أول ما قرأت لشوقي
خرجت إذن من مصر في أواخر سنة ١٨٩٠ وأنا لا أسمع بشاعر اسمه شوقي في مصر، وكنت أوانئذٍ أراسل جريدة الأهرام، وكان صاحب الأهرام يكاتبني كثيرًا ويبني كثيرًا من الآراء على ملاحظاتي وإذا أرسلت إليه بمقالة جعل عنوانها «لأحد الأفاضل السياسيين»، فإذا راجع القارئ أهرام سنة ١٨٩٠ والتي بعدها وجد بقلم «أحد الأفاضل السياسيين» فصولًا سياسية كثيرة، وبينما كنتُ أطالع الأهرام في ذات يوم وقع نظري على أبيات لامية في مدح الخديوي توفيق فيما أذكر قال عنها الأهرام إنها من نظم «أحمد أفندي شوقي»، ولما كان هذا الناظم مجهولًا عندي لم أشأ أن أُضيِّع وقتي بقراءة تلك الأبيات فلم أعلم منها كثيرًا ولا قليلًا، إلَّا أنه لم يطُلِ الأمرُ حتى قرأت شعرًا آخر لهذا الذي يُقال له أحمد أفندي شوقي، فجرَّبت هذه المرة أن أقرأه فلما قرأته لم أمُجَّه ووجدته من الشعراء الذين يُقال فيهم «من حقِّه أن تسمعه»؛ فقد قالوا كما لا يخفى:
ولم يَطُل الأمر أيضًا حتى قرأت لأحمد شوقي هذه القصيدة الآتية في مديح الجناب الخديوي:
إلى آخر ما قال في ذلك اليوم. فتَلَوْتُ القصيدة من أولها إلى آخرها ومن شدَّة ما طربتُ لها أعدتُ قراءتها مرارًا، وعلمت أن هناك شاعرًا مطبوعًا وأيقنت أن في تلك المغارة أسدًا، وصِرْتُ كلَّما عثرتُ على شعر لأحمد شوقي أتهافت عليه تهافت الظمآن على نَمِير الماء؛ لأني رأيت فيه الشاعريَّة بجميع شروطها: النَّسْج الرقيق المتين، والأسلوب الرشيق الرصين، اللغة العربية الفصحى التي لا تُؤتَى من جهة والمعنى المتناهي في الدقة اللابس من اللفظ أجمل حُلَّة، والانسجام المُطَّرد من الأول إلى الآخر في سكب واحد وسبك متوارد، فعند ذلك حكمت بأن هذا الشاعر سيكون من شعراء العصر وإن لم أصِلْ في الحكم إلى أنه سيكون أميرَ شعراء العصر، وأذكر الآن أني كنت اطَّلعت له على قصيدة قبل هذه في مدح الخديوي توفيق يهنِّئه فيها بشهر الصيام لم تكن أقلَّ رِقَّة وانسجامًا من القصيدة الدالية المارِّ ذِكْرُها، وهي التي يقول فيها:
فعندما قرأت هذه القصيدة وجدتها من النوع المرقص الذي لا يقع نظر أديب عليه إلَّا اهتزَّ طربًا وراح نشوان، وكما قال هو عن نفسه كانت أبياته هذه من السهل المُمْتَنِع؛ أشبه بشعر البهاء زهير لو اندمجت في ديوانه، ولم يقل أحد لقارئ الديوان إنها من نظم شوقي لكانت حقيقة بشعر البهاء زهير لا تقِلُّ عنه شيئًا، ولو سمعها الحسن بن هانئ لارتضاها لنفسه ولم يتكبَّر عليها. أما ابن هانئ الأندلسي الذي قال فيه المعري إن شعره أشبه برَحًى تطحَن قرونًا فإنه بعيد عن هذا الأسلوب بُعْدَ الشرق عن الغرب.
ومذ ذاك الوقت صِرْنا نترقَّب قصائد شوقي رِقْبة الصائم هلالَ العيد، ونعلم أنه سيكون الشاعر الذي يجْري ولا يُجرَى معه، نعم كنت إلى ذلك الحين أرجِّح عليه محمود سامي البارودي ولا أرى أحدًا يعلو علوَّه في المتأخرين، وقد يلزُّ في قرن واحد مع أفصح المتقدمين.