عود إلى شوقي
وبعد أن قفل شوقي إلى مصر وَرَدَ عنه كلامٌ في جريدة الشورى للكاتب الوطني المجاهد السيد محمد علي الطاهر، وذلك بمناسبة اجتماعنا في المقهى العربي في باريس.
أحمد شوقي بك بين الأمير والأستاذ
زارنا بالأمس سعادة أمير الشعراء شوقي بك، فانتهزنا هذه الفرصة لنرى رأيه فيما وَرَدَ عنه في «كوكب» أمس مَنقُولًا عن جريدة الشورى الغراء، وما كدنا نتمُّ السؤال حتى تبسَّم ضاحكًا، ثم قال: أنا شاكر لهم أن يضعوني بين بحَّاثتَيْن، سعادة الأمير شكيب وسعادة الأستاذ زكي باشا، على أني لا يفوتني أن أتقبَّل مُداعَبات الأمير على العين والرأس، فأقَلُّ حقِّ الصداقة علينا أن نفتح صدورنا لدعابة الصديق القديم، وأنا سعيد للفرصة التي مهَّدْتُموها لي لأشكر الأمير، فهو أول من دعاني لزيارة المطعم التونسي وقهوته مع حضرات أعضاء الوفد السوري المحترمين بباريس.
كان يومنا هناك أبهج من أن يُنسَى بفضل ما بذله أصحاب المطعم من همَّة جديرة بالثناء خصوصًا الأديب الفاضل طاهر أفندي الصبَّاغ، وهو راوية من رواتي كان يُنشِد شعري الحاضِرين.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكَر، فقد علمت وأنا هناك من أعيان التونسيين أنَّه على أثر إشاعة كانت قد شاعت عن عزمي على زيارة تونس في الصيف الماضي، استعد إخواننا التونسيُّون للقائي استعدادًا أعدُّه فوق قَدْري، حتى بلغ من أحد سراتهم الأدباء أن هيَّأ لي منزلًا فخمًا أثَّثه كلَّه بأثاث جديد.
وأنا لا يسعني إلَّا أن أُحِيي هذه الروح الشرقية الكريمة، وأتمنَّى توثيق عُراها بين أمم الشرق على الدوام.
وأخصُّ بشكري الأمَّة التونسيَّة مثال النهضة والرقي في شمال أفريقيا.
•••
مداعبة بين شوقي والمؤلف من دعابة إلى أخرى
حيث إن أمير الشعراء قد فتح صَدْره لدعابة صديقه القديم هذا، فلْنَتْرك الآن الأستاذ العلامة أحمد زكي باشا ولْنَعُد إلى أميرنا أحمد شوقي بك نجاذبه بقيَّة الحبل.
يقول شوقي بك إنِّي أنا الذي بدأ بدعوته إلى المطعم التونسي وقهوته مع أعضاء الوفد السوري المُحترمِين ويُشكَر هذا الداعي.
وأنا أتَباهَى بهذه الدعوة وأشْكُر لمُجِيبِيها حُسْن التَّلْبية فقد كنت أول مَنْ دعا وكان هو أول مَنْ لبَّى. وكان يومًا مُشرِقًا سرورًا وأُنْسًا وكما قال أبهج مِن أن يُنسَى لا بل كان كيوم دارة جلجل. ويعلم الله أن ملاقاة أخي شوقي بُغية تُقصَد ومَنْهَل يُورَد، وإني لأحج إليها من بلد إلى بلد، فكيف وهي على طرف الثمام! وإنِّي لأحنُّ إلى لقاء هذا الأخ الحميم ولو في رمضان بعد العصر، فكيف على كسكس وشكشوكة وما شاكَلَها من الطعام!
ولست بأقلَّ شكرًا منه للأديب الفاضل السيد طاهر الصبَّاغ الذي رأينا من حفاوته ونحافة ذَوْقه وسرعة لَحْظه وشدَّة حِفْظه، ما يُعَد نادرًا في بابه. ويقول الأخ الأكبر — وشوقي بحسب تاريخ ولادته أكبر منِّي بسنة — إن طاهر أفندي، المُومَأ إليه، راويةٌ من رواة شعره، وإنه كان يُنشِد شعرَه الحاضِرين، وأقول كلُّنا رواة لشعر شوقي نُنشِده الحاضرين ونزهو به على الغابرين، ونقول: كم ترك الأولون للآخرين! ولعمري إن الدهر من رواة شعر شوقي، أفيكون الصبَّاغ أصعب من الدهر؟!
قال أبو الطيب:
ومَن يا تُرى يصحُّ أن يَخْلُف المتنبي اليوم؟ أولها أحمد وآخرها أحمد!
أفلم يسألني سائل منذ عشرين سنة — تراني لا أزال مُتمسِّكًا بالتواريخ — عن رأيي في أشعر شعراء العصر فأجبته — وجوابي منشور في مجلة سركيس وقد تكرَّر نشْرُه في المؤيد — بأن المفلقين منهم كثيرون، وذكرت الكاظمي والرصافي والمطران وغيرهم، ولكني قلت إن البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم هم الثلاثة السابقون في الحلبة، وما زلت أقول إنهم ثالوث الشعر الأقدس، وذلك كما كان أبو تمام والمتنبي وأبو عبادة البحتري في الماضي لاتَ الشعرِ وعزَّاه ومَناته، وهكذا لقبهم صاحب المثل السائر، وشبَّهت البارودي بحبيب؛ لما بينهما من التناسُب في علوِّ النفس وجزالة اللفظ وتدفُّع القول، حتى كأنه العارض المُنصَبُّ وشبهت أحمد شوقي بأحمد بن الحسين الكندي؛ لما بينهما من التناسُب في دقَّة المعاني وكثرة الحكم والجري مَجْرى الأمثال، ورأيت في حافظ كثيرًا مما في البحتري من حُسْن الصنعة وعذوبة الألفاظ وطلاوة النسج وملكة الانسجام.
فلا عجب أنْ رَوَى الدهرُ لشوقي كما روى للمتنبي، وكم من أبيات لشوقي يستشهد بها الكتَّاب بل العوام وهم لا يعلمون أصلها. ومن وجوه شبه أحمد شوقي بالمتنبِّي أنَّ أبا الطيب استشهد الناسُ بشعره في عصره، ودارت أمثاله وأبياته اليتائم على عذبات الألسن ورءوس الأقلام شرقًا وغربًا وهو بعدُ في الحياة، وأن شوقي له شعر كثير لا يأخذه الإحصاء يستشهد به الخاصُّ والعامُّ، ويدور على الألسن والأقلام، وهو يعدُّ في الحياة لا بل في الشباب إن جاز لنا أن نقول هذا.
إلَّا أني سمعت السيد طاهر الصبَّاغ يروي لحافظ مثلما يروي لشوقي وربما أكثر فلا ينبغي أن أُغْفِل ذلك؛ لأن التحرِّي واجبٌ في الرواية حتى عن الرواية.
ولكن قد بالغ شوقي في الاعتماد على ذاكرة صاحبنا طاهر الصبَّاغ وفي الاعتقاد بإحاطته بشعره إلى أن ذهل عن إهدائه إيَّاه ديوانه «الشوقيات» بعد أن وعده به وقال له: إني كتبت اسمك على النسخة. وهو عَقْدٌ عجل شوقي فسخه لذهابه أن بين صدغَيِ الصباغ من ديوانه نسخة.
وذهب شوقي إلى «فيشي» وقد ظنَّ الصبَّاغ أنه «فايش» في وعده بالكتاب، وبقيت أنا وحدي عرضة للعتاب كأنني أنا وشوقي مُتكافِلان مُتضامِنان ليسمح لنا «الوحيد» بالتكافل والتضامن، فقد صارتا من الاستعمالات الضرورية ولو لم يرد في كتب اللغة تضامَن فلان وفلان، ولا ورد من الكفالة إلَّا قولهم فلان مُكافِل لفلان؛ «بمعنى معاهد» ولا غَرْو فبين الأدباء رحم وذمام، ولا سيما إذا كانوا إخوانًا من قديم الزمان. فصرت أسمع غمزة بعد غمزة وكثرت الحروف التي فيها همزة، وخشيت أن يتذكَّر صاحبنا الآية الكريمة في الشعراء وهي التي فيها يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إلى آخر ما وصفهم تعالى به ممَّا ينتهي بالألف والنون.
وإن شوقي سيِّدهم وحامل لوائهم يوم القيامة، فكنت أؤكِّد للأديب الصبَّاغ، وهو عربيٌّ قحٌّ مولده الحجاز، أن لا بد لذلك الوعد من الإنجاز وأنَّ عليه أن ينتظر وصول شوقي بك إلى مصر، فالأمور بخواتيمها، والقصائد بقوافيها، والنسخة الموعود بها آتية لا ريب فيها.
كنَّا في العود الذي وعدنا به ولم نسمعه، فصرنا في النسخة التي انتظرها الصبَّاغ ولم يرها، ولا شكَّ عندي أن العود تعطَّل كما قال الأخ، وأن النسخة أُهْدِيت إلى أناس كانوا مُستعجِلين إلَّا أني لست بتاركٍ حقِّي في هذا العود إن شاء الله في كرمة بن هانئ نفسها، فقد كان أمير الشعراء وَعَدَ بليلة طرب من أجلي بأثناء ذهابي إلى حرب طرابلس الغرب «١٥ عامًا» والبدوي أخذ ثأره بعد أربعين سنة، وقال إنه بكر، أما السيد طاهر الصبَّاغ فإنه بدوي أكثر منِّي، فإن لم يعجل إليه بالنسخة فلا تُغْنِي بعد ذلك المكتبة بأسْرِها.
أما ما رواه بعضُهم من وجود الشُّرْب والرَّقْص في ذلك المقهى العربي بباريس فلا نصيب له من الصحة، بل مشرب الزائرين قهوة البن وهي التي قال فيها عبد الغني النابلسي — رضي الله عنه:
والشاي بأنواعه لا سيَّما الأخضر وهو ما أدخله إلى المغرب السادة السنوسيَّة — رضي الله عنهم وكفى بهم قدوة. وليس هناك سكر ولا رقص ولا في المقهى مكان للرقص، وإنما قد تُنشَد أحيانًا بعضُ الأبيات المُرقِّقة للقلوب وبعض الأزجال المقبولة، وليس في ذلك نكير، ولعمري إن مقهًى بدون قهوة ولا شاي أشبه بقلب بلا وجد أو «بغراموفون» في نجد.