمعنى الرشاء مُطلَقًا، وأنشد له في لسان العرب: عيونها خزر لصوت الأعلاق.
وأظن أن في هذه الألفاظ كلِّها من معنى العلاقة والتعليق ما يسوِّغ لشوقي أن يَقْرِنها بالمتانة في معنى ارتباط القلوب.
وأما كون «أجذبهم بأزمَّة الرأي العام» من المواضعات الإفرنجية درجت عليها الجرائد في هذه الأيام، وليس كلُّ ما تأتي به يجوز اتباعه، فلْنشرح هذه الجملة: أما «جذب الزمام» بنفسه فلا يجادلنا البيان بأنه عربي مبين.
فلم يبقَ إلَّا عبارة «الرأي العام» وهي مترجمة عن لغات الإفرنج لشيوع هذه العبارة عندهم وعدم وجود ما يسدُّ مسدَّها عندنا بالتمام، ولْننظر ماذا يوجد فيها من المخلِّ بالفصاحة: أما الرأي فهو الرأي لا ريب فيه.
وأما اتصافه بالعام فهو كاتصاف البلاء مثلًا بالعام، فيُقال: بلاء عام وبلاء شامل.
ويُقال: أمرٌ عمم، ويفسِّره أهل اللغة بأنه تامٌّ عام.
ويقول شاعر الجاهلية:
فإن كان يُقال: أمرٌ عمم، فلماذا لا يُقال: رأي عام وأي إثم فيها؟
وقولك بمعناها «أهواء النفوس» لا يؤدِّي حقيقة المقصود من قولهم «الرأي العام».
ومن العجب أن يعترض على مثلها البيان، وهو الذي يكتب في «اللغة والعصر» ويدعو إلى وجوب الوضع قضاءً لحاجة العصر ووفاءً بالمعاني الحديثة التي لم تكن عند العرب. على مخالفة رأيه هذا لما عليه جمهور أهل اللغة من أن اللغة سماعيَّة لا قياسية، فكيف يعترض بعدها على «الرأي العام»؟ وليس فيها خروج عن المألوف ولا وضع جديد ولا صوغ ولا نَحْت.
وأنت لو طالعت الكتب العربية، خصوصًا كتب العلم والحكمة، لم تجدها خالية من استعمالات كثيرة تساقطت — والله أعلم — إلى العرب من لغة اليونان والفرس أيام ترجمة كتبهم لعهد العباسيين؛ فالعربي القديم لم يسلم من هذه المواضعات فما ظنُّك بالعربي الحديث وقد أغارت عليه المعاني الأعجميَّة من كلِّ جهة حتى اختلط الحابِل بالنابِل.
حتى إن «البيان» نفسه على نقاء لغته لا يسلم منها حين يقول في العدد الأخير الذي صدر فيه الانتقاد «رُزِئ العالم الأدبي»، فهي عبارة عصرية محضة مترجمة بالحرف عن الإفرنجية، وليست من أساليب امرئ القيس ولا الأعشى، ولا من تراكيب الإمام علي ولا المُخضرَمِين، بل ليست من المُولَّد، وإنما هي من أوضاع الجرائد السيَّارة.
ومثلها استعمال «البيان» مثلًا «تنازع البقاء» عصريَّة محضة، وتعابير كثيرة ليس هنا محلُّ سَرْدِها.
أما قول شوقي بك: «مَدِين لنصحها الثمين»، فليس بمعذور فيه عذرَه في «الرأي العام» التي جرت مجرى الأعلام.
وأما «باحُوا بسِرِّ المأمورية»، فلا يمكن لي أن أعدَّ المأموريَّة ممَّا لا يصح استعماله، والنسبة إلى الأسماء من صفة وموصوف إذا لحقتها التاء تفيد المصدرية فيُقال: عجبت من حجريَّة هذا؛ أي من صلابته.
وقالوا كثيرًا: الفاعليَّة والمفعوليَّة والشاعريَّة وهلمَّ جرًّا.
وأما استعمال شوقي بك البرهة بمعنى هنيهة فهو استرسال إلى اصطلاح العامة أو عدم تحقيق.
ومثله الصدفة بمعنى المصادفة؛ فقد غلب استعمال الناس لها وهم لا يعلمون أنها عامية، وأما استعمال «العائلة» بمعنى الأسرة فهو وارد، وتخطئة البيان له مع قوله: كأنها تصحيح قول العامة «عيلة» وكلتاهما لا تأتي بهذا المعنى، إنما يُقال عيال الرجل وعيِّله بالتشديد، فهذا فيه نظر وهو من الحريري في درَّة الغواص، وقد تعقَّبوه بما أظهر خطأه، ورُوِي من الحديث «أتخافين العَيْلَة وأنا وليُّهم.» وفسَّروه بالعِيال، والأرجح أن يكون أُطلق على أسرة الرجل العَيْلة التي هي الفقر لكونهم سبب الفقر كما قيل: قلَّة العِيال أحد اليسارين.
هذا ويجوز أن تكون عائلة بمعنى مَعُولة وليست هذه بأول مرة ورد فيها فاعل بمعنى مفعول؛ فقد قالوا: ساحل بمعنى مسحول، سحله ماء البحر وهلمَّ جرًّا.
وأما «الهوادس» فالحق فيها مع البيان إلَّا أن تكون غلطة طبع.
نصل إلى قول شوقي بك في التاريخ المصري: «إن الحقيقة معه لا يستقر بها خبر، فهي عين تارة وأثر، تموت بحجر وتحيا بحجر.»
أقول: هذه عبارة شبيهة بالشعر لكنها من أبلغ ما قرأت في الكلام العربي وأتأسف أن يكون البيان تعمَّد مثلها في الانتقاد.
ومعناها ظاهر؛ إذ لا يخفى أن التاريخ المصري القديم مبنيٌّ على الآثار الحجرية والكتابات الهيروغليفية، وأن معظم مِعْوَل المؤرِّخين لأعصر الفراعنة هو على هذه الحجارة لفقدهم القرطاس فيه، فبينما يتقرَّر عند المؤرخين شيء يظنونه الحقيقة الأخيرة بما يطلعون على كتابة في حجر أو نقش على عمود؛ إذ انكشف لديهم حجر آخر كان مدفونًا جاء فيه ما لا ينطبق على الأول أو ما فيه زيادة عليه، فتغيَّرت تلك الحقيقة وانقلب ذلك التاريخ.
ولهذا كان ينكشف منه كلُّ يوم شيء جديد، وصحَّ أن يُقال: إن حجرًا من هذه الحجارة يُحْيي لقديم مصر تاريخًا وإن حجرًا يُمِيته، ولا أرى هذه الجملة في شيء من الطلاسم والرُّقى كما قال البيان، وأعتقد أنها لا تُشكَل على أحد، فأما إن كان أغاظ البيان حذفه إحدى التَّارَتيْن من قوله: «فهي عين تارة وأثر»، فالخطب يسيرٌ ولا بأس به لأجل الإيجاز ورشاقة الجملة مع قيام الدليل على التارة المحذوفة.
وأما اعتراض «ما عساي ناولتك مما فات التفاتي قدره»، فأوافق البيان فيه من جهة التعمية على أن قوله: عساي ناولتك يتضمَّن معنًى لعلي ناولتك، فقد حكى الأزهري عن الليث أن عسى تجري مَجْرى لعلَّ.
وأما قوله: «مرتين لا متتاليتين ولا متعاقبتين»، فهو غامض أيضًا.
وأما «تتلاشى متوارية وتتوارى متلاشية»، فهو جائز.
وأما عبارة «حوار الماء والتيار»، فلم أعلم ماذا سبقها وما هو المراد منها، ولكنها على كلِّ حال مُبهَمة، وأما جملة «كان الفصل نيلًا خفيفًا ثقيلًا جفيفًا بليلًا» إلى آخر ما ذُكر، فهي بالشعر ألْيَق منها بالنثر.
وأما «فرغت الزجاجات ولم يفرغ من الشراب»، فالمعنى فيه ظاهر وهو أنه لا يفرغ من طلب الشرب. أما قوله: «تركه شيئًا ليس بالحي»، فلا أعلم ماذا تقدَّمه وماذا تأخَّر عنه؛ لأني لم أظفر بالرواية مجموعة، وما هو منثور منها في الجريدة لم يُحفَظ عندي، وإنما أقول: إنه إن كان ما بعد «ليس بالحي» قوله: ولا الميت، فهو مقبول وإلَّا فلا.
وأما «أجهد أذنيه»، فإن كانت بغير معنًى أتْعَبَ سمْعيه فلا تأتي.
غير أن قوله: «أخذ النوم يطمئن بمقاعده من الأجفان» فضلًا عن كونه ليس محلًّا للاعتراض، فهو كلام شعري بديع.
وأما «ارتجال النظر» فهو غريب، ومثله ارتجال النور ولا مُسوِّغ لذلك، فإن كان بعض فحول البلاغة من كتَّاب الإفرنج وشعرائهم مثل بوسويه وهوجو مثلًا قيل عنهم إنهم كانوا يرتجلون الألفاظ لمعانيهم ويسخِّرون اللغة لمقصودهم، وكان الناس لا يُكبِرون عليهم هذا الأمر بما بهرهم من فصاحتهم وبلاغتهم فلم يكونوا يأتون ما أتى من هذا القبيل عند وجود المناسبة بين اللفظ والمعنى، وأي مناسبة هنا؟
أما «الفكاك» الذي أخذ على استعماله البيان في قوله: «مانع للفكاك» فيُقصَد به الحركة والانطلاق من قولهم: كل شيء أطلقته فقد فككته، ويؤيد ذلك تأكيده بقوله: «مفقد للحراك.»
وأما «الشراك» فلا يأتي بمعنى حبائل الصائد، وإنما هي الشرك حسبما قرَّر البيان.
وأمَّا «غير قادر المشيب»، فلم أفهمه جيدًا.
وأما قوله: «ثم تواكل الثلاثة بالباب فلم يزالوا به حتى كسروه»، فأظنُّ أن المقصود توكَّل بدون ألف، وأن الألف زائدة من غلط الطبع، وأن أديبًا راسخًا مثل شوقي بك لا يخفى عليه مثل هذا. وغلط الطبع يقع كثيرًا حتى في نفس البيان مع كثرة مراجعات الشيخ في تصحيح المسودات، ألا ترى أنه ورد فيه هذه المرة «بحيث كان كلٌّ منها ضاربًا ومضروبًا» بدل كل منهما.
ثم انتقد البيان بعض أبيات الرواية من جهة الوزن واستغرب وقوع الناظم في مثله مع ما هو معروف به من طول الباع في صناعة الشعر، ولا بد من تصويب قول البيان في انتقاده هذا من الوجه العروضي إلَّا أنه لا ينكر أن مثل ذلك وقع أيضًا للشعراء حتى الفحول منهم، وأنه ممَّا لا يقدح في شاعريَّة شوقي بك لأن الشعر غير الوزن، وكلٌّ منَّا يحفظ «وقل أنا وزان وما أنا شاعر» على أن الظاهر من شوقي بك أنه قليل الاحتفال بهذه الصور الظاهرة، بل نراه قد يتحدَّى الإفرنج في شعره، فلا يبالي مثلًا بأمر القوافي التي يكرِّرها كثيرًا بالمعنى الواحد كما لاحظته في همزيَّته الشهيرة، ولا يعبأ بتجوُّزات أخرى أعرفها له، وأخشى أن يتمادى به احتقار القيود الشعرية إلى أن ينظم أخيرًا بدون قافية نظير شعراء الإنكليز.
وإني لأعذره عند النظم حينما يكون خاليًا به شيطان الشعر مُستغرِقًا في التأمُّل، غائصًا في أبحر التخيُّل من عدم إسفافه إلى تفعيل المنسرح والسريع وتقطيع كلِّ بيت بل كلِّ شطر مما ينظم.
ولكني أنصحه باجتناب هذه الأبحر التي في ركوبها خطر الوقوع وإزباد علماء في العروض مثل الشيخ، والله يعلم أنني ما نظمت عليها شيئًا أرويه ولي نُدحة في الطويل والكامل وأشباههما عن هذه الأوزان العرجاء، وغنًى بركوب تلك الأبحر الواسعة عن هذه الخُلُج العوجاء.
هذا ما عنَّ لي إيراده من محاكمة هذين الفاضلين؛ لا أقصد به تهضُّم جانب أحدٍ منهما ولا الاستطالة على أحد؛ فإنني أول مَن أقرَّ بعجزه، ولي من مودَّة كلٍّ منهما ما يكفل لي تصحيح دعواي هذه.
وبالجملة فلا أبرِّئ البيان من التشديد في مؤاخذة شوقي بك والتحجير في الواسع، كما لا أبرِّئ شاعرنا الشهير من النزوع إلى أبعد مذاهب الشعر أحيانًا في كتاباته، ومن تسلُّط التأمُّل على مُخيِّلته إلى حدِّ الذهول الذي يجعله أن يقع في فرطاتٍ مَنْشؤها السهو، وأن يقول مثلًا في بائية الحرب:
ومع هذا فلا يُحزنَنَّ أخي شوقي انتقاد البيان ولا غيره؛ فليس في انتقاده ما يكفِّر باهر حسناته ويخفض من مقامه المنفرد في الشعر.
ولْيَقُل القائل ما شاء، فلن يزال أحمد شوقي بلبل مصر وصنَّاجة العصر (شكيب).
(٣) أثر المقال في نفس اليازجي
فلما اطلع الشيخ إبراهيم اليازجي على هذا الردِّ قامت قيامته؛ لأنه كان بلغ به الأمر من الاعتقاد في نفسه معرفة اللغة إلى حدِّ أنه كان لا يطيق لأحد من أبناء عصره عليه اعتراضًا أيًّا كان، وكان لا يتردَّد في تجهيل أيِّ عالم في اللغة حتى من المُتقدِّمين الذين هم أئمة في هذا الأمر، وكثيرًا ما كان يهزأ بهؤلاء الأئمة، وذكر له الشيخ سعيد الشرتوني كتابًا لأحد الأدباء المُتقدِّمين ولم يكن هذا المؤلف مشهورًا، فقال له الشيخ إبراهيم: إن الكبار ما جاءت عنهم أخبار، فكيف هذا؟ وكان يلتفُّ حول الشيخ ناشئة ومتأدِّبون يوافقونه على جميع آرائه ولا يجرءون على مجادلته في كثير ولا قليل، بل يتلقَّون كلَّ ما يذهب إليه بالتسليم المُطلَق، فانتهى الأمر إلى أنه اعتقد في نفسه العصمة تقريبًا. وعلى كلِّ حال ظنَّ أنه أعلمُ باللغة من أصحابها، وأسبق فيها من فرسانها، واعترض مرة على لفظة «ضوضاء» التي وردت في مُعلَّقة الحارث بن حِلِّزة اليشكري، فقال إنها جاءت فيها مؤنثة، وإن حقَّها أن تكون مُذكَّرة، أي إن أحد أصحاب المعلقات السبع أصبح يُخطِئ في اللغة، وإن الشيخ إبراهيم اليازجي من أبناء عصرنا يصحِّح له خطأه! وينسى أن النحو والصرف واللغة كلَّ هذا مبنيٌّ على كلام العرب وليس كلام العرب مبنيًّا عليه.
ولا يُنكَر أن اليازجي كان من علماء اللغة المعدودين ومن كبار الكتَّاب وأمْتَنِهم تركيبًا وأحسنهم نسق عبارة كما قلنا، ولكن كان بين ظنِّه في نفسه والحقيقة ما بين المشرق والمغرب؛ فإنه كان يُخطِئ في اللغة كما يخطئ غيره وإن كان خطؤه أقل من خطأ غيره، فلما رأى شابًّا مثلي في السابعة والعشرين من العمر وقتئذٍ يجرؤ على مراجعته في قوله وعلى إظهار خطئه تارة وتعنُّته أخرى؛ داخله من الامتعاض ما حاد به عن رُشْده، فنشر في مجلته «البيان» ردًّا شديد اللهجة فيه من بوادر الحِدَّة وألفاظ الوقيعة ما لم يكن يليق بشيخ من أهل العلم مثله فضلًا عن عدم مناسبة تلك المطاعن التي خاض فيها للبحث اللغوي المحض الذي كنَّا بسبيله؛ فقد خرج عن الموضوع وتعرَّض لأمورٍ هي أشبه بالمهاترة منها بالمناظرة. وتكلَّم عنَّا بجمل نَفَث فيها كلَّ ما كان يحكُّ في صدره من مثل أننَّا «لم نَدُس عتبة التحقيق في علم من العلوم»، وأن قُصارى أمرنا أن نعمد إلى مقالة إفرنجية ونترجم عنها فتأتي مقالتنا «عربيَّة الحروف كرديَّة الألفاظ»، وأنه هو يعلم أن علماء اللغة لا يُقيمون لاعتراضاتنا هذه وزنًا، وأنه هو ليس في شيء من الغالب والمغلوب، إلى غير ذلك من آثار العظمة والعنجهية. فلم يظنَّ أحدٌ أن الشيخ يُستطار إلى هذا الحدِّ من نَقْدٍ كُتِب بأنْزَهِ ما يكون من الألفاظ وأحْوَط ما يكون من الأساليب لحفظ مقامه، وقد قسَّم ردَّه إلى قسمين؛ أحدهما كان بتوقيعه، ومن جملة ما زعم فيه أننا سعينا لدى الحكومة العثمانية في بيروت بمنع مجلته عن دخول سورية خِيفة انتشار ما فيها من الردِّ علينا، وقد يجوز أن يكون جاء اليازجي من بعض المُفْسدِين خبرٌ كهذا، ولكنه كان بهتًا لا أصل له. ومن الردِّ ما جعله باسم أحد مُريدِيه، واسمه بدران فيما أتذكر، وقد حاول أن يتستَّر وراء توقيع مُريدِه هذا خَجَلًا من أن يوقِّع هو على مطاعن شخصيَّة ليس بينها وبين الموضوع الذي كنَّا فيه أدنى صلة.
وقد عاب الناس عمله هذا حتى أقربهم إليه وأغَيْرهم عليه، وحسبك أن بشارة باشا تقلا صاحب الأهرام، وهو واليازجي من بلدة واحدة (كفر شيمه في لبنان) ومن طائفة واحدة هي الروم الكاثوليك، قد كتب إليَّ أوانئذٍ أن الناس أنكروا إنكارًا شديدًا على الشيخ إبراهيم خروجه عن الموضوع ونزوله إلى ميدان المهاترة ونشره مقالة من قلمه بإمضاء غيره.
وصادفت بعد ذلك أمين أفندي أفرام البستاني اللبناني؛ وهو من فحول الكُتَّاب فعرض البحث عن هذه المناقشة بيننا وبين الشيخ إبراهيم، فقال لي: قد توفقت في الشيخ. فتعنُّت اليازجي في انتقاد شوقي لم يجنِ له أدنى فائدة، بل جَنَى عليه، وعَجِب الناس من أن تغرب عنه مسائل لا يُجادِل فيها أحدٌ، وعجبوا أكثر من ذلك لبلوغ الحِدَّة منه مبلغًا خرج به عن الحدود.
(٤) ردٌّ للمؤلف على اليازجي
والآن أعود فأنقل جوابي لليازجي على ردِّه هذا:
كلٌّ ينفق ممَّا عنده
قد تردَّدنا في جواب «البيان» على ما أتى به في جزئه الأخير ممَّا لا خلاف في كونه ليس بجواب على خطابنا، وكنَّا نحب الإمساك عن كلِّ كلمة في الردِّ عليه تارِكين الحكم في هذه القضية لأرباب العلم وأهل الذوق السليم؛ ليفتحوا بيننا وبينه بالحقِّ مُعتقِدين أن الحقَّ ليس بضائع عندهم، ولكننا رأينا السكوت مطلقًا عن جميع ما أورده قد يُوهِم بعضَ مَن لا تحقيق عنده أنَّ قوله كان الفَصْل وأن الرجل قد ألزم وأفحم وأنه إنَّما يغرف من يمٍّ.
فاخترنا نشر هذه السطور تعزيزًا لبعض ما حاول دفعه ودفعًا لما اعترض به علينا جديدًا، فأما سائر ما أتى به ممَّا هو خارج عن موضوع المناظرة فلو شئنا لكان للأقلام مجالٌ طويل في ردِّه إليه وعكسه عليه، ولكن ذلك ليس من شأننا فنقول: أما «الكاتب وما كتب غراس نعمائك.» فقد أصبحنا في غنًى عن تأييدها بما نتركه لمحفوظ القراء من هذا المعنى الذي لمَّا لم يسَعْ صاحبُ الردِّ هذه المرَّة إلَّا التسليم بوروده، عاد يقول: «لعلنا رأيناه مرة.» وما رأيناه إلَّا مرارًا، بل لقد سمعنا فيه المثل، وناهيك بما أصبح مضربًا للأمثال يكون مطروقًا.
فأما قوله: كان يجب عليك أن تميِّز بين المادح وقصص المؤرخ، ويا ليت شعري هل كانت تلك الرواية خطبة أو قصيدة عدَّد فيها المؤلف المناقب الخديوية، حتى يُقال إن نعمة الممدوح كانت على الكاتب عبارة المدح والشكر.
فجوابه، أنَّ قول صاحب الرواية «الكاتب وما كتب» هكذا على إطلاقه لا يفيد «بما كتب» هذه الرواية وحدها.
وقد «كتب» غيرها كثيرًا وأسال من المداد جمًّا مستمدًّا من كتابته بنعمة مولاه الخديوي التي هو غذيُّ درِّها وغارق في أبحر آلاء هو ناظم درِّها.
وهو الذي ملأ الآفاق بالمدائح الخديوية وسير أوابد الشعر في هذا البيت الكريم، وحسبك أنَّ صفته الملازمة له أنه شاعر الخديوي وقد امتلأ حوض العزيز من نظمه.
ولا نعلم بعد هذا من أين جاء الشيخ هذا الشرط الذي قاله، وهو أنه يجب أن يكون كلُّ ما يكتبه الكاتب خطبة أو قصيدة يعدِّد فيها مناقب سيِّد له منعم عليه حتى يجوز له التحدُّث بنعمة ذلك السيد، فإذا خرج من ذلك العرض مَرَق من فضل مولاه عليه وانقطعت مادة إمداده له فصار محظورًا عليه التحدُّث بنعمته بين الناس وانقطع ما «بين النعماء والإنشاء» كما هو مقتضى كلامه.
وأما «جنى ظلِّك ومائِك» فبعد أن قلنا له إن الظلَّ هنا مجازي لم يبقَ محلٌّ لإظهار معارفنا في علم النبات والتشاغل بالظل والجنى وما يتعلق بهما.
فأما قوله: إننا أضفنا الظل إلى الغراس لا للمهدى إليه فمَن يرجع إلى عبارتنا الأولى علم مقصودنا وقاس درجة هذه الدعوى من الصحة، كما أن قوله: أننا جعلنا الحرارة عنصرًا، فحسْبُنا لتَفْنِيده إعادة عبارتنا بالحرف، وهي هذه: «ليس من الضروري في سجعة كهذه استيفاء جميع العناصر التي تخرج الثمر وذِكْر الحرارة والرطوبة والكربون والهيدروجين.» نعرضها على جميع علماء العربية، هل يُستفاد منها أن الحرارة مجعولة فيها عنصرًا من العناصر؟ وهل يقول ذلك أحد؟ إلا إذا شاء تحريف الكَلِم عن مواضعه.
وأما تركيب «زيد أفضل إخوته» فالله يعلم أننا لم نكن ممن يستعمل هذا التركيب وإنما قصدنا بالدفاع عنه أن مسألة خلافية كهذه، قد حصل فيها من الأخذ والردِّ ما لا يمكن أن يكون غاب عن أديب راسخ مثل صاحب عذراء الهند، وأن شوقي بك لم يعدل إلى مثل هذا التركيب إلَّا وهو يرى رأي الذين أجازوه ولم يحجروا فيه، وذلك مثل ابن خالويه وهو يحفظ منه قول العتبى، وقول صاحب البيان: أن ليس هذا مقصود ابن خالويه لا يسلم به بلا دليل. والخفاجي قد نقل ذلك عنه وهو ممَّن يعلم ما ينقل ويفهم ماذا يقول.
ولمَّا كان اعتراض البيان على هذه العبارة مأخوذًا كغيره عن درَّة الغوَّاص وهي بين الأيدي، وكان الخفاجي قد تعقَّبه هناك فمن شاء مقابلة الأخذ بالردِّ فعليه بمراجعة ذلك في محلِّه ولا حاجة بنا إلى إضاعة الوقت في نقله ومنه يُعلَم أدلة الفريقين.
وأما «الأعلاق» فلا ينسَ البيان أنه منعها في البداية قولًا واحدًا بمعنى العلاقات، فقال ما نصُّه: «يريد بالأعلاق العلائق وهي لا تأتي بهذا المعنى إنما الأعلاق جمع عِلق بالكسر وهو الشيء النفيس.» فمقتضى كلامه الذي لا يحتمل أدنى مغالطة أن الأعلاق هي النفائس منحصرة في هذا المعنى بدليل قوله: «إنما» فقلنا له: بل الأعلاق تأتي بغير معنى النفائس فتأتي جمعًا للعلق محركة وهذا يأتي بمعنى البكرة والحبل المُعلَّق بالبكرة، وبمعنى الرشاء مُطلَقًا، وأنشدناه هذا الشطر من اللسان:
دليلًا على عدم انحصار الأعلاق في معنى النفائس كما ذهب إليه، فظاهرٌ أن صوت الأعلاق في هذا الشطر لم يقصد به صوت الأشياء النفيسة.
ثم قلنا في هذه الأدوات وهي البكرة والحبل من معنى التعليق والعلاقة ما يسدد ارتباطها بالقلوب؛ وذلك لأن المجاز يقع لأول ملابسة، وهنا الملابسة شديدة، فكان من الشيخ أنه طوى كشحًا على كلامنا هذا ومال إلى التهكُّم بتأويل الأعلاق بالحبال والبكرات وأخذ يترحم على عشاق العرب الذين لم يسبقونا إلى هذا المعنى بزعمه، ولا ذكروه في أغزالهم الرقيقة، وقال: «وإذن لكان لهم ما يصطادون به المحبوب قسرًا إذا سمع صرير تلك البكرة فخزرت عيناه دهشًا.» إلى آخر ما ذكر.
ومقتضاه أنه يلزم تفسير اللفظ بمعناه الحقيقي ونفى المجاز من اللغة العربية حال كون المجاز هو فصاحتها وبيانها، وعليه فصار يلزم من الآن فصاعدًا إذا أردنا تفسير فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ أن نتخيل للجوع ثيابًا ونتصور تلك الثياب في الأفواه وقد أنْحَت عليها الألسنة تلوكها.
وإذا قيل: حمي الوطيس، امتنع أن نفهم منه سوى مجرد حمي التنور، وإذا قيل: جناح الذل، تبادر إلى الذهن جناح ذو قوادم وخواف فيه من الريش طائل وشكير، وإذا قيل عن رجل: إنه بحر العلم، وجب أن تلتطم بين جوانحه الأمواج وتمر فوق رأسه السفن، وإذا قال البيان في نفس عبارته التي تهَكَّمنا بها «يصطادون المحبوب»، بمعنى يجتذبونه تعيَّن أن يكون المحبوب غزالًا قد صِيد بشرك نُصِب له، أو سهم شكَّ فؤاده فأُخِذ وسلخ وشوي على النار كما يُفعَل بالصيد! وإلا فالمحبوب لا يُصاد في الحقيقة، وهكذا نمضي في تفسير العربي كلِّه على هذا النَّمَط، وناهيك ما يتسع لدينا حينئذٍ من مجال الهزوء لا بأعلاق القلوب فقط بل بأكثر معاني هذه اللغة الشريفة، مع أن الكلام كما لا يخفى، على واسع علم المُعترِض، منه حقيقة ومجاز، والحقيقة هي اللفظ الدال على ما وضع له في الأصل، والمجاز هو ما أُرِيد به غير المعنى الموضوع في الأصل وهو من جاز؛ أي انتقل كأنما يريدون به الانتقال من مقصد إلى آخر.
فإذا قيل: زيد أسد، حال كون زيد إنسانًا والأسد حيوان كأنه قد فصل المجاز من الإنسانية إلى الأسدية لوصلة بينهما هي الشجاعة.
أو قيل: زيد بحر، فالوصلة هي الكرم وهذا هو أهم أبواب البيان، بل قال بعضهم: إنه علم البيان بأجمعه.
ومن العجب أن المُسمَّى بالبيان اليوم يُوجِب تفسير كلِّ لفظ بمعناه الأصلي مُتخيِّرًا صرير البكر وذعر المحبوب من ذلك الصرير المنكر ممَّا لا محلَّ له؛ إذ الملابسة بين الحبال والقلوب في معنى الارتباط تُدرَك بأدنى تأمُّل.
وأما ترحُّمه على عشَّاق العرب الذين لم يسبقونا إلى هذا المعنى، فرحم الله من لم يتركوا معنًى إلا وقد سبقونا إليه.
وهل لنا من عاشقٍ أرقَّ غزلًا وأفصح لهجة من مجنون ليلى فهو الذي يقول:
ومجنون ليلى هذا حجَّة وقد استشهدوا بكلامه في كتب النحو، وقال الشريف الرضي: وهو الذي يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه.
وأظن أننا أتينا من هذه النصوص بما فيه مقنع ولم يبقَ جدال في كون «أمتنهم أعلاقًا في القلوب» جائزة سائغة وأن الأعلاق تأتي بمعنى العلائق أيضًا، إلَّا إذا كان المُعترِض أعلم بلغة مضر من مجنون ليلى والشريف الموسوي وحينئذٍ لا كلام لنا!
نصل إلى «الرأي العام» وقد أوردنا رأينا فيها ولا نزال نقول: إن قول الشيخ «أهواء النفوس» لا يؤدي حقيقةً معناها وإنه حيث كان لا يوجد فيها شيء يخالف القواعد، فلا بأس بالتسامح فيها وتهوينًا للأمر قسناها على الأمر العام، وقلنا: قالوا أمر عمم وفسَّروه بأنه عام.
فأجابنا بأننا خلطنا بين العمم والعام فإن نكن خلطنا فقد خلط لسان العرب، والأصح أن ابن منظور كان يعلم ماذا يقول وهو الذي فسَّر أمر عمم بقوله: أي عامٌّ تامٌّ، فلم نعلم ما وجه الخلط بينهما؟
ثم إنه هذه المرة لم يتعرَّض «للعائلة» وخصَّص نفيه بالعيلة، وردَّ قول الخفاجي بجوازها بحُجَّة أن كلَّ مستند الخفاجي هو الحديث «أتخافين العَيْلَة وأنا وليهم.»
فقال: إن الذي فسَّره بالعيال هو ابن الأثير وحده، وإن قول ابن الأثير لا يُسلَّم به حتى نعلم قرائن هذا الحديث. فقد كان صاحب البيان في غنى عن تخطئة مثل ابن الأثير في علم الحديث والرجل من أكابر المُحدِّثين وكتابه «النهاية في غريب الحديث» أشهر من أن يُذكَر، وهَبْ أن صاحب البيان قد طالع في حواشي الكتب بعض الأحاديث فهو عِلْم لا بدَّ فيه من الأسانيد ولا يصحُّ تلقِّيه بلا رِواية، فتعرُّض المعترض لجرح قول ابن الأثير في هذا المعنى واقع بغير محلِّه كما لا يخفى.
على أن الخفاجي لم يقتصر في تأييد تلك اللفظة على إيراد هذا الحديث وحده، بل قال: لعلهم أخذوها من قوله: عاله عَيْلة إذا قام برزقه، أو لعلها أُطْلِقت على أسرة لكونهم سبب العَيْلَة؛ أي الفقر؛ أي من باب تسمية الشيء بما يئول إليه، وفي توجيهه هذا ما لا يخفى من الوجاهة ولا يؤاخذني قارئ بأنني استعملت «العيلة» في كلامي بمعنى الأسرة؛ لأنها من الألفاظ التي وقع فيها المراء والتي أغناني الله عنها بأفصح منها.
فإن قيل: فلماذا تحرَّيت الدفاع عن استعمالها مع أنها مما لا ترضاه لنفسك؟
أجبت: على المنتقد الذي ينُصِّب نفسَه «لإرشاد الخاصة» إذا شاء الانتقاد أن يُرِينا ورى زَنْدِه، ولا يعمد إلى ما قد نسج عليه العناكب من المآخذ التي صارت إلى صغار الطلبة فضلًا عن خاصَّة الكتَّاب، فإظهار الطول فيما لا مزية فيه يحدو المرء إلى المقابلة بالمثل خصوصًا في علم العربية الذي لا عبث فيه أكثر من التحجير في الواسع، والقطع بعدم جواز هذا وعدم ورود ذاك ظنًّا بأن اللغة قد انتهت عند الذي طالعناه.
وأما قول شوقي بك في التاريخ المصري: «إن الحقيقة معه لا يستقر بها خبر، فهي عين تارة وأثر، تموت بحجر وتحيا بحجر.» فقد كان قول البيان فيه هكذا بالحرف: «انظر ماذا أراد بقوله تموت بحجر وماذا يفهم بالحجر هنا؟ وهل هذا إلَّا ضرب من الرقى وشكل من أشكال الحروف؟»
فلما أوضحنا لك أن العبارة ليست ضربًا من الرقى ولا شكلًا مما ذُكِر ضَرَبَ عن الجملة صَفْحًا وجاء يجادلنا في توجيه المعنى من جهة التاريخ المصري محاولًا أن يوقعنا في التناقُض حال كون كلامنا هناك نيِّرًا.
وملخصه أن حقائق التاريخ المصري غير ثابتة لاختلاف ما ينكشف كلَّ يوم من الآثار الحجرية التي قد يُناقِض منها تالٍ سابقًا، ثم يأتي ما يؤيِّد الذي كان قد نقض فهي لذلك بين موت وحياة مما لا يحتاج فهمه إلى إمعان.
هذا وقد بقيت هناك اعتراضات منها ما سكت البيان عنه علامة التسليم به مثل ما أوردناه على «المأموريَّة» وقوله: «أخذ النوم يطْمَئِن بمقاعده من الأجفان.» ومنها ما لم يجاوبنا عليه بغير التهكُّم والازدراء، وهو سبيلٌ سهل لمن أراد سلوكه لكنه ليس سبيل المناظرة، ولا يغني صاحبه من الحجَّة شيئًا.
إلا أنه أخذ علينا قولنا: «يمكن لي» في محل «يمكنني» بحجة أن هذا الفعل لا يتعدَّى باللام.
وفي الجواب لا نقول له: إن اللام تأتي لمجرد التوكيد ولتقوية المعنى دون العامل، كما قالوا: «ملكًا أجار لِمُسْلمٍ ومُعاهِد.» وربما نستغني عن أن نقول له إن اللام تأتي للاختصاص كما في قولهم: «شكرت له» في مكان «شكرته» وكما قرأت في أحد التواريخ الكبيرة «بايعوا له» والأصل «بايعوه».
ولو شئنا لقلنا له إنه لما كانت الأفعال التي تعلُّقها بمفعولها ما بين الوضوح والخفاء قد تتعدَّى باللام كما نصَّ على ذلك الفخر الرازي وكان يمكن اعتبار فعل «أمكن» من هذا القبيل فلا حرج في مجيئه متعدِّيًا باللام.
ولكننا نقول: إن «يمكن لي» بمعنى «يتيسَّر لي» وذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل مرادف له، فإن الأفعال قد يتضمَّن بعضُها معنى بعضٍ، ألا ترى أنه لما قال الكوفيون بتضمين الحروف بعضها معنى بعض أنكر عليهم البصريون ذلك، وقالوا إن التضمين للأفعال لا للحروف وأوَّلوا شربت بماء البحر بمعنى رَوِيتُ، «فأمكن لي» متضمِّنة معنى تيسَّر لي أو تهيَّأ لي، كما أن لفظة «ممكنة» في قول عنترة:
هي بمعنى متيسِّرة، وبعد هذا كلِّه فهَبْ أن الأَوْلى أن يُقال «يمكنني» فما على الشيخ إلَّا أن يقيسها ببعض تجاوزاته، كقوله مثلًا: «زحف عليه» بدل «زحف إليه»، وكقوله: «ينيف عن كذا» محل «ينيف على كذا»، وكقوله: «كما أشار» والواجب «كما أشار إليه» وهلمَّ جرًّا.
ولكن نحب أن يخبرنا الشيخ ما معنى «الصحافة» في قوله في تلك الجملة التي اعترض بها على ما يمكن لي «غلمان الصحافة»؟ فقد لاح لنا أنه يقصد بها الكتابة في الصحف أو صنعة تحرير الجرائد كما مشى على ذلك بعض المعاصرين.
ومَنْ كان يَرِد في كلامه مِثْل «الصحافة» بهذا المعنى، ومثل: «العالم الأدبي» فأي حقٍّ له في تخطئة «الرأي العام» وادِّعاء تخليص الكلام من المواضعات الجديدة.
ثم هَمَز بِنا لأجل همزة «أشكل» الواردة في الأهرام بالضمِّ من غلط مرتِّب الحروف ونسي أننا لسنا نظيرَه في المطبعة، وأن بيننا وبينه أبحرًا فلا يتيسَّر لنا تصحيح المسودات بذاتنا كما يتهيَّأ له ردُّ المُرتَّب ما شاء من المرَّات. والظاهر أن الشيخ لا يسلِّم بغلط الطبع إلَّا إذا وقع في كلامه.
وأما تهديده إيَّانا بالإسراع في إيراد أغلاط «آخر بني سراج» فلا مانع من أن نكون وقعنا في الغلط في ابن سراج وفي غير ابن سراج؛ لأنه ليس أحد بمعصوم من الخطأ، ولكن سبحان الذي أوقعنا ولم يستثنِ غيرنا، وإن شاء أسرعنا إليه من قوله بمثل ما أوعد به من قولنا.
على أننا لا نفِرُّ من وجه الحقِّ، ونحن نُقِرُّ بكلِّ ما يرد علينا منه، وكان الأولى بمن يضع نفسه في منازل أهل التحقيق أن يعترف بالخطأ، وقد أورد له النص والشاهد وأن يحتذي مثال السعد التفتازاني حينما ناظر السيِّد وأقرَّ له وهو أحدث منه سنًّا، فإنه ما على الجواد ألا يكْبُو ولا هفوة العالم مُسقِطة له من رتبة فضله خصوصًا إذا عرف خطأه وتذكَّر قول القائل:
بقي علينا شيء ليس من باب المناظرة في اللغة، ولكنه من باب الحقيقة؛ وهو أن صاحب البيان اتَّهمنا بالسعي في منع الجزء الأخير منه توهَّم أن فيه ردًّا علينا، ففضلًا عن كوننا علمنا من مصر في نفس البريد الذي ورد فيه ذلك الجزء أن ليس فيه شيء علينا وأصبحنا في أمن من ذلك الخطر يعلم الله وأولياء الأمور أننا براء من هذه التهمة.
هذا وأما الشخصيات فلا شغل لنا بها، والله المسئول أن يبصرنا ذنوبنا، ورَحِم الله من أهدى إلينا عيوبنا. ا.ﻫ.
(٥) المؤلف يرثي اليازجي
وكانت هذه المناقشة سببًا لانقطاع ما بيننا من ودٍّ قديم موروث، ومات اليازجي — عفا الله عنه — وليست بيني وبينه صلة، وإنما رثَيْته عند وفاته رعيًا لذمام أبيه الشيخ نصيف اليازجي؛ شاعر سورية في وقته الذي لو اجتمع ما قاله في الأرسلانيين من الشعر لكان ديوانًا مستقلًّا، وتذكُّرًا لما كان بيني وبينه من ودٍّ سابق، وانحناءً أمام حادث الموت الذي تذهب عنده الأحقاد، وقد قلت في رثائه:
إلى أن أقول:
فهذا ما كان بيني وبين الشيخ اليازجي من الوحشة بعد الولاء، ومن القطيعة بعد الاتصال؛ بسبب شوقي.