مَن الذي راضَ شوقي وحافظًا في الشعر
(١) مراسلات المؤلف مع محمود سامي
يقول الأستاذ الرافعي: «إن الكتاب الأول الذي راضَ خيال شوقي وصقل طبعه وصحَّح نشأته الأدبيَّة هو بعينه الذي كانت منه بصيرة حافظ وذكرناه في مقالنا عنه؛ أي كتاب الوسيلة الأدبيَّة للمرصفي. وليس السرُّ في هذا الكتاب ما فيه من فنون البلاغة ومختارات الشعر والكتابة، فهذا كلُّه كان في مصر قديمًا ولم يُغْنِ شيئًا ولم يخرج لها شاعرًا كشوقي، ولكن السرَّ ما في الكتاب من شعر البارودي؛ لأنه معاصر والمعاصرة اقتداء ومتابعة على صواب إن كان الصواب، وعلى خطأ إن كان الخطأ. وقد تصرمت القرون الكثيرة والشعراء يتناقلون ديوان المتنبِّي وغيره ثم لا يجيئون إلَّا بشعر الصناعة والتكلُّف، ولا يخلد الجيل منهم إلَّا لما رأى في عصره ولا يستفتح غير الباب الذي فُتِح له. إلى أن كان البارودي وكان جاهلًا بفنون العربية وعلوم البلاغة لا يُحْسِن منها شيئًا، وجهله هذا هو كلُّ العلم الذي حوَّل الشعر من بعدُ، فيا لها عجيبة من الحكمة، وهي دليل على أن أعمال الناس ليست إلَّا خضوعًا لقوانين نافذة على الناس. وأكبَّ البارودي على ما أطاقه وهو الحفظ من شعر الفحول؛ إذ لا يحتاج الحفظ إلى غير القراءة ثم المعاناة والمزاولة، وكانت فيه سليقة فخرجت مخرج مثلها في شعراء الجاهلية والصدر الأول من الحفظ والرواية، وجاءت بذلك الشعر الجزل الذي نقله المرصفي بإلهام من الله تعالى ليخرج به للعربية حافظ وشوقي وغيرهما. فكل ما في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الأديب الناشئ فتبعثه هذه الروح على التمييز وصحة الاقتداء، فإذا هو على ميزة وبصيرة، وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما في قوة نفسه ما دام فيه ذكاء وطبع، وبهذا ابتدأ شوقي وحافظ من موضع واحد وانتهى كلاهما إلى طريقة غير طريقة الآخر، والطريقتان معًا غير طريقة البارودي.» ا.ﻫ.
قلت: والظاهر أن الوسيلة الأدبية للمرصفي بما فيها من شعر البارودي، قد أنشأت أكثر من شوقي وحافظ، وبعثت الشعر العالي من مرقده وأحيت للأدب العربي دولة جديدة بعد أن كان الناس يظنُّون أن الشعر هو عبارة عن النكتة، وكان جُهادَى الشاعر من المتأخِّرين أن يُضمِّن كلَّ بيت نكتة من أدب أو تاريخ أو مثلٌ سائر أو تورية أو استخدام بديعي أو طباق أو مقابلة أو لف ونشر أو جناس لفظي أو معنوي أو غير ذلك ممَّا استقصاه علماء البديع.
فأما أسلوب الجاهلية والمُخضْرَمِين والطبقة التي جاءت بعدهم ممن عاشوا في أوائل الدور العباسي ولم يكن طرأ الوَهَن على ملكاتهم، فقد كان محفوظًا في الكتب حفظ النفائس في الخزائن، وكان يرى الناس بدعًا أن ينسجوا على منواله ولا يزالون يرون أن البيت إذا خلا من النكتة فلا يُعَد شعرًا ولو كان منحوتًا من أحسن مقاطع البلاغة.
وبقي الأمر كذلك حتى نبغ البارودي بانطباعه على شعر الأولين وإرساله تلك القصائد التي عارض فيها آياتهم الكبر فلم يقصر عنهم، وصار الناظر في شعرهم وشعره لا يفرِّق بين النسجين. وسواء عرف البارودي شيئًا من قواعد النحو والصرف أو لم يعرف فقد كان المثل الأعلى في نقاء اللغة وبداعة الأسلوب ومتانة التركيب، وكنتَ إذا قرأت شعره ملك عليك مشاعرك وهزَّك هزة لا تجدها إلَّا في شعر الفحول المُفلِقين مثل زهير وعنترة والأعشى والنابغة الذبياني وبشار وأبي تمام ومَنْ في ضربهم، كأنما قميصه زُرَّ على واحد من هؤلاء.
فالذين اهتدوا من ناشئة العصر إلى الوسيلة الأدبية للمرصفي وجدوا فيها ضالَّتهم التي طالما نشدوها فلم يجدوها إلَّا في شعر محمود سامي. رأوا نسبة معاصريه له نسبة البغاث إلى الباز، ولا أعلم هل كانت الوسيلة الأدبية هي التي بعثت الشعر في شوقي وحافظ أم كانت لهما وسائل غيرها؛ لأني لم أشاهد حافظًا في حياتي وعندما كنت أذاكر شوقي وأنشده من شعر محمود سامي لم يقُلْ لي شيئًا يتعلَّق بكونه إنما نسج على طرازه أو إن شعر محمود سامي هو الذي أرهف قريحته. وقُصارَى ما لحظته من شوقي هو إجلال البارودي كشاعر، وما عرفت أن محمود سامي كان صَيْقَلَ حافظ وشوقي في الشعر إلَّا من رواية الرافعي هذه، وهذا القول جدير بأن يكون صحيحًا لأني أعرف ذلك من نفسي، فقد كان اطلاعنا على شعر محمود سامي بواسطة الأستاذ الإمام حُجَّة الإسلام الشيخ محمد عبده يوم كان منفيًّا في بيروت، وكنَّا نلازمه استفادة من واسع علمه واستفاضة من عارض فضله، فهو الذي عرفنا بالوسيلة الأدبية للشيخ حسين المرصفي، وكنا أنا وأخي نسيب — رحمه الله — نصبو من صبانا إلى طريقة الأولين في الشعر ونؤثر شعر الجاهلية والمخضرمين والبطن الأول من المُولَّدين على شعر أهل الأعصر الأخيرة مهما حلَّت نكاتهم وكثرت الأنواع البديعية في أشعارهم، ولم نكن نجهل علم البديع ولا كان يفوتنا شيء ممَّا في خزانة ابن حجة ولكن ذلك كله كان عندنا لعبًا ولهوًا بالقياس إلى المعلَّقات السبع وشعر النابغة والأعشى، ثم شعر الأخطل وجرير والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة ثم شعر أبي العتاهية وأبي نواس وبشار ومسلم بن الوليد ومروان بن أبي حفصة وأبي تمام والبحتري وطبقتهم. وكان المتنبِّي كله لا يروقنا إلَّا من جهة الأمثال والحِكَم، وكنَّا نرى شعره في الأحايين نازلًا عما يجب أن يكون، فلما قرأنا شعر محمود سامي سكرنا بأدبه، ورقصنا على قصبه، وبعث لنا نشأة روحية لم نعهدها في أنفسنا من قبل أن عرفناه، وعلمنا أن في المعاصرين مَنْ قَدَرَ أن يضارع الأولين وأن يسامي بنفسه أنفاسهم.
وكنَّا من قبل محمود سامي نظنُّ الأولين غايةً لا تُدرَك، وأنهم إذا قُرِن بهم المتأخرون أو المعاصرون كان أولئك هُم السماء وهؤلاء هم الأرض. وبقي فينا هذا الاعتقاد إلى أن ظفرنا بشعر محمود سامي وحفظنا جميع قصائده التي في الوسيلة الأدبية، فلم نكن لشدة إعجابنا بها نخْرِم منها بيتًا واحدًا، وكان حِفْظنا لها من أعمل عوامل الشعر فينا، بل كنَّا نشعر إذ ذاك بحاسَّة طربٍ تهتزُّ لها جوارحنا كلَّما روينا شعر البارودي في أنفسنا أو أمام الناس. وكما قال كارليل عن شكسبير: «إننا نحن معاشر الإنجليز نرى شكسبير أثمن لنا من الهند.» فقد كنتُ أقول في نفسي إن محمود سامي هو بذاته مملكة عربية. وكان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بمكانه من رئاسة الدولة الفكريَّة يذهب إلى ما يقوِّي فينا هذه العقيدة؛ ولذلك كنت أنا أراني خرِّيجًا في الشعر لمحمود سامي البارودي، وإلى هذا أشرت في أول قصيدة أجبْتُه بها يوم بدأ بمراسلتي من منفاه في سيلان، فقال لي:
فأجبته بقصيدة أقول له فيها:
فأنت ترى من كلِّ حرف من حروف قصيدتي هذه حالتي النفسية التي تتلخَّص في هذه الجملة: إن البارودي هو إمامي في الشعر. ولا أنكر أنني قبل أن قرأت شعر البارودي بدلالة الشيخ محمد عبده كان سبق لي نظْمٌ غيرُ قليلٍ، وكان اطلع عليه الشيخ محمد عبده نفسه، فقال لي في اجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، وقد عرَّفوه بي: أنت ستكون من أحسن الشعراء. وكذلك قال العلامة الشيخ إبراهيم الأحدب الذي كان الصدر المُقدَّم في الأدب وقد قرأ لي أبياتًا في إحدى الجرائد، وأنا بعدُ في المدرسة: إن هذا الولد سيكون شاعرًا. إذن لم يكن نظمي للشعر موقوفًا على حِفْظي لشعر البارودي ولكن هزَّني من شعر هذا الرَّجُل ما لم يهزَّني شعرُ شاعرٍ من أوَّل وآخر، فكنتُ أرى منتهى السعادة في أن تكون لي معه مراسلة وأن أمتَّ إليه بصِلة، كما كنتُ أحنُّ إلى مثل هذه العلاقة مع السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده بما أسمع عنهما وأقرأ لهما إلى أن ظفرت بذلك، وجميع الشبان المتأدِّبين كما لا يخفى لهم ولوع شديد، بل هَوَسٌ بتقليد كبار علماء عصرهم، ووجْدٌ مبرح للاتصال بهم والأخذ عنهم، وهو ما قد عبَّرت عنه من جهة محمود سامي في قولي:
وكنت كثيرًا ما أحدِّث نفسي بنشدان وسيلة أتحكك بها بهذا الشاعر الكبير فأحصل منها على جواب منه فأكون سعيدًا، ولكنَّني كنت أتهيَّب الإقدام وأخشى أن تتزلزل منِّي الأقدام فأعود فأنكص عن إجراء فكرتي هذه، وإلى هذا أشرت بقولي بعد أن بدأ هو بالمراسلة:
ولكن كما كان الإقدام على ذاك المقام أشقَّ من خوض المعارك واقتحام المهالك، كان الشوق أيضًا إلى صاحب تلك القصائد التي كنت أتلوها كلَّ يوم من بعد تلاوة كتاب الله وأترنَّم بها في نجواي، وأجعلها نقل أسماري وغبوق ليلي وصبوح نهاري من نوع البرحاء التي لا تدافع ومن نمط النزعات التي لا تُنازَع، فعدت إلى طريقة ثانية أبلغ بها مرامي وأروي أوامي؛ وهي أن أستشهد بشعر البارودي في مقالاتي التي كنت أنشرها إذ ذاك في جريدة الأهرام، فاستشهدت له إحدى المرار ببيتين بدون تصريحٍ باسمه، وهما قوله:
واستشهدت مرة أخرى ببيت له عن أهل كريت، وذلك مع التصريح باسمه، ومع نعته بلقب «أمير الشعراء»، وقد كانوا ثاروا على الدولة:
ولما كان من التجاذُب بين الأرواح مهما تباعدت الأماكن، وتراخت المساكن ما لا يقلُّ عن انتقال الأصوات بتموُّجات الهواء ونفوذ الكهرباء، كان حنيني هذا إلى معرفة محمود سامي قد لاقي مثله إليَّ، وقد كان يقرأ مقالاتي في الأهرام فيشعر لكاتبها بعاطفة لا يعرف لها سببًا خاصًّا، وما زال كذلك حتى رآني أستشهد بشعره أولًا وثانيًا فعلم أنَّ ما به من جهتي هو بي من جهته، وأن بين الروحين رسائل من غير كُتُب ووسائل بلا أسلاك، فعندها جاءني منه الأبيات التي يبتدئ فيها بقوله:
عن كندى في ٢٨ ذي القعدة سنة ١٣١٥:
سيدي الأمير
لولا حنين النفس، وهو علاقة الحبِّ، لصبرت على المكاتبة هنيهة مخافةَ الإمْلال، ولكنِّي راجعت النفس فأبَتْ عليَّ زاعِمة أن الإغباب يكون في الزيارة لا في الكتابة، وبعدُ، فقد تلقَّيت اليوم ما تفضَّلتم به عليَّ بيدٍ ترعد فرحًا وفؤاد يهتزُّ مَرَحًا، وما عساي أن أقول في نظمٍ لو وصفته لقلت سِحْرًا، ونثرٍ لو وردت شرعته لكان بحرًا، إنها وايم الله منَّة لا يقوم بها الشكر ولا يتدرَّج إلى معروفها النكر، كيف لا وقد أضاءت عليَّ غيابة الوحشة، وسرت عنِّي ضبابة الحسرة، فالحمد لله الذي صدق ظنِّي، وحقَّق أملي، فإني منذ طالعت آثار قلمكم في جريدة الأهرام شعرت بمَيْل في النفس إليكم ونزاع منها إلى التعارُف بكم، ثم لم ألبث أن رأيت بها تعريضًا خفيًّا سمعت منه هاتفًا روحانيًّا يدعوني إليكم، فحدَّثت نفسي بمد أسلاك المراسلة لتبادل كهرباءة المودَّة معكم، ولكني راعيت الحال فأمسكت على مَضَض حتى سمعت هاتفًا آخر يدعوني باسمي صراحًا فلم أتمالك أن لبَّيْتُ دعوته، فتمَّ الأمل بتعارُف الأرواح قبل تقارُب الأشباح، هذا ما كنت أجِدُه في نفسي أذكره لكم على سبيل الغرابة، وسأكتب بعد هذا إن شاء الله، فاقبلوا تحيَّة فؤادي وخالص ودادي ودُمْتم.
إن هذه الحالة التي وقعت بيني وبين محمود سامي هي تَصداق الحديث: «الأرواح جنود مُجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.»
وبالجملة فبينما أنا كنتُ أروي قصائده ولا أروي ظمأَ فؤادي إلَّا بالتعارُف معه، كان هو يشعر بمَيْل خاصٍّ إلى كاتب تلك المقالات في الأهرام قبل أن يعرفه بل بمجرد التجاذب الروحي والتعارف الغيبي وبسائق تلاؤم الأشكال الذي قرَّر الحكماء أنه منشأ الحبِّ بين الخلق، ثم إنه رآني أستشهد بشعره ولكن بغير تصريح باسمه فكاد يجاذبني حبل المراسلة إلَّا أنه توقَّف قليلًا ثم رآني أصرِّح باسمه وأقول إنه أمير الشعراء فلم يملك نفسه بعد ذلك عن البديئة بالخطاب والإسراف في الثناء فأرسل إليَّ بتلك الأبيات المِيميَّة، وإلى هذا المعنى الأخير أشار بقوله:
ويوم وصفت محمود سامي بقولي: إنه «أمير الشعراء» لم يكن شوقي قد طارت شهرته إلى أن صار يزاحمه على هذا الاسم، ولا كنت أنا أجمجم عن شوقي أني أعد محمود سامي أبا الشعراء في وقته، ولا كان قد جاء الدور الذي أصبح شوقي يرى نفسه فيه الجواد المبر على الجميع، والفذ الذي تأخذه النَّخْوة على نظرائه، ولا يرى فيه أحدًا من أكْفائه، بل كنت، ما دام البارودي حيًّا، أوَّل من بايعه بالإمامة، ولم يضع أحدًا أمامه إلى أن مضى لسبيله، فكان من جملة ما رثيته به قولي:
ولكن مَن يدري فقد يكون شوقي غصَّ برئاسة البارودي من ذلك العهد، وقد تكون الفترة التي ظهرت لي منه عندما جئت إلى مصر قاصدًا طرابلس الغرب، وما رأيت من تدلُّله ولحظت من تسحُّبه أثرًا من آثار المقالة التي أجبت فيها سليم سركيس عمَّن أراهم أشعر الشعراء في هذا العصر، وأَسْجَلْت فيها أن الأول فيهم هو محمود سامي والثاني هو شوقي والثالث هو حافظ إبراهيم، فجاءت مقالتي هذه قَرْعًا على كبده رحمه الله. ولعلَّ الأخ شاعر القطرين خليل مطران يدري من هذا الأمر ما لا أدريه أنا؛ لأنه قد كان بينه وبين شوقي من الخلطة والمودة والتبذُّل في الحديث ما لم يكن بين اثنين، وكيف كان الأمر فقد صدق مصطفى صادق الرافعي في قوله: إن شوقي أصبح بعد أن صار شاعر الأمير كالجواد العتيق ينافس حتى ظله. وقد صدق الرافعي أيضًا في قوله: إن طريقة شوقي في الشعر لم تكن طريقة البارودي؛ لأن شوقي كان يضعف عن طريقة البارودي ولم تكن تتهيَّأ في أسبابه وخاصَّة في أول عهده. وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان فلكلٍّ من هذين طريقة خاصَّة به، والغالب على البارودي هو علوُّ النفس والجزالة، والغالب على شوقي هو الرِّقَّة والحكمة والتأثير في النفس.