أماثيل من شعر شوقي
وقد حان الآن أن نذكر أماثيل ممَّا يعجبنا من شعر شوقي، وقد سبق للأدباء حتى في حياته أن تكلَّموا في هذا الموضوع وأشاروا إلى المختار من شعره والأثير من قوله، واتفق الجميع على أن القصيدة التي أولها:
من أحسن ما يعجبني من شعره الشخصي ما افتتح به ديوانه المطبوع أول مرة، وذلك تحت عنوان «إلى مولانا أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني أيَّده الله»:
وبعد أن قدَّم هذه التحية إلى الخليفة عاد فشفعها بتقدمة إلى الخديوي فقال:
والبيت الأخير هو بيت القصيد، وفي قوله: وكان محمد أرعى لهذا الدرِّ من راعي اليتيم، تورية لطيفة ولكنه استعمل لفظة «فخيم» ولا يوجد في العربي «فخيم»، وإنما هو «الفخم» وقد انسابت هذه اللفظة إلى كلام شوقي من كلام الدواوين ومن المعلوم أن لغة الدواوين في القرون الأخيرة كانت عليها مسحة تركيَّة.
ومن شعره الذي شرَّق وغرَّب وذهب كلَّ مذهب، ولم يبقَ أحدٌ إلَّا رواه قوله:
وهي أبيات معدودات أحْسَنَ فيها غاية الإحسان، ولا سيما عند قوله:
فلو قال أحدٌ إنه ما قيل في هذا العصر شعر أشعر من هذا في الغزل ما أبعد. وله أبيات لو لم أقرأها في ديوانه لظننت أنها من شعر أبي العتاهية الذي استولى على الأمد في نظم الزهد بالسهل الممتنع الذي يقرأ منه الإنسان ويعيد ولا يمل ولا تخلق طلاوته ولا تذهب حلاوته. قيل لأبي نواس وقد عظَّم أبا العتاهية كثيرًا: لأنت أشعر منه. فأجاب: ما رأيته قطُّ إلَّا ظننت أنه سماء وأنا أرض. وأبو العتاهية هذا نسيجُ وحْدِه في الممتنع السهل والمهلهل الجزل لو نسبت إليه هذه الأبيات الخفيفة اللطيفة التالية لكانت به جديرة وهي:
نعم على هذا الشعر مسحة عصريَّة جيولوجية لا توجد في شعر أبي العتاهية، ومن شعر شوقي في إنكار رفع الصوت أمام الجنائز:
ومن قوله في الرضى بما قسم الله:
ومن حكم شوقي السائرة وأبياته النادرة ما قاله في مداراة العدوِّ، وما ذهب إليه من أن أشدَّ الناس على العدوِّ آخذهم له بالحيلة فهو يقول:
ومن حكمه:
ومن لطائفه:
ومن أقواله المأثورة:
وقد كرر هذا المعنى في مكان آخر، فقال:
وكرَّره ثالث مرة فقال:
وقد ذهب السيد مصطفي صادق الرافعي إلى أن شوقي أخذ هذا من قول ابن الرومي:
ولا حاجة إلى الإبعاد كل هذا، فأقرب إليك من قول ابن الرومي المثل المشهور: لا تبالغ في النصيحة فتهجم بك على الفضيحة.
ومن حكم شوقي:
ومن مرقصات شعر شوقي القصيدة المشهورة في وصف ليلة راقصة بسراي عابدين مطلعها:
ومما يعجبني فيها:
فقد كان هذا قبل اختراع السيارات الكهربائيَّة ثم قال:
إلى أن يقول:
إلى أن يقول:
وله في وصف متنزه الخديوي:
إلى أن يقول:
وله في وصف الشروق والغروب وهو في سفينة:
على هذه الأبيات الأخيرة مسحة من شعر المعري الذي يختلط الشعر فيه بالفلسفة، وله وصف طلوع البدر وهو في السفينة أيضًا:
انظر إلى قوله «زحمة الأبصار» هنا كمْ فيه من البلاغة إذا تأملت تطلع الناس إلى البدر في الليلة البلجاء.
ثم يقول:
وقد استعمل شوقي لفظة «المحتار» ولا يوجد فعل مطاوعة من «حار» ولكن استعمل ذلك بعض الأعلام متابعة للعامة، وقال الشيخ عبد الغني النابلسي:
وسمَّى فقيه عصره السيد محمد بن عابدين حاشيته على الدرِّ المختار باسم «رد المحتار» ولم يسلم من الاعتراض.
وله في البحر المتوسط الأبيض:
يشير بذلك إلى أن الأمم التي عاشت على ضفاف هذا البحر هي التي فرطت إلى حوض المدنية مثل مصر وفينيقية واليونان ورومة، وأنها هي التي اشتُهرت بذلاقة اللسان وسداد المنطق ثم يقول:
أي إن البحر المتوسط هو الذي سهَّل الفتوحات للذين مُلِّكوا على شواطئه، وله في وصف سويسرا:
إلى أن يقول:
إن هذا الأسلوب في وصْف الطبيعة هو الذي جرى عليه الشعراء من قديم الزمان؛ يأتون بالتشابيه المرقصة والكنايات المطربة في نظم كأنه يمشي الخَبَب، وشعر كأنه يتحدَّر من صَبَب، فتعرف القافية قبل أن تصل إليها، وتستدلُّ على اللفظة بما حواليها، وتظن نفسك على ضفة نهر مُطَّرد يتدفق، أو أمام غمام مُنسجِم يتبجس، وقد تكثر المترادفات في مثل هذا الوصف فلا تُزعَج، وتتوالى المتجانسات فتعجب وتبهج، وكأن الموصوف يخلع على الوصف حلاه، وكأن الشاعر يأخذ من الطبيعة لفظه كما يأخذ معناه.
وقلَّما قرأت شعرًا من الزهريات أو الطرديات أو غير ذلك مما وصفوا به الطبيعة إلَّا رأيته مسحوبًا هذا السحب مسكوبًا هذا السكب، كأن لكلِّ مقام لغة تناسبه ولكلِّ موضوع أسلوبًا خاصًّا لا يجيد فيه من يجانبه. وأما لفظة «البحائر» التي أتى بها شوقي هنا بمعنى الأبحرة أو البحيرات فليست من اللغة، وإنما البحيرة هي الناقة التي شُقَّت أذنها من فعل بَحَرَ بمعنى شَقَّ، قال الله تعالى: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وقال أبو إسحق النحوي: أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحيرة أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرًا بَحَرُوا أذنها؛ أي شقُّوها وأعفَوا ظهرها من الركوب والحمل والذبيح، ولا تُحلَأ عن ماء تَرِدُه ولا تُمنَع عن مرعًى، وإذا لقيها المعيي المنقطع به لم يَرْكبْها. قالوا وجمع البَحِيرة على بُحر وهو جمع غريب في المؤنث إلَّا أن يكون قد حُمِل على المذكر نحو نذير ونذُر. وليس لهذه اللفظة وجه هنا إلَّا أن يُقال إن البحار جمع بحيرة وهذه فعيلة من فعل بَحَر أي شَقَّ. وقد قيل إن البحر إنما سُمِّي بحرًا لأنه شقٌّ في الأرض، فهل يصل تسامُح علماء اللغة إلى إجازة هذا القياس؟ إنهم إن أجازوا مثله فقد فتحوا بابًا يُتعذَّر سدُّه. ثم يقول شوقي من هذه القصيدة:
ثم يذكر شروق الشمس، فيقول:
لا أعلم ماذا يريد بقوله «طار» إلَّا أن يكون يريد الإطار بالألف، فأَطارَ الألف لضرورة الوزن وليس هذا بجائز؛ لأنه لم يرد إطار بمعنى طار في فصيح اللغة.
ثم يقول:
ثم إنه يصف جبل الساليف الذي فوق جنيف فيقول:
هنا محلُّ نظر؛ فإنه إذا أراد مشيًا وركَّابًا وزحلقةً على أنها مصادر وبلا تشديد لفظة ركاب لم يستقم الوزن، وإذا كان يشدِّد ركَّاب بمعنى جمع راكب أو كانت غلطة مَطْبعيَّة وأصلها ركبان فهي في قلق زائد في هذا المحل؛ لأنها تكون جمع اسم فاعل بين مصدرين المشي والزحلقة، وربما قاسها شوقي على كذب كذَّابًا بالتشديد، ولكن ليس القياس في اللغة بالمذهب الراجح. والركَّاب بالتشديد هو الكابوس وليس هذا هو المراد هنا. وقد حاولت أن أجعلها مشيًا وتركابًا وزحلقةً … إلخ، ولكني لم أجد مساغًا لتكثير المصدر من كلِّ فعل إلَّا إذا أخذنا القياس، فأما متون اللغة فإنك تجد فيها أفعالًا تأتي مصادرها على تفعال فيقولون مثلًا سكب الماء والدمع سكبًا وتسكابًا وهتن الغيث هتنًا وهتونًا وتهتانًا، وعليه قلت من قصيدة في هذه الأيام الأخيرة:
ولكن هذا غير مطرد وإن كان المتنبي قال:
فإنك لا تجد تَصْهال في كتب اللغة، وإنما قاسها المتنبي على غيرها، والقياس في اللغة مذهب ضعيف. وقد نظرت في كتاب سيبويه، فرأيته يقول: «هذا باب ما تُكثِّر فيه المصدر من فعَلْتَ فتلحق الزوائد وتبنيه بناءً آخر، كما أنك قلت في فعَلْت فعَّلْت «بالتشديد» حين كثَّرت الفعل وذلك قولك في الهدر التَّهْدار، وفي اللعب التَّلْعاب، وفي الصفق التَّصْفاق، وفي الرد التَّرداد، وفي الجولان التَّجوال والتَّقتال والتَّسيار، وليس من هذا مصدر فعَّلت «بالتشديد» ولكن لما أردت التكثير بنيت المصدر على هذا كما بنيت فعَلْت على فعَّلْت — الثانية بالتشديد.» ا.ﻫ. قلت ولا يُستقاد من هذا أنه يجوز اطراد مصدر تَفْعال من كلِّ الأفعال؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان جامعوا اللغة قالوا هتن يهتن هتونًا وتَهتانًا، ولم يقولوا ركب يركب ركوبًا وتَرْكابًا. ولنترك ركابًا هذه على حالها ونكمل وصف شوقي لجبل السليف، فيقول:
ولو جاء شوقي جنيف كما دعوته يوم تلاقينا في السويس لرأى الآن شيئًا أعجب وأغرب، وهو أنهم وضعوا من حذاء السليف إلى رأس الجبل مركبةً سلكيَّة كهربائية، يُقال لها «تلفريك» يظنُّها الرائي طيَّارة طائرة في الجوِّ، ويقطع فيها الراكب هذه المسافة من ذيل الجبل إلى رأسه في ثماني دقائق بسرعة برقيَّة، وهذه المركبة من بعيد تلوح كالزنبيل مُعلَّقًا في الهواء، ثم قال:
ولشوقي قصيدة عن رومة فيها أبيات جديرة بأن تُحفَظ:
وله على قبر نابليون أبيات منها:
وله في توت عنخ آمون قصيدة يقول فيها:
ويخاطب اللورد كارنارفون الذي اهتدى سنة ١٩٢٢ إلى ما اهتدى إليه من الكنوز تحت مدفن رعمسيس السادس، فقال:
يريد أن يقول إن الناس اتَّهموا اللورد الذي كشف الكنوز بأنه استأثر لنفسه بها، والحال أنها حقُّ مصر، وقد حامت الظنون حول هذه القصة، وقال الناس: أفالذين سرقوا الخليفة وهو حي لا يسرقون كنوز الملوك وهم أموات؟! إشارة إلى أن الإنجليز نقلوا الخليفة وحيد الدين من قصره في الآستانة إلى مالطة بعد أن انتهت حرب اليونان وتركيا واتَّسق الأمر لحكومة أنقرة، والسبب في فرار الخليفة حينئذٍ ما بلغه عن نيَّة حكومة أنقرة محاكمته والحكم عليه بالقتل بحجَّة أنه خان الوطن.
وكان السلطان وحيد الدين في بدء احتلال الإنجليز للآستانة بعد الحرب العامة، قد اعتقد أن الإنجليز يقدرون على كلِّ شيء فأطاعهم خَوْفًا لا خيانة ولم يشأ أن يذهب إلى الأناضول وينضمَّ إلى رجال الحركة الوطنية اعتقادًا بأنه إن خرج من الآستانة لن يعود ملكُ آل عثمان إليها أبدًا، وأن الإنجليز وغيرهم من الأجانب يريدون فرصة لإعادة القسطنطينيَّة إلى الروم، وقد كانت في أوروبا — ولا سيما في إنجلترة — حركة شديدة لهذا الغرض فتضافرت الأسباب كلُّها لبقاء السلطان في الآستانة حتى لا تخرج هذه العاصمة المُنقطِعة النظير من يد الإسلام، ولما كان الإنجليز هم المُحتلِّين وهم أصحاب الكلمة العليا بعد الحرب الكبرى لم يجد وحيد الدين بُدًّا من مطاوعتهم، فانتهزَّ أعداؤه الفرصة لاتِّهامه بالخيانة وبالخروج عن رأي أمَّته، ولما كان بين الأتراك حركة قديمة ترمي إلى ثلِّ العرش العثماني وتأسيس حكومة جمهوريَّة، وهذه الحركة لا يقدر أصحابها على التظاهر بها خوفًا من الشعب التركي المُتمسِّك بآل عثمان، فقد استغلَّ هذه المرة رجال تلك الحركة طاعة وحيد الدين لإنجلترة الناشئة عن الخوف، وجعلوها من باب الخيانة ونشروها بين الشعب التركي وفي الآفاق، وبنَوا عليها فيما بعدُ إسقاط سلطنة آل عثمان وإسقاط الخليفة والخلافة، مع أن مجلس أنقرة الكبير كان قد قرَّر أن الحركة التركيَّة الاستقلالية إنما كان المقصد منها إنقاذ الخليفة الذي هو أسيرٌ بين أيدي الإنجليز، وقد اضْطُرَّ السلطان الخليفة وحيد الدين أن يفرَّ من الآستانة حتى لا يُصلَب على جسر الخليج، فقصد مالطة على باخرة إنكليزية ثم جاء منها إلى الحجاز، وبعد أن أقام أيَّامًا في مكة وأيامًا في الطائف ذهب إلى أوروبا وأقام في سان ريمو من إيطاليا، ولم يعش بعد سقوطه مدة طويلة، وعندما مات كان يعاني من جهة أمر معيشته مع حاشيته أزمةً شديدة، وكانت عليه ديون لأصحاب الدكاكين الذين كانوا يبيعونه بالنسيئة ويصبرون عليه، فلما مات قاموا يطالبون بحساباتهم وطلبوا تأخير نقل الجثَّة من سان ريمو، حتى يكونوا استأدوا أموالهم فبقيت الجثة في سان ريمو أسبوعين أو ثلاثة رهنًا، حتى يأتي من آل عثمان من يؤدِّي الحسابات التي كانت على السلطان المُتوفَّى! وفي ذلك الوقت قال لي سمو الخديوي السابق: إن هذا عار على الإسلام وكان من الواجب أن يتبرَّع ذوو الحمية من المسلمين بالمبلغ الباقي على السلطان المرحوم حتى يتيسَّر نقْلُ جثمانه إلى الشام لدفنه فيها كما أوصى بذلك. فقلت له: ومن أوْلَى منك بهذا الأمر؟ فذكر لي محذورًا سياسيًّا يمنعه من التظاهر بهذه القضية، وأشار بأن أكتب إلى سموِّ الأمير عمر طوسون الذي هو المَفزَع للإسلام عند كلِّ حادثة، فكتبت إلى الأمير المشار إليه ولا شكَّ أنه لم يكن ليتأخر عن الواجب، ولكن في أثناء ذلك جاء الخليفة عبد المجيد ابن عمِّ السلطان وحيد الدين من بلدة نيس التي يُقِيم بها، وأدَّى المبلغ الباقي لأصحاب الحسابات، وهكذا تمكَّن من شحن جثة السلطان إلى دمشق؛ حيث دُفِنت في التكية السليمانية.
ومن هنا يعلم القارئ أن السلطان وحيد الدين كان خالي الوِفاض، وأنه لو كان خائنًا لأمَّته كما يتشدق بعض الناس الذين يهرفون بما لا يعرفون، وكان خادمًا لأغراض إنجلترة كما يزعمون لكانت إنجلترة تقوم بنفقاته وتكفي أهله تلك الإهانة التي وقعت بإبقاء جثته رهينة مدة ثلاثة أسابيع على حسابات دكاكين سان ريمو.
ومما تحقَّقته والحال تؤيِّده أنه لما برح السلطان وحيد الدين الآستانة، وكان الذي في يده من المال نَزْرًا لا يكفيه أن يعيش سلطانًا، بل لا يكفيه أن يعيش كسائر الناس مدَّة طويلة مَكْفيًّا قُوت يومه، أشار عليه بعض أعوانه بقوله: إنك تقدر أن تأخذ بعض قِطَع من جواهر التاج المحفوظة في خزانة سراي طوبقبو، والتي فيها من النفائس ما يقوم بعدَّة ملايين من الجنيهات، وأنت معذور في ذلك حتى تتمكَّن من معيشتك في الغربة بالمقدار الضروري. فقال له السلطان وحيد الدين: «ابن بويله خرسزلق ياﭘمم.» أي لست أنا مَنْ يرتكب هذه السرقة، وهذه الرواية مُؤيَّدة بواقع الحال؛ إذ لو شاء السلطان وقتئذٍ أن يأخذ شيئًا من تلك النفائس ما كان أحد يقدر أن يمنعه، ولكنه أبى لنفسه أن يلوِّثها بفعلةٍ كهذه؛ «والحرُّ حرٌّ ولو مسَّه الضرُّ.» وكلٌّ يذكر أن إحدى نسائه جاءت إلى مصر وبلغ منها الفقر مبلغًا أن قذفت بنفسها في النيل لتخلص من هذه الحياة، وأن أناسًا أدركوها فانتشلوها ووُضِعت في المستشفى.
ومن قصائد شوقي البديعة ما خاطب به أمَّ الخديوي السابق التي كان يُقال لها أمُّ المُحسنِين بعد نهضتها تلك في حرب طرابلس الغرب:
ثم يقول:
يقول لها وهي راجعة من الآستانة إلى مصر لتتحدث عن حال الآستانة، وهنا تكلَّم في السلطان وحيد الدين بما كان وقتئذٍ شائعًا ورائجًا من أنه خان أمَّته ومالأ الإنجليز عليها، وما أشبه ذلك من الأقاويل التي كان يذيعها الكماليون وكانت تُنشَر في الخلق، وتجد هوًى في نفوسهم لشدَّة ما عانى أهل مصر وأهل الشرق أجمع من ظُلْم الإنجليز، وما وقر في قلوب الناس من بُغْضهم.
وحقيقة الحال هي ما ذكرناه من كون السلطان محمد السادس إنما غلب عليه الخوف واعتقاد أنه إن خالف الإنجليز لم ينفعْه نصيرٌ في العالم، وقد يخرجونه من الآستانة ويعيدونها إلى الأروام. ومَنْ كان في ذلك الوقت يعتقد أن الإنجليز سيبرحون الآستانة أو أن الحركة الوطنية في الأناضول ستئول إلى نجاح؟ بل رجال تلك الحركة أنفسهم كانوا يقولون إنهم لا يريدون أن يسلموا تركيا بثمن بخس؛ أي إنهم لا يأملون الفوز لكنهم يريدون ألَّا تذهب بلادهم رخيصة، وهناك أمور نحب أن تبقى مطويَّة على غرِّها وأسماء أشخاص هم على رأس تركيا اليوم كانوا قطعوا الأمل من استقلالها إلى حدِّ أنهم أجمعوا على وجوب جعلها تحت انتداب إحدى الدول العظام، لكنهم اختلفوا في الدولة التي يجب أن تكون مُنتدَبة عليها؛ فبعضهم أشار بإنجلترة والآخرون أشاروا بأميركا، وتُوجَد وثائق خطِّية تُثْبِت كَوْن هؤلاء الذين يُديرُون تركيا اليوم لا غيرهم قد وصل بهم اليأس إلى أن أشاروا بجعل تركيا تحت انتداب إحدى الدول العظام، وهي تلك المملكة التي كانت بالأمس إحدى الدول السبع العظام اللواتي إليها الحلُّ والعَقْد في العالم، فلا نعلم بعد هذا وجه التشدُّق والتنطُّق في حقِّ السلطان وحيد الدين وتخصيصه باليأس دون سواه وقد كانوا بأجمعهم يائسين.
يرى القارئ أننا في التعليق على قصائد شوقي التاريخية لم نستنكف أن نعرِّج على التاريخ ولو بصورة مُجمَلة أو بإشارات خفيفة؛ وذلك لأن الشعر التاريخي يحتاج أحيانًا إلى تفسير يقوِّيه ويجلِّي بداعة نكته. ومع هذا فلو شئنا أن نتوسَّع في هذه المواضع التي طَرَقها شوقي في شعره لاستهدف لنا غَرَضٌ لا ينتهي وعرضت تفاصيلُ لا تنقضي، ونحن كل ما أردناه إنما هو الإتيان بالمختار والسائر على ألسن الناس من شعر شوقي، وما نراه نحن من شعره منيفًا على غيره، فإن للناس أذواقًا مختلفة وقد يرى الواحد ما لا يرى الآخر، وفي عرض هذه الشواهد قد تعنُّ لنا ملاحظة فنُبْدِيها على غير اطْرادٍ، وبدون أن نتَّخِذ ذلك قاعدةً، وبدون أن نخوض في نحْوٍ ولغة وبيان وبديع وعروض إلَّا ما عرض اتفاقًا، فليس ما علقناه على هذه الشواهد من شعر أمير الشعراء شرحًا ولا تفسيرًا؛ إذ لو توخَّينا ذلك لطال بنا الأمر وخرجنا عن الخطة التي ترسَّمناها في عملنا هذا الذي هو عبارة عن عهد بين صديقين وذمَّة بين أخوين.
وإني لأخجل من نفسي إذا رأيتني قصَّرت فيما يجب عليَّ نحو شوقي بعد وفاته، وإنِّي لأتخيَّل شوقي — وهو الذي يقول كما جاء في جريدة كوكب الشرق: إني أحد أصحابه الثلاثة الذين لا يعزُّ أحدًا عليهم — قد نظر إليَّ من برزخه وأطلَّ عليَّ من نافذة الغيب وحدَّق بي بعيونه تلك التي كان يقول فيها صديقنا الشيخ علي الليثي: «محاجر مسكٍ ركبت فوق زئبق.» وقال لي: أهكذا ضمنتني يا أخي بعد وفاتي؟ وإنه في تلك الساعة قد ينشدني قول أبي العتاهية:
فأبدأ أجيبه قائلًا: لو نسي عهدَك الأولون والآخرون لما خَفَرْتُ لك عهدًا ولا مذَّقت لك وُدًّا، وإنك في الغيب عندي لكما في المشهد، وأنت تعلم أنها صداقة أربعين سنة تساقينا كئوسها صفوًا بدون قذى وتبادلنا رياحينها عفوًا بدون أذًى.
فإن أظمأ عهدك النسيان فلي مدامع ترويه، وإن شطَّت بشعرك النَّوَى فإن الدهر كلَّه يرويه، وإنه وإن بكاك الناس حبًّا بالأدب ورحمة للسان العرب، فإني لأبكيك بصفتين: صفة الأديب البرِّ بلغته الغيور على صناعته، وصفة الأخ الضَّنِين بأخوته الحريص على مروءته، فأنا في مقدمة من لك من الإخوان والأتراب الذين يبكون فضلك ويذكرون عهدك إلى أن يُوارَوا في التراب.
إلى مولاي وصديقي الكريم الأمير شكيب أرسلان.
فسلامًا يا أخي ومولاي ونور عيوني وتحيَّة طيبة، والله أسأل أن يجعلنا أخوين في عالم الغيب كما كنَّا في عالم الشهادة، ولا يجعلها بيننا آخر معهد.
ومن رقيق شعر شوقي:
وله من قصيدة إلى الجناب الخديوي:
ومن شعره في الخديوي:
كلُّ مَن يقرأ هذه الأبيات يلحظ أن شوقي أراد به معارضة محمود سامي في قصيدته البائية التي يقول فيها:
وقد عارض محمود سامي بقصيدته هذه قصيدة الشريف الرضي التي أولها:
ومع جلالة قدر الشريف الرضي وعلوِّ كعبه في الشعر وفحولة لغته التي ينزع بها عرق الهاشمية الكريم ومجدها الصميم، لا يقدر أحدٌ أن يقول إن البارودي قصر عن الرضي في شيء بل ربما أناف عليه، ولمثل قصيدة البارودي هذه وأشباهها صرَّحت بأنه سيد الشعراء في وقته وقلت في رثائه:
ولا شك أن شوقي لا يرقى في الجزالة وعلوِّ النفس إلى هذه السماء، ولكن له أسلوب آخر كما تقدَّم الكلام عليه طابعه السلاسة ومزيته الرقَّة، وانظر الآن إلى قوله:
وهنا أراد شوقي أيضًا أن يعارض محمود سامي فيما بقي من قصيدته البائيَّة التي أوردنا ما أوردنا منها، وفي قصيدة رائية يتكلَّم بها عن الحمام.
وإليك ما قال محمود سامي في قصيدته البائية هذه ممَّا تعلم منه أن شوقيًّا أراد أن يجري مَجْراه، ولكنه جرى ضمن أسلوبه وعلى شاكلة لغته، قال محمود سامي:
ما مررت في حياتي بجملة أعلى في درجة البلاغة وأبدع في التصوير من قوله «وللكرى خباء بأهداب الجفون مُطنَّب.» وكيف لا يكون شاعر الأولين والآخرين من يغزي هذا الغزيَّ؟ ثم يقول:
لا جرم أن هذه هي الفصاحة التي تأخذ بمجامع اللبِّ، وتفكُّ أغلال القلب، والتي من أجلها قال مصطفى صادق الرافعي، إن شعر محمود سامي هو الذي بعث الشعر في الناس وأنجب لمصر مثل حافظ وشوقي.
فأما ما عارض به شوقي محمود سامي من وصف الحمام فهو يشير إلى رائية محمود سامي التي عارض بها أبا نواس عندما مدح الخصيب أمير مصر، قال أبو نواس:
فقال محمود سامي:
إلى أن يقول:
وقد كان أبو نواس خرج من بغداد قاصدًا مصر ليمدح أبا نصر الخصيب بن عبد الحميد صاحب ديوان الخراج بها، فأنشده القصيدة وذكر المنازل التي مرَّ عليها في طريقه، وهي من أزكى ما أثْمَر الشعر العربي ومن مشهور أبياتها:
ومنها:
ثم يقول:
ويُقال إن أبا نواس لما عاد إلى بغداد مدح الخليفة فقال له: وأي شيء تقول فينا وقد قلت في بعض نوابنا:
فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه وأنشد:
هكذا روى ابن خلكان في وفيات الأعيان وقد روى ابن خلكان أيضًا معارضة لهذه القصيدة النواسية لأبي عمرو بن محمد بن دراج القسطلي الأندلسي كاتب المنصور بن أبي عامر وشاعره، وهذه المعارضة هي من غرر الشعر ومن أبدع أمثلة الأدب العربي، قال ابن دراج:
ومنها في وصف وداعه لزوجته وولده الصغير:
وأحسن ما في هذه القصيدة قوله في علوِّ الهمَّة:
وقوله في وصف الطفل وقد فارقه أبوه وهو في سريره، وكلُّنا قد عرف لَوْعة هذا الفراق:
وممَّا استولى فيه على الأمد وصفه مشاقَّ السفر وقطع الفيافي في حرِّ الهواجر وذلك عند قوله:
… إلخ.
فقصيدة ابن دراج القسطلي تصحُّ أن تكون ضَرَّة لقصيدة أبي نواس وإن كان في شعر ابن دراج شيء من الصنعة، وكان شعر أبي نواس أقرب إلى الطبيعة، وكلٌّ منهما في نظري ليست أبرع ولا آنق ولا ألعب بالألباب من قصيدة البارودي التي فيها من النسيب واللهو والشراب ووصف الحمائم إلى الفخر إلى الحماسة ما ليس وراءه لمُتطلِّع.
ولمحمود سامي جولة أخرى في وصف الحمام في القصيدة التي بعث بها إليَّ من سيلان؛ إذ فيها يقول:
فأنت ترى إذا أنعمت النظر في أبيات محمود سامي التي يصف بها الحمام، ثم كرَّرت بنظرك على أبيات شوقي من عند قوله:
إن شوقي أراد أن يُعارِض شيخ الشعراء في وقته، وإن كلًّا منهما قد بلغ شأْوَ الإجادة ضمن دائرة ديباجته.
وهذه القصيدة البائيَّة لشوقي هي من عيون قصائده، وهي التي فيها يقول:
أليس هذا هو البيت الذي سار مسير القمر، وصار حديث السمر، وأصبح مثلًا مضروبًا يُسْتشهَد به كلَّ يوم، ويدور على ألسن العوامِّ فضلًا عن الخواصِّ، فلو لم يكن لشوقي غيره لأخلده، ومن أرقِّ أغزال شوقي:
وأيضًا:
(١) دفع اعتراض
ربما يعترض بعض القرَّاء على سردي هذه الأماثيل من شعر شوقي من دون أن أعلِّق عليها ما يعنُّ لي فيها، وما أجد من محلِّ اعتراض أو من مكان إعجاب، والجواب أني لو شئت أن أردف كلَّ بيت بما يبدو لي فيه لاستغرق ذلك أجلادًا، والحال أننا من البدء ما قصدنا شرح شعر شوقي ولا التعليق عليه بما يبدو لنا في كلِّ بيت منه، وإنما هي رسالة توخَّيْنا فيها تجديد ذكرى شاعرٍ كبير وتسجيل علاقاتنا مع أخٍ قديم إنجازًا لوعد قطعناه على نفسنا يوم فُجِعنا به، والإخاء إخاء في الحياة وبعد الممات، وعلى اللاحق أن يحفظ عهد السابق، وأراني قد أشفقت على عهد شوقي أن يُنسَى، وتخيَّلْت روحه من وراء الغيب تنشدني:
ولما كانت ذكرى شاعر كبير لا بدَّ من أن تُسدَى وتلحم بالشعر، فقد أوردنا ما أوردناه من الشواهد لا على سبيل شرح ولا على نيَّة تفسير، ولكن إن خطرت في بالِنا جملة أرسلناها عفوًا أو عدَّت ملاحظة يروق الأدباء قَيْدها لم نجمجم بها، وسنتبع هذه الطريقة إلى الآخر.
رأي للمؤلف
فأما أسلوب التحليل الذي درج عليه بعض أدباء هذه الحقبة الأخيرة من هذا العصر يذهبون فيه مذاهب الإفرنج لا في المعنى فقط بل باللفظ تقريبًا، ويُورِد الواحد منهم البيت فيأخذ بتشريحه من وجهه ومن قفاه ومن أسفله ومن أعلاه، ويشير إلى ما هنا من عاطفة جريئة، وما هناك من ابتسامة بريئة، ويستعمل في الوصف تلك الألفاظ الأوروبية التي ليس فيها من العربي إلَّا الحروف، بحيث إن كثيرًا من العرب لا يفهمون منها قليلًا ولا كثيرًا فلسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير. وإننا لا نحب أن نخلط العربي بالأعجمي ولا أن نخاطب العرب إلَّا بما يعقلون ويشعرون وما تسيغه أذواقهم، فإن لكلِّ أمَّة أدبًا ولكلِّ قوم مَشْربًا، وإن الخلط بين شعبان ورمضان إظهارًا لسعة العلم وتزيُّدًا بما ليس من مقتضى الواقع ليس بطريقتنا، وإننا نؤثر على ذلك أن نكتب مثل هذه الفصول التحليليَّة بلغة أوروبية رأسًا كما يفعل المستشرقون الأوروبيون إذا أخذوا كتابًا عربيًّا فشرعوا في تحليله، نعم نؤثر الكتابة بلغة أوروبية في هذا الموضوع على أن نباشر هذا التحليل بجمل أوروبية في حروف عربية يمشي فيها القارئ مرحلة وكأنه واقف مكانه لعدم ألفته بهذه الألفاظ المترجمة وبهذه الأعلام التي هي غريبة عن قومه.
فالذي يحمل نفسه على قراءة هذه التحليلات التي نحاول أن نجري فيها مَجْرى كتَّاب الأوروبيين تراه أبدًا يشرب ولا يرتوي. ومن الناس مَنْ يظن عدم عقله لها ناشئًا عن مجرد جَهْله والحقيقة ليست كذلك بل إنها من باب وضع الشيء في غير محلِّه، لا بأس في الأحايين في أن يُورِد الكاتب في تحليله لبيت من شاعر عربي معنًى قد توارد عليه مع شاعر أجنبي أو ملاحظة ظهر فيها شيء من الموافقات أو المفارقات بين أدبِنا وأدبهم، فأما اتخاذ هذا الأسلوب دأبًا ودَيْدنًا كلَّما أردنا أن نَصَف بيتًا لطرفة بن العبد أو قصيدة للأعشى لزمنا أن نفحم فيها فيكتور هوغو وألفرد ديموسيه ولامارتين وغوته وشكسبير، وأن نكثر على قرَّاء العرب من سَرْد أعلام لا يعلمون عنها شيئًا تقريبًا، فهذا تنطُّع بالفارغ وتحذْلُق غير سائغ والأوْلَى بنا أن نراعي قبل كلِّ شيء الذوقَ العربي، وأن نستشهد بأدباء العرب ونعلم أنه كما كان العربي يعاف طعام الأمم الأجنبية وشرابهم، فإنه لا يتسوغ بالسهولة أشعارهم وآدابهم، وليس الشعر والأدب ميكانيكيات ومواد، يستوي فيها العربي والعجمي، وقد فات الناس أن الشعر هو شيء والعلم شيء آخر، فلو فكَّروا مليًّا في هذا الأمر لأراحوا أنفسهم مما يعانونه هم ويعانيه قرَّاؤهم معهم.
(٢) عود إلى غرر شوقي
ومن غزل شوقي — عفا الله عنه:
ومن مرقص أشعار شوقي قصيدة في الخديوي منها:
ومن قصائده فيه:
ومنها:
(٣) استطراد ورأي في المديح
ولقائل أن يقول: ما هذه إلَّا أمداح فارغة، ومنازع قديمة أشبه بمنازع الشعراء الذين كانوا ينتجعون الملوك طمعًا في الجائزة، وقد كان الألْيَق أن يضع براعته؛ حيث يضع الناس عقيدتهم لا حيث يرجو هو منزلة سامية ونعمة هامية، فإن هذه محاولات شخصيَّة لا تفيد وطنًا ولا تؤيِّد قومًا إلى غير ذلك ممَّا طالما أخذوه على شوقي وعلى غيره من شعراء الملوك، ولقد قدَّمنا في هذا الباب ما فيه مقنع؛ وهو أن شعراءنا لم يفارقوا الطريقة القديمة التي معناها أن الشاعر يجود على الملك بنفائس أدبه ليجود عليه الملك بنفائس نَشَبه أو ليحلَّه محلَّ القُرْب والتقديم ويبلغ به آمالًا ويرفه حالًا. وسواء كانت هذه الطريقة قديمة أو حديثة فالشاعر في هذا الموطن لا يفترق عن غيره من البشر الذين كلٌّ منهم يرتاد لمعيشته وينتجع لسدِّ مفاقره، وما زالت أعمال الناس أجمع شباكًا تُلقَى في بحر الوجود ليصطاد بها الإنسان ما يقسم له حظُّه، وإن القول هو من جملة الشباك التي تُنال بها الحظوظ، وقد قال أبو بكر الخوارزمي: لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتَّان بين من اقتنص وحشيًّا بحبالته وبين من اقتنص إنسيًّا بمقالته.
ولعمري لا غضاضة على مَنْ حاول مثل هذا الاقتناص إذا لم يشب ذلك بالسعاية والوشاية والإضرار بالناس وجعل الباطل حقًّا والحقَّ باطلًا، فما نهى الله الإنسان عن الكدح لأجل معيشته، ولكنه نهى عن إتيانه هذا الباب عن طريق الباطل وبالوسائل غير المشروعة.
وأيضًا فإن الشاعر لا يزال يلتمس موضعًا يشحذ فيه غرار قريحته ومجالًا يركض فيه جواد ملكته، فلا يجد لذلك خيرًا من خطاب الملوك الذين إن لم يستحق الواحد منهم كلَّ هذه المدائح بمحاسن خلاله وجلائل أعماله، فقد استحقَّها بالمقام الذي يشغله على رأس الأمَّة، فتعظيم الملك هو تعظيم الأمَّة التي هو مَلِكٌ عليها، وتعزيز المقام إنما يكون بتعزيز المُقِيم.
ولقد ذكرنا فيما تقدَّم أن استيلاء الأجانب على أكثر بلاد الإسلام واستئثارهم بالأمر والنهي والقطع والوصل وتركهم ملوك المسلمين عبارة عن أشباح ماثلة حَمَلَ كثيرًا من مفكِّري الإسلام، إشفاقًا على ملكهم وضنًّا بدُوَلهم، أن يتقرَّبوا من ملوكهم وأمرائهم الذين يرون فيهم رمز السلطان القديم وبقية الاستقلال السابق، وأن يُشِيدوا بذكرهم ويهتفوا بمبايعتهم في وجه الأجانب، وإنهم لما فاتهم الفعل فزعوا إلى القول يذكرون به أقوامهم، وكأنهم يقولون لهم إن هذا هو سلطانكم الشرعي الذي يجب أن تجتمعوا حوله وتستردُّوا به الحقوق المغصوبة، وأنَّ الحقَّ حقٌّ لا يذهب باعتداء الأجانب ولا بما يطرأ من الغير، فهم يحاولون إحياء فكرة الاستقلال في صدور الأمَّة وتلقينها أن ما هي عليه من الخنوع للأجنبي إنما هي حالة مؤقتة، وأن الأمر لا بدَّ أن يعود إلى نِصابه. وبالجملة فهذا ضرب من ضروب الدفاع عن الوطن، ولون من ألوان الاحتجاج على احتلال الغريب للبلاد.
(٤) من معارضات شوقي
ولشوقي قصيدة في الخديوي يعارِض فيها قصيدة البحتري الرائية في المُتوكِّل على الله العباسي، قال شوقي:
فشوقي عندما كان يقول هذه القصيدة الرائيَّة كان كأنه ينظر إلى قول أبي عبادة:
ثم تخلَّص شوقي من النسيب إلى المديح اقتضابًا على طريقة البحتري، فإنه بينما كان ينسب ويقول: وحشًى تموج به الضلوع ويظهر، إذا به خاطب الممدوح فقال:
ثم يقول:
ثم يقول:
وكذلك البحتري بينما يقول:
إذا به انتقل إلى المديح اقتضابًا فقال:
وكان شوقي يهنِّئ الخديوي بعيد مولده، فقال:
والبحتري كان يهنِّئ المتوكِّل بعيد الفطر، فهو يقول:
ووصف البحتري موكب الخليفة وكان هذا من الأوصاف التي لا تزال تُعَدُّ من غرر الشعر، وتُحصَى من منتخبات الشعراء، قال:
فعارض شوقي أبا عبادة البحتري في وصف الموكب، فقال:
من قرأ القصيدتين البحترية والشوقية لم يتردَّد في أن يقول إن القديم طبْعٌ والجديد تطبُّع، وأن الأول توليد وأن الآخر تقليد، ولكن لو تأمَّل المتأمِّل وكان بصيرًا بشعر الجاهليَّة والمُخضرَمين والمُولَّدين لعلم أن البحتري والمتنبي وأبا تمام وأولئك الفحول لم ينطبعوا إلَّا على غرار مَنْ تقدَّمهم، فإن القراءة تستقر في الذهن وإن القوالب ترسخ في الطبع فتهتف بمثلها سليقة الشاعر، وقد يكون لا يتذكرها ولا يتعمَّد محاكاتها ولا يحسب أنها من محفوظه فيظنُّ مَنْ لا بصيرةَ له أن هذا الشاعر قد سرق من ذلك الشاعر الذي تقدَّمه، وهو في هذا الحكم ظالِمٌ متعسِّف أو جاهل لا يعرف؛ لأنه ليس كلُّ مَنْ جاء في كلامه شيء مُتوارِد مع كلامٍ آخر يجب أن نعدَّه سارقًا، وقد كنت أروي مرة قصيدة محمود سامي التي سبق إيرادنا منها، وهي التي يُعارِض فيها رائيَّة أبي نواس في الخصيب، وذلك أمام رجل من الأدباء رواة الشعر الجيد، فلما وصلت إلى قول محمود سامي:
قال لي ذلك الأديب: إن هذا لمن قوله:
فقلت له: إذا كنت تلتزم هذا المذهب فلا يبقى شاعِر إلَّا وهو سارق ولا يلبث فوق الغربال لا متنبي ولا بحتري ولا غيرهما، فإن هذه المشابهات قد وجدناها بين كلامهم وكلام الجاهليين والمتقدمين في مواضع كثيرة، وماذا تقول في قول امرئ القيس:
ثم قول طرفة بن العبد:
فالبيتان بيت واحد لا يختلفان إلَّا في لفظتي «تجمل» و«تجلد» وكلتاهما بمعنًى واحد والحال أن الشاعرين كلٌّ منهما فَحْل لا يحتاج أن يستعير من الآخر وكلاهما بحْرٌ لا تنزحه الدِّلاء.
ولشوقي من جيِّد الغزل أبيات تخلَّص منها إلى مديح الخديوي، وهي هذه:
ومن الغزل الذي تخلَّص به إلى المديح قوله:
ومن القصائد المرقصة ما قاله في المرحوم الخديوي مهنِّئًا له بعيد الأضحى:
ومنها:
مَنْ تأمَّل في شعر شوقي في اقتباله لا يجده نازلًا عن شعره بعد اكتهاله، بل تجد الشاعرية فيه أقوى وأظهر في مبدأ أمره وريعان شبابه، وتأمَّل في هذه القصيدة فهي من المرقص المطرب المؤنق المعجب، وما أنس لا أنس أني عندما قرأتها ترنَّح لها عطفي طربًا وقلت: قد نال شوقي شأْوَ القوافي وبذَّ الفحول. وقد مضى على هذه القصيدة أربع وأربعون سنة وما برحت أتذكَّر وقْعَها في نفسي كأن ذلك من حوادث أمس. ولا جرم أن الذكرى التي تمضي عليها هذه المدة الطويلة ولا تزال غضة طرية لا تكون إلَّا على أثر وقع عظيم في النفس.
وله مهنِّئًا الخديوي بالوسام العثماني المُرصَّع:
ومنها:
ومنها:
وبمناسبة قوله: «جوهرًا إلى البحر يحمل.» تذكَّرت بيتًا انتقدته على الشاعر الأديب الشيخ خليل اليازجي، فقد كان نَظَمَ رواية اسمها «المروءة والوفاء» وجعلها تقدمة لأخيه الأستاذ الكبير اللغوي الشهير الشيخ إبراهيم اليازجي، ولكنَّه استهلَّ التقدمة بهذا البيت:
وكنت أنا لذلك العهد في المدرسة لم أتجاوز الرابعة عشرة من العمر، ولكني كنت بدأت بالنظم وكانت جرائد بيروت تنشر من شعري، وهذا مصدق وهذا مكذب، ومن الناس مَنْ يقول: لا يمكن أن ناشئًا في هذه السن الحديثة يفري هذا الفري، وما زالت الشبهة تعترض حتى كثر النظم وتواترت الأدلة فزالت الريبة وانقلعت الشبهة ولم يمضِ مدة ثلاث سنوات حتى كان لي ديوان اسمه «الباكورة» جعلته تقدمة للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكان إذ ذاك في بيروت وجعلت قصيدة التقدمة من ذلك البحر وتلك القافية.
إهداء الباكورة
لحضرة العالم العامل الفيلسوف الكامل واسطة عقد الحكماء ودرَّة تاج البلغاء.
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده المصري أيَّده الله تعالى:
(٥) عَوْد إلى شوقي
وقد كنتُ يوم نظَمْتُ هذه القصيدة في السادسة عشرة من العمر.
ونعود إلى شوقي فنرى في هذه القصيدة اللَّامية ما يدلُّ على أنه لم يمدح الخديو مجانًا، وأنه ما أصاب تلك النعماء الوارِفة إلَّا بما سيَّر من المدائح في الجناب الخديوي، وأنه حامَ فوَرَدَ، وغنَّى فأطْرَب، ورقَّح معيشته بفَيْض قَرِيحته، وكان إذا أغضى الخديو على خَلته، بفتح الخاء، ولم يجدها قذى عينيه لم يهمل أن استرعاه النظر إليها على طريقة المتنبي، ففي هذه القصيدة يقول شوقي:
ومن قصائد شوقي الخديوية قصيدة يقول فيها:
سيَعِيبُ علماء اللغة قولَه: «الأميال» فالأميال هي جمع مِيل بكسر الميم لا جمع مَيل بفتحها؛ وذلك لأن المصادر على فَعل بالفتح لا تُجمَع على أفعال؛ ولذلك تجد الكتاب عدَلُوا إلى لفظة «ميول» تخلُّصًا من هذا المحظور. وما وجدت في الكلام العربي القديم لفظة «ميول» ولكن القياس يُوجِبها.
ومن هذه القصيدة قوله:
ويظهر أنه لما نظم هذه القصيدة كان الممدوح في المقيم المقعد مع بعض الأحزاب في مصر، فإنه يقول:
وله في الخديوي قصيدة ميميَّة من بحر السريع أراه يُعارِض بها محمود سامي في قصيدة من البحر والقافية، ومطلع قصيدة شوقي:
ومنها:
فأما قصيدة محمود سامي فليست في ديوانه المطبوع؛ لأن الجزء الثاني انتهى بحرف اللام، ولم أعلم أنهم طبعوا جزءًا ثالثًا، وإنما يجد الإنسان هذه القصيدة في «الوسيلة الأدبية» للمرصفي، وهي ليست تحت يدي في هذه الساعة، ولا أزال أتذكَّر من قصيدة البارودي هذه بيتين في مُنتَهى البداعة:
ولشوقي في الجناب الخديوي:
ومنها ما رمى به شوقي أبعد شأو المرتمي في الفخر والبأو، وقد جازَ هنا الحدَّ الذي اقتنع به في قصيدته الداليَّة التي سبق الاستشهادُ ببعض أبياتها:
فإنه في هذه القصيدة الميميَّة يقول:
البَذَخ مُحرَّكة هو المجد، ثم يقول:
جعل شعره فوق النيِّرات ومع هذا فهي من دون سدَّة الممدوح، ثم يقول:
ثم يقول:
ولا شكَّ أنه يشير إلى ما كان يقع بين الممدوح وبين الأحزاب في مصر من التضادِّ والتشادِّ، وأي بلاد لا تُصابُ بمثل هذه الفتن؟ وشوقي على كلِّ حال شاعر الأمير لا يفتأ ينضح عنه بشعره، وربما كان لسانُه أرَدَّ عن ممدوحه من جيشٍ، وأمضى من سيف، فإن يكن الخديو قد أغرق شوقي بالإنعام والإحسان فقد أثنى شوقي عليه ثناء حسَّان على غسَّان؛ ففاز كلٌّ منهما بطلْبته، فلم يكن شوقي إذن على مذهب محمود سامي الذي يقول:
نعم لم يكن محمود سامي لِينظمَ إلَّا في الغزل والنسيب والفخر والحماسة ووصف الوقائع والحكم والمواعظ والرثاء والإخوانيات والزهديات والطرديات، وغير ذلك من مقامات الشعر المُختلِفة حاشا المديح؛ فقد كان يتجنَّبه ما أمكن، وإذا مدح فإنما يمتدح مَنْ كان مِن أقرانه أو إخوانه، ولم أجِدْ له مديحًا لكبيرٍ إلَّا الخديو إسماعيل يوم جلس على أريكة مصر، وكان ذلك سنة ١٢٧٩؛ أي أيَّام كان محمود سامي في ريعان شبابه، ورأيت له في ديوانه أبياتًا امتدح بها الخديو السابق بعد رجوعه من سرنديب، وكذلك قصيدة في تهنئة الخديو توفيق بالجلوس على الأريكة الخديويَّة سنة ١٢٩٧ فشعر البارودي في المديح لا يكاد يُذكَر وهو في جانب ديوانه ثمد في جانب بحر، وقد وصف البارودي الشعر في إحدى قصائده فقال:
فأنت ترى أن البارودي وإن لم يكن مدَّاحًا بنفسه، ولم يقع منه مديحٌ إلَّا في الندرة وغير مكتسِبٍ مالًا ولا جاهًا كان في غنًى عنهما؛ فإنه يعترف بكون الشِّعْر يرفع ويضَعُ، ويسِمُ ويصِمُ، ويخلِّد المآثر ويقيِّد المآثِم، ويقول كم وطَّد الشعر أركان ملكٍ وذلَّل أعراف مجْدٍ، وليَّن أعطافَ سعدٍ وقرَّب غايات جدٍّ، وأخرت كلمةٌ منه قومًا، وهزَّت عَرْشًا، وحسبُك أنه وقع زلزالٌ عظيم بمصر في أيام كافور الإخشيدي فدخل أحد الشعراء على كافور والناس تفرُّ من كلِّ حَدَب إلى الصحراء، فأنشده قصيدةً قال له فيها:
فكان لذلك من حُسْن حظِّ الوقْع على كافور ما أجازه لأجله بصِلَة ولا كالصلات، وقيل إن المتنبي لم ينتجع كافورًا إلَّا بعد سماعه بهذا الخبر. فالبارودي وإن لم يذهب هو هذا المذهب، ولا كان له فيه مَأْرَب لم يقدر أن يُنْكِر مكان الشعر من الاجتماع ولا تأثيره في الاتِّضاع والارتفاع، ولا تخليده للذِّكْر، ولا تسجيله للفتكة البكر. ونعود إلى شوقي فنقول: من جملة قصائده في الخديو قصيدةٌ يقول في مطلعها:
ومنه خطابًا للممدوح:
إن من وجوه الشبه بين شوقي والمتنبِّي أنَّك لا تكاد تقرأ قصيدةً لكلٍّ منهما مهما ضربت في وادٍ من أودية قَوْلِهما إلَّا وجدتَ بها حِكَمًا جاريةً مَجْرى الأمثال، ومَن انطوى على شيء فاضَ على لسانه في كلِّ موقف.
ولشوقي في الخديوي تهنِئة شهر الصيام وإهداء السلطان عبد الحميد له قصر ببك في الآستانة، وهي قصيدة اسْتَهلَّها بقوله:
ومنها:
ومنها:
يشير إلى الخورنق والسدير من قصور النعمان بن المنذر، ثم يقول:
لا يجهل شوقي مكان شعرِه من الخليفة والخديو واحتياج العروش إلى الشعراء يحمون حَوْزةَ الملك بأقلامهم احتياجهم إلى القوَّاد يحمونها بسيوفهم، أفلا تراه يقول في أبياتٍ سبقت:
كأنه يقول للخديو: إنك وقد ملَكْتَ فمي فقد قُدْتَ جَحْفلًا جرَّارًا، ثم يقول إنه قائم في جانب الخلافة مقام حسَّان بن ثابت في جانب الرسالة. فشوقي يشعر بغناء الشعر في جانب الملك، وكأنَّه يخشى أن يغفل ممدوحه عن هذه الحقيقة فهو يذكره بها، وله من قصيدة في الخديوي تتضمَّن أبياتًا رَشِيقة في وصف استقباله وقد عاد من الإسكندرية إلى مصر:
(٦) شعر شوقي في الرثاء
ولْنَخْتم بهذا الذي أوردناه باب المديح من الشوقيات، ولْنأتِ ببعض الأمثلة من المراثي، وأولها مرثيَّة شوقي للمرحوم الخديو توفيق، التي تتضمَّن أيضًا تهنئة الخديو السابق على تولِّيه منصب أبيه قال:
ومنها خطابًا للمرحوم:
ومنها:
ثم يقول:
وهنا الدليل من أدلةٍ لا تُحصَى على استمساك شوقي من الأول إلى الآخر بالجامعة الإسلامية، تجد هذه الروح فائضة من شعره مُنبثَّة في جميع جوارحه بحيث قد قيل بحقٍّ إنه شاعر الإسلام والمسلمين، وقد مضى إلى ربِّه وهذه الخدمة التي لم يتخلَّف عنها دقيقة واحدة من عمره؛ نورٌ يسعى بين يديه.
ومن مراثي شوقي الشهيرة قصيدته في إسماعيل باشا الخديو الأسبق، وهي التي يقول فيها:
ومنها:
ومنها:
ثم يقول:
وفيها يصف وفْدَ الملوك يوم فتح ترعة السويس:
يظهر أن شوقي هو ممَّن يُجِيز استعمال «تبدَّى» بمعنى بدا أي ظهر؛ إذ لا يخفى وقوع الاختلاف فيه، ومِن الناس مَنْ يذهب إلى أن تبدَّى لا تُفِيد إلَّا معنى الدخول في البداوة، ثم يقول:
ثم يشير إلى الواقعة التي وقعت بين مصر والحبشة وإلى تمحيص الجيش المصري فيها فيقول:
نعم هذا حال الناس مع الزمان يدورون حيث دار، ثم يقول:
إن تأكيد المفعول المطلق يصحُّ في الحقيقة لا في المجاز كما هي القاعدة؛ أي يُقال: سال السحاب سَيْلًا؛ لأنه حقيقي، ولا يجوز أن يُقال: سالَ كرَمُ حاتِم سَيْلًا؛ لأنه مجاز، غير أنِّي لا أرى هذه القاعدة مرعيَّة عند الشعراء من القديم.
ثم يقول:
فشوقي كان لا ينسى «الحفيد المُفدَّى» كيفما انقلب؛ إذ هو شاعره، والذي يريد شوقي أن يُدِيرَ الكلام كلَّه عليه وإن انحرف عنه يَمْنة أو يَسْرة فلكي يرجعه إليه.
ومن أحسن ما نظم شوقي في الرِّثاء قوله عند وفاة والده علي بك شوقي:
وهذا من أعلى الفلسفة، وقد يُقال إن هذا معروف ليس فيه معنًى مُبتكَر، والجواب على ذلك أن أفصح الكلام هو ما تضمَّن المعنى المعروف لا المعنى الغامض ولكن العِبْرة في القوالب. وأنَّى نجد هذه الحقائق في مثل هذه الرقائق. وبعد أن ذكر كيف كان هو وأبوه واحدًا، ثم صارا اثنين عاد فقال إن هذين الاثنين سيصيران إلى واحد هو ابنه علي:
وهذا أيضًا من أعلى الفلسفة، وممَّا جاء في كتاب الله، قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ، وقال تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، وقال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ، وقال تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا، وقال تعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ … وغير ذلك من الآي العظام في هذا المعنى، وقد فسَّر العلامة الرياضيُّ الفريد الغازي مختار باشا — رحمه الله — في كتابه «سرائر القرآن» هذه الآيات وغيرها بقوله: إن جميع الكون مبنيٌّ على الزوجيَّة، فالعالم الحيواني كلُّه أزواج كما هو ظاهر والعالم النباتي أيضًا لا يختلف عن العالم الحيواني في الزوجيَّة، والجمادات فيها القوتان السلبيَّة والإيجابيَّة من الكهربائية أي فيها الزوج كالحيوانات والنباتات، فالكون كلُّه أبٌ وأمٌّ، ثم قال شوقي:
كأن شوقي يسأل أباه — رحمهما الله — كيف تجرَّع تلك الكأس؟ هل تجرَّعها نفسًا واحدًا أم تجرَّعها أنفاسًا؟ فقد صار الآن يدري ما دراه أبوه، وكلُّ حيٍّ فهو دَارِيها في يومٍ من الأيَّام، ثم قال:
أي جمدت عين أبيه بالموت وجمدت عينُه بكَوْنه أصبح لا يبكي لمصيبةٍ بعد موْت أبيه؛ إذ المصائب كلُّها تَهُون بعد هذا المُصاب. وهذا معنًى طَرَقه الشعراء، فليس بجديد ولي أنا في رثاء صديقي محمود سامي باشا:
وقد كرَّرته في قصيدة حديثة؛ هي رثاء لصديقي الحاج عبد السلام بنونة عميد بلاد الريف بالمغرب:
ثم يقول شوقي:
لعمري هذا هو المشكل الذي أعيى على الثقلين عرفانه ولم يضئ من طريق العقل برهانه، وإنما هو ممَّا أوحى به الدين وحيًا لا يخالف العقل، بل هو يؤيِّده، وقد قال أحد السادة الصوفيَّة: ما رأتْه العيونُ يُنسَب إلى العلم، وما رأتْه القلوب يُنسَب إلى اليقين. وهذا ممَّا تراه القلوبُ لا العيون.
ثم يتساءل شوقي: هل بعد هذه الدنيا اجتماع حتى يجتمع بأبيه؟ وهل هذه هي الحفرة الأخيرة أم يعود فيلد مرة أخرى ويستقبل حفرة ثانية وهلم جرًّا. وقد ذهب الناس من كبير وصغير ودرج الخلائق من أوَّل وأخير وهم في حَسْرة أن يعرفوا من طريق الفكر هذا السرَّ في هذه الحياة الدنيا قبل أن يموتوا فماتوا والحَسْرة في قلوبهم، ثم يرثي جدَّته:
ومراد الشاعر هنا أن الإنسان يُروَّع طول حياته ويقضيها كلَّها في آلامٍ وأهوال، ثم ينتهي منها إلى أعظم البلاء الذي هو الموت.
ولي في هذا المعنى في رثائي للمرحوم أحمد باشا تيمور، وهو تَوارُد خواطر:
ثم أهنِّئ الفقيد بأنه جاز هذه الدنيا إلى حياة لا يروع فيها دائمًا باستقبال الموت، فأقول:
ثم يقول شوقي لجدَّته:
أي إنها لم تكن أمَةً اشتراها النخاس في سوق، ولكن كانت من جملة السَّبْي في الحرب ثم يفصل ذلك:
وتحرير الخبر أنها كانت من جملة سَبْي حرب المورة فهي رومية الجنس، نشأت في الإسلام وهي بنت عشر سنوات، ولم يشأ شوقي أن يجعل للمتنبي وحدَه حصَّة الفخر بجدته، ويجعل لجدَّته حقَّ الفخر به، فالمتنبي يقول في رثاء المرحومة جدَّته:
أي إنها تقدر أن تفتخر بنسب ابنها، ولكن لو فرضنا أنها لم تكن بنت أبٍ كريم لكان يجزيها في مقام الفخر كونها جدَّة أبي الطيب.
وهنا شوقي يقول:
والحاصل أنه أفضى بجميع ما عنده من حُسْن الظنِّ بنفسه رحمه الله، فلولا قليل لبلغ من الفخر مبلغ ابن سناء الملك، ولكن الذي حفَّزه إلى ركوب هذا المركب في رثاء جدَّته هو أن والده الروحي أبا الطيب قد ركب هذا المركب من قبلُ في مثل هذا المقام ولا غَرْوَ أن يحذو الفتى حَذْوَ والده.
ولما كنَّا في باريس أنا وشوقي لأوَّل معارفتنا وكلانا في الثالثة والعشرين من العمر، كان يذكر لي دائمًا محبَّة عبد الرحمن باشا رشدي له، ويطلعني على كتب من هذا الوزير إليه، ولما كنَّا نمرح ونعبث ويقول كلٌّ منَّا للآخر كل شيء يخطر بِبالِه، قال لي مرة: إنه يحب عبد الرحمن باشا رشدي مثل والده، وإنه متى مات سيبادر برثائه فكانت نكتة ضَحِكْنا لها كثيرًا، وقلت له: ما أحسنَ وفاءك! وقد حصل ذلك فعلًا؛ فإن عبد الرحمن باشا رشدي بعد هذا الكلام بسنوات قد مضى إلى رحمة ربِّه، وقد أنجز شوقي وعْدَه برثائه، وقال فيه ما يدلُّ على شدة تعلُّقه به فقال:
فشوقي في رثاء عبد الرحمن رشدي لم ينسَ أن يمدح نفسه أيضًا، ثم يقول:
ورثى فقيدَيِ العلم الوزير على باشا مبارك والطبيب سالم باشا سالم، فقال:
وله رثاء في غاية السلاسة للمرحوم سليمان باشا أباظة قال فيه:
ومنها:
لا شكَّ أن شوقي عندما لفظ اسم سليمان خطر بباله سليمان بن داود، فتذكَّر معه بساط الريح والريح الرخاء، فجاء بهما في البيت، وحوَّلهما إلى معنًى آخر، وهكذا هو الشعر كثرة شجون وانتقال أفكار، وأحسن الناس شعرًا أسرعهم انتقالًا، ثم يقول:
وكان سليمان باشا أباظة من أفاضل مصر لائقًا بهذا الرثاء، وقد تعرَّفت إليه بواسطة أستاذنا الشيخ محمد عبده، وسمرنا عنده ليلة في سنة ١٨٩٠، فرأيت كثيرًا من نُبْله، وسمعت جزيلًا من فضله، ولشوقي رثاءٌ رثَى به سليم بك تقلا مؤسِّس جريدة الأهرام، فقال:
وله رثاء لعلي حيدر باشا يكن:
ثم عزَّى فيها ولده صفر بك، فقال:
ورثى المرحوم أمين باشا فكري، وكان أمين باشا صديقًا للمرحوم إسماعيل باشا صبري فقال يرثي الأول ويعزِّي الثاني:
وكان إسماعيل باشا صبري، كما لا يخفى، من كبار الشعراء ومن حسنات مصر الكبرى، وقد رثى صديقه أمين باشا فكري بقصيدة، أثبتها شوقي في ديوانه تعظيمًا لمقام الراثي والمرثي، فها أنذا أيضًا أقفو أثر شوقي فأنشر رثاء شوقي ورثاء صبري وأعزِّزهما بثالث هو رثائي لأمين باشا، فقد كان صديقي وكان من شبَّان مصر المُشار إليهم بالبَنان، والذين يجدر بمصر وبغيرها من بلاد العرب أن ترْثيَهم وتَبْكيَهم على طول الزمان، قال إسماعيل باشا صبري:
كم تتوارد الخواطر بين الشعراء فإني عندما قرأت هذا البيت تذكَّرت قولي منذ شهر من الزمن لا غير في رثاء صديقي الحاج عبد السلام بنونة:
ثم يقول إسماعيل صبري:
ومنها:
وأما رثاء كاتب هذه السطور للمرحوم أمين باشا فكري، فهو هذا:
وقد وقع مصاب أمين باشا فكري في أيَّام كانت كلُّها مصائب سياسيَّة على مصر؛ من جملتها استيلاء الإنجليز على السودان:
هذه ثلاث مراث في أمين باشا فكري لثلاثة أصحاب من أعزِّ الناس عليه وأعزِّهم له. ولو فسح المقام لاستوفيت له ثلاثين مرثيَّة وكان بها قَمِنًا، وقد تأمَّلت الآن كيف كنَّا أربعة أصحاب، كلٌّ يحب إخوانه الآخرين ويُجلُّهم، فقد كنت أحبُّ أمين باشا وأُجلُّه، وكانت بيننا مراسلة بعد مراسلةٍ مع أبيه عبد الله باشا فكري الأديب المشهور، وكنت أحبُّ إسماعيل باشا صبري وأُجلُّه إجلالي لأخيه أمين باشا. ولما كان صبري مُحافِظًا للإسكندرية وقدمها من أبناء عمي الأمير عارف أرسلان احتفى به إسماعيل باشا جدَّ الاحتفاء، فلما عاد ابن عمي إلى سورية رغب إليَّ في أن أُرسِل قصيدة بإمضائه إلى إسماعيل باشا شكرًا له على حفاوته، فنظمت قصيدة سيقرؤها قرَّاء ديواني الذي تحت الطَّبْع. وكنت أحبُّ شوقي وأُجلُّه وأقدسه كما يدلُّ عليه كتابي هذا، وكان شوقي يحبُّ صبري وفكري ويُجلُّهما كما ترى من شعره. فهؤلاء ثلاثة إخوان في نَسَقٍ قد طوتهم المنون من دوني، وبَقِيتُ في حياة موحشة بفقد أصحابي، مُقفِرة من أُنْسِ أتْرابي أتسلَّى عنهم بالآثار والذكريات، وأُرسِل وراءهم الحَسَرات والزَّفَرات الكُبْريات، قائلًا: لا حياة بعد صَدْع ذلك الشَّمْل، وبي منهم فوق الرمل ما بهم في الرمل، كما قال أبو الطيب من قبل.
ولما أصاب إسماعيلَ باشا صبري حادثٌ في القطار الحديديِّ بعث شوقي إليه بهذه الأبيات التي يصحُّ أن تكون من جُمْلة مُختاراتِه:
فما أبدعَ قوله: فكانت فترة للمعجزات.
(٧) شعره العائلي
ولشوقي من الشعر العائلي لا سيَّما في خطاب أولاده ما يرويه الناس ويستلطفونه، وإني لأختار منه قوله لولده علي بك يوم ولادته:
قِيل لنابليون الأول: نريد أن نكتب تاريخ عائلتك، وقد تحيَّرْنا من أين نبدأ؟ فقال: ابدءوا بي، فإني أنا عائلتي. وشوقي يريد أن يقول إن ولده لن يبلغ عبقريَّته؛ فلذلك سيكون شوقي وحْدَه هو نَسْل شَوْقي وليس في ذلك تصغير لابنه؛ أي لا غضاضة على ابنه إن قصَّر عن شأْوِ أبيه فليس كأبيه كثير من الخلق، فشوقي يعرف من نفسه أنه سيَنْفَرِد وأنَّ ابنه لن يدركه، وهذا يُشِير إلى المعنى الذي قُلْتُه أنا من رثاء شوقي:
ومثله قولي في الإفرنج يوم هزمهم صلاح الدين في وقعة حِطِّين:
وكان لي صاحبٌ لا بأس به، وكان تامَّ الرجوليَّة فارسًا مِغْوارًا قاريًا للضيف، وإنما كان له أبٌ أعْلَى منه بدرجاتٍ؛ فكان الناس يرَوْنَه صغيرًا في جانب أبيه ويقولون لي: ولد النجيب لا ينجب، فكان يقول لي: إني والله لم أكنْ مُقصِّرًا في وغًى، ولا في ندًى، ولا ممَّن يَجِد الناس فيه مُنتقَدًا، ولكن أبي فضحني وأظهر قصوري ولو كنت ابن رجل آخر لكان أظهرَ لنجابتي، فإنما الناس تصغر وتكبر بالقياس.
(٨) الحكايات في شعر شوقي
ولم يجتزئ شوقي من الشعر بالأمداح والمراثي والأمثال الحكمية والمراسلات الإخوانية، بل هامَ في جميع أوْدِية الخيال، وضرب في عالم الإنشاد في كلِّ مَنكِب، وأبَى إلَّا أن يكون شاعرًا كاملَ الأدواتِ مُستوفِيًا الشروط، قابضًا على ناصية الفصاحة في كلِّ موضوع، فنظم شعرًا كثيرًا من الحكايات على نَسَقِ لافونتين، ونظم على أَلْسُن الطير والحيوانات والحشرات. وله في الجزء الأول من الشوقيَّات أربعون أو خمسون صفحة ملْأَى بهذه الخرافات، جعل كلامه فيها مُناسِبًا لموضوعها، فهو كما يعلو في المقامات العالية ويختار لها فَخْم الكلام وشريف اللفظ يسفُّ في المقامات الساذجة ويلبسها القوالب الخفيفة السهلة اللائقة بها؛ فتراه مثلًا يقول في حكايته عن الخفَّاش ومليكة الفراش:
نعم كم من شخصٍ حسَن الوجْهِ سيِّئ الفعل، هذا الذي يريد شوقي أن يستفصَّه من هذه الحكاية، كما أراد أن يستخرج من هذه الحكايات كلِّها العِبَر التي استخرجها أمثاله من الشعراء أو من الكتاب الذين تكلَّموا على ألسن الحيوان والطير، ورموا مرامي حكيمة بعيدة من هذه الحكايات الصغيرة، وهم مثل صاحب كليلة ودمنة وغيره.
ومن أقوال شوقي في هذا الباب حكاية عن الأسد عندما اسْتَوْزر الحمار:
وقال في القُبَّرة وابنها:
وقال في الثعلب وهو في السفينة:
وخلاصة القول أن شوقي لم يُهمِل هذا الباب أيضًا، وأنه دنا من اللفظ إلى الغاية التي تدركها الأطفال ويحفظها الجهَّال ولكلِّ مقام مَقال. وكان مثله في هذا بشَّار فقد حدث ابن مهرويه عن أبيه قال: قلت لبشار يا أبا معاذ، إنك لتأتي بالأمر المتفارِق، فمرَّة تُثِير بشعرك العَجاج فتقول:
ثم تقول:
فقال بشار: «إنما أكلِّم كلَّ إنسان على قَدْر معرفته؛ فأنت وعِلْية الناس يستحسنون ذلك، وأما رباب فهي جارية تربِّي دجاجًا وتجمع بَيْضهَن، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض، وهو أحسن عندها وأنفق من شعري كلِّه، فإذا أنشدتها في النمط الأوَّل ما فهمته ولا انتفعت بها.»
قلنا: وهذه قضيَّة لا جِدال فيها؛ فالثوب ينبغي أن يُفصَّل على قَدْر القامة، والقول يجب أن يتناسب مع الحالة، وقد أورد أبو العلاء المعري قصة بشَّار هذه في عرض الكلام على قصيدة المتنبي السخيفة في ضبَّة وهي التي أوَّلها:
فقال: إن أبا الطيب اجتاز يومًا بالطف فنزل بأصدقاء له، وصادَف هناك ولدًا اسمه ضبَّة يغدر بكلِّ أحد، وسارت الخيل إلى هذا العبد واستَرْكَبوه فلزمه السير معهم، فدخل هذا العبد الحصن وامتنع به وأقاموا عليه وليس سلاحه لهم إلَّا شتمهم من وراء الحصن أقبح شَتْم، ويسمِّي أبا الطيب بشتمه، وأراد القوم أن يجيبه أبو الطيب بمثل ألفاظه القبيحة، وسألوه ذلك فتكلَّف لهم على مشقَّة، وعلم أنَّه لو سبَّه لهم مُعرِّضًا لم يفهم، ولم يعمل فيه عمل التصريح، فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو، فقال تلك الأبيات: ما أنصف القوم ضبَّة … إلخ.
وروى المعري عن ابن جنِّي أنه قال: ورأيته — أي رأى المتنبي — وقد قرأت عليه هذه القصيدة وهو يُنكِر إنشادها.
قلت: وهذا دليل على أن المتنبي كان خجل من نفسه وندم على إرسال تلك الكلمة المشئومة التي صارت السبب في قتله وحرمان الناس من ذلك اللسان وذلك الجنان اللذين بخل بمثلهما الزمان، فأما المعري فلشدَّة إعجابه بالمتنبي وما اشتهر من حبِّه له، فقد حاول أن يتمحل له عذرًا، وأن يدمج هذه القصيدة تحت حكم «لكلِّ مقام مقال» وهذا التشبيه محال، ثم حاول من جهة أخرى عذرًا ثانيًا؛ وهو أن يجعل هذه القصيدة على ألسن أولئك الجماعة الذين كان يشتمهم ضبَّة، وهو أيضًا عذر ضعيف أرقُّ من خيط باطل؛ إذ المتنبي يعلم أنه مهما قال فقوله لا بدَّ أن يَسِير، وأن الكلمة الفاردة من مثله تُحفَظ وتبقى وتعلق في الأذهان، فكيف المنظوم الذي تسير به الرُّكْبان. والحقيقة أنها كانت سُوَيعة نَحْسٍ غفل فيها المتنبي عن نفسه وغاب عن حسِّه؛ فأرسل هاتيك الأبيات وهو يظنُّ أنها لن تتجاوز ذلك المكان، وأنه إنما يشفي بها غليل جماعته، أو أنه يضحكهم على ضبَّة، ونسي أنه بهذا العمل قد وضع نفسه في صفِّ ذلك السفيه الذي وصفوا ما وصفوا من سفاهته وحُمْقه، ومَنْ ذا يعض الكلب إذا الكلب عضه؟ فكانت من أبي الطيب هذه النَّبْوة القبيحة سببًا في إتلافه ومصيبة الأدب العربي بفقد رجلٍ كان من أرجح أدباء الدنيا ميزانًا وأقواهم برهانًا وأذلفهم لسانًا. ومن هذه القصة يجب أن تُؤخَذ العِبْرة اللازمة والعِظَة التي لا يجوز أن تفارق الخاطر، وهي أن الرجل الكبير يجب أن يبقى كبيرًا في جميع أطواره، وأن يعلم أن كلَّ ما يقوله سيسير ويحفظ عليه، وأنه سيبقى ويُنسَب إليه. والقولُ لقائِله كالولد لناجله. ومن أحسن مزايا شوقي أنه لم يتلوَّث بشيء من هذه القاذورات، وأن أدب النفس كان أثيره، فنزه عن المرافثة قليل نظمه وكثيره، فلا أثار بقوله حفائظَ ولا هاج أحقادًا وقد مضت جميع معاركه الأدبيَّة على سلامة.
(٩) شعر الملاحم
وقد فَرَط شوقي إلى هذا الحَوْض من أول مرَّة وتنبَّه له في مُقتبَل عمره؛ ففي سنة ١٨٩٤ أي بعد اجتماعنا في باريز بسنتين لا غير كانت له تلك الهمزيَّة التي قالها عن وادي النيل وأنشدها في مؤتمر المستشرقين المُنعقِد في جنيف، وهي التي يقول فيها:
هذا البيت الأخير ينظر إلى قول المتنبي عن بحيرة طبرية:
ثم يقول:
هذا من الوصف الذي يصحُّ أن يكون مثلًا في الإبداع وصحَّة التصوير، فتأمَّل عندما تكون في عُرْض البحر الخِضَمِّ تنظر السفين عن بعدٍ تارة تلوح لك أشرعتها من بعيد، وطورًا تحدق فلا تراها من سعة اليمِّ وارتفاع أمواج الخِضَمِّ، وتأمَّل أيضًا تشبيهَه للسفن في صعودها ونزولها على ظهر الموج التي تتقاذفها بالإبل السائرة في البيداء، فراكب السفينة كراكب البعير لا يفتأ يشعر بنفسه صاعدًا نازلًا، ثم يقول وهو من أبدع ما قيل:
لا تظهر عبقرية شوقي ظهورًا باهرًا مثلما تظهر في هذا النوع من الشعر، فلو قلتُ إن كلَّ ما قاله شوقي في باب المديح وباب الرثاء وباب الحكايات لا يوازي هذه الأبيات لم أكُنْ مبالغًا، فكأن شوقي كلَّما علا الموضوع علا هو معه فلما رأى أمامه جلالة هذا الخَلْق العظيم وتأمَّل جلالة خالقه تعالى ارتفع به البيان إلى الدرجات العُلَا، وتعلَّق بسدرة المنتهى التي تليق بوصْفِ تلك الجلالة. وأما الكتاب الذي يتكلَّم عنه وهو عبارة عن العريض الطويل من هذا الخلق العظيم الذي هو البحر، فإن لي حكاية هي من هذا الموضوع بسبيل.
كنتُ أيَّام الحرب مَبْعوثًا لسورية في الآستانة دار الخلافة العثمانيَّة تولَّاها الله برحمته، وكانت بيني وبين عبد الحقِّ حامد بك الذي يُقال له أديب الأتراك الأعظم مودةٌ أكيدة ولم تَنْحصِر في لُحمة الأدب، بل تجاوزت إلى لُحمة النسب؛ لأن أديب الأتراك الأعظم عربيُّ الأصْل ينتمي إلى عبد الحق السنباطي، وقد جاء سلفه إلى استانبول فاستتركوا، وكانت لي معه — فسَّح الله في أجله لأنه لا يزال حيًّا — مجالسُ نتناشد فيها الأشعار ونتناقل الآثار، وفي ذات يوم صادفْتُه ذاهبًا إلى إسماعيل حقي بك، من أدباء الترك كان واليًا لبيروت يوم انتهت الحرب، وهو من مُريدِي عبد الحق حامد، فأخذ بيدي، وقال لي: تعالَ معي حتى نقرأ عليك شيئًا من آثاري الجديدة. فمضيت معه حتى وافينا منزل إسماعيل حقي، وما استقر بنا الجلوس حتى بدأ إسماعيل حقي يتْلُو علينا رواية «طارق» التي منها ما هو نَظْم، ومنها ما هو نَثْر، وكلُّ ذلك بالتركي، فوصلنا إلى مكان يسمِّيه عبد الحق حامد «مناجاة» وهو أن طارقًا يولي وجهه شطر السماء ويناجي ربَّه بأقوال يضَّرع بها إليه، ولست مُتذكِّرًا منها الآن إلَّا قوله: يا رب ألم تقُلْ لنا كذا وكذا في كتبك المنزلة؟ ألم تقل كذا وكذا بلسان الطبيعة التي هي أيضًا من كتبك المنزلة؟ إلى آخر ما يقول، فلما وصل إلى هذه الجملة وهي أن الطبيعة هي من الكتب المنزلة، قلت أنا فورًا: وربما كانت أقدمها، فاهتزَّ لذلك عبد الحق حامد وقال لإسماعيل حقي: «أمان أمان بوني يازيكز.» أي بالله عليك اكتب هذه. وبقي يردِّد هذه النكتة وهي أن الطبيعة هي أقدم الكتب الإلهية، وبعد ذلك بمدَّة وجدت رسالة طارق مطبوعة وفي حاشية الفصل الذي اسمه «مناجاة» مكتوبة هذه الجملة: «وربما كانت هي أقدم الكتب المنزلة.» وبجانبها يقول: «هذه الجملة هي من الأمير شكيب أرسلان.» فقضيت العجب من أمانة هذا الشاعر الكبير الذي أبَى أن ينسب هذا المعنى لنفسه وأصرَّ على نسبته إليَّ بالصراحة بينما كثير من الشعراء والأدباء ينتحلون أقوالًا لم يكونوا هم قائليها ويتبنَّون معانيَ قد يكون نجلها غيرهم، ولكن عبد الحق حامد أغْنَى من أن يسْرِق.
والشاهد هنا أن الخواطر تواردت وأن شوقي يرى البحر كتابًا من كتب الله له فيه تعالى تحيَّة وثناء، وأن عبد الحق حامد الذي هو في الترك كشوقي في العرب يرى في الطبيعة كتابًا إلهيًّا أنزله الله ليقرأه عباده، وأن هذا العاجز يرى هذا الكتاب أقدم الكتب الإلهية؛ لأن الله خلق الطبيعة قبل أن بعث الأنبياء وأنزل عليهم الوحي، ثم يقول شوقي:
يريد أن يقول إن الأوَّلين كلَّما رأوا عجبًا عدُّوه من صنعة الجنِّ، وأن فرعون مع ذلك جاء بالأهرام التي لم ينسبها أحدٌ إلى الجنِّ، وهي أعجب وأصعب من كلِّ ما نُسِب إلى الجنِّ من بناء البشر، ثم يقول:
يريد أن يقول إن يونان التي زعمت كون هذه الأهرام بُنِيت بالظلم والقسر على أيدي العبيد، وأُنْفِقت عليها أموال الرعية إنما قالت ذلك حسدًا ونفاسة لعجزهم عن مثلها، وإن قولها فُحْش وافتراء، ثم أثنى على الفراعنة الذين شيَّدوا تلك الأبنية الخالدة على الدهر تتحدَّى الزمان وتبارز الحَدَثان، وقال: إن تلك الدولة قد انتقلت إلى أناس خالفوا سُنَن من قبلهم وهم ملوك الرعاة فساموا مصر العذاب، فتراه يقول في هؤلاء:
يعني براعي السوء أحد الملوك الرعاة الذين يُقال لهم الهكسوس، والذين شوقي يقول فيهم:
وبعد أن وصف هذه الدولة بما وصفها به من اسْتِعباد مصر التفت فنصح الإنجليز الذين يحتلونها اليوم مُستبدِّين، فقال لهم: إن كنتم ترون أنفسكم قد تغلَّبتم على أهل مصر فلا ينبغي أن تأمنوا انتقاضهم بعد خضوعهم لكم بالقوة، فإن للنفوس ثورةً ومضاء، وإن الوحش تتحرك لتتفلت من القيود فكيف لا تتحرك البشر لتحطيم القيود؟ وليس لي اعتراض هنا إلَّا على قوله يسكن الوحش للوثوب من الأسر … إلخ، فإن السكون والوثوب لا يقترنان ولو أنه قال ينزع الوحش للوثوب من الأسر لكان أقعد.
ثم أتى شوقي على تاريخ رمسيس وسيزوستريس وأشاد بذكرهما إشادة تجدر بعظمة مصر في تلك الأعْصُر الخوالي، وما زال إلى أن وصل إلى قمبيز ملك الفرس الذي استولى على مصر وجعل أعزَّة أهلها أذِلَّة، ووصف ما حلَّ بملوك مصر، فقال:
يريد أن يقول إن فرعون لم تبدر له دمعة لمَّا رأى ابنته تحمل الجَرَّة وتذهب إلى النهر لتستقي كإحدى الإماء، ولكنه لما رأى أحد أصدقائه يسأل الناس من فقره أجهش ولم يملك دمْعَه، وما كان سريع الدمعة ولكن الوفاء غلب عليه.
ثم ذكر كيف أن الإسكندر غلب على مصر وأزال منها حكم الفرس فقال:
يقول إن مصر في عهد البطالسة صارت دارَ علمٍ وحِكْمة، واستراحت فيها الرعايا وغلظ أمرها، وكان لها أسطول حربي وأسطول آخر تجاري عبَّر عنهما بقوله: «والبحر صولة وثراء.» ثم ذكر خراب دولة البطالسة بمجيء كليوباترة، فقال:
أشار كيف لعبتْ كليوباترة بقلب قيصر، ثم بقلب أنطونيوس حتى جاءها أوكتافيوس الذي لم يؤثِّر فيه جمالُها، فغلب عليها وانتحرت بأن وضعت حيَّة على صَدْرها وهو ما أشار إليه بقوله:
ثم جاء هنا بالمقطع الذي هو بيت القصيد، والذي لم أزل أبحث في شعر المعاصرين فلا أجد ما يُدانِيه، ولو كان شوقي لم يقُلْ غيره لكان كافيًا لمجده وأجره، ولجزاه دنيا وآخرة، تأمَّلْ في هذا المفصل المدهش في جلالة معناه وجزالة مَبْناه، قال:
أراد شوقي أن يسرد تاريخ ديانات أهل مصر، فقال: إنهم قبل أن تنزل الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن تحيَّروا في العبادة وذهبوا مذاهب شتَّى يجمعها حقيقة واحدة هي الاعتقاد بالله، ولكنَّهم نشدوه من طُرُق مختلِفة؛ فهذا يعبد القوي وذاك يعبد الجميل وذلك ينحت التماثيل، ومنهم من عبدوا الكواكب، ومنهم من قدَّسوا الأشجار، ومنهم من انحنَوا للجبال، ومنهم من ألَّهوا الملوك، ومنهم من سجدوا للبحار والأسماك والعواصف والطير والوحش وغير ذلك، وكلُّ المراد المقصود المنشود هو الحقيقة الإلهية. كأنما شوقي يعتذر عن تنوُّع عباداتهم هذه وتسفُّل بعضها حتى صارت إلى الحيوانات بجهل الناس هناك الطريق القويم لعدم وجود الدليل، فكانت عقول الخلق في طفوليَّتها وكانوا يخشَون ويرجون ويفزعون ويضَّرعون، ولا ينزل عليهم وحي يعرفون أنه الحق فيعوِّلوا عليه، وما زالوا في هذه الحيرة حتى جاءت الرسل فأنارت الطريق وحصحص الحق. وقد قدَّم شوقي هذا الاعتذار عن تخبُّط البشر في عقائدهم بقوله: يا رب إننا عشقناك وهمنا وراءك في كلِّ مكان فلا عجب أن كنَّا ضلَلْنا السُّبُل:
ثم ذكر كيف أن فرعون ربَّى موسى، واعتمد على وفائه فخانَه موسى لأجل ربِّه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقال:
فقد خرجنا هنا بالمصريين من عهد الرموز والتماثيل والعبادات المتنوِّعة والآلهة أشكالًا وألوانًا إلى عبادة الواحد الأحد الذي دلَّ عليه موسى عليه السلام، فوضع أساس الشريعة الإلهية، ثم تلاه عيسى — عليه السلام — أيضًا فوصف شوقي مولد عيسى — عليه السلام — بما لا أظنُّ عيسويًّا على وجه الأرض قال أحسن منه ولا مثله، ألا ترى أنَّه ليس فيمن ينطق بالضاد من مسلم ومسيحيٍّ تقريبًا مَنْ يجهل هذه الأبيات:
بعد أن ذكر مجيء موسى بالشريعة الإلهية جاء الدور إلى عيسى فقال إنه بمولده وُلِد الرفق والحياء والمروءة وانتشر النور في الأرض، وكانت شريعة ليس فيها شيء غير اللين والعطف واللطف وتحمُّل الأذى وحب الأعداء والعفو عن الذنب وعدم مقابلة الشرِّ بالشر، وقد عاش عيسى — عليه السلام — ما عاش إلى أن رفعه ربَّه إلى السماء، فناب عنه في الأرض الحواريون وهم قوم ضُعَفاء مساكين صيادُو سمك أطاعوه فصاروا بطاعتهم له سادة الأرض، وخضعت لهم الملوك والقياصرة فضربوا في البلاد وقطعوا البحار ونزلوا بكلِّ شاطئ، وجاء أحدهم «مرقص» فدخل ثَيْبة إحدى عواصم مِصْر فتلقَّاه أهلُها وكانوا حُكَماء فذاقوا الكلام الذي جاء به مرقص واتبعوا ذلك النور الذي معه، وليس بعجب أن يفهم الحكمةَ الحُكَماء فردُّوا هياكلهم كنائس وصارت مصر لعيسى، وحقيقة الأمر أن ملوك العالم هم الأنبياء فالناس تطيعهم من دون الملوك؛ لأن طاعة الأنبياء تُخالِط القلبَ وطاعة الملوك لا تخالط إلَّا الجسم، والأنبياء لهم الباطن والملوك لهم الظاهر، وما أنكر الأديان قوم إلَّا شقُوا بما أنكروه، ثم قال:
أراد شوقي هنا أن يذكر هرم الدولة الرومانية وأن الدول تهرم كما يهرم الرجال حسبما قال ابن خلدون، وأنها لا يُغني عنها كثرة الملك والمال إذا أتاها أمر ربِّها فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، فرومة نالها ما نال من قبلها آثينا عاصمة يونان وثيبة عاصمة مصر، ولم تكن دولةٌ تبقى إلى الأبد، ولما هرمت الدولة الرومانية انتشرت في نواحيها الضلالة فَفَتَك بها الجهل، وتشعبَّت المذاهب، وأخذ الناس يقْتَتِلون على العقائد، وعادوا إلى مثل الوثنيَّة الأولى، وقطعوا ما أمر الله به أن يُوصَل، فرأى الله أن لا بدَّ من القوَّة لإقامتهم على الحقِّ، وأنه لا بأس بالسيف إذا لم ينجع الوعظ ولم تغنِ النُّذُر، وقد يقطع الطبيب عضوًا من الجسم لسلامة سائر الأعضاء، فقال شوقي وقد جعل هذه الحالة توطِئة لظهور محمَّد عليه الصلاة والسلام:
فهو يقول: إن الله لا يريد لعباده إلَّا الخير ولكن بعض عباده أصروا على المعاصي ومَرَدُوا على النفاق. وإذا كانت الذنوب عظيمة وأعظمها هو الشرك فمن العدل أن تُقمَع بالسيف؛ إذ لا حِيلَة فيمن كانت قلوبهم غُلْفًا وآذانهم صُمًّا؛ ولذلك أرسل الله الرسول العربي اليتيم الأُمِّي الذي أنزل عليه الفرقان فمحا الشرك وشدخ يافوخ الكفر، وقد كنت أحبُّ أن يستعمل شوقي محلَّ قوله: فمن العدل أن يهول الجزاء، قوله: فمن العدل أن يجلَّ الجزاء؛ لأن جزاء تلك الذنوب التي عددها لم يكن قاسيًا هائلًا بالنسبة إليها. وكان ينبغي لشوقي أن يذكر مبدأ الرسالة المحمَّديَّة بالنصح، والقول الحسن، ودعوة الناس إلى الحقِّ مدَّة مديدة من الزمن ليس فيها بأسٌ ولا شدَّة ولا شيء يختلف عن دعوة عيسى لقومه، إلى أن أصرَّ المشركون على عنادهم وحاولوا قَتْل الرسول الأمين لأجل بلاغِه المُبِين، فهاجر إلى قومٍ نصروه وآزروه حتى لا تموت الدعوة ولا تذهب الحقيقة ضَحِيَّة أهواءِ ذوي السلطة وأنصار الضلالة، فلم يقع الجزاء إلَّا بعد أن انقطع الرجاء وما كان إلَّا جزاءً وِفاقًا.
ثم قال:
قال: إن الله إذا تولَّى ضعيفًا لم تقْدِر على مقاومته الأقوياء، ومَن ينصره الله فلا غالبَ له، وهو يشير إلى قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الذِّينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وقال: إن محمَّدًا هو أشرف المرسلين، وإن الله بعث كلَّ رسول بآية، وإن آية محمَّد — عليه السلام — كانت النطق المُبِين؛ لأنه بُعِث في قوم فصحاء، لسانهم أفصح الألسنة، وقرائحهم أصفى القرائح، فهم أقرب أن يتأثَّروا بالفصاحة من كلِّ قبيل؛ ولذلك لم يفُهِ الرسول بتلك الكلمات النوابغ حتى أقبل البُلَغاء عليه قبل غيرهم وانقادوا له، وقد كان الناس أوانئذٍ في شقاقٍ بعيد وفي ارتكاب محارم؛ يَئِدُون بناتهم ولا يعلمون حلالًا ولا حرامًا، وكان يتسلَّط قويُّهم على ضَعِيفهم ويجعلون الحقَّ دُبر آذانهم؛ فنزل جبريل على محمد ﷺ بالشريعة التي ألَّفت بين قلوبهم وجعلتهم إخوانًا وطهَّرت خلائقهم من تلك الآثام التي كانوا مُنغمسِين فيها، ونقلتهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، وذلك كلُّه بآيات القرآن الذي نسخ ما قبله لا نسخ ضياء لظلام بل نسخ ضياء لضياء؛ لأن شريعة موسى كانت حقًّا فجاءت شريعة عيسى فأكملتها ولأن شريعة عيسى كانت حقًّا فطرأت عليها طوارئ فجاءت شريعة محمَّد فقوَّمْتها وأعادتها إلى أصْلِها.
قال: وقد تولَّى حماية هذه الشريعة الجديدة صحابةٌ للرسول كِرام أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ثم قال:
يقول: إن الأمة العربية أمَّة ينتهي إليها البيان، وتجد فيها العلوم صدورًا مُنشرِحة فهي تُقبِل عليها بطبيعتها، وتُقِيم وزنًا للعلماء حيث كانوا، فكانت كلَّما استولت على قطر اهتزَّ العِلْم فيها ورَبا، ونشأ فيه العلماء الفحول، وعَلَتْ رايةُ الحقِّ، ونال كلُّ إنسان ما يستحقُّه بعمله واضمحلَّت الطبقاتُ، وارتفعتِ الفروقُ، وعَلِم الناس أنَّهم شرع في نظر الشرع، وأن أكْرمَهم عند اللهِ أتْقاهم، وأن الملك والسُّوقة سواء، وأن جبلة الأيهم إذا لطم الأعرابي يُقاد منه في الحال، وأن الحدَّ الشرعي يُقام على الجميع من دون مراعاة وعلى ابن الخليفة، وأن الرسول يهتف قائلًا: «لو أن فاطمة بنت محمَّد سَرقَتْ لأمرت بقطع يدها.» وأن عمر يقول: «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عَمَلٍ فهم أوْلَى بمحمَّد منَّا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى القرابة، ولْيَعْمل لِمَا عند الله، فإنَّ من قَصُر به عمَلُه لا يُسرِع به نَسبُه.» وأن الرسول كان يُقِيد من نفسه، وأن عمَرَ كان يُقِيد من نفسه، وأن عليًّا كان يساوي اليهودي في القضاء؛ فكانوا يصدعون لمبادئ القرآن ويطبِّقونها على الكبير والصغير، وصادَفَ أن الدولة الفارسيَّة والدولة الرومانية كانتا قد أسرع إليهما الفساد وضاعت فيهما الحقوق وعلا القويُّ فوق الضعيف، فما ظهر الإسلام حتى انهارت الأولى لديه انهيارًا تامًّا وتقلَّصت الثانية أمامه تقلُّصًا أورثَ الإسلامَ ثُلُثي ممالِكها، فالعرب حملوا العدل الذي في دينهم إلى الأُمَم التي استولَوا عليها، وأثاروا فيها حبَّ العمران والسعي في مَناكِب الأرض، وصار هذا الدين نظامًا للوجود يرجع الناس إليه في أمور الدنيا والعقبى، ولم يكن بدين آخرة فحسب، بل كان ناظمًا للدنيا والأخرى معًا؛ أحلَّ الله فيه الطيِّبات ويسَّر ما تشتهي نفوسُ الأذكياء، وإنما حرَّم الإسراف والخُيَلاء والإثم والاعتداء والمشي في الأرض مَرَحًا، فهو دِين برٍّ بمَن بَرَّه، صارِمٌ على مَن عقَّه، ثم قال:
ولم يكن عجبًا أنَّ أبناء الصحراء يفوقون أبناء الظلِّ والماء ويبتزُّون منهم ممالكهم، فطالما كانت الصحارى مواطن الآساد، فما ثارت هذه الآساد من بادية العرب حتى رأينا الأقطار تنتظم في ملكهم من الصين شرقًا إلى المغرب والأندلس غربًا، ثم قال:
لم يكن لشوقي بدٌّ من ذِكْر عمرو بن العاص — رضي الله عنه — وهو فاتح وادي النيل للإسلام ومُمَتِّعه بتلك النِّعَم الجُسام. قال شوقي: إن العروبة والإسلام كانا في مصر من غرس يدي عمرو، وإنه جعل من مصر رُكْنًا للمِلَّة الإسلامية تأوي إليه وتدرُّ خَيْراتها عليه، فإذا مسَّت المجاعة أهل المدينة — دار الخلافة وقتئذٍ — أغاثها عمرو بالأرزاق المُتصِلة من وادي النيل، قال: ففَضْل عمرو على الإسلام لا حدَّ له؛ لأنه ملَّك المسلمين النيلَ والنيلُ هو إفريقيا، وكفى بذلك وصْفًا لعظمةِ العمل الذي قام به عمرو بن العاص.
ويظهر أن شوقي استطالَ تاريخ مصر في الإسلام فلم يشأ أن يعرِّج منه إلَّا بالحادثات الكُبَر وطوى دَوْر الأُمَويين في مصر ودَوْر بني العباس، فلم يقُل شيئًا عن آل طولون ولم يعرِّج على الفاطميين، مع أنه كانت لهم دولة زاهرة لمعت رَدَحًا من الدَّهْر، ولعلَّه تجانَف عن ذِكْرهم بحَيْدهم عن طريق السنَّة والجماعة. وبالجملة فقد قفز شوقي من زمن عمرو بن العاص طفرة واحدة إلى زمن صلاح الدين الأيوبي، فقال:
أشار إلى ما كان عليه بنو أيوب من الحمية وعزَّة النفس الإسلامية والصلاح والجهاد، وأنهم كانوا يبنون الحصون ويشيدون دور العلم، ويقرون الضيوف ويوقدون نار الوغى للأعداء ونار القرى للقصاد، ويكرمون أسراهم شأن الأبطال الكُرَماء، وأن الدين الإسلامي يعرف مقام صلاح الدين من حمايته، وأن الحُرم الثلاثة تعرف خدمته العظيمة. أشار بقوله المسجدان إلى مكَّة والمدينة وبقوله الإسراء إلى القدس الشريف، وقال إنه كان حصنًا للقدس وحمًى لذلك الحمى، ثم أتي على ذكر الحرب الصليبيَّة لأنها من الملاحم الكبرى فقال:
من أحسن مزايا شوقي رسوخه في اللُّغة؛ فهو يقول: «قومه والنساء» وذلك لأن القوم هم جماعة الرجال خاصة؛ لأنهم يقومون بعظائم الأمور.
وقد قابل القوم بالنساء كأنه يقول: ومشى الغرب رجاله والنساء وقد كانوا في حرب الصليب جاءوا بالفعل رجالًا ونساء.
أما النساء فمنهن من كنَّ قد جِئنَ مع أزواجهن، ومنهن من كنَّ قد استُجلِبْنَ للرَّفَث، وكان هذا الجيش من النساء كثيرًا في جيش الإفرنج، وقد وصَفَهن العماد الأصفهاني الكاتب في الفتح القدسي بأسجاعه المعهودة وجناساته المعروفة وصْفًا يلذُّ المُجَّان، ولكنه يُنبِئ بحقيقة تاريخيَّة تدل على أن هذا الأمر قديم العهد في جيوش الإفرنج.
ثم إن شوقي يشير كيف جاء الصليبيون بنفوس ملْأَى بالأماني، وصدور مُفعمَة بالأحقاد يريدون أن يقضُوا على الإسلام ويخنقوا كلَّ مَن دانَ به، وأن يهدموا الحقَّ وأن يدمِّروا مَن جاء بالحق.
وقال: إنهم لما هاجموا بلاد الإسلام تلقَّتهم من المسلمين عزائم صادقة نهضَ بها الدين فنَثَرتْ جموعَهم على كلِّ أرضٍ، وأَسَرَتْ في بعض هذه الحروب لويس التاسع ملك فرنسا الذي يُقال له القديس لويس، وانقطع أملُ قومِه منه، ولكنَّه فدى نفسَه بالمال بعد مدَّة من أَسْره، ولو كان المسلمون خافوا عاقبة إطلاقه ما قبلوا منه الفِدْية، ولكنهم كانوا أوْثَق بأنفسهم وأعظم اتِّكالًا على الله من أن يخافوا عاقبة تسريح ملك من ملوك أوروبا.
قال: وكان هكذا المسلمون من العزِّ والمَنْعة، وعطف على قوله: «المسلمون» بقوله: «والعرب الخالون» من باب التخصيص على حدِّ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وأنهم لم يكونوا كما يصوِّرهم الإفرنج للناس، وأننا بهم سُدْنا في العالم زمنًا طويلًا، وورثنا ما ورثناه من تاريخ مجيد، وقال: إذا استوى عند أمَّة الموت والحياة فلا حِيلة فيها للعدوِّ، وهو من قبيل:
ولا بدَّ لي هنا من الوقوف بعض الشيء، بل من الاعتراض على شوقي — رحمه الله — فقد قصَّر المسافة بين زحف الصليبيين وبين تلقِّي المسلمين لهم بعزائم الصِّدْق، والحال أنَّ بين العَهْدَين حقبة يصحُّ أن تُسمَّى دَهْرًا؛ وذلك أن أوَّل وقعة أصْلَتْها الجموع الصليبيَّة الجيشَ الإسلامي كانت واقعة نيقية في الأناضول التي وقعت بين الصليبيين والترك، وفاز بها الصليبيون واسترجعوا نيقية وتاريخها ٢٦ يونيو سنة ١٠٩٧، ومنذ ذاك اليوم إلى واقعة «حطين» التي قضت على دول الصليبيين في الشرق تِسعون سنة كان فيها الصليبيون يسرحون ويمرحون في ظلِّ فَوْضى الإسلام ومشاقَّة بَنِيه بعضِهم لبعض، فإنه ما رأى الراءون ولا روى الراوون ولا يمكن أن يتصوَّر العقل مهما كان واسعًا ولا الخيال مهما كان خصبًا درجة الفوضى التي كانت عليها الدول الإسلامية وقتما زحف الصليبيون إلى الشرق، ففي كلِّ بلدة أمير ثائر على سلطانه، وفي كلِّ قصبة شيخٌ ثائر على أميره، وفي كلِّ قطر دولة تناوئ أختها، وفي كلِّ مملكة وُزَراء يمدُّون أيديَهم في الخفاء إلى أعداء دولتهم، والفاطميُّون في مصر حَرْب على العباسيين في بغداد والسلاجقة حَرْب بعضهم على بعض بين فرع ألب أرسلان أصحاب فارس وفرع قطولش أصحاب قونية والأناضول وجميع السلاجقة أعداء للدانشمنديين أصحاب شرقي الأناضول. وهذا كلُّه سَهْل لا يُعَدُّ شيئًا بالقياس إلى فَوْضى سورية التي كان كلُّ مَن فيها تقريبًا يُرِيد أن يكون مُستقِلًّا.
فالشام في يد دقاق السلجوقي، وحلب في يد رضوان أخيه، وهما يقتتلان برغم أنهما أخوان، وحماة في يد أمير، وحمص في يد أمير آخر، وطرابلس لها أُمَراء، وفِلَسْطِين يتقاسمها الفاطميون والسلاجقة، ولا يقيم العامل في عمله أكثر من أشهر معدودة حتى يثور على دولته طمعًا في الاستقلال. ولا يوجد قائدُ حِصنٍ إلَّا وهو يأبى أن تكون فوق يده يدٌ، وقد جاء الصليبيون فارتكبوا من الذَّبْح والفَتْك والقتل العام وحصْد الرءوس بلا استثناء واستئصال الأهالي المسالمين كالمحاربين وإتلاف النساء والأطفال والشيوخ والأسرى والتجاوُز على الأعراض وإنزال المعرَّات ببيوت الصون والستر ما لا رأت عين ولا سمعت أُذُن ولا خطر على بال، وأسالوا من الدماء في أنطاكية ومعرة النعمان وحارم وتل باشر وعزاز والرها وسروج وشيزر وحماة واللاذقية وطرابلس وبيروت ويافا وعسقلان وعكا ما لا تَصِف هولَه الألفاظُ ولا تبلغ كنهَه العباراتُ. والطامة الكبرى في القدس؛ حيث تعترف تواريخهم نفسها بأن الخيل غاصت في الدماء إلى صدورها، وتواريخ العرب تقول إن الذين ذبحهم الصليبيون في المسجد الأقصى كانوا سبعين ألفًا بينهم النساء والأطفال.
وكلُّ هذا لم يكن كافيًا في نظر المسلمين مدَّة تسعين سنة أن يتَّحدُوا في وجه العدو، وأن يتركوا الشقاق والعداء فيما بينهم، ويتخلَّصوا من هذه المجازر المُستمرَّة التي كان الإفرنج يرْتكبُونها فيهم ويفتنونهم — لا في كلِّ عام بل في كلِّ يوم — مرَّة أو مرَّتين وهم لا يدَّكِرون، بل كانوا يمدُّون أيديَهم لمعاهدة الإفرنج، وقد يجتمعون معهم على إخوانهم وجيرانهم ويكون الإفرنج قد قفلوا من بلدة للمسلمين فتحوها واستأصلوا جميع من فيها فيأتي إليهم أمير من أُمَراء المسلمين وهم غائصون في دماء المسلمين يعاهدهم ويمشي معهم على أمير آخر من قومه كأنه لم يَفْعل شيئًا.
ولما فتح الصليبيون أنطاكية وذبحوا تلك الألوف المُؤلَّفة من مسلمي أنطاكية وما يجاورها كانت الدولة الفاطمية تُرسِل وفدًا من القاهرة لتهنئة الصليبيين بهذا الفتح العظيم وتعرض عليهم الحِلْف، وكان الصليبيون قد ظفروا بالمسلمين في إحدى الوقائع يوم كان الوفد الفاطمي ضُيوفًا عندهم، فأرسل أمراء الصليبيين إلى الوفد الفاطمي ثلاثمائة رأس من رءوس قتلى المسلمين ينفحون الوفد بها ويكرمونه بمشاهدتها، كما لو قدَّموا لهم شيئًا من الفاكهة مثلًا، وكان الفاطميُّون يُظهِرون سرورهم بذلك الفوز الصليبي، وكان الأمراء بنو عمار أصحاب طرابلس ينصحون الخدمة للصليبيين ولولاهم لانكسر بودوين الأول عندما كان في شمالي سورية، ومن أمثال هذه النوادر أشياء لا تدخل تحت الإحصاء قد استقصيتُها كلَّها من كتب العرب وكتب الإفرنج معًا ومحَّصتها تمحيصًا لا يدع مكانًا لعارض شكٍّ ينقدح في صِحْتها.
ولم تكن هذه الحوادث عبارة عن فلتات جاءت على خلاف القياس أو وقعت في الأحايين من غير انتباه، بل استمرت هذه الفوضى الإسلاميَّة بشكل لا يمكن عقْلُ عاقل أن يُدرِك مداه مدَّة ستين إلى سبعين سنة، وما كفى تمزيق المسلمين بعضهم لبعض حتى نجمت منهم فرقة الإسماعيلية الحشاشين وتمالئوا مع الإفرنج، وصار هؤلاء كلما خشُوا عادية أمير مسلم يرون فيه خطرًا عليهم أو يبدو لهم منه أنه يسعى في جمع شمل الإسلام رمَوه بهؤلاء الحشاشين فذهب هؤلاء واغتالوه، وقد يكونون في هذه المؤامرة في اتفاق مع أناس من ملوك المسلمين؛ وذلك كما اغتِيل مودود قائد الجيش السلجوقي الذي جاء لاستنقاذ مسلمي سورية فخاف طغطكين أمير دمشق من مغبَّة الأمر، وأرسل مَن اغتاله في الجامع الأموي وهو يصلي، وكان ذلك بتواطؤ بين طغطكين والصليبيين، وكما اغتِيل برسق صاحب حلب والموصل وهو يصلي في جامع الموصل وكان من كِبار المُجاهِدين. وكثيرًا ما جاءت جيوش جرارة من آل سلجوق مُجتمِعة من فارس والعراق والجزيرة؛ لأجل استخلاص سورية من أيدي الإفرنج فلم تكن تصل هذه الجيوش إلى سورية حتى تجد كثيرًا من أمراء المسلمين في سورية قد انحازوا إلى الإفرنج ووقفوا صفًّا واحدًا معهم في وجه تلك الجيوش الآتية لاستنقاذهم وقاتلوها أشد قتال، ثم ترجع هذه الجيوش إلى بلادها وتترك المسلمين في سورية بإزاء الإفرنج فيعود الإفرنج ويكرُّون على المسلمين ويَنقضُون العهد الذي كانوا عاهدوهم إياه ويذبحون الرجال والنساء والأطفال ثم لا تجد المسلمين يتوبون ولا يذكَّرون، ولا تجد مع ذلك أمراء الإسلام في سورية مُستفيدِين أيَّ عِبْرة من نكث الإفرنج المُتكرِّر، ولا مُتناهِين عن غيِّهم وغرامهم بالشقاق وقتال بعضهِم بعضًا.
وإني لأجد هذا الشقاق في كلِّ أمَّة، ولا يخلو منه مكان وقد وقع بين الصليبيين أنفسهم، ولكن إن كان الشقاق عامًّا فلا شكَّ في أن تسعة أعشاره هي عند المسلمين والعشر الواحد عند سائر الأمم بأجمعها، وإن فسح لي الوقت لأكتبَنَّ كتابًا وأسمِّيه «الفوضى الإسلامية وما جَنَتْه على المسلمين، والوحدة الإسلامية وما جَنَتْه للمسلمين» وحسبك أن الصليبيين بعد فتحهم للقدس رجع أكثر المقاتلة منهم إلى بلادهم، قِيل إنه رجع منهم عشرون ألف مقاتل فلم يبقَ في القدس إلَّا عدة مئات لا غير؛ أي كان بيت المقدس بقي بلا حامية وكانوا أوانئذٍ لو جمعوا جميع جند الصليبيين في سورية لما زادوا على أربعة أو خمسة آلاف، وهم مع ذلك أشتات في كلِّ بلدة منهم شِرْذمة يسيرة، ومع هذا فإن فوضى المسلمين قد كلفت للصليبيين البقاء والاطمئنان ولم تحدِّثهم أنفسهم بأن يتَّحِدوا على هذه الشراذم المُشتَّتة ويخلصوا بلادهم من العبودية لها.
وما زال هذا الأمر على هذه الصفة التي ليس لها مثال في التاريخ حتى ظهر عماد الدين زنكي وهو عامل من عمَّال السلاجقة، فكان أول واضع لأساس الوحدة السورية في وجه الصليبيين بعد أن أدَّب ملوك الطوائف من المسلمين، وتلاه ابنه نور الدين العادل الشهير الذي وطَّد تلك الوحدة فتمكَّن من الإيقاع بالصليبيين، وأراهم أن في السويداء رجالًا، ثم تلاه صلاح الدين يوسف فكان ما كان ممَّا لا يحتاج إلى بيان.
وقد حذف شوقي هذا القسم المؤلِم المُخجِل المُدمِي للقلوب من تاريخ الإسلام في قصيدته هذه وطوى هاتيك الحقبة التاعسة التي وصمت الإسلام بالعار وأدهشت الإفرنج أنفسَهم ممَّا رأوا من تخاذُل المسلمين، وجاء رأسًا ينوِّه بعزائم صلاح الدين ورهطه التي بدَّلت الأرض غير الأرض ورأى فيها الإفرنج من الإسلام غير الإسلام الذي عرفوه من قبل.
ولراقم هذه السطور قصيدة في صلاح الدين هي من شعر الملاحم نظمتها؛ إذ أنا في طبريَّة سنة ١٩٠٢ ومَطْلعها:
وقد كانت مجلة المقتطف نشرتها في حينها ثم أعادت جريدة الفتح نشرها في العام الماضي، وهي ستظهر في ديواني الذي هو الآن تحت الطبع؛ فلذلك لا أجد داعيًا لإعادتها هنا برمَّتها ولكني أذكر منها بعض أبيات:
وقبل أن دخلت في تاريخ صلاح الدين وجدتُ فرضًا ذِكْر المقدمة التي مهَّدت له طريق الوحدة الإسلامية بإزاء الإفرنج بدلًا من تلك الفوضى وهي دولة آل زنكي عماد الدين بن آق سنقر، ثم ولده نور الدين العادل المشهور بالعدل والزهد وحب الجهاد فقلت فيه:
ثم ذكرت تربية نور الدين لصلاح الدين، وكيف أصلح صلاح الدين يوسف أحوال المملكة المصرية، فقلت:
وأما يوم حطين فقلت فيه:
ومنها في وصف الواقعة:
ثم ذكرت كيف دارت الدائرة عليهم وفرَّ منهم كونت طرابلس مع خيله، ووقع جيشُهم كلُّه في الأسْر:
ومنها في كيفية استحياء صلاح الدين للإفرنج بعد أن صاروا جميعًا في قبضة يده قيل كان عددهم ذلك اليوم ثلاثين ألف مقاتل وقِيل خمسين ألفًا:
وأخيرًا قبض أرناط على قافلة من الحجَّاج قاصدة إلى الحجاز فألقى بهم في سجن قلعة الكرك ونهبهم وجردهم من كلِّ ما معهم، وقال لهم: ادعوا مُحمَّدكم يخلصكم. ووصل خَبَرُ هذه الواقعة إلى صلاح الدين، وكان وقتئذٍ في الديار الجزرية يفتقد ملكه هناك، فأنحَى الناس على السلطان صلاح الدين باللائمة، وقالوا له: إنك ما زلت تعفو عن هذا الرجل الذي لا يستحقُّ العفو، فتأمَّل الآن ماذا صنع بعد عفْوِك. وكان صلاح الدين ذلك اليوم مريضًا قد اشتدَّت به العلَّة، وما زالوا به حتى أقسم لهم بأنه إذا وقع أرناط في يده ليقتلنه بيده، فكان وقوع أرناط في يوم حطين مع ملك القدس وسائر أمراء الإفرنج، وجلس السلطان بعد انتهاء الواقعة وجلس أمامه الأمراء الإفرنج ومن شدَّة الحرِّ جيء بماء مثلوج فشرب منه السلطان وأعوانه وشرب أمراء الصليبيين، ولما وصل الدور إلى أرناط قال السلطان للساقي: أنت سقيتَه أمَّا أنا فلم أسْقِهِ. قال القاضي بهاء الدين بن شداد صاحب سيرة صلاح الدين المسمَّاة بالمحاسن اليوسُفيَّة — وكان ملازمًا للسلطان يُقيِّد كلَّ ما يراه ويسمعه: إن صلاح الدين كان على جميل عادة العرب لا يجوِّز قتل من نزل وأكل من الزاد وشرب من الماء، فأراد أن يقول إن الساقي هو الذي سقى أرناط من نفسه.
ففهم الناس من هذا أن السلطان لا يريد أن يعفو هذه المرة عن برنس الكرك بعد أن نذر بقتله، ثم قام السلطان وانتهر أرناط وضربه بالسيف فرماه وأجْهَز عليه الأعوان وعندما رماه في الأرض قال له: أنا أقتص منك لمحمَّد. فأخذ ملك الإفرنج يرتجف ظنًّا بأن السلطان قاتله في تلك الساعة كما قتل أرناط، فقال له صلاح الدين: لِيسْكُنْ روْعُك فإن الملوك لا يقْتُل بعضُهم بعضًا، وإنما نذرتُ قتْلَ هذا الرجل لكثرة ما أفحش من النكاية بالمسلمين، وكلَّ مرة كنتُ أصفح عنه وهو يعود إلى غدْرِه، ثم إنه قذف علنًا نبيَّنا ﷺ، فلهذه الأمور قد استثنيتُه من العَفْو.
ولقد أوردت هذه الحادثة في الأبيات الآتية:
ومنها في ذكر حبِّ صلاح الدين للعفو وشدَّة تحرُّجه من سفك الدماء حتى عابه بعض المؤرخين، وقالوا: إنه بعفوه عن الإفرنج وترْكه إيَّاهم بعد حطين وبعد فتح القدس مكتفيًا بتجريدهم من السلاح، قد جرَّ على الإسلام مُصيبَة عظيمة؛ فإنهم ذهبوا إلى صور واعتصموا بها ولمَّا توافر جمعُهم زحفوا منها وقاتلوه أشدَّ قتال:
وقلت عن شدَّة تعظيم الإفرنج إلى الآن لقَدْر صلاح الدين بسبب هذه الأخلاق العالية:
وذكرت زيارة الإمبراطور غليوم الثاني عاهل ألمانيا لضريح ص لاح الدين في دمشق وما أظهرَه من الخشوع في ذلك المقام:
وقد ذكر هذه الزيارة شوقي بعد وقوعها بقليل؛ أي سنة ١٨٩٨، فقال تحت عنوان تحيَّة غليوم الثاني لصلاح الدين في القبر:
وقد ترجمتُ من عهدٍ غير بعيد هذه الأبيات لجلالة الإمبراطور غليوم الثاني، وذكرت له مَنْ شوقي في العالم العربي، وأنَّه كان أشعرَ شعرائنا، فارتاح جدًّا لهذه الأبيات وترحَّم على قائلها، وأما البيت الأخير فقد وقع بيني وبين شوقي توارُد خواطر على معناه؛ لأني لما زرتُ مقام سيدنا خالد بن الوليد — رضي الله عنه — في حمص كتبتُ هذين البيتين على الجدار:
وتاريخ هذين البيتين أقدم من تاريخ أبيات شوقي.
ولو لم يكن لشوقي إلَّا ما قاله في هذه القصيدة عن الحرب الصليبية لَكان ذلك كافيًا له حتى يُلقَّب بالشاعر الإسلامي وهي الصِّفة التي استمالت له قلوب المسلمين شرقًا وغربًا، فكيف وله في هذا الباب يتائم تقلَّد بها جيد الدهر، وقد ذكر منها الكاتب البليغ الأستاذ محبُّ الدين الخطيب مطلع قصيدته في حرب الدولة العثمانية مع اليونان:
وقوله عند سقوط أدرنة:
وقوله يوم أسقطَ الكماليُّون في تركيا مَنصِب الخلافة:
وذكر له ما قاله في الحجِّ عندما دعاه الخديوي أن يكون معه وهو في الدرجة القصوى من التأثير لا يقرؤه قارئ إلَّا ويستعبر:
ولعمري من عرف شوقي معرفة تامَّة واختلط به لم يجده مبالغًا فيما ناجى به ربَّه، ولشوقي عدا هذا قصائد نبويَّة مَشْهورة منها هذه الهمزيَّة:
ومنها:
قد ذكر شوقي هنا ما لم يكن أتى به في همزيَّة وادي النيل وما أشرت إليه في تعليقي على قصيدته تلك فأنت ترى أنه لا يفوته شيء إن نقص كلامه في محلٍّ كمُل في محلٍّ آخر، ثم يقول:
أي إن الزكاة المشروعة في الإسلام والتي هي والصلاة توأمان تضمن من سدِّ الفقر وتقريب الطبقات بعضها من بعض ما تضمن المبادئ الاشتراكية التي قاموا بها في العصر الحاضر، ولكن الاشتراكيين غلوا وأرادوا الطفرة فكان عملهم أبلغ في الضرر من الحالة الأولى التي أرادوا الخلاص منها، ثم يقول:
هو يقول إن الحرب في تأييد الحقِّ مشروعةٌ في الإسلام لا غبار عليها، وهي دواء لسموم الضلال الناقعة، وإن البر ليس بفضيلة اختيارية في الإسلام ولا إيثار، بل هو فرض كفرض الصلاة لا يجوز قطعه، وإن الزكاة يجب على المسلم إخراجها إذا أراد أن يكون مسلمًا، فلا تعود إلى إرادته وإلى خُلُقه من كرم أو لؤم، وليس هذا فرضًا في سائر الأديان كما هو في الإسلام. يقول إن الفقراء قد كفاهم الإسلام مئونة الاحتياج؛ وذلك بالزكاة التي انتصفَ منها الفقراء من الأغنياء، ومن قوله في الإسراء:
ومن قوله في شجاعة النبي ﷺ:
لله درُّ شوقي في هذا الوصف الذي يليق بأن ينشد عنده:
نعم كان محمَّد — عليه الصلاة والسلام — أشجعَ الشجعان وأقدمَهم إذا حَمِيَ الوطيس، وأثبتَهم إذا دارت الدائرة على الصحابة؛ كما ظهر في يوم أُحُد وغيره، وكان مع صلابته هذه أرأفَ الناس وأرقَّهم قلبًا وأنداهم مَحْجِرًا، وكان إذا ظهر على عدوِّه يعرف أن يرقَّ ويعفو، ولم تكُنْ خيلُه لِتدوسَ على المطروحين بالعراء من أعدائه، ثم يقول:
ويقول عن الصحابة الكرام:
ثم يقول مخاطبًا الرسول:
ما أصدق قوله: «وغدَوا وهم في أرضهم غُرَباء.» إلَّا ما ندر.
ولشوقي غير هذه الهمزيَّة في الرسول ﷺ قصيدة مُعارِضة للبُرْدة الشريفة، رضي الله عن صاحبها، ولو استشارني شوقي في هذه المعارضة لنهيته عنها، وهل نظْمُه في هذه المعارضة للبردة أقل إبداعًا من سائر نظمه؟ أو أنزل عن طبقته المعهودة؟
لا والله فنَظْمُه نظمُه نسجٌ واحِدٌ، هو نسيجُ وحدِه في هذا العصر، ولكن يا سبحان الله متى قابلته بالبردة فقد رونقه ذاك وصرت تريد أن تطويه على غره وتتجاوزه إلى غيره، فما ألقى الله بردة الفصاحة على قصيدة نبويَّة كميميَّة صاحب البردة، هكذا كتب في اللوح وجفَّ القلم وآثر الله الأبوصيري ببكارة البردة وأعجز كلَّ فحْلٍ عن افتراع مثلها، فما كانت معارضة شوقي للبردة بالرأي الموفَّق، ولو كانت أبيات قصيدته كلُّها عامرة بالمحاسن ولنستشهد مع ذلك ببعض ما قاله فيها مثلًا:
هنا جاء شوقي بمعنًى عصريٍّ، وهو أن الكربون يقتل في الزهر كما يقتل في الفحم ولم أجد لذلك طلاوة؛ لأن الشعر بعيد عن الكيمياء بُعْد الأرض عن السماء، ثم يقول:
اجتهد بقدر إمكانه أن يقلِّد الأباصيري في نهجه، وأن يأتي بمثل ديباجته، وأن يقابل بيتًا ببيت ويحذو قُذَّة بقُذَّة؛ فحام وما نزل ورمى وما قرطس إلَّا أنه لمَّا وصل إلى المديح ارتقى عن ذي قبل وجاء بما من حقِّه أن تسمعه ولو كان من دون البُرْدة:
ثم يقول:
ثم قال:
أي بالقرآن الحكيم.
ومن مُستحسَن أبياتها:
ولما كان صاحب البردة قال:
أراد أحمد شوقي أن يُبارِيَه في ذِمَّة مثلها من التسمية بأحمد:
وقد أحسن أبو عليٍّ بهذا الاستدراك وتنصُّله من معارضة سيِّدِ مَن جاء بالسهل المُمْتنِع والداني المُرتفِع، ثم قال خطابًا للرسول عليه السلام:
ودخل شوقي في جَدَل مع الذين اعترضوا على الإسلام، وقراع مع القادِحين فيه فقال:
يريد أن يقول إن كلام هؤلاء المُعترضِين سَفْسطة مَحْضة؛ لأن الله يَزَع بالسُّلطان ما لا يَزَع بالقرآن، وإن نبي الإسلام في بدْء دعوته لم يألُ جهْدًا في الدعوة بالرفق والمقارعة بالبرهان، وإنه ما دُفِع إلى الضرب والحرب إلَّا من بعد أن رأى عُقْم الوعظ والنصح، وأن لا حِيلة في الجهل والظلم إذا مَرَد الناس عليهما إلَّا بالتأديب أن هذه المسيحية التي تُعْلِن أنها دين السلام أصابها من الطرد والقتل والتعذيب والانتقام والاصطلام ما لا تسعه الكتب المُؤلَّفة، وبقي ذلك مدَّة ثلاثمائة سنة إلى أن تنصَّر قسطنطين فحينئذٍ استقرَّت قواعدها وانتشرت في الأرض وأَمِنت الغوائل، ولم تنتشر في الأرض إلَّا بقوَّة ملوكها وسلاطينها، وكم من ملك من ملوك النصرانية بثَّ المسيحية أو الكاثوليكيَّة بالسيف مثل شارلمان وملوك فرنسا، ومثل قياصرة بيزنطة ومثل ملوك الروسية وملوك المجر وغيرهم، ثم عزَّز كلامه هذا بشواهد العصر الحاضر، فقال:
إن المتشيِّعين اليوم للدين المسيحي «دين الهدوء والسلام» هم أهل القوَّة الحربيَّة الدائِبُون على إعداد المُهلِكات في الحروب، حتى كأنهم أصبحوا ولم يبقَ لهم من شُغل يشغلهم إلَّا استخراج الذهب من بطون الأرض وإنفاقه على مصانع الحديد والفولاذ لطبع آلات الحرب في طول الأرض وعرض البحر، وقد افتنُّوا في أسباب الإهلاك والتدمير، ولم يكْفِهم أن يدمدموا على الناس ويأخذوهم بالبلاء عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن خلفهم ومن تحت أرجلهم حتى قاموا على تسخير الرياح ليرموهم من فوق رءوسهم بكلِّ دهياء … إلخ.
ثم هاجت بشوقي نخوةُ الإسلام، شأنه في كلِّ موقف، وحَمِيَ أنفُه للمدنيَّة الإسلاميَّة وقارنَ بينها وبين غيرها، فقال:
وختم شوقي هذه القصيدة بأبيات في غاية التأثير تَذُوب لها القلوب حَسْرة وذكرى وتتحدر العبرات شَفْعًا ووترًا، وتشهد لشوقي فوق شهادات لا تُحصَى بأنه شاعر الإسلام بجميع جوارحه رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيرًا:
ومن أحسن ما قال شوقي الخطاب الذي خاطَبَ به الخديوي عند زيارته للمدينة المنورة:
(١٠) شوقي والخلافة
ما كاد العالم الإسلامي يفرح بانتصار الأتراك على أعدائهم في ميدان الحرب والسياسة ذلك النصر الحاسم الذي كان حديث الدنيا، والذي تمَّ على يد مصطفى كمال باشا في سنة ١٩٢٣ — قلنا: هذا غلط مشهور؛ فالحركة الوطنيَّة في تركيا قام بها كاظم قره بكير وغيره قبل مصطفى كمال، ثم إنها بعد أن التحق مصطفى كمال بالحركة لم يكن فيها وحدَه، بل كان فيها عدة أبطال مثل كاظم قره بكير وحسين رءوف وعلي فؤاد ورأفت وعلى إحسان ونور الدين وعمر فوزي وغيرهم ممن أنقذ تركيا اجتماعُ مجهوداتِهم، وأكثر الفضل في انقياد الشعب التركي لهؤلاء يرجع إلى علماء الدين الذين تقدَّموا إلى الشعب باسم الدين، ولولاهم لم يقُمْ أهل الأناضول بهذه الحرب الاستقلالية — حتى أعلن هذا إلغاء الخلافة ونفى الخليفة من بلاد الأتراك، فنظم الشاعر هذه القصيدة يرثي فيها الخلافة وينبِّه ممالك الإسلام إلى إسْداء النُّصْح لهذا الرجل لعلَّه يبني ما هَدَم ويُنصِف مَن ظَلَم:
أي إن مجلس أنقرة الكبير ومصطفى كمال نفسُه أعلنوا بمنشورٍ رسميٍّ يوم أسَّسوا الحكومة التركيَّة في أنقرة بأن جلَّ مقصدهم من هذه الثورة على الدُّوَل الأجنبية المُحتلَّة، هو إنقاذ الخلافة الإسلاميَّة واستخلاص الخليفة الذي هو أسير في استامبول بين أيدي الإنجليز، وأعلنوا هذا القرار على جميع سكان تركيا، بل أوصلوه إلى جميع العالم الإسلامي، وكتبوا به إلى الإمام يحيى وغيره من ملوك الإسلام، فإنقاذ الخلافة كان هو الغرض الأول بزعم مصطفى كمال من هذه الحرب الاستقلالية، فلمَّا انتهت الحرب بالطائلة للأتراك كان أوَّل ما فعَلَه مصطفى كمال إلغاء نفس هذه الخلافة التي زعم أنه إنما ثَارَ لأجل المحافظة عليها، فكان دفْنُها ليلةَ الزفاف كما قال شوقي، ثم قال:
أي ثاروا لأجل أن يُضمِّدوا جراح الخلافة بزعمهم فلما اتَّسقَ لهم النصر قتلوا هذه الخلافة نفسها بغير جِراح، وبئس العهد وساءت الشيمة:
نعم، كانت الخلافة هي أحسن علاقة جامعة بين المسلمين وكان أربعمائة مليون مسلم في العالم يتولَّون حكومةَ تركيا بحجَّة أنها دولة الخلافة، فجاء مصطفى كمال وقطع هذه العلاقة بين تركيا والعالم الإسلامي، وزعم أنه لا يلوي على علاقة غير علاقة الترك خاصَّة وأن سائر المسلمين والأجانب في نظره سواء، وهو أمر مُخالِف للحقيقة وللواقع وللمصلحة، وكان أنور — رحمه الله — يقول لي: إن الأتراك الذين في الروسيَّة لا يعطفون علينا نحن أتراك تركيا بسبب أننا ترك بل بسبب أننا مسلمون. وهؤلاء الياقوت الذي هم في سيبيريا هم ترك من المَحْتِد مثلنا، ولكن نظرًا لكونهم وَثَنِيِّين لا يعطفون علينا ولا نعطف عليهم ولا يعرفوننا ولا نعرفهم.
وقد علَّق تحت هذا البيت تفسيرًا للعِرْبيد؛ وهو الشرير الكثير العربدة، وهي سوء الخلق من السكر:
أي إن هذه النظريات إنما انقاد لها أناسٌ لا يعلمون شيئًا سوى الحرب والضرب، فأما الذين يفكِّرون في مصاير الأمور ويفهمون شدوًا من السياسة فلا يمكن أن تُعجبَهم:
لا جرم أن شوقي وغير شوقي قد استعجلوا في الحكم، وأنا نفسي من هؤلاء المستعجلين، وطالما عذلت صديقي أنور على خلافه مع مصطفى كمال، ولمَّا كان مراد أنور بعد الحرب أن ينسلَّ نجيًّا من برلين إلى الأناضول ويأخذ بنصيبه من الجهاد لاستقلال تركيا نهيته عن هذا الأمر خشْيَة أن يكون ذهابه إلى الأناضول مثار فِتْنة بينه وبين مصطفى كمال تكون نتيجتها صَدْع الوحدة وتشظية العصا.
وقد استعنت عليه بالدكتور ناظم بك — أحد أركان جمعية الاتحاد والترقي والوطني المشهور الذي كانت نزاهته أشهر من أن تذكر، وشنقه مصطفى كمال بتهمَّة المؤامرة على حياته، وهو بريء من تلك المؤامرة براءة الذئب من دم يوسف، ولكنه كان ينتقد سياسة الغازي علنًا — فهذا الرجل هو الذي أعانني على أنور عندما كنَّا في برلين حتى توقَّف عن الدخول إلى الأناضول، وهكذا أَمِنَّا شرَّ الاختلاف بين قائدي الأتراك الكبيرين، ولكن مصطفى كمال إلى ذلك العهد كان جاعلًا شعاره الإسلام لا غير وكان يشهد الجمع ويحضر قراءة المولد ولا يبرح يخطب قائلًا: إخواننا العرب، إخواننا العرب، إخواننا المصريون وإخواننا المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد ذكرت مرة في إحدى الجرائد كيف قال لي: لا بدَّ أن نسترجع القدس إن شاء الله وهذا مُحقَّق، وإنما أقول إن شاء الله كمسلم لا أقول إني فاعل ذلك غدًا إلَّا أن يشاء الله … فهذه النغمات التي كان يسمعها الناس منه دائمًا ولا يعلمون ما يطوي في قلبه من دونها حملت الناس على حبِّه والثناء عليه بإسراف، فلما انعقدت معاهدة لوزان وتمَّ الصُّلْح مع تركيا وظنَّ الغازي أنه أَمِن المستقبل قلَبَ ظَهْر المِجَنِّ، ونسي ما كان يقوله وجاهر بعكس ما كان يجاهر به من قبل:
لا شك بأن الحقَّ أولى بأن يُقال، ولكن نقطة العراك هنا هي تعيين الحق فإنه بعد أن استقلت تركيا ضلَّ الناس سبيلَ الحقِّ في تاريخ حوادث هذا الاستقلال فجعلوا الفضلَ كلَّه في تحرير تُرْكيا لمصطفى كمال، وزعموا أنه هو الذي أوْجَدها من العدم بعد أن كان قُضِي عليها القضاء المُبرَم. وهذا خلاف الحقِّ وهو الخطأ المشهور الذي لا بدَّ للتاريخ من أن يصحِّحه في يوم من الأيام، ولو كان مصطفى كمال خدم تركيا في الحرب الخدمة الكبرى وكان من أعاظم القوَّاد بلا نكير:
أي أراد أن يُلغِي العقائد والتقاليد القديمة والأوضاع التي مَضَت عليها القرون بمجرد أوامر عسكريَّة أشبه بالأوامر التي يُصدِرها في ساحة الحرب:
لم يتخلَّف شوقي عن موقفِ صدْقٍ من مواقف الإسلام جميعها؛ ومن جملتها تأييد الخلافة الإسلامية، وقد سبق لنا شواهد كثيرة من شعره تؤيِّد صِحَّة دعواه هذه:
أدهم هو أدهم باشا قائد الجيش العثماني المُظفَّر في الحرب اليونانية، وأنور هو أنور باشا المشهور أحد أبطال الإسلام في التاريخ:
رحم الله شوقي فلم يكُن طبيبٌ أبصر منه بعِلَل الإسلام الحاضرة، وكان يعلم أن أكثر مَن يبيعون الدين ويفتون لأعداء الإسلام بما يريدون منه هُمْ من رجال الدين ومن ذوي العمائم ويا للأسف! فقد جَنَت هذه الطبقة على الدين جناياتٍ لا تُوصَف، وأخذت بالصادِقين المُخلِصين من هذه الطبقة، ومنهم فقهاء الأناضول الذين لولاهم لم يتمَّ القيام لمحاربة اليونان والحلفاء:
(١١) قصيدته في المولد النبوي
وله في ذكرى المولد قصيدة ليس للقلب طاقةٌ أن يمرَّ بها فلا يأخذ منها إلى هذا الكتاب شيئًا، ولا سيما أن في أوَّلِها أبياتًا هي اليوم لسان حالي الباعث بي لهذه الذكريات أضمِّد بها جراح النوى وأردِّد أوْرَاد الأسى، فهو يقول:
أي حفظ المال ينبغي أن يكون بميزان كما يَزِن الإنسان طعامه وشرابه على قَدْر حاجته إليهما؛ فلا يُسرِف ولا يُقْتِر ويكون بين ذلك قَواما، ثم يقول:
وهذا مرَضُ المسلمين في الوقت الحاضر؛ تجدهم اختلفوا في كلِّ شيء إلَّا أنهم اجتمعوا على خُلُق واحد، وهو الإمساك الشديد في المصالح العامة، مع أنهم يرون النصارى واليهود ماذا يبذلون وماذا يتكلَّفون على مصالحهم العامَّة، وأنهم يجودون في هذه السبيل جُود مَنْ لا يخشى الفقر، وكأن المسلمين يريدون أن يكتفُوا بالصلاة والصيام دون الزكاة التي لا يكون الإسلام إسلامًا من دونها. وهذا أكثر الأصل في بلائهم الذي يتخبَّطون فيه، وقد وفَّى شوقي هذا الموضوع حقَّه وكان كما قُلْنا نَطاسيًّا تامًّا في معرفة علل الإسلام الحاضرة:
وكان شوقي سخيًّا بما يملك لا يأبى أن يجمع المال، ولكنَّه كان يجمعه لِينُفِقَه ويعطي البرَّ حقَّه ويمتِّع به أهله الذين كان لهم كما قال خليله المطران: «رِئبالًا في اللأواء.» وكان فِعْل شوقي مُطابِقًا لقوله من جهة مؤاساة الفقراء، ثم إنه أخذ يبيِّن المساواة الطبيعية بين البشر ليتبصَّر بها الذين يستأثِرون بالمال لأنفسهم ولا يريدون أن يجعلوا للفقير نَصِيبًا:
ومن هنا تخلَّص إلى ذِكْر الرسول الأعظم ﷺ الذي لم يشْرُف الفقراء ولا اليتامى بشيء مثل كونِه خَرَجَ منهم، فقال شوقي:
هذه الأبيات تكاد تكون أمثالًا سائرة أشبه بقول شوقي: «وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.» ثم ذكر شوقي مولد الهادي عليه السلام، فقال:
ثم خاطب النبيَّ قائلًا له: إني سألت الله النصر لأبناء ديني، فإن كنت أنت الوسيلة عنده تعالى فإنه المجيب هذا الدعاء، فهو يقول:
فكيف قلَّبتَ نظَرك في شعر شوقي وجدْتَه يطوف في الآفاق ويرجع إلى مركز واحد هو الإسلام في دينه، والشرق في وطنه والعربيَّة في لغته والأخلاق في وصيَّته والعلم في رغبته، فكان عقله قويمًا وذوقه سليمًا ووفاؤه عظيمًا، وقد قُلْتُ فيه يوم رَثِيته:
وقلت:
وقلت:
(١٢) ملحمة شوقي في حرب اليونان
ولا مِراء في أنه لم يقل شوقي من شعر الملاحم أعظم من قصيدته البائيَّة في الحرب العثمانيَّة التي أوَّلها:
فإنها القصيدة الغرَّاء، واليتيمة الدهماء، والكلمة التي طارت في الآفاق فحلَّقت فوق المحلقات، ولا نظنُّ أنه يُوجَد عربي يمتُّ إلى الأدب بسبب إلَّا وهو يروي من هذه القصيدة كثيرًا أو قليلًا، ونحن أولاء الآن نروي منها بعض المقاطع التي يَلُوح لنا أنها آخذٌ للألباب وأملك للقلوب من غيرها وإلَّا فهي من الألف إلى الياء مُحكَمة السَّرْد متساوية النَّسْج لا تجد فيها عِوَجًا ولا أَمْتًا.
قال:
يريد أنه سليلُ ثلاثين سلطانًا إن كانوا قد درجوا فإن جلالتهم لا تزال حاضرة في الأذهان:
يريد بقوله قياصرة أنهم استووا على عرش القسطنطينيِّين مكان قياصرة الرومان، وبقوله خلائف أنهم تسلَّموا الخلافة الإسلامية مذ عهد سليم الأول من بني العباس، وبقوله خواقين بأنهم سلاطين الأتراك؛ لأن ملك الترك يُقال له خاقان، قال الحسن بن هاني:
ثم قال:
ثم يقول:
يعيد معنى بيته «وإنما الأمم الأخلاق» يذكر أن الأوطان لِتكون عزيزة مُحتاجة إلى الجمع بين السيف والقلم، ثم يقول:
ومنها:
هنا جاشت الفكرة برأس شوقي فذهبت به إلى أبعدِ حدود المبالغة، فلا نزاع في الترك إذا ذكرت الشجاعة والصبر على الحروب كانوا في الذروة العليا التي ينحط عنها السيل، ولكن القول بأن مشاهدهم لم تشهدها معد ويعرب فيه نظر. ولعمري أن معدًّا ويعرب عندما فاضت جموعها على بلاد الله كانت تقاتل في ساحات لا يحصيها العدد، فبينما جيوشها تحاصِر القسطنطينية كانت جيوشٌ أخرى تفتح إسبانيا وجنوبي فرنسا، وأخرى تقاتل أمَّة البربر العاصية، وأخرى تتوغَّل في إفريقية، وجحافل تغزو الهند، وفيالق تغزو الخزر، وجيوش فيما وراء النهر تغزو الأتراك في عقر دارهم. وكلُّ ذلك في وقت واحد لا تُلْهِيهم حربٌ عن حربٍ ولا تشغلهم ساحةُ قتال عن ساحةِ قتال، وكانت حرب الترك ساحة واحدة من تلك الساحات الكثيرة يستقلُّ بها قائد مثل قتيبة بن مسلم الباهلي تجتمع عليه الترك من كلِّ حَدَب، فيوالي عليها الهزائم ويقودها بالخزائم، وهو في قِلَّة بالقياس إلى أُمَم الترك التي اجتمعت عليه من كلِّ صوب، وما زال يُثخِن فيها حتى ضرب عليها الذلَّة والمسكنة إلى حدود الصين، ولاذت أخيرًا من بأْسِه بالإسلام ودانت به، فكان من ذلك الوقت مبدأ دخول الترك في الدين العربي، فصاروا فيما بعد أحمى حماته وأمضى سيوفه، ولكن لا يُقال إن أمَّة من الأمم تقدر أن تبذَّ العرب في ميادين القتال إذا كانت العرب مجتمِعة على قلب واحد. وما أتى العرب إلَّا مِن تقطُّعِ ما بينهم، وصعوبة مقادتهم لرئيس واحد. وفي هذا يفْضُلهم الترك وبهذا سادوا عليهم.
ومن أحسن ما قال شوقي في حياته في هذه القصيدة وفي غيرها وما قاله شاعر قديم أو حديث وصفُ عبورِ الجيش العثماني مضيق «ملونا» في الحرب العثمانية اليونانية، ولا يكاد يوجد في العرب مَن يمتُّ إلى الأدب بسبب إلَّا وهو يعرف هذه الأبيات قال:
إلى أن قال في قتال الحاج عبد الأزل باشا قائد فرقة الفرسان الذي اقتحم الموت جهرًا لا يمشي إليه الضرَّاء، وذلك طمعًا في الشهادة:
إلى أن يقول:
ويُلاحظ هنا على قوله: «منبر لي فأخطبُ» بضمِّ الفعل المضارع، وقد سبق ذلك استفهام في قوله: «فهل من ملونا» فالقاعدة هي أن الفعل ينتصب بعد الفاء إذا سبقه نفي أو استفهام، ثم يقول عن الترك:
وقال عن تلاقي الترك واليونان في سَهْل فرساله:
إلى أن يقول:
أي إن رياح الحرب تهبُّ شمالًا وجنوبًا.
ثم يقول:
يريد بعيون الجيش جواسيسه وأرصاده، ثم يقول:
لم يمرَّ بي في الشعر العربي كأنَّات أحْلَى وأجزل من هذه الكأنَّات التي هي مع وصف عبور ملونا واستشهاد عبد الأزل باشا عيون هذه الملحمة الجبارة، ثم يقول:
يريد بالقنابل كرات المدافع المنفجرة وهو خطأ دخل على لغة شوقي من كلام الجرائد، وكم للجرائد من فريسة في ميدان اللغة؛ فالقنابل في اللغة جمع قنبلة وهو مصيدة يُصاد بها أبو براقش، والقنابل أيضًا جمع قَنْبَل بفتح فسكون ففتح، وهو الطائفة من الناس والطائفة من الخيل، قيل من الخمسين فصاعدًا، وقيل من الثلاثين إلى الأربعين. وأما الكرة المحشوة بالديناميت التي تنفجر عند قَذْفها من فم المدفع فقد شبَّهوها بالقنبرة لا بالقنبلة؛ أي بالراء لا باللام، ووجه الشبه أن الكرة لها رأس ناتئ مُحدَّد وأن القنبرة وهي نوع من الدجاج لها فضل ريش في رأسها وهذه الكرة في شكلها كالقنبرة، وأظنُّ هذا الاستعمال بدأ في زمان محمَّد علي أمير مصر؛ لأني رأيت هذه اللفظة في قصيدة للشيخ أمين الجندي الشاعر الحمصي؛ حيث يقول:
ثم يقول شوقي:
والشطر الثاني من البيت الأول من هذه الأبيات الثلاثة ينظر إلى قول محمود سامي:
وأما قوله: «ولم تحتضر شمس النهار فتغرب.» فالأَوْلى فيه نَصْب فعل «تغرب» لأنَّه وارد بعد نفي كما تقدَّم الكلام عليه. وفي آخر القصيدة يقول شوقي مخاطبًا السلطان عبد الحميد ولا ينسى في هذا الخطاب نغمته الدائمة، وهي أنه شاعر النيل غير مُدافع:
وهذا البيت الأخير ينْظُر إلى قول القائل وأظنُّه الكميت في قصيدة يمدح بها آل البيت منها:
(١٣) قصيدة شوقي بمناسبة مجيء ملنر إلى مصر
ولشوقي يوم جاء اللورد ملنر إلى مصر سنة ١٩١٩ قصيدة رنَّانة عن المشروع الذي يسمِّيه المصريُّون بمشروع ملنر؛ لأن شوقي لم يغفل حادثة سياسية ذات بالٍ في الشرق حتى مَهَرَها بمنظومة لتسجل تلك الحادثة على الدهر، قال:
إلى أن يقول:
بدأ هذه القصيدة بالنسيب ككثير من قصائده؛ لأنه كان على عادة شعراء العرب في تقديم النسيب، وأما الذي لم يرافق صاحبه في الشيب وشاب الصاحب ولم يشب المصحوب؛ فيريد به القلب لأنه طالما يكون الإنسان شيخًا ويكون قلبه شابًّا، وتقول العامة لمن كان في هذه الحالة: «نفسه خضراء.» وأما قوله: «واه بجنبي خافق.» فهي كلمة للشيخ أحمد الزرقاني الشاعر الذي أنشدني قصيدة من شعره يوم ذهبت إلى مصر قدمتي الأولى إليها منذ خمس وأربعين سنة، وما زال عالقًا بذهني منها ما يلي:
وكانت في شعر الزرقاني رقَّة يشعر بها كلُّ سامع، ثم يقول شوقي:
رثاء المؤلف لمحمد فريد رحمه الله
وقد ذكَّرتني هذه الأبيات أبياتًا قلتها في رثاء المرحوم محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني الذي توفي سنة ١٩١٩ في برلين، ولم أكُنِ اطَّلَعتُ على قصيدة شوقي هذه، بل كانت وفاة فريد قبل مشروع ملنر، وإنما توارد الخاطر مع الخاطر؛ قلتُ:
وهذا هو بيت القصيد، ومنها خطابًا لفريد رحمه الله:
وكان موت فريد بمرض الكبد، ثم قلت:
لا شك أن الكثيرين ممَّن كانوا يرمون محمد فريد بالتهوُّر وعُقْم المساعي، عادوا بعد الحرب العامة إلى أفكاره حتى أصبح الجميع وطنيين، يدينون من العقيدة الوطنية بما كان يدين به، فصار الجميع حزبًا وطنيًّا؛ ومنها:
ولعمري كان جديرًا بالمصريين بعد عقد المعاهدة التي انعقدَتْ بينهم وبين الإنكليز أخيرًا أن يَؤمُّوا قبرَيْ مصطفى كامل ومحمد فريد، ويترحموا عليهما وعلى الشيخ جاويش في يوم مشهود:
•••
ولهذه المرثية نكتة لا بأس بإيرادها، وما زال للحديث شجون؛ وذلك أني لمَّا سمعتُ نعي محمد بك فريد كنتُ في برن من سويسرة، وكنتُ أسكن أنا وسعادة الدكتور عبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين اليومَ في أوتيل واحدٍ على قمة الجبل المُشرِف على برن، فلما جاءنا خبرُ فريد وكان عزيزًا على كلٍّ منَّا بلغ الأسى منَّا مبلغه، فقال عبد الحميد بك: لا بد أن ترثيه. فقلتُ له: وهو كذلك. وثاني يوم قال لي بعد أن نهضنا عن الطعام: هل عملتَ الرثاء للمرحوم فريد؟ فقلت: لا. قال فيجب أن تعمله الآن. قلتُ: لا بد لي من القيلولة بعد الطعام. قال: إلا أن البريد سيمشي الآن، فوالله لا تقيل قبل أن تعمل هذا الرثاء. فصعدتُ إلى غرفتي ونظمتُ هذه الأبيات في نصف ساعةٍ، ورجعت إلى عبد الحميد بك فناولتُه إياها، فدهش وقال لي: اذهب الآن ونَمْ. وحقيقة الحال أن سرعة النظم هي على قدر عُمْق التأثُّر ودرجة الاقتناع بالموضوع، فإذا كان الإنسانُ ملآن من الموضوع انثالَتْ عليه الألفاظُ كأنها تتقلع من صبب آخِذًا بعضُها برقاب بعض، وإذا كان الإنسان محمولًا على الموضوع بغير سائق الشعور أو حادى الاقتناع كان في نظمه أو نثره متعملًا متكلفًا، كأنما يصعد جبلًا؛ فأوصاف محمد فريد وأعماله هي التي أملَتْ على ناظم هذه المرثية ما أملَتْه، حتى قال هذه الأبيات في نصف ساعة وهو ثقيل الأجفان يريد أن ينتهي منها ليأخذ نصيبه من الراحة.
•••
وَلْنعُدْ إلى قصيدة شوقي في مشروع ملنر، فهو يقول:
(١٤) قصيدة شوقي في مشروع ٢٨ فبراير
وقال شوقي في مشروع ٢٨ فبراير، ويا ليته عاش حتى رأى مصر حرةً مُطلَقة من عقالها كما هي اليوم:
وجاء في حاشية هذه القصيدة هذا التفسيرُ، وأظنه لمحمد حسين بك هيكل: «لم يألُ: لم يقصر؛ قال تعالى: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا، وهذا البيت من الحِكَم الغالية التي لا تتاح لغير أمير الشعراء، فكَمْ وراء جهاد الحياة من راحة، وكم وراء الضعف من قوة.» قلتُ: إنَّ لشوقي بلا نزاع حِكَمًا غالية لم تكن تُتاح لغيره، إلا أنه لم يكن أبا عذرة هذه الحكمة التي استهَلَّ بها هذه القصيدة؛ فإن أبا تمام الطائي من قبله هو الذي قال:
وهي من قصيدته التي هنَّأ بها المعتصم على فتح عمورية:
ثم يقول شوقي:
يريد أن يقول إنَّ من الناس مَن استطاره طربًا هذا الاستقلال المقيد؛ لأنه رآه بالقياس إلى الماضي غير منتظر، ومنهم مَن استطاره جزعًا لأنه نصف استقلال وليس هو بنشيدة آمال المصريين، فهو ينهى الفريقين هذا عن الطرب وهذا عن الجزع، ثم يقول للجازع: إن العين لا ترى المرئياتِ جيدًا إذا كان يجولُ الدمعُ في مآقيها، فارفَعِ الدمعَ من عينك حتى تقدر أن ترى جليًّا.
قال: إما الصبر وإما الحرب، فأما الصغائر فلا تصل بكم إلى غاية. ثم قال:
يريد أن يقول إن عقابًا كئودًا قد تمهَّدَتْ، ولا تزال عقاب لا تقل عن تلك غير ممهَّدة، ولكن إذا اتَّفَقَ الشعبُ وانتخب نوَّابه، فقد يصل إلى أرَبِه، وربما تيسَّرَ في الغد ما لم يتيسَّرِ اليومَ (ولقد تيسَّرَ ما تكهَّنَ به شوقي بعد ثماني سنوات مما قال)، فضُمُّوا مجهوداتكم واجعلوها فكرةً منسوبةً للبلاد بأسرها، ولا تضيِّعوا الوقتَ في نسبتها إلى الأشخاص، وتفضيل زيد على عمرو، والاختلاف على مَن كان هو العامل:
يقول: إذا كانَتِ الهيجاءُ دائرةً، فليس من العقل أن يشتغِلَ الناسُ بإحصاء مَن ذهب أو إحصاء ما ذهب، بل هذا متروك إلى ما بعد انتهاء المصاف، كذلك المعارك السياسية التي التاريخ وحده هو الذي يعطي فيها كلَّ مقاتِل حقَّه، فإلى التاريخ مرجع الفصل في هذه القضية، وأما أنتم فلَسْتُم الآنَ في تاريخ بل في سياسة تجِبُ معالجتُها بما يناسبها. ثم يقول:
ولقد آتى الله الكنانةَ حزمًا كافيًا في أثناء غارة إيطاليا على الحبشة، فاستغلت الخصامَ الإيطالي الإنكليزي وقطعَتْ ذنبَ تلك الحماية.
أي إن الصليب كان خشبًا لا حديدًا، وكان أصحابه أضعفَ خلق الله، ومع هذا فقد انتهى أمرهم إلى ما انتهى إليه من القوة، فلا ينبغي أن يعتمد القوي على قوته، ويسرف في الاعتماد عليها، وكَمْ منَّ اللهُ على الذين استُضعِفوا في الأرض وجعلهم أئمةً.
وهذه الأبيات الثلاثة الأخيرة هي من الأبيات الخالدة التي يحفظها مئاتُ الألوف من الناطقين بالضاد، ولا يبرحون يطرزون المجالس بها، ولو تُرجِمت إلى لغة أجنبية لما خسرَتْ شيئًا من طلاوتها ولا من قوة معناها، كما هو الشأن فيما يُحوَّل من لغة إلى لغة.
(١٥) قصيدة شوقي عن تأجيل حفلة التتويج لملك إنكلترة
ولشوقي قصيدة في تأجيل حفلة التتويج لملك إنجلترة إدوارد السابع، وقالوا إنها تأجَّلَتْ لإصابة الملك بدملٍ، ومطلع هذه القصيدة هو هذا:
ومنها:
ما أحسن قوله يجمع من ذيل المخيلة ساحبه؛ أيْ يقصر من ذيل الخيلاء الذي كان يجرره.
(١٦) قصيدة شوقي في ذكرى كارنارفون
وقال شوقي في ذكرى كارنارفون:
يريد بالأديم وجه هذه الأرض.
(١٧) قصيدة شوقي في تكريم الريحاني
وله في إكرام الفيلسوف الأديب الكبير الأستاذ أمين الريحاني اللبناني عندما جاء إلى مصر، وأقام له الأدباء حفلًا على سفح الأهرام، قال:
ومنها:
ثم يخاطِب الريحاني، وهذا الخطابُ يذكِّرني بدويًّا سمعَ مديحًا في رجلٍ كبيرٍ فقال: القولُ على الفعلِ يزين:
يقول له: لستَ أنت أولَ نجمٍ من أنجم سورية، فقد طلع منها نيَّراتٌ وقَّادةٌ قبلك، فاطلع الآن بعد مصر على اليمن، وتجَلَّ على العراق لترى ما ترى في رسومِ تلك الأربع وتتذكَّر مجدَ العرب القديم. ولقد قام الريحاني وايم الله بهذه المهمة، وكتب عن أحوال جزيرة العرب الكتبَ الممتعةَ، ودعَا إلى وحدة العرب بكل طريقة، ولا بد من الاعتراف بهذه الحقيقة. ثم قال له:
يقول للريحاني إنك قضيتَ أيامَ شبابك في عالمٍ جديدٍ أذَلَّ اللهُ له أعرافَ البدائع الصناعية وألانَ أعطافَ الروائع العلمية، ولكنه لم يدرك شأْوَ العرب في فصاحة اللسان، ولم يلد شعراء كثيرين مثل حسَّان بن ثابت، ولا خطباء كثيرين مثل زياد بن أبيه. ثم قال:
يقول: إن هومير وهو أقدَمُ الشعراء، لا يزال شعره حديثًا طلِيًّا لم يبلغ درجته شعراء كثيرون تأخَّروا عنه عشرات من القرون؛ وذلك أن الشعر ليس فيه قديم وجديد، وإنما فيه لذيذ وغير لذيذ، فما استلطفته النفوس فهو شعر لا تخلَقُ ديباجتُه ولو كان قديمًا، وما مجَّتْه الأذواقُ فليس بشعرٍ ولو كان جديدًا.
(١٨) رأي المؤلف في قديم الشعر وجديده
قلت: ولو كانتِ القدمة مما يهجن الشعر لَوجَبَ أن يكون هومير منبوذًا؛ فإنه أقدم شاعرٍ، ونحن لم نَزَل نقول لهؤلاء الذين لا يفتَئُون يتكلمون في القديم والجديد من الشعر، ويزعمون أن لكلِّ عصرٍ «مدرسةً» على قولهم في الشعر: إن هذه «المدرسة» تكون في العلم، وتكون في الصناعة، وتكون في الزراعة، وتكون في كل شيء إلا في الشعر، فإن مدرسته هي القلب، وإن طريقته هي النفس، وإن النفس البشرية لم تتغيَّرْ ولن تتغيَّرَ، فهي هي في أذواقها ومشاربها ومواردها في الحياة ومصادرها، فإذا كان العلم يتغيَّر بظهور حقائق جديدة وبروز أسرار كونية كانَتْ حتى اليوم خافيةً، فإن العلم شيء والشعر شيء آخَر.
وما سمعنا — يا ليت شعري — أن الإنجليز زهدوا في شعر شكسبير لكونه عاشَ قبل هذه الأيام بثلاثمائة سنة، ولا أن الألمان عابوا غوته لقِدَم عهده ومجيئه قبل اليوم بمائة وخمسين سنة، ولم يَزَلْ غوته هو عند الألمان سيد الشعراء، ولم يَزَلْ شكسبير عند الإنكليز أكبرَ الشعراء، وشكسبير وغوته وملتون وكورنيل وراسين ودانتي، وكلُّ هؤلاء لم يعرفوا شيئًا من أوضاع العصر الحاضر ببداهة كونهم قد سبقوه بأعصرٍ، وهم على كل حالٍ متقدِّمون لا محدثون.
وكَمْ من مرةٍ نقول لهم: ليس الشعر بكيمياء ولا طب ولا جغرافية ولا طبيعيات، وإنما هو تأثُّرات نفسية وانطباعات فكرية لا غير، هذا من جهة الشعر على العموم، وأما من جهة الشعر العربي الذي تريدون أن تفرنجوه، فالشعر العربي لا يكون شعرًا إلا إذا وافَقَ ذوقَ العرب، ولاءَمَ مشارب أنفسهم، وجانَسَ مذاهب لغتهم، واتَّصَلَ بمناحي حياتهم نظمه قديم أو متوسط أو محدث كلهم على حدٍّ سواء، فإذا بايَنَ الشعرُ العربي أساليبَ العرب في بيانها وطرقها في التعبير عن خوالج نفوسها، لم يتأثَّرَ به قارئ، ولا يسوغه سامع من العرب، وربما لم يفهموه أصلًا على حدِّ ما قال الأستاذ محِبُّ الدين الخطيب: إن الواحد من هؤلاء «يظلُّ يومه يسطو على منظومات الإفرنج يستلُّ منها معانيها الغريبة عن الأذواق العربية، فيصوغها بألفاظ وتراكيب يلعن بعضها بعضًا، فلا يفهم منها القارئُ العربي إلا بقدر ما أفهم أنا من الصيني.» وأنا أيضًا معترِف بأني لا أفهم هذه اللغة التي يكتبون بها.
ثم يختم شوقي خطابه للريحاني:
(١٩) إحدى قصائد شوقي في السلطان عبد الحميد
ولما أُلقِيتْ قذيفةٌ على السلطان عبد الحميد سنة ١٩٠٥ ونجا السلطان منها، هنَّأه شوقي بقصيدة مطلعها:
ومنها:
أي إن سلاطين آل عثمان هم ذرى ملوك الإسلام.
أي صارَتْ إدارةُ الملك مَلَكةً عندك بطول اضطلاعك بها.
يجعل نفسه من السلطان الخليفة بمقام حسَّان من رسول الله عليه السلام، ويقول إنه لم يَزَل مغمورًا بعطايا الخليفة، ولكنه هو إنما يرغب في جوائز الله بتأييدِ خليفته في الأرضِ، لا في جوائز هذه الدنيا. ولم يشأ شوقي أن يمدح الخليفة من دون أن يمدح نفسه مقتدِيًا في ذلك بإمامه أبي الطيب المتنبي الذي كان يقول:
ويقول:
ويقول وقد تجاوَزَ الحدَّ وانتهى بذلك إلى الحمق:
وهذه قصيدته «وا حَرَّ قلباه ممَّنْ قلبه شبمُ» ملأى بأوًا وعجبًا وعجرفةً، لا يشكُّ سامعها في أن المتنبي قصَدَ يومئذٍ فراقَ سيف الدولة وقطْعَ صلتِه به، ومن إعجاب الشعراء بأنفسهم ما يغتفره لهم الناس، مثل قول المتنبي:
ولكن منه ما يسمج على كل حالٍ، مثل قول المتنبي «بأنني خيرُ مَن تسعى به قدَمُ»؛ شهد لنفسه بما لا يوافقه عليه أحد، فأما شوقي فلم يصل إلى ذلك الأمد في البأو، وإنْ كان لم يقصر في ذلك عند قوله:
أي إنه كما كان أحمد بن الحسين المتنبي رجل وقته في الشعر، فإن أحمد شوقي هو رجل هذا الوقت، وإنه يفضُل المتنبي بكون شعره سويًّا لا تجد فيه عوجًا ولا أمتًا، وإن المتنبي كان في شعره يعلو ويسفل، ويقرن بين الدرِّ والحصى والسيف والعصا.
(٢٠) شوقي نصير الصون والعفاف
ولشوقي قصيدة أُلقِيت على جمعٍ حافِلٍ من سيدات مصر في حديقة الأزبكية تدل على شدة اهتمامه بصيانة الأخلاق والفضائل، وتحصين التربية العائلية من نزعات العصر الحاضر ونزغات الخلاعة والفجور، بينما كثير من الأدباء يزينون للناشئة الخروجَ على تقاليد الصون، ويريدونها فوضى اجتماعية لا لجامَ لها؛ وقال شوقي ولم يزل على صراطٍ مستقيمٍ:
ينهى أهل مصر عن أن يقوم فيهم مَن يخطب فيَفْجُر، فيكون خطبًا على مصر الناشئة، ويرخي فيها من قيود الآداب الاجتماعية، ويسهل العبث بالتقاليد القديمة الكريمة، ويقول لهم: تأمَّلوا في اليابان وشدة اعتصامها بتقاليدها مع علوِّ كعبها في المدنية. ثم يقول لهم: ماذا افتتانكم إلى ذلك الحدِّ في حضارة أوروبية لم تجدوا من ورائها غير العُسْر والرقِّ. ثم يقول:
جزاه الله عن الإسلام خيرًا، بل جزاه عن المجتمع الشرقي بأسره خيرًا؛ فإنه لم يقف موقفًا من مواقف الاجتماع غفَلَ فيه عن الطريقة المثلى، وهو وإنْ كان كلامه لم ينجع كما يجب، ولم يؤثِّر بقدرِ ما نحِبُّ، بسبب استيلاءِ الضلالة على العقول وإفلات الشهوات من العقال، فلا بد أن تكون للأخلاق كرَّةٌ، وأن يعود السلطانُ للشريعة، ويتناشد الناس أقوالَ شوقي هذه ويرحموا عليه. ثم قال:
فرَّقَ شوقي بين الجمود وبين الاعتصام بالتقاليد الكريمة والمبادئ الفاضلة التي لا سعادةَ للمجتمع إلا بها، فليس هذا من هذا، بل الجمود ليس من تقاليد هذه الأمة، وإن أحسن ما يعمل في مدارس الإناث هو تحفيظ هذه الأبيات للآنسات، وتجديد تلاوتها في المحافل.
(٢١) شوقي يدمدم على رذيلة الانتحار
ورأى شوقي ما فَشَا في مصر من انتحارِ صغارِ الطلبة لدن سقوطهم في الامتحانات، فنظَمَ هذه القصيدة في ذمِّ اليأس، ودعوة هؤلاء الشبَّان إلى الثبات في المعركة، وإلى بَسْطِ الأمل في الحياة، فقال:
وبعد أن ذكَرَ هذه الأسباب التي تضيق سُبُل العيش على الأحداث، وأنحى باللائمة على الأهل والمعلمين، عاد فنصح للأحداث بالصبر والتأنِّي والتقدُّمِ إلى الأمام، فقال:
أي ربما كان بين هؤلاء المنتحرين لأجل سقوطهم في الامتحان مَن لو صبَرَ على نفسه، لَجاء عالِمًا كبيرًا أو كان في عصره نادرًا.
أي بكرتم في الغمِّ من هذه الدنيا، فسوف تأتيكم الشيخوخة بما هو حسبكم من هذه الجهة.
النشأ محرَّكَة جمع نشء، وهو النسل وكثيرًا ما يستعمل شوقي هذه اللفظة في خطاب الشبَّان هذا، وكم أصابَ في قوله اطلبوا العلم لذاتِ العلم؛ فقد رأيتُ كثيرًا من الشبَّان يجعلون جميعَ وكدهم في تحصيل الشهادة ويرون بها منتهى السعادة، وإذا حصل الواحد عليها ظنَّ نفسه عالمًا لا يجوز أن يقال له أخطأْتَ، أَوَليس أنه أحرز الشهادة؟ ورأيتُ شبَّانًا آخَرين يكاد أحدهم يذوب حسرةً وتألُّمًا على كونه لم يُصِبِ الشهادةَ ولم يَفُزْ بما فاز به غيره، وهو يتخيَّل أن الأرض قد ابتلعَتْه، فكنتُ أقول للفئة الأولى: لا يغُرَّنَّكم نيْلُ الشهادة فتناموا بعدها قائلين لأنفسكم أنكم صرتم علماء، بحجة أن الشهادة هي في أيديكم، بل يجب أن تثابروا على الدرس والتحقيق كأنَّ شهادتكم لم تكن، فالشهادة ليست العلم. وكنتُ أقول للفئة الثانية: ما أرى تأخُّرَكم في الامتحان إلا خيرًا لكم؛ إذ بهذا التأخُّر تضطرون إلى مراجعةِ دروسكم المرة والمرتين والثلاث، فيكون ذلك وسيلةً لتتمكَّنوا من العلم وتعرفوا أكثرَ ممَّا عرفه أصحاب الشهادات، واعلموا أن الشهادة ليست هي العلم الحقيقي، بل هي علامة من علاماته، فمَن عرف نفسه قد أحكَمَ الفن الذي عكَفَ عليه، فلا ينبغي أن يحزن على تأخُّر الشهادة، ومَن عرف نفسه لا يزال غير ضليع في العلم الذي درسه، فلا ينبغي أن يفرح بهذه الورقة التي أعطاه إيَّاها الأساتيذُ، وكثيرًا ما قدَّموا متأخِّرًا وأخَّروا متقدِّمًا، فكَمْ من طالبٍ تأخَّرَ أيامَ التحصيل، ثم بعد خروجه من الجامعة نبَغَ وتقدَّمَ وصار من كبار العلماء.
وهذا كما يقول شوقي الذي قسم الله له من المنطق ما لم يقسم إلا لأعاظم الفلاسفة. وختم شوقي هذه القصيدة بذمِّ الانتحار واستنكارِ قتْلِ النفس التي لا يجوز أن تموت إلا باسم الله تعالى، ولم يحمد موطنًا يجوز فيه الاستخفاف بالنفس إلا موطن الجهاد، فقال رحمه الله:
(٢٢) شوقي يتوجَّع على بيروت يومَ ضرَبَها الطليانُ أيامَ حرب طرابلس
وله عندما ضرب الأسطول الإيطالي مدينةَ بيروت في أثناء حرب طرابلس الغرب:
ثم يقول:
يريد بها «طبرق» الواقعة غربي السلوم ضمنَ حدود قضاء درنة، وقد كان الناس دعوا جنودَ السفينة الصغيرة العثمانية الراسية في المرفأ للخروج منها قبل أن يضربها الأسطول، فأَبَى الضبَّاطُ ذلك وأصَرُّوا على البقاء في السفينة قيامًا بالواجب، ولو كانوا سيموتون لا محالةَ، فتلقَّوا الموتَ اليقين حتى لا يقال إنهم فرُّوا منه.
يشير إلى قول حسان:
يشير بالأبلَقِ الفرْدِ الأشَمِّ إلى جبل لبنان وبَنُوه بسورية العزيزة وطن الكرم والشجاعة، قائلًا لبيروت إنها أمك البرَّة.
(٢٣) وصف شوقي لاستانبول
ولشوقي وصْفٌ للآستانة:
هذه منازل ومتنزهات في البوسفور، أما «البندلار» فهي أودية ذات سدود تشكَّلَتْ منها بحيراتٌ يذهب ماؤها إلى الآستانة، وشرشر هي عين ماء، وترابيا هي قرية على ضفة البوسفور وكذلك «بيوك دره». ثم يقول:
هنا تحامَلَ أخونا شوقي على الشيوخ الذين لولاهم في الحقيقة لم يقم أهل الأناضول ولا لبُّوا دعوةَ كاظم قره بكير، ولا مصطفى كمال، ولا أحد سواهما؛ فالجهاد التركي في وجه الحلفاء واليونان، وبعبارة أخرى الحرب التي يسمونها بحرب الاستقلال، لم تكن إلا بتحريضِ الأئمة والمشايخ وجميعِ أصحاب العمائم، وذلك بصارخة الإسلام التي لبَّاها الشعبُ التركي.
هذه هي حقيقةٌ لا يكابِر فيها إلا مَن أعمَتِ الضلالةُ قلوبَهم، ومَن غلبوا على الأمور اليوم، فظنوا أنهم يسخرون الحقائق كما يسخرون الأهالي، ويغلبون على التاريخ كما غلبوا على المناصب، ولا نعلم أحدًا من علماء الترك باعَ بلاده من الأجانب بجبَّة، وإنما كان بعضهم سيئ الظن ببعض القوَّاد الذين أقحموا أنفسهم بحرب الاستقلال، وكانوا مطلعين من قبلُ على ضمائرهم بحق الإسلام والأخلاق، متوقِّعين من غلبهم أن يئول الأمرُ إلى ما آلَ إليه من الإلحاد في الدين، ومن هدم الخلافة، ومن القضاء على الأوضاع الإسلامية بأسرها؛ مما عاد شوقي نفسه بعد قليلٍ فاعترَفَ به وناحَ وبكى من أجله، وقصيدته الحائية التي مرَّتْ أعظمُ شاهد على ذلك؛ فالذين أفتوا بما أفتوا به لم يكونوا خائنين لوطنهم، وإنما كانوا أمناءَ لدينهم خائفين على الإسلام من أمرٍ يأتي.
وقد يجد المعترض على كلامي هذا وجهًا للجواب، ولكنه يكون جوابَ سفسطة، ليس هنا محل الشرح والتفصيل لبيانه، وقد زلق شوقي في هذه الفكرة كما زلق ملايين من الخلق، ولكن الحقيقة لا يضرها كثرةُ عددِ مخالِفِيها.
(٢٤) قصيدة شوقي في اللورد كرومر (يوم عُزِل عن مصر)
ومن قصائد شوقي المشهورة القصيدة المسمَّاة (وداع اللورد كرومر):
يقول لكرومر: إنك غلبتَ على مصر بقوة الأسطول الإنجليزي آمنًا بذلك، فهل تقدر أن تقول إنك ملكْتَ قلبًا واحدًا من قلوب أهل مصر؟ ومَن لم يملك القلوبَ فلا يقال إنه ملك شيئًا؛ لأن الممالك لا يمكن أن ترتكِزَ على رءوس الحراب دائمًا:
لما جرَتْ حفلةُ الوداع للورد كرومر في دار الأوبرا يومَ خروجه من مصر، خطب رئيس النظار مصطفى باشا فهمي، وبحسب العادة في مثل تلك الحفلات أثنَى على المودَّع وأظهَرَ الأسف لفراقه، فأجابه اللورد كرومر بكلامٍ نالَ فيه من كرامة الأمة المصرية ومن الخديوي إسماعيل، ولم يُراعِ شيئًا من شروط الكياسة، وأغرب ما في الأمر أنه قال ما قال في حضور الأمير حسين كامل ابن الخديوي إسماعيل وسلطان مصر فيما بعدُ، وهذا ما يشير إليه شوقي بقوله: «شهد الحسين عليه لعن أصوله»، وأما الأعمى فهو صديقنا الأستاذ الشيخ عبد الكريم سليمان، وكان بصره ضعيفًا حتى كاد يكفُّ في الآخِر، وما نظنُّ شوقي ذكَرَه هنا إلا على سبيل النكتة، أو كما يقال جرته القافية؛ فإن الشيخ عبد الكريم لم يكن له شأن في السياسة، ولم يكن حضوره تلك الحفلة إلا كما يحضر سائر الاجتماعات، فقد كان مولعًا بذلك، وكان الناس يتنادرون عليه في كثرة وجوده في المآدب والمحافل، وكان حلو الفكاهة يطارد في ميدان المداعبة أحسن طراد، وكانت الناس تستخِفُّ روحه؛ فأما أن يقوم الشيخ عبد الكريم ويردُّ على اللورد كرومر في وجهه، على حين الأمراء والوزراء تحمَّلوا كلامه وأبلسوا أمامه، فلم يكن من فرسان ذلك الميدان. ثم يقول:
نعم، إن الكثيرين من سعاة الأجانب ودعاتهم كانوا دائمًا يبينون للناس ما جرى من الإصلاحات في مصر لعهد الإنجليز، وينسون أن الله تعالى أنعَمَ على مصر بالنيل، وأنه لولا النيل لم تتسهَّلْ هذه الإصلاحات، وأن الإنجليز دخلوا بلادًا غير مصر فلم يُوفَّقوا إلى شيءٍ ممَّا وُفِّقوا به في مصر؛ لأنه لم يكن لتلك البلاد نيلٌ يسقيها ويسيل الذهب في واديها؛ ثم إن هؤلاء ينسون شيئًا آخَر، وهو أن مصر على فرض أن الإنجليز لم يدخلوها، ما كانت لتقف في مكانها السياسي والاجتماعي والإداري وتبقى متأخِّرة عن درجة غيرها، أَفَلَا يرون أن محمد علي كان قد أنشأها نشأةً جديدةً، وبنى فيها المدارس والمعاقل والمعامل، ونظم الجيوش وأجرى في البحر الأساطيل، ومهَّدَ الطرقَ وبنى السدودَ وشقَّ الجداولَ إلى غير ذلك مما يعدِّده شوقي، فيقول:
يريد أن يقول إن الإنجليز كانوا يجورون على خزانة مصر ويجحفون بها أكثر مما كان إسماعيل يجور عليها، فلماذا لا يزالون ينتقدون إسرافه؟
أي إنه إن كان إسماعيل باشا ظلم وقتَلَ إسماعيل باشا المفتش ظلمًا، فكم ظلمتُم أنتم وقتلتُم ظلمًا من أناس في حادثة دنشواي، وهي أن جنودًا من جيش الاحتلال الإنجليزي اصطادوا حمامًا لأهل دنشواي (قرية من أعمال المنوفية)، برغم رجاء أهل القرية لهم ألا يفعلوا، فوقع بين الفريقين نِزاعٌ من أجل صيد الحمام، فاعتدى الجنود الإنجليز على بعض الأهالي، فدافعوا عن أنفسهم وفَرَّ أحد الإنجليز في الحرِّ، فأُصِيب بضربة الشمس فمات، وعند ذلك قامَتْ قيامةُ اللورد كرومر، فأمر بأهل القرية فحُوكِموا محاكمةً صارت مثلًا مضروبًا في الظلم، وشنَقَ عدةَ أشخاص من أهل القرية، وجلَدَ آخَرين وسجن كثيرين، وشاعت فظاعةُ هذه الحادثة حتى في إنجلترة نفسها، فاضطرت الحكومة الإنجليزية أن تصرف اللورد كرومر عن مصر بسببها؛ ولذلك غلب عليه الحقد فتكلَّمَ بما تكلَّمَ به في حفلة توديعه، وخالَفَ الأدبَ بما فعله، وتركها على نفسه سبةً باقيةً زادها شعرُ شوقي تخليدًا.
أي إنه إن كان إسماعيل قد استعمَلَ المقرعة في أيامه، فأنت أيها اللورد جعلتَ لهذه المقرعة ذيولًا، وجلدتَ أكثر مما جلد إسماعيل، ومن الجملةِ ما جلدتَ في دنشواي.
أي كلما قدَّمَ اللورد كرومر تقريرًا سنويًّا عن مصر والسودان، ادَّعَى لنفسه من الإصلاحات ما ادَّعَى، ونزلَ ذلك منزلةَ الحقائق التي لا شكَّ فيها، ومَنَّ بها على مصر مَنًّا ثقيلًا، كما قال بعضهم:
ثم ذكر كيف أضاع اللورد كرومر الجيشَ المصري وضعضَعَ قوته عمدًا، وقلمَ أظفارَه خبثًا ولؤمًا، وحرَمَ ضبَّاطه الترقِّي عن درجات معلومة، فصاروا يعيشون بلا أملٍ، ويخدمون بلا مكافأةٍ، مع أن إنجلترة إنما فتحَتِ السودانَ بدمِ هذا الجيش المصري لا بغيره، وقد صاغ شوقي هذا الموضوع بالأبيات الآتية:
ثم يذكر شوقي أصنافَ الناس الذين يحِقُّ لهم أن يأسفوا على انفصالِ كرومر عن ولاية أمر مصر، مثل الإنجليز الذين ملَّكَهم كرومر زمامَ هذا القطر، ومثل أعضاء الكلوب أو النادي في القاهرة، ومثل القسيسين المبشِّرين، ومثل الصرَّافين بلندن، ومثل جريدة التايمس والجرائد الاستعمارية، ومثل شركة قناة السويس؛ فقال:
حمر الثياب كناية عن العسكر الإنجليزي المحتل لمصر.
يشير بالبيت الأخير إلى النزلاء الأجانب الذين يتمتَّعون بالامتيازات الأجنبية، ولا تقدر الحكومة المصرية أن تواجِهَ منهم أحدًا إلا عن طريق قنصله، وهذه الامتيازات كان اللورد كرومر من أشد المحافظين عليها؛ رغبةً في تقييد مصر وكسْرِ شوكتها.
سريون هذا مديرُ شركةِ قناة السويس.
أي إن الفرنج لا يبخسون المحسنين حقهم، وهل من رجل أحسَنَ إليهم بقدرِ إحسانك في مصر؟ وذلك على ظهر أهلها.
كان اللورد كرومر قد حُمِلَ على الاستعفاء من بعد حادثة دنشواي، ولكنه هو وأصحابه حاولوا إقناعَ الناس بأنه استعفى بمجرد إرادته واختياره؛ فشوقي يقول له: على كلِّ حالٍ قد ذهبْتَ عنَّا مستعفيًا أو معزولًا، فارحل بحفظ الله. وقوله «بحفظ الله» أسلوبٌ من أساليب الكلام التي يُقصَد بها غيرُ ظاهرها، كما يقول الإنسان: «اذهب مع السلامة» لمَن يريد أن يتخلَّصَ منه. ثم يقول له: كُنْ ما شئتَ بعد أن تخلَّصَتْ مصر منكَ، فَلْيعطوك وسامَ ربطة الساق، وَلْتخلف هناك الوزير غراي أو الوزير كمبيل، وَلْتشاطِرْ إدوارد في ملكه، هذا كله لا يهمنا على شرطِ أن ترحلَ عنَّا. ثم يقول:
يقول لكرومر: قد تمنَّينا على الله أن يقلعك فانقلعت، وهذا كل ما نريد، وإنَّ مَن حبَّ دِينَ محمدٍ، فمحمد عليه السلام له جاه عظيم عند الله فالله ينتقم له، وهذا إيماءٌ إلى ما جاء في تقرير اللورد كرومر عن سنة ١٩٠٦، من أن دينَ الإسلام دينٌ لا يصلح لهذا العصر؛ فقد بلغ من جبروت هذا السيد الإنجليزي وغطرسته وعداوته للإسلام أن قذَفَ بدين أهالي مصر التي كان يلي أمرها، وبدين أتباعه وهم خُمْس العائلة البشرية، وذلك في تقريرٍ رسميٍّ يقدِّمه لحكومته وينتشر في الأرض، فلا جرمَ أن مصر قد صبرت على الأذى في دنياها ودينها إلى أقصى مراحل الصبر، ولقد تأذن الله بفكِّ قيودها الثقيلة في هذه السنة بفضلِ نزاعِ إنكلترة مع إيطاليا، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.
ولا نظن أديبًا أو شاديًا شيئًا من الأدب في مصر وجوارها، غير حافِظ لقصيدة شوقي هذه، وحافِظ له جميلها، فهي لسان المصري الموتور المتأجِّج صدره وغرًا، المنتقم لوطنه ودينه وشرفه وملكه وماله، الذي ينطق عن قلبٍ ملآن وكبد قد قرَّحَتْها الأحزان، ويتكلم بلسان من دونه السنان.
(٢٥) قصيدة شوقي في الثورة السورية
ولما دمَّرَ الفرنسيس دمشقَ في إبَّان الثورةِ السورية — وفي أيام العداوة بين السوريين والفرنسيس — أُقِيمت في القاهرة حفلةُ استنكارٍ لذلك العمل، وتُلِيَتْ فيه الخطبُ والقصائد، فقال شوقي القصيدةَ الآتية، وتسابقت الصحفُ إلى نشرها، فاشترَتْ جريدةُ السياسة امتيازَ السبق إلى نشر هذه القصيدة بأربعين جنيهًا، وضُمَّ هذا المالَ إلى إعانة منكوبي الثورة السورية:
يقول إنه كان حوله يوم دخل دمشق فتيةٌ غُرُّ الأفعال صباح الوجوه هم بلهواتهم كناية عن أفواههم، شعراء لسن جمع ألسن وهو الفصيح، وفي أعطافهم كناية عن مواقفهم، خطباء شدق جمع أشدق وهو المفوَّه البليغ، ومع هذا فإنهم رواة شعري الذي بكلِّ محلة من الدنيا له رواة. قلتُ: لم يبالغ شوقي في هذا، ولكن لم يروِ عنه الرواةُ من الشعر كما رووا من هذه القصيدة. ثم قال:
يقول إنه كانت تأتي أخبار هذه القارعة النازلة بدمشق الصاكة للأسماع، مجملة بالبرقيات مفصلة بالكتابات، يكاد الناس يحسبونها من الخرافات المخيلة، والحقيقة أنها وقائع وقعَتْ فعلًا، وقيل إنه دُمِّرَ ذلك اليومَ أبنيةٌ تاريخية وبيوتٌ مزدانة بأفخر الصنعة العربية. ثم قال:
بعد أن ذكَرَ صلاحَ الدين دفين دمشق، ذكَرَ الدولةَ الكبرى، ويريد بالدولة الكبرى دولة بني أمية؛ لأنه لم تتسع فتوحاتُ الإسلام في دورٍ كما اتسعت في زمانهم، لا سيما خلافة عبد الملك بن مروان. ويشير بقوله: «غبار حضارتيه … إلخ» إلى الحضارة الأموية في دمشق، والحضارة الأموية في قرطبة؛ فإن الثانية هذه لها عروق من الأولى. ثم قال:
إذا قرأ القارئ هذه الأبيات تصوَّرَ الحالةَ كأنه يراها بعينه، عقائل مقصورات في الحجال، برزْنَ إلى الطرق للنجاة، والنار تعمل في البيوت وتأخذ على الهاربين والهاربات أفواه الطرق، وعلى أيدي أولئك العقائل أطفالٌ كالأفراخ التي تزقُّها أمهاتها بمناقيرها، وقد ضاقَتْ على الناس الأرضُ بما رحبَتْ، فكيف سلكوا فهي النار النازلة عليهم في جوف الظلام، تخطف الأرواح وتصعق الأجسام طول الليل — لأنَّ ضربَ دمشق بالمدافع استمرَّ ٥٦ ساعة — كلما نزلَتْ كرةٌ من كرات الديناميت، احمرَّ جانِبٌ من الأفق بلون اللهيب، واسودَّ الجانب الآخر بلون الدخان، ويستحيل على أيِّ شاعر أن يبلغ هذه الدرجةَ من البلاغة في وصف القذائف الحربية، ولا سيما تحت الظلام. ثم قال:
يقول: هل مَن أدخَلَ على نساءِ دمشق هذا الهولَ كله يقال إنَّ بين قلبه والصخر فرقًا؟ لا لعمري إن قلبه كالصخرة قسوةً، وهذه حال الدول الاستعمارية بأسرها، فإن رجالها وإن ألانوا القولَ فلينهم رياء، وفعلهم بعكس قولهم، وقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوةً؛ وقد رماك يا دمشق ورمى فرنسا نفس وطنه بسبب رميك قائدٌ متكبِّرٌ أحمق، يعني به الجنرال سراي، وقد كان الناس إذا جاءوه يرجونه الكفَّ عن ضرب دمشق، أجابهم أنه إنما يضرب عصاةً شقُّوا عصا الطاعة.
ويشير بقوله «رمى فرنسا» إلى أن هذا الفعل قد بَقِي سبةً وعارًا في التاريخ على فرنسا، بسبب هذا القائد ولم يقدر أن يدافع عنه أحدٌ.
قلتُ: وقد نشرتُ أنا في ذلك رسالةً بالإفرنسية وطبعتُها في جنيف، ووزَّعْتُها في الآفاق، واستحسنها الناس وجاءني من المستر ماكدونالد نفسه استنكارٌ لتدمير دمشق، وقد كان ذلك بعد رئاسته الأولى لنظار إنجلترا، ولكنَّ ماكدونالد هذا لم يكن بأقلَّ ظلمًا في عمله لتهويد فلسطين التي فجيعتها لا تُقاس بها فجيعة. ثم قال:
يريد أن فرنسا لها ضراوةٌ بدمِ الثوَّارِ، وهي تعلم ما أوجدَتْه الثورةُ فيها من حقوقٍ كانت ضائعةً، وأنوارِ علم كانت خافيةً، وأن الثورة كانت حياةً لفرنسا، وقد مات فيها البعضُ ليحيا الكل، ومن عادة الشعوب أن تنال حريتها برءوس الحراب، فكيف يعقل أن سورية تزداد رقًّا على رقٍّ برءوس الحراب، بعد أن سفَكَ السوريون دماءَهم لأجل الحرية؟ ثم قال:
يخاطب أبناء سورية قائلًا: ذروا الأماني وانبذوا الأحلام الكواذب ولا تغتروا بلقب «الدولة السورية»، ولا «لبنان الكبير»، ولا «دولة جبل الدروز»، ولا «حكومة العلويين»، وما أشبه ذلك من ألقاب مملكة في غير موضعها، فإن كلَّ هذه الحكومات أسماء ما أنزَلَ الله بها من سلطان، وكلها مستعبدة لفرنسا. وقد تجدون مَن عليه لقب أمير أو وزير وهو جالس على كرسيه، وإنما هو مائل العنق ينظر إلى نقطة واحدة، يخاله الناس أميرًا أصيد من شدة كبره، وليس ذلك بعبرة، بل المصلوب أو المشنوق يميل بعنقه وهو ميت. وقد أنَّثَ شوقي العنقَ هنا وليس ذلك بخطأ وإنْ كان التذكير أقوى. ثم قال إن فتوق الملك تحدث في كلِّ مكان، ولكنها قابلةٌ للرتق إلا إذا انصدعَتِ الوحدة وتفرَّقَتْ كلمةُ الشعب؛ فذلك فتق لا رتق له، وشقٌّ لا يحاص، فإياكم وأن تصدعوا وحدتكم بالخلاف فيما بينكم، ولو عاش شوقي إلى اليوم لقُرَّتْ عيونه بما رآه من وحدة كلمة السوريين التي حملَتْ فرنسة على الاعتراف باستقلالهم، في الوقت الذي كانت فيه إنكلترة تعترف باستقلال مصر، فتحرَّرَ القطران الشقيقان في وقتٍ واحدٍ.
يقول: ليست مصر والشام بدار واحدة، ولكن مصر والشام كلتاهما من الشرق؛ فبينهما جامعة شرقية، ولسان كلٍّ من القطرين هو اللسان العربي، وأية رحم شابكة أكثر من هذا؟
ينثر شوقي بهذا النظم نصائحَه الغالية لأهل سورية، مبنية على التجربة والتاريخ والمبادئ السرمدية، فيقول للسوريين: وقفتم الآن بين الموت والحياة، فإن رمتم الراحةَ الكبرى فاتعبوا، وإن نشدتم النعيم المقيم فاختاروا لأنفسكم الشقاءَ مدةً من الزمن؛ لأنه لا يدرج النعيم إلا من أوكار العذاب، وإن دماء الأحرار المسفوكة في سبيل الأوطان ديون مستحقة، لا بد للدهر من أن يتوفَّر على إيفائها، ومَن لعمري يسقي ويشرب بكئوس المنايا نهلًا وعلًّا إذا كان أحرار البلاد لا يشربون بتلك الكئوس ولا يسقون بها، وهو معنًى فيه شيء من قول الشاعر:
وقال إنه لا شيء يقوم عليه أساس الممالك مثل الضحايا، ولا ما يحق الحقوق غيرها، فكلُّ أمة بذلت في سبيل حريتها دماءً، فإن تلك الدماء تنال لها حقوقها في الحرية ولا يقدر أن يكابر فيها مكابر، وبالجملة فلا تحيا الأمم إلا بقتل بعض رجالها، ولا يعيشون طلقاء إلا بأَسْر البعض الآخَر، وما قرع باب الحرية الحمراء إلا الأيدي الملطخة بالدم. وقد وصف الحرية «بالحمراء» كنايةً عن كونها لا تُنال إلا بالدم المسفوك، ويجوز أن يقال في معنى «الحمراء» أنها «الشديدة»؛ وذلك أن العرب وصفوا الشدةَ دائمًا بالحُمْرة. ثم قال:
يدعو لأهل دمشق أن يؤيِّدَهم الله، ويذكر أن دمشق في الحقيقة كانَتْ أول مركز عزٍّ وسيادةٍ للشرق، فإن الدولة الإسلامية الأولى وهي دولة بني أمية إنما اتَّخَذَتْ دمشق لها عاصمة. ثم يقول لأهل دمشق: مرحى لكم أنتم الذين نصرتم إخوانكم الدروز يوم زحف إليهم الفرنسيس، فلم تذروهم منفردين، وشغلتم الفرنسيس من الوراء بثورة الغوطة، ولا عجب في ذلك؛ فإنكم إنما نصرتم إخوانكم، وكل أخٍ حق بنصر أخيه، وقوله حق: هو بمعنى حقيق أو جدير. ثم يقول:
قال: وإن إخوانكم الدروز هؤلاء لم يكونوا قبيلةَ شرٍّ، وإنهم لم يستحقوا النكالَ الذي أرادَ الفرنسيس أن يُنزِلوه بهم، فالدروز في الحقيقة قوم كرام يعزون الضيفَ ويمنعون حماهم بالسيف، وهم يجمعون بين الرِّقَّة والخشونة، ففي حال السِّلْم وعدم الاعتداء عليهم تراهم أرقَّ الناس خُلُقًا وأكثرهم أدبًا وأخفضهم جناحًا، فإذا اعتدى عليهم مُعتَدٍ انقلَبَ كلٌّ منهم ليثًا عاديًا، بعد أن كان حملًا وديعًا، وما أشبههم بالينبوع المنفجر من الصخر في الجمع بين الرقة والجمود. ولهم جبل أشَمُّ له رءوسٌ كأنها موارد للسحاب، وهذه الرءوس تجمع بين البياض من صخورها، والسواد من السحب التي تتراكم عليها؛ فلذلك هي بلق، وإذا اعتدى مُعتَدٍ على الدروز وجدْتَ كلَّ امرأة منهم أسدةً تناضِلُ عن قومها، وكلَّ شابٍّ أسدًا يراشق عن قومه، وكأنما هو السموأل في وفائه، وشرف نفسه وحمية أنفه، مع سعة حلمه ورقة طبعه، فهو من كل الجهات شرف وحسن خلق.
قال شوقي في الدروز هذه الأبيات، وأحسن ما فيها أنه قال قولًا لم يُنكِره أحدٌ عليه؛ لأن الإجماع واقِع على اتصاف بني معروف بهذه الخلال التي عرفها شوقي فيهم، إما من التاريخ، وإما في أثناء قدماته إلى الشام، وإما من الاثنين معًا.
ومما أذكره عن هذه الأبيات أنني لما قفلتُ من الحج الشريف، ووقفت أيامًا في السويس، وجاء أحمد شوقي رحمه الله يسلِّم عليَّ في تلك البلدة، فيمَن جاءوا من مصر للسلام عليَّ، كان لا بد من أن نتذاكَرَ الشِّعْرَ، فجَرَّتْنا القافيةُ إلى قصيدته الدمشقية هذه؛ لأن العالَمَ العربي كله قامَ لها وقعد، وهلَّلَ بها وكبَّرَ، فلما وصلنا إلى الأبيات المختَصَّة بالدروز، قلتُ له: عندما بدأتَ بقولك: «لكل لبوءة ولكل شبل» خفتَ أن يكون جواب هذه الجملة «نضال عن مغارته ورشق». فقال لي: «وهي إيه.» قلتُ له: «هي نضال دون غابته ورشق»، والغابة هي والمغارة كلتاهما مأوى للأسد، ولكن الغابة أخفُّ وقعًا على السمع، وأقرب إلى الأنس.
هذا وقيل إن هذه القصيدة التي لم يَقُلْ فيها شوقي شيئًا سوى الحقِّ كانت سببًا في غضب الفرنسيس على شوقي، وفي حرمانه زيارةَ المغرب؛ سمعتُ أنه استأذَنَ الحكومةَ الإفرنسية في هذه الزيارة، فأبَتْ عليه الإذنَ بها معتلةً عليه بقصيدته هذه، وقد حرمت عالَم الأدب بمنعها شوقيًّا من زيارة المغرب، بدائع آثار ويتائم أشعار كانت تسير في الأقطار، فلو رأى شوقي ذلك القطر العظيم بما فيه من آثار المدنِيَّة العربية البالغة حدَّ التناهي في الفخامة ودقة الصنعة وسلامة الذوق، والتي هي نسج واحد مع حمراء غرناطة ومسجد قرطبة وقصر إشبيلية، وشاهَدَ من بقايا حضارة الإسلام، ما حدَا الكاتبَيْن الإفرنسيَّيْن الكبيرَيْن جيروم وجان تارو أن يقولَا: إن الذي لم يشاهِدْ مقبرةَ الملوك السعديين في حاضرة مراكش لم يعلم إلى أية درجة تناهَتِ المدنِيَّةُ الإسلامية في العالَم، وكانت ولا شكَّ قد استفَزَّتْه تلك المناظِرُ وهاتيك المساكن المتناسبة مع أهلها المأهولة بذلك الشعب المغربي الكريم، وتلك الأمة الموصوفة بالعزة والمنعة من القديم، ما أنطقه بقوافٍ سائراتٍ في الأقطار وفاخرات باللآلئ الكبار، لا سيما وهو شاعر الإسلام غير مدافع، وصناجة العرب غير منازع في هذا العصر.
(٢٦) قصيدة شوقي في السلطان حسين
ولشوقي قصيدة في السلطان حسين كامل، يذكر فيها مفاخِرَ عائلة محمد علي فيقول:
إلى أن يقول:
يقول: إن حلم محمد علي بجعل مصر مملكةً مستقلةً تمامَ الاستقلال عن السلطنة العثمانية قد تحقَّقَ هذه المرة، فالأتراك حينما دخلوا في الحرب العامة ساقوا إنجلترة إلى إعلان فصل سيادتهم عن مصر، فكأنهم هم بأيديهم قطعوا روابطهم مع وادي النيل. ثم يقول:
يقول للسلطان حسين إنك أكرم الأعمام، وحسْبُنا أننا نراك تبكي رحمةً على عثرة ابن أخيك الخديوي عباس، كما أنك تبكي من خوف الخضوع لمَن أجلسوكَ على العرش، ولعمري لو استطعتَ أن تُعِيدَ ابن أخيك إلى سريره لَفعلتَ ولآثرته على نفسك. ثم يقول لأهل مصر: دعوا التدبيرَ لله، فلقد كان العهد الماضي موقفًا لسلطتين متناقضتين، ولم يكن في ذلك خيرٌ للبلاد؛ يريد بالسلطتين السلطةَ الشرعية التي كانت للسلطان ووكيله الخديوي، والسلطةَ الفعلية التي كانت للإنجليز المحتلِّين.
(٢٧) قصيدة شوقي في أبي الهول
وله في أبي الهول:
يقول إن بقاءَكَ يا أبا الهول إلى اليوم إنما هو لأنَّكَ لستَ حيًّا، فلو كنتَ حيًّا لَلحقْتَ بالذين نحتوكَ؛ لأنَّ الحياة ما لبسَتْ كائنًا إلا أبلَتْه ولو كان حديدًا.
وقال:
يقول لأبي الهول: لا يحتقر شيء مع الدهر، أَلَا ترى أنك أنت عندما هزَأْتَ بديك الصباح؛ أي الزمن الذي لا يخلو من ديك يصيح باكرًا، جاء هذا الزمن فنقَرَ عينَيْكَ فعُدْتَ كأنك أبو العلاء المعري. ثم يقول له: إنك من على عنق الدهر باسِط ذراعَيْكَ تنظر إلى الناس، تودع الغابر من الأمم وتستقبل القادم، فحدِّثنا عمَّا رأيتَ فإنك تاريخ عام.
ثم أخذ شوقي يسرد الوقائعَ التاريخية التي مرَّتْ على مصر، وما قيل في أبي الهول شيءٌ من الشعر يداني هذه القصيدة.
(٢٨) شعر شوقي في الأزهر
ولشوقي قصيدة في الأزهر مطلعها:
يخاطِبُ نفسه قائلًا: قُمْ وحَيِّ هذا المعهدَ العلمي الأكبرَ واخشع له، واقضِ حقوقَ الأئمة الأبحر الذين ماجوا فيه من قديم الزمان، ولا تكن كأولئك المفتونين الذين ينكرون كلَّ قديمٍ، ولو استطاعوا لَأنكروا آباءَهم، وهم من شدة رغبتهم في الهدم وكونهم فرسانًا في التخريب، نجدهم راجلين في البناء؛ فإذا دعوتَ الواحد منهم إلى صناعة لم يُحسِنها، أو إلى علمٍ لم يأتِ بشيء منه، أو إلى بيانٍ ما جاء إلا بالثرثرة. ثم يقول: إني وإنْ لم أكن ممَّنْ تخرجوا في الأزهر، فإني لا أقصر دون غايات البيان، وإن إصلاحَ الأزهر لَيهمُّني كمسلم؛ ولذا قمتُ مهنِّئًا بهذا الإصلاح باسم الحنيفة.
يأتي زَهَا لازمًا ومتعديًا.
كيف يتغنى بوصف الأزهر ولا يذكر المصلى والمنارة والمنبر، ولا يشير إلى الأروقة وإلى حلقات الدروس، ولا يذكر أئمةَ المذاهب الأربعة؛ إنه لَشاعر لا يؤتى من جهةٍ في فنه.
(٢٩) قصيدة شوقي في الرحَّالة حسنين
وله من قصيدةٍ عن الرحَّالة المصري محمد حسنين بك، وصَفَ فيها رحلته الشاقة في صحراء ليبيا، جاء فيها:
أي حياة الإنسان هي كالصحراء، في كلِّ دقيقة يجوز أن يطلع عليه قدرٌ لا يتوقَّعه.
ما نحَتَ شاعرٌ من مقاطع التشبيه أبدَعَ من هذه التشابيه التي وجدها شوقي بين الصحراء والحياة، كلٌّ منهما لا يدري السائر فيها متى تهب عواصفها ومتى تسكن، ومتى يطلع فيها السبع ومتى يختفي، ومتى يشد السائر الرحل أو متى يضعه، وإنه إذا اتبع دليلًا فهو رهن معرفة الدليل لا مناص له من اتباعه وإن أداه إلى الهلاك، وإنه يلوح في كلٍّ منهما بارِقُ الأمل، فإذا به خلب وإذا الشراب سراب. ثم يمتدح همةَ الرحَّالة حسنين فيقول:
قال إن الدافع الذي يجعل من الإنسان بطلًا هو أنه يطمح إلى ما لا يطمح القانعون، وأن نفسه تسمو به إلى ما يبلغها المجد، ذهبت في سبيل المجد أم رجعت سالمةً. ثم هو يسأل حسنين عمَّا رأى في تلك الصحاري، وعن أهلها الذين لم يزالوا على الفطرة من عهد آدم، والذين اهتدَى إليهم الإسلام في فيافيهم المنقطعة، واهتدوا به وأصبحوا مصلين صائمين، فقال:
ما النافية لا يتقدَّمها شيء ممَّا في حيزها، خلافًا للكوفيين ونحو قول الشاعر:
مع شذوذه محتمِلٌ للتأويل:
أي ملكًا من ملوك أواسط إفريقية، الذين عنوان الملك عندهم الريش والودع.
(٣٠) قصيدة له في حفلة تكريم
ومما أحِبُّ أن أنوِّهَ به من شعر شوقي قصيدته في تكريم الإخوان: عبد الملك بك حمزة، وإسماعيل بك كامل، وعوض بك البحراوي، بعد رجوعهم إلى مصر من الغربة التي اغتربوها أثناء الحرب العامة، فإن شعر شوقي فيهم يعبِّر عن شعور كثيرين، وراقم هذه الأسطر منهم أو في طليعتهم؛ قال:
هذا البيت الأخير معنًى مطروق كثيرًا، وممَّا أتذكره منه قول الشيخ ناصيف اليازجي شاعِر سورية في وقته في الأرسلانيين:
ثم قال:
وقد صادَفَ الاحتفال بتكريم هؤلاء المجاهدين الثلاثة أيام الأزمة المالية في مصر وسقوط أسعار القطن، فقال شوقي:
(٣١) ما قاله يوم أطلَقَ أحدُ الشبَّان المفتونين الرصاصَ على سعد زغلول
وقال في الزعيم الأكبر سعد باشا زغلول عندما أطلق عليه الرصاص أحدُ الشبَّان، فأنجى الله سعدًا ووقى مصر شرًّا مستطيرًا:
وهذا ما قلناه دائمًا، وما قد انتهَتْ إليه مصر بهذه المعاهدة الأخيرة مع الإنكليز، فَلْيكن لمصر الجيشُ المهيب، فكلُّ شيء يتَّسِق بعد ذلك.
وفي هذه القصيدة كلام عن ضرورة السودان لمصر يجدر أن نأثره، ويجب على كل مصري أن يحفظه عن ظهر قلبه، ولقد أراد الله بفضل خصام إنكلترة مع إيطالية في هذه السنة أن يعود المصريون إلى السودان، فَلْيبشر شوقي في قبره.
أي لن نرضى أن تُفصَل قناةُ السويس عن مصر، ولا أن يُبتَرَ عنها السودانُ.
يريد بالشريك إنجلترة، وأنها تريد فصل السودان عن مصر لمشروعاتها الزراعية، وأنا أقول ليس للقطن فقط يقصد الإنجليز الاستيلاء على السودان، ولكن ليجعلوا لجام مصر دائمًا في قبضة أيديهم؛ فإن مصر هي النيل، وإذا كان النيل بيد الإنجليز فكيف تخرج عن إرادتهم مصر. ثم قال:
أي باشروا حربًا كنَّا نحن أسلحتها، على خيلٍ كنَّا نحن فرسانها، ولكن ليكون الملك لهم.
أي أين بلاد الإنجليز من السودان، وما الصلة بين المانش وبحر الغزال، والحال هي كقول القائل:
ولكن دعوى القوي على الضعيف كدعوى الضواري المفترسة، براهينها من النيوب وأدلتها من الأظفار، لا ترجع إلى قوة المنطق، بل إلى شهوة الافتراس والجشع في الأكل.
(٣٢) قصيدة شوقي عن الكائنة البلقانية وحواشٍ تاريخية للمؤلِّف
ومن كلمات شوقي التي تقصر عن وصفها الكلم، وشوارده التي يسهر الخلق جراها ويختصم، قصيدته في الحرب البلقانية، وهي التي يسميها بالأندلس الجديدة؛ فقد نظمها وفي قلوب المسلمين نارُ الله الموقدة، مما جرى على الإسلام في حرب البلقان؛ فطاشت لذلك العقول وطارت الأفئدة، وكان نصيب شاعر الإسلام من تلك الفادحة بقدر رقة شعوره ورهافة حسه وسهمه من الالتياع على ما حلَّ بمسلمي البلقان، على نسبة شفوف طبعه ونفاسة نفسه، فقال وأرسلها للقرون والأجيالِ، وناطها بالأيام والليالِ:
يودِّع بلاد الرومللي ويقول: أصابك ما أصاب أختك الأندلس من قبلُ، ونزل الهلال فيك عن سمائه، يريد بالهلال الراية العثمانية التي نزلت في تلك البلاد عن عليائها بحكم قدر ينقص البدر بعد تمامه، كأنه يقول: إذا تمَّ شيء بَدَا نقصه، وكأنه يشير إلى قول القائل:
ثم يقول:
يقول: إن جرح الأندلس لمَّا يلتئم، ولا يزال في قلوب العرب منه نزيز، وإذا بجرح البلقان بدأ يسيل وقد أدمى قلوب الترك، وإن كلًّا من الأمتين لمنكوبة بكلٍّ من هاتين الكائنتين اللتين دفن القلم والسيف فيهما، وهذه المئات الأربع من السنين التي مضَتْ بين مأتم الأندلس ومأتم البلقان، كانت فيها الأيام تجري تارةً فيما نحب، وطورًا فيما نكره، يشير بقوله فيما نحب إلى فتوحات آل عثمان في بلاد البلقان حتى انتهوا إلى المجر وبولونيا، وحصروا فينا ولولا قليل لفتحوها، وفي قوله فيما نكره إلى الجزر الذي عقب ذلك المد والمصائب التي نزلت بالإسلام في السنين الأخيرة، حتى انقضت أيام تلك الفتوحات كأنها لم تكن، وقد كانت هذه المثلات تقرع المسلمين حتى ينتبَّهوا لشئونهم وينهضوا كما نهض غيرهم، فلبثوا يغطون في نومهم، وتركوا الحبل على الغارب؛ فليس على الدهر ملام إذا كانوا هم لبثوا غافلين عن شأنهم. ثم يقول:
يقول: أي مقدونية — مقدونية هي قسم مما يسمِّيه الأتراكُ بالرومللي، والرومللي عبارة عن القسم الأمامي من شبه جزيرة البلقان، كان يحتوي على ست ولايات عثمانية، هي: أدرنة، وسلانيك، ومانستر، وقوصوه، وأشقودره، ويانيا، والولايات الثلاث الأخيرة هي بلاد الأرناءوط — يسأل عنك المسلمون لأنهم مهما تنوَّعَتْ أجناسهم فهم عشيرة واحدة، فإذا سألوا عنك فإنما يسألون عن أخوالهم وأعمامهم، أترينهم ذلوا بعد ذلك العزِّ؟ وبعد أن كانت كلُّ كتيبة تطلع عليهم تعود فريسة لهم؟ نعم، قد تحوَّلَتِ الأيام وسقيت بغير الكأس التي كنتِ تشربين بها، وأديل من الآساد واستباح الأعداء آجامها القديمة، وزعم بعض الناس أن وجودك يا مقدونية كان على الخلافة مشئومًا، وأنه كان همًّا ناصبًا، وهل الممالك تكون للراحة وتدار بدون تعب؟ وإذا كنتِ موردًا وبيتًا فلماذا تتزاحم عليك الدول؟ إن الذين يرون هذا الرأي إنما هم قوم جهالة، كانوا علة في جسم هذه السلطنة العثمانية، وبدلًا من أن يدلوا بهذه الأقوال الدنيئة كان عليهم أن يصلحوا الإدارة في الرومللي، فكانت تكون لهم ركنًا عاليًا وحصنًا حصينًا، ولكن هؤلاء الضالين يبثون هذه الأوهام في الناس، فيأخذها بعض الناس عن بعضٍ، ويلوكونها بألسنتهم بدون تدبُّر، وللعمى صور شتَّى، وإنها قد تعمى الأبصارُ ولكن تعمى أكثر منها القلوب التي في الصدور. وإنه قد ينهض الشعب من بعد الهزيمة، وقد تعود بقية السيف إلى النمو، ولكن المصيبة التي لا نهوض منها ولا إقالة لها هي عثرة الأخلاق وانحطاط الهمم.
قلتُ: حالف المنطق أقوالَ شوقي في جميع مصادره وموارده، ولولا ذلك لم يكن شاعِرَ هذا العصرِ بالاتفاق؛ فبلاد البلقان كانت الحصن الحصين للدولة العثمانية، وكانت تستورد منها خزانة السلطنة أعظم دخلها، لا سيما القسم الذي ذهب على إثر الحرب الروسية العثمانية، وهو ولايات الطونة، وهي اليوم بلاد البلغار وقسم من رومانيا. وكان وجود الرومللي في يد الدولة واقيًا للأناضول نفسه؛ أي كانت أوروبا العثمانية مجنًّا لآسية العثمانية، وما كان على أولئك المعترضين بدلًا من اعتراضاتهم وتهوينهم أمر ذهاب الرومللي إلا أن يهبوا لإصلاح إدارتها، وينشدوا وسائل استبقائها؛ لأنه شرط ضروري لحماية السلطنة، وجعل عاصمتها إسطنبول التي هي مركز لا نظيرَ له في العالم وسطًا في المملكة لا طرفًا لها، أَفَلا ترى أنها بعد أن ذهبت الرومللي صارَتْ من ثغور المملكة، ولم يَبْقَ بينها وبين العدو إلا مسافة ساعات معدودات، فتذكَّر الإنسان في أمرها قولَ الشاعر، وهو بيت قديم:
فالآستانة التي كانت وسطًا محميًّا قبل ذهاب الولايات البلقانية من يد الدولة، أصبحت طرفًا يكاد يكون عورةً لقُرْب العدو منها وسهولة غارته عليها، وقد شاهدنا ذلك بأعيننا أيام الحرب البلقانية، وكنتُ أنا نفسي في الآستانة فكنَّا نسمع فيها أصوات المدافع من شطلجة؛ حيث كان الجيش البلغاري يحاول دخول الآستانة، ولأيًا في ذلك اليوم قدر الأتراك أن يدحروا البلغار إلى الوراء، وهي الواقعة الوحيدة التي وُفِّقوا فيها من حرب البلقان، ولولاها لاستولى البلقانيون على عاصمة آل عثمان. فقول مَن قال إن الرومللي كانت للدولة همًّا ناصبًا هو ضلال مبين، ورأي مَن لا يريد التعب ولا يُحسِن إدارةَ الممالك.
وفي هذه المسألة أراني وشوقي متواردين على رأي واحد، وليست هذه بالمرة الوحيدة التي أجدني فيها وإياه على وفاقٍ، كأنَّ قلبَيْنا قلبٌ واحد، وكأنَّا نفكِّر عن خلية دماغ واحدة، فإنه لما استردَّتِ الدولة أدرنة مستفيدة من اختلاف البلغار مع حلفائهم الصرب واليونان، دعَتِ الدولة وفدًا عربيًّا إلى الآستانة لبعض مذاكرات تتعلَّق بالعرب، وكنتُ أنا من أعضاء ذلك الوفد الثمانية، فدعتنا الدولة لزيارة أدرنة وتهنئة أهلها على رجوعهم إلى حضن الدولة، فلما وصلنا إلى تلك البلدة أقاموا لنا حفلةً عظيمةً كان فيها أعيان البلدة وضبَّاط الجيش العثماني، فأنشدتُ في ذلك الحفل قصيدةً ميميةً أتذكَّرُ منها الأبيات التالية:
(٣٣) قصيدة المؤلِّف في استردادِ أدرنة
انظر إلى قول شوقي:
وإلى قولي: «أَلَا عمه الألبابِ أعمَى مِنَ العَمَى.»
وذلك في عرض الكلام على وجوب الدفاع عن الرومللي وعدمه، فتعلم اتحادنا في الفكر. ثم إني أقول في آخِر هذه القصيدة ما يأتي:
فأنت ترى أيضًا أن الذين كان يعرض بهم شوقي ويجعلهم علة للملك وسقمًا في جسم الدولة، هم الذين كنتُ أعرض بهم أنا أيضًا وأقول إننا استرددنا أدرنة برغم الأعداء من الخارج، وبرغم هؤلاء المُضِلِّين المثبطين من الداخل.
ثم يقول شوقي:
يقول: إن الفريقين قد تتاركَا القتال، ويقال إنه سينعقد الصلح، ولكن هذا الصلح الذي تذهب فيه ولايات الرومللي من يد الدولة كره أكثر من القتال. ثم يقول:
يقول: جاءنا البرق بخبر هذا الصلح، ومن البروق صواعق نقمة ومنها غمائم رحمة، فأما نحن معاشر المسلمين فبروقنا كلها صواعق، وإذا كان الشر زارنا فهو غير مفارق، وإذا كان الخير زارنا فلمامًا، واللمام أو الغب هو الزيارة في الأحايين. وبالأمس ذهب لنا في إفريقية ممالك أربع: مصر وطرابلس وتونس والجزائر، كانت راية الهلال تخفق فوقها فانطوَتْ عنها، وهي أقطار لم يفتحها مسلمو التتر ولا العجم، ولكنها من فتح الخلفاء الراشدين وبني أمية من بعدهم، واليوم نفذ حكم الله في مقدونية على أيدي البلقانيين ومن ورائهم الدول الأوروبية متحدة علينا، وقد كانت هذه الولايات الستُّ المسمَّاة بالرومللي بقيةَ الملك العثماني في أوروبا، وقبلها كانت له مملكة البلغار ومملكة رومانيا ومملكة الصرب ومملكة ألبانيا ومملكة اليونان ومملكة المجر وبلاد بوسنة والهرسك؛ كلها تابعة للسلطنة العثمانية، فذهبت تلك الممالك في القرن الماضي، ولحقت به هذه البقية الباقية في هذه النوبة، فعلى ملك بني عثمان في أوروبا السلام. ثم قال:
قال إن الدول البلقانية تحالفَتْ على الدولة العثمانية — وكان تحالفها على هذه بواسطة قيصر الروسية وتحت كفالته، فهو الذي نظم شتات دول البلقان وشجَّعهن على محاربة تركيا، وقد لقاه الله جزاءه بعد الحرب العامة، فقتله البلاشفة شرَّ قتلة يمكن أن يتصورها العقل؛ لأنهم بعد أن نفوه وحبسوه زحفت الجيوش الروسية التي يقودها أعداء البولشفيك لتستخلص القيصر من محبسه، فعجَّلَ هؤلاء بقتله أمام عائلته، وقتل عائلته أمامه، فأطلقوا عليهم الرصاص في لحظة واحدة، وكان هو وامرأته وابنه ولي العهد وبناته الأربع — وسقن جيوشًا جرارة تغطَّتْ بها الأرض زاحفة صوب تركيا والمناكير والقبائح والفظائع تمشي بين يديها، فقد كانت جيوش البلقانيين ترتكب من قتل الأهالي الوادعين، واستباحة أعراض النساء ذوات الصون والستر، ونهب الأموال وإهانة شعائر دين الإسلام، ما لم يقع نظيره إلا في الأندلس؛ ولذلك سمَّى شوقي البلقان بالأندلس الجديدة.
وكما كانت حروب الأندلس وفظائعها تغشى بتحريض القسوس الذين يخالفون في أعمالهم جميع ما قرءوا في كتابهم الإنجيل، كذلك كانت الصليبية البلقانية يؤجِّجُ نارَها الأحبارُ والقسِّيسون من بلغار ويونان وصربيين، وكان الملوك الأربعة ملك البلغار وملك اليونان وملك الصرب وملك الجبل الأسود، ينشرون المناشير الحربية التي لا تزال نصوصها محفوظة كأنها محرَّرة في القرون الوسطى، من الحثِّ على استئصال المسلمين والتحريض على قتالهم بغير هوادةٍ باسم النصرانية.
نعم، تقضي أمانةُ التاريخ أن نذكر كوْنَ الجيش الصربي تجنَّبَ الآثام في معاملة المسلمين أكثر من الجيشين البلغاري واليوناني، وقد رفعنا يومئذٍ الاحتجاجات إلى الدول العظام بناءً على كون هذه الفظائع مخالِفةً لحقوق الأمم وللإنسانية، وقلنا إن من واجبات الدول بحسب التكافل الإنساني والتعاون المدني أن تقيم النكيرَ على البلقانيين من أجلها، وكان لهذا الفقير إليه تعالى برقيةٌ من الآستانة في غاية التأثير والشدة، إلى السير ادوارد غراي ناظر الخارجية الإنجليزي، اطَّلَع على صورتها بعد إرسالها كامل باشا الصدر الأعظم، وذلك بواسطة صديقي المرحوم محمد باشا الشريعي، فأُعجِبَ بها الصدر جدًّا وأرسَلَ يشكرني عليها، ولكن من جهة النتيجة لم تعمل الدول أدنى عمل يدل على أنها تَزِنُ المسلمين بميزان واحد مع البلقانيين ولا مع سائر البشر، ولا سمعنا أنها خاطبَتْ دول البلقان ولو من قبيل النصح بالاعتدال في سيرهن، أو بمراعاة حقوق الإنسانية في أثناء الحركات الحربية، ولا نبض عرق لجمعية أوروبية من تلك الجمعيات التي لا يُحصَى عددُها المتشدقات بحفظ حقوق الإنسان.
وقد بلغ عدد الذين هاجروا من مسلمي البلقان فرارًا من وجه الأعداء بعد أن سمعوا بما حلَّ بإخوانهم على الحدود؛ مائة وخمسين ألف نسمة، دخلوا إلى الآستانة حتى غصَّتْ بهم الجوامع والمدارس على كثرتها، وكان ذلك في قلب الشتاء، وفشَتْ فيهم الكوليرة وكانت خطوب الدولة تشغلها عن إيوائهم وإطعامهم، فقامت مصر حمَاها الله في تلك الأزمة مقامًا لا ينساه لها تاريخ الإسلام، بل التاريخ العام؛ فأرسلَتْ إليهم الإعانات التي كفلت نجاةَ هؤلاء الإخوان المهاجرين من الموت بردًا وجوعًا، إلى أن تمكَّنَتِ الدولةُ من إجازتهم إلى الأناضول، وقد كان ما أعانَتْ به مصر الجيشَ العثماني في تلك الحرب أربعمائة ألف جنيه، وما وزَّعَتْه من الإعانات على هؤلاء المهاجرين مائة وخمسين ألف جنيه، وكنتُ أنا من جملة أعضاء اللجنة التي وزَّعَتِ الإعانات من قِبَل لجنة الإعانة الكبرى بمصر، التي كان يرأسها أمين هذه الأمة الأمير عمر طوسون أمتع الله الإسلام بطول حياته، وإليه وإلى الأمير محمد علي توفيق رئيس الهلال الأحمر كنَّا نرسل البرقيات استمدادًا واستعجالًا بالإعانات كلَّما قدمت طائفةٌ من المهاجرين، وكانت جميع تلك البرقيات تقريبًا بقلم كاتب هذه السطور، وأنا الذي أبرق للأمير عمر طوسون بسقوط سلانيك ووجود ١٥٠ ألفَ نسمة من المسلمين فيها تحت خطر الموت جوعًا، فما مضى على هذه البرقية إلا بضعة أيام حتى وصلَتِ البواخر من مصر إلى ميناء سلانيك، ثم إلى ميناء «قواله»، مشحونةً بالأرزاق والألبسة وجميع الحوائج التي كفلَتْ إنقاذَ أولئك المساكين من الموت، وتخفيف ويلات إخواننا مسلمي مقدونية أجمع، فجزى الله كنانته مصر خيرًا عن هذه المبرَّات، التي وإنْ كانت بحسب الشرع فرضًا عليهم لا مِنَّةً لهم، فإنه لا يجوز للتاريخ أن يغفلها ولا يجوز للأمة التركية بخاصةٍ أن تتناساها.
ثم يقول شوقي عن ملوك الدول البلقانية الذين تولَّوا تلك الآثام، ما هو واضح لا يحتاج إلى تفسير ولا إلى تعليق، ومن الغريب أنهم ارتكبوا تلك الموبقات باسم السيد المسيح بزعمهم، والحال أن سبيل المسيح كان كله محبة ورحمة كما لا يخفى، وكان ينهى عن سفك الدماء بكل حال، وإلى هذا أشار شوقي بقوله:
يريد بيوسف صلاح الدين بن أيوب، وأن الحرب الصليبية وقعَتْ في أيامه، واليوم قد تجدَّدَتْ أولًا وثانيًا. ثم يقول:
هل قيل في هتك أعراض الأبكار أبلغُ من هذا القول، وأشد تأثيرًا في النفس؟
لعمري ليس فيما وصفه شوقي هنا شيء من المبالغة، فقد جرى من البلقانيين كلُّ هذه الأفعال وأوروبا تنظر كأنها جاهلة، بل كانت في الحقيقة مرتاحةً إلى قهر المسلمين وإعناتهم حتى لا يرفعوا رءوسهم، ودليل ارتياحها أنها لو أرادَتْ وجزمت لما تجرَّأ البلقانيون طرفة عين على مخالفتها. ثم بعد أن سرَدَ شوقي ما سرَدَ من هذه الفجائع، التفَتَ نحو الأتراك فنصحهم بالوئام، وعذلهم على الانقسام، وقال لهم:
قال لهم: إن القدر إذا نزل تطيش له الأحلام، ولكن يجدر بكم أن تذروا التخاذُلَ فيما بينكم، والجدل فيمَن كان مخطئًا ومَن كان مصيبًا، فإن وراءكم وأنتم مشغولون بالفتن الداخلية أُمَمًا تضام وتهان وتُؤكَل حقوقها، فدعوا الخطأ والصواب إلى التاريخ، واعلموا أنه إنْ لم يكن سيف يدفع الظلم لم يكن للأقلام قبل بدفعه، لقد فتح آباؤكم هذه البلدان وناموا على فتوحاتهم، ولم يفكِّروا في أن هذه الأمم المغلوبة لا تزال تترصد الفرصة حتى تثور وتأخذ بالثأر، فالخطأ إنما هو خطأ آبائكم الذين أحسنوا الظنَّ، وصفحوا عن الذنب، ووثقوا دائمًا بالنصر، ثم هناك عيب آخَر وقع في البناء الذي بنوه، وهو أنهم رفعوه على رءوس الحراب، ووقفوا عن تحصينه بالعلم ودعمه بالعدل، ولما كان ملك السيف لا يدوم، كانت هذه العاقبة منتظرة لكم، ثم يقول:
أي إن موقفكم اليوم أصبَحَ كموقف طارق بن زياد يوم أجاز إلى الأندلس، وتواقف مع لذريق ملك الإسبانيول، فقال لجيشه: البحر وراءكم والعدو أمامكم، فلا نجاة لكم إلا بالإقدام؛ لأنكم إذا انهزمتم فليس وراءكم إلا البحر، وهذا يا رجال السلطة العثمانية هو موقفكم اليوم، وَلْنقل إن في إقدامكم هلكًا، فالجواب عليه أن الهلك الذي في الإحجام هو أوكد من الهلك الذي في الإقدام. ثم يقول لهم: لو أنكم أحسنتم إدارة البقية الباقية من ملك آل عثمان، لَكانت لكم بها دولة وصولة لا يفتُّ في عضدهما.
أي إن صولة الرشيد كلها، وطائلة هشام بن عبد الملك، وعزة أولئك الخلائف، إنما كانت بهذه البلاد التي بقيت لكم، وهي نعم الأقسام إذا تقاسَمَ البشر الأرض، وفيها ظهر الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وفيها جرى الفرات ودجلة وازدهرت الشام وبغداد، ثم ذكر أدرنة وحسن دفاع شكري باشا عنها، فقال:
يذكر أن شكري باشا وقف من أدرنة موقف مدافع ثابت الأقدام، ولم يسلم شبرًا من أرضها إلا بالدم، وهذا هو حق الدفاع، فاستحَقَّ بذلك شكر الناس وإجلالهم، ولما دخل ملك البلغار إلى أدرنة ترك لشكري باشا سيفه عند الاستسلام إعجابًا ببسالته وثباته.
والحق أن شكري باشا لولا أنْ مَسَّ جيشه الجوعُ، ما كان يمكن أن يدخل البلغار والصرب عليه في أدرنة، مهما طال الحصار، ولكنه لم يَبْقَ للجيش زادٌ يقتات به.
ومن حيث إننا ذكرنا في التعليق على الأبيات السابقة شيئًا من قصة الحرب البلقانية حبًّا في إظهار فضل شوقي فيما سجَّله شعره في هذا الموضوع، فلا بأس بأن نورد تحت هذه الأبيات ما نعلمه بنفسنا لا نقلًا عن رواة ولا حكاية عن سُمار، وهو: أنه لما كان شكري باشا تحت الحصار، وجد رسولًا أنفذه إلى الآستانة يلتمس من الباب العالي أن ينجدوه ولو بعشرة آلاف جنيه ليشتري بها رزقًا للجيش، وجاء الرسول فحدَّثَنا بالخبر وكنتُ أنا ومحمد باشا الشريعي وكامل باشا جلال؛ لأننا كنَّا ندير لجنة الإعانات والهلال الأحمر المصري، وعلمنا أنهم كانوا في الباب العالي لم يجدوا المال في الحال، وأشاروا إلى الرسول بالتلوُّم إلى أن يجدوه، والحال أن شكري باشا كان من الانتظار على أحرَّ من النار، فقررَتْ لجنة الإعانة المصرية على مسئوليتي أنا ورفاقي، لا سيما الشريعي، إرسالَ العشرة آلاف جنيه إلى شكري باشا باسم الجرحى والمرضى، وذهب بها الرسول وعاد بورقة الوصل.
ومن هذه الحادثة وحدها يعلم القارئ اللأواء التي وصل إليها الجيش العثماني أثناء حصار أدرنة.
وبناءً على ما علمناه من أزمة الجيش وأزمة مسلمي أدرنة الذين كانوا يموتون جوعًا بعد سقوط أدرنة في أيدي البلغار، التمسنا من الهلال الأحمر المصري ببرقيات مكرَّرة كتبتُها كلها بقلمي، أن الهلال الأحمر في مصر يطلب من إنجلترة التوسُّط لدى حكومة البلغار بأن تسمح بدخول بعثة الهلال الأحمر المصري إلى أدرنة، فتوسَّطَتِ الحكومة الإنجليزية وأمكن الهلال الأحمر المصري جزى الله أهله خيرًا من إغاثة مسلمي أدرنة، الذين كان عددهم يُربِي على أربعين ألف نسمة، وكان الجوع يفتك بهم. ولما ذهبنا نحن الوفد السوري الذي تقدَّمَ الكلامُ عليه إلى أدرنة بعد استرداد الدولة لها، شاهدتُ بعثةَ الهلال الأحمر المصري لا تزال هناك، وقد كان والي أدرنة الحاج عادل بك أعَدَّ للوفد ولي أنا من الجملة مكانًا للمبيت، فاستأذنته في الذهاب إلى محل الهلال الأحمر المصري، وبِتُّ هناك بناءً على أني كنتُ من مفتشيه في أثناء الحرب البلقانية، ولما نهضتُ صباحًا شاهدتُ بعيني ألوفًا من مسلمي أدرنة بأيديهم السطول، يأخذون بها الحساء من مطبخ الهلال الأحمر، فتعجَّبْتُ من كثرة عددهم، فقال لي رجال الهلال الأحمر: لو رأيتَ الحالة قبل أن تسترجع الدولة أدرنة لرأيتَ عجبًا، فالآن إنما نطعم ثلاثة أو أربعة آلاف، وأما من قبلُ فقد كنَّا نعول ثلاثين أو أربعين ألفًا. فهذا ما شاهدته بعيني فضلًا عن كونه عملًا كنتُ أنا ولله الحمد من الساعين فيه، وكان المصريون الكرام هم السبب في إتمامه بحيث أنقذوا من الهلاك عشراتِ الألوف من إخوانهم مسلمي تلك البلاد، ولا بأس أن يكون للتاريخ مكانٌ من كتاب أدب، لا سيما إذا تعلَّقَ بالحمية والإنسانية.
ثم قال أحمد شوقي:
وهذا ما أشرنا إليه في حديثنا عن هذه الحرب المشئومة، واستمداد قائد أدرنة القوت الضروري.
يصف هنا كيفية الدفاعِ عن أدرنة كما تقدَّمَ الكلام عليه بأن شكري باشا لم يَبِعْ منها شبرًا، إلا بعد أن غطَّاه دَمًا، وأنه لم يسلِّم البلدةَ إلا بعد أن فتَكَ بجيشه الجوعُ والمرضُ، فكان تسليمًا شريفًا أعذر فيه ذلك القائد الباسل إلى قومه، وحفظ فيه شرف أمته. ثم ذكر كيف آلَتْ أدرنة بعد غلبة البلغار عليها، ولا شك في أن نظم شوقي هذه القصيدة وقع في المدة التي هي بين تسليم أدرنة للبلغار واسترداد تركيا لها؛ فلذلك قال شوقي: خفت الأذان من أدرنة فما فيها موحد يسعى ولا جمعة تقام … إلخ.
وبعد ثلاثة أو أربعة أشهر من قول شوقي هذا، كنتُ أنا أقول في قصيدتي الميمية التي تقدَّمَ بعضُها:
وذلك أن الدول البلقانية الأربع اتَّحَدَتْ على قتال الدولة العثمانية تحت كفالة قيصر الروس، وتآمرَتْ بجميع ما بقي من الملك العثماني في أوروبا، والأتراك غافلون عمَّا يكيد لهم البلقانيون، مشغولون بالشقاق بعضهم مع بعض، ولما فاجَأَ البلقانيون تركيا بالحرب، كانت قد صرفت جيشًا عظيمًا لها في الرومللي إلى أوطانه، ممَّا يدل أعظم دلالة على الغفلة التي كانت فيها. ثم أقول:
ثم أقول عن استرداد أدرنة عندما زحَفَ إليها القائدُ عزت باشا، وطرد البلغار منها:
ولما ذهبنا إلى أدرنة كما سبق الكلام عليه، شهدنا صلاةَ الجمعة في جامع السلطان سليم، وهو من الجوامع الكبرى في العالم الإسلامي لا ينقص جلالةً عن السليمانية والفاتح والسلطان أحمد وغيرها في الآستانة، وازدحَمَ الجمعُ في تلك الجمعة لما بلغ أهل أدرنة مجيء وفد عربي يهنِّئهم بالرجوع إلى الدولة، وكنَّا قد استصحبنا من استانبول صديقنا الأستاذ الشيخ أحمد الفقيه من علماء مكة المكرمة، ومن أفصح الناس لسانًا وأشجاهم صوتًا، وكان في القديم إمامًا للشريف عون الرفيق أمير مكة، فالشيخ أحمد الفقيه رحمه الله خطب في تلك الجمعة على منبر جامع السلطان سليم، واستنزل العَبَرات في خطبته المؤثرة، وكان للناس في أربع زوايا الجامع نشيجٌ وشهيقٌ من ذكرى الفجائع التي حلَّتْ بالإسلام وخروج ذلك البلد من يد الدولة، ثم من ذكرى استرداد الدولة له وتبدُّلِ ذلك المأتم عرسًا، وذلك الخوف أمنًا، وتلك الوحشة أنسًا، وإلى هذا وإلى جيش عزت باشا أُشِيرُ بقولي:
أي إنكم هاجمتم ثغورنا على غرة، والجيش الذي كان مرابطًا فيها قد صرفَتْه الدولة إلى أوطانه، وصارت ثغورها عورةً عند ذلك، فما أمكَنَ استدعاؤه تحت السلاح من جديدٍ، حتى كنتم قد أوغلتُم في البلاد وأصبح التلافي صعبًا، فأما الآن وقد زحف إليكم الجيش على أهبة وعلى تعبئة، فلماذا لا تنهدون إليه؟
ثم أقول في حالةِ أهل درنة بعد استردادها:
وهذا الشطر الأخير تضمينٌ لبيتٍ قديمٍ من قصيدةٍ أظنُّها لابن نباتة، يهنِّئ فيها مَلِكًا تولَّى العرشَ بعد أبيه، ولقد كان في الواقع استردادُ أدرنة بعد تلك الكائنة البلقانية الفجيعة أشبهَ بغرة بيضاء في وجه جواد أدهم. وأذكر أني كنتُ دخلتُ أنا والمرحوم محمد باشا الشريعي على السلطان محمد رشاد رحمه الله، وكان وقتئذٍ في قصر يلدز، فبعد أن جلسنا في حضرته أظهَرَ التألُّمَ من الحوادث التي قضَتْ بهزيمة الدولة في حرب البلقان، ثم تبسَّمَ وقال: «لكن أدرنة استرداديله متسلي اولدق.» أي إننا مع هذا قد تسلَّيْنا باسترداد أدرنة.
(٣٤) قصيدة شوقي في الانقلاب العثماني
ومن قصائد شوقي التي سارت بها الرُّكْبان منظومته في الانقلاب العثماني وسقوط السلطان عبد الحميد الثاني، قال فيها:
يلدز معناه بالتركيَّة النَّجْم، وكان اسم القصر الذي يقيم به السلطان عبد الحميد، وهو على رابية مُشرِفة على البوسفور، وشوقي يريد أن يقول إن هذا النجم جاءته نوبة الأفول كالبدر الذي يطلع ثم يغيب.
الخورنق والسدير من قصور المناذرة بالحيرة.
يريد بالجزيرة القصر الذي كان يقيم به الخديوي إسماعيل بمصر.
الصدور جمع صدر، وكان يُقال لكبير وزراء السلطنة العثمانيَّة «الصدر الأعظم»، وفي هذا البيت مبالغة بلا شكٍّ؛ لأن جواري القصر السلطاني لا سيَّما حظايا السلطان كان لهنَّ نفوذ الكلمة في الأعصر القديمة لا في الزمن الأخير، ولكن شوقي قال هذا لطلاوة الشعر، ثم يقول:
يُلاحَظ هنا أن الزهر لا يُجمَع على الزهور، بل على الأزهار وجمع الجمع الأزاهر، ولكن قد تُوجَد هذه اللفظة في كتابات المحدثين.
وذلك أن البوسفور يضيق حتى كأنه بعض الأنهر.
ويُلاحَظ هنا على قوله المُغِير إن كانت بمعنى الآفل فصوابه الغائر؛ يقال غارت الشمس غيارًا وغئورًا أي غربت، ولعل شوقي أراد بقوله «المُغِير» أي المسرع فلا غبار على البيت حينئذٍ.
ربُّهنَّ الأول هو الله، والثاني هو السلطان.
مضى هنا الشاعر على طريقته في الفخر، وهو مثل قوله:
ثم قال:
في كتاب الله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ في سورة المائدة، وفي سورة الشورى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ.
يريد أن يقول إنه كان آمرًا ناهيًا على الكبير والصغير من رعيته وفي الكبير والصغير من شئون المملكة.
يقول: كنت مُستبِدًا برأيك لا تقبل عليك مُشِيرًا مع أنه كان عندك وُزَراء ممَّن لهم رتبة مُشِير لا يأخذهم العدُّ. وفي هذا شيء من المبالغة؛ لأن عبد الحميد طالما استشار وأخذ برأي أعوانه، وإنما كان يفترق عن غيره من الملوك الدستوريين بكونه لا يتقيَّد بإشارة أحدٍ منهم.
أي كانوا ينحنون أمامك حتى تصير ظهورُهم كالأقواس من الانحناء، وإنما كان وترها الخضوع لك.
دهاك بمعنى أصابَك، وأما داهية فمعناه باقعة، وفي البيت جناس بين دهاك وداهية، كما أن في البيت الذي مرَّ قبل هذا بثلاثة أبيات جناسًا معنويًّا بين تستشير ومشير، ثم قال:
الثبيرانِ بالتَّثْنية جبلان مفترقان يصبُّ بينهما أفاعية، وهو واد يصبُّ من منًى يُقال لأحدهما ثبير «غينا» وللآخر ثبير الأعرج. وقالوا ثبير جبل بمكة بينها وبين عرفة، سُمِّي ثبيرًا برجل من هذيل مات في ذلك الجبل فسُمِّي به، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا الإفاضة يقولون: أشرق ثبير كي ما نغير. فإنهم كانوا إذا أشرقت الشمس من ناحية ثبير أغاروا إلى النحر؛ أي أسرعوا وبمكَّة أثبرة غير هذا منها ثبير الزنج وثبير الخضراء وثبير النصع، وهو جبل المزدلفة وثبير الأحدب. واشتقاق اللفظة هو من ثبره عن الأمر يثبره بالضم ثبرًا إذا احتبسه. قيل إن ثبيرًا سُمِّي ثبيرًا لأنه يواري حراء، ثم قال:
أي إنهم صبروا على حُكْمك المُطلَق ثلاثين سنة، وبعد أن أجبروك على إعلان الشورى لم تصبر أنت عليها سوى بضعة أشهر حتى حاولت أن تقوِّضها.
أي أردت أن تستبدَّ استبدادَ أبي جعفر المنصور أو حفيده هارون الرشيد، ولكن هذا الوقت غير ذلك الوقت.
قال إنهم حرصوا على حقِّ الرعية الضائع، وحرصت أنت على تحكيم إرادتك وليس هذا بحقٍّ، ولقد كنت تحسن لو تلقيت الدستور بصدر رحب وعين قرة، فإن الدستور للملك العاقل الرشيد حِلية، وللملك الذي لا يملك التدبير عصمة ووقاية، والدستور بركة على الممالك والملوك ما دام قائمًا، ثم خاطب الجيش العثماني الذي خلع عبد الحميد، فقال:
يقول إن الجيش العثماني يخفى بعدم تدخُّله في السياسة وإدارة الملك حتى إذا رِيعَ حِمى الملك بشيء من النوازل وَثَبَ وظهرَ بكلِّ قوَّته، فهو كثير الفِعْل قليل الضوضاء، وهذان البيتان هما من أبدع ما قال شوقي، ولكنَّه مع الأسف قد بدأ منذ خَلْعِ هذا الجيش للسلطان عبد الحميد يتعرَّض للسياسة وللإدارة ودخول الجيوش في سياسة الممالك طالما كان قاصمًا لظهورها، ولم يكن انهزام هذا الجيش العثماني في الحرب البلقانية خاليًا من هذا السبب، قال:
أنور كان ضابطًا صغيرًا عندما ثار بشرذمة من العسكر في بلاد الروملي يطلب إعادة الدستور، وكذلك نيازي الذي ثار مثله في بلاد الأرناءوط، فطار صيتهما في ذلك الوقت وما زال أحدهما — أنور — يرقى حتى صار ناظرًا للحربيَّة العثمانية.
كان شائعًا يوم جرت هذه الحادثة أن محمود شوكت باشا الذي قاد الجيش المسمَّى بجيش الحركة الذي زحف من سلانيك إلى استانبول وخلع السلطان عبد الحميد، هو من ذرية الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليس ذلك بصحيح فمحمود شوكت باشا هو من عائلة كرجية الأصل استوطنت بغداد وصارت من بيوتات الوَجاهة فيها، ويُقال إن بينها وبين آل العمري في الموصل مصاهرة، فإن كان محمود شوكت باشا يمتُّ إلى عمر — رضي الله عنه — بنسب فيكون من جهة الأمَّهات لا الآباء، وأما قوله: «عمر الكريم على البشير.» فمعناه أنه العزيز على رسول الله ﷺ؛ لأن البشير من أسمائه.
ولأخي نسيب — رحمه الله — في دخول جيش الحركة إلى استانبول زحفًا من سلانيك تحت قيادة محمود شوكت باشا قصيدةٌ رنانة، أملاها عليه التأثُّر بما كنَّا فُجِعنا به من استشهاد ابن عمِّنا الأمير محمد المصطفى أرسلان الذي كان أحدَ نوَّاب الأمَّة ورئيسًا للجنة الأمور الخارجيَّة في مجلس النوَّاب، وكان الحزب الحميدي قد ثار على الحكومة غيظًا بجمعية الاتحاد والترقي التي كانت قوام الحكومة حينئذٍ، وخدعوا العساكر وساقوها إلى ساحة أياصوفية حيث أرادوا الفتك بالنوَّاب، ولكنهم بعد أن فتكوا بالأمير محمد أرسلان وناظم باشا ناظر العدليَّة، وقع فيهم الرعب وبلغهم أن عساكر أخرى من أنصار الدستور آتية للاقتصاص منهم؛ فتفرَّقوا ولكن فتكُوا بكثيرين من أنصار الدستور وانتدب السلطان عبد الحميد توفيق باشا صدرًا أعظم مكان حسين حلمي باشا الصدر الذي وقعت عليه الثورة وتوارى عن الأنظار.
ولما بلغ الاتحاديين الذين كان مركزُ جمعيتِهم سلانيك ما وقع في الآستانة قرَّروا الزحف إلى الآستانة بجيش سلانيك، وانضم إليه جيش أدرنة، ونشر محمود شوكت باشا بيانًا للأمَّة العثمانية عن الأسباب التي حملت على هذه الحركة؛ وهي أن الرجعيين ثاروا في العاصمة ونادَوا بسقوط الحكومة الدستورية، وتجمعت العساكر التي أثاروها في ساحة مجلس النوَّاب أو المبعوثين وقرَّروا الفتْكَ بهم، واستُشهد بأيديهم الأثيمة مبعوث الأمة محمد أرسلان بك وناظر العدليَّة ناظم باشا؛ ولذلك يزحف جيش الحريَّة لإعادة الدستور وتوطيده والاقتصاص من الجُناة.
ثم دخل الجيش ولم تحصل له مُقاومة إلَّا أمام بعض الثُّكَن والعسكرية؛ لأن السلطان خشي عاقبة الحرب الداخلية، وكان توفيق باشا الصدر الجديد أشار عليه بعدم المقاومة تخفيفًا للشرِّ، فلما استولى جيش الحريَّة على العاصمة أنقذ الاتحاديون أنور بك ومعه جماعة فأبلغوا السلطان وجوب التخلِّي عن الملك فلم يسعْه إلَّا الطاعة وأرسلوه إلى سلانيك؛ حيث تخصَّصَ له قصر أقام به إلى ما قبل الحرب البلقانية بقليل، فردُّوه إلى الآستانة وأنزلوه بقصر «بكلر بك» حيث مات سنة ١٩١٧.
أما قصيدة أخي في محمود شوكت باشا فهي هذه:
ومنها:
ومنها:
إن شوقي وإن كان أودع خطابه للسلطان عبد الحميد ما أودعه من اللوم في القالب الجميل، لم ينسَ ولاءه للخليفة السابق الذي طالما تغنَّى بمدائحه؛ فلهذا أشار بوجوب توقيره وحفظ كرامته وتذكُّر إمامته والإغضاء عن سيئاته، متروكًا حسابه إلى الله الذي سيفصل فيه. وما زال شوقي يُوصِي بالسلطان عبد الحميد في شخصه إلى الآخر، ولكن شوقي لم يكن يهمُّه السلطان عبد الحميد لأجل شخصه، بل لأجل منصب الخلافة الذي كان يتقلَّده وهو منصب تهوي إليه أفئدة جميع المسلمين، وهذا المنصب لا يزول بزوال عبد الحميد، بل قد شغله الآن أخوه السلطان محمد رشاد الذي بُويِع سلطانًا وخليفة باسم محمد الخامس، فالشاعر الإسلامي الأمين عملًا بمبدئه الذي لا يَحِيد عنه يودِّع السلف ويحيي الخلف؛ لأن الخلافة يجب أن تبقى. وهو يُهدِي إلى الخليفة الجديد سلام أهل مصر الذين بايعوه في مَن بايَعَه من الأمَّة الإسلامية، فيقول:
يهنِّئ السلطان محمدًا الخامس بتقليده سيف آل عثمان، ومن عادة هذا البيت الكريم أنهم عند مبايعة السلطان يقلِّدونه سيفَ جدِّه عثمان وذلك في حفلة عظيمة تُقام في مقام الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري — رضي الله عنه — المدفون كما لا يخفى في آخر خليج استانبول. ويكون الذي يقلِّد السلطان هذا السيف شيخ الطريقة المولوية المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي، يستدعونه من قونية إلى الآستانة ليقوم بهذا التقليد، وهي عادة قديمة لم يريدوا أن يغيِّروها طول الدهر حتى تولَّى السلطان محمد وحيد الدين المُلقَّب بمحمد السادس وهو السلطان الأخير من بني عثمان، فلما جرت حفلة تقليد السيف في مقام أبي أيوب الأنصاري وذلك في السنة الأخيرة من الحرب العامة، كان المجاهد الكبير السيد أحمد الشريف السنوسي قد قدم بغواصة من طرابلس الغرب إلى الآستانة، فآثر السلطان أن يجعل تقليده سيف آل عثمان من يد السيد السنوسي رضي الله عنه، ثم يقول:
يقول شوقي لمحمد الخامس: إن الحكم المُقيَّد قد بُعث في أيامك بعد أن كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان قد طَوَى بساطه، فأنت نشرته من جديد وأنشأته استئنافًا. يشير إلى أن الحكم الشوروي لم يسْتَتِبَّ إلَّا مدة الرسول عليه السلام وخلفائه الراشدين الأربعة رضي الله عنهم، وبعد ذلك جاء معاوية فحوَّل الخلافة إلى مُلْك عضوض، وجعلها بالإرث لا بالانتخاب، والله وارِثُ الأرض ومَن عليها.
(٣٥) قصيدة لشوقي في النسيب ومعارضتها لأخي نسيب
هذا ومن قصائد شوقي في النسيب قوله:
أي صواحبات امرأة العزيز اللواتي قطعْنَ أيديهَنَّ لمَّا رأيْنَ يوسف.
وقد عارضها أخي نسيب بهذه القصيدة التي أحببت أن أعرضها للقراء في جانب قصيدة شوقي، وهي هذه:
أقول: ما يخالج نفسي عند قراءة هذا الشعر سواء المعارَض أو المعارِض، وهو أنه ليس فيه كبير أمر، وأن هناك صنعة تعمَّدها الشاعران اللذان قيَّدهما هذا الوزن، فأصبحا له أسيرين يسخِّران له المعاني ويجرَّان القوافي. ولا جرمَ أنَّ الوزن والقافية طالما حَكَما على الشاعر وسلباه حريَّة التصرُّف في إبراز معانيه كيف شاء؛ ولهذا كان أطول الشعراء باعًا وأعلاهم درجةً من تراه حرًّا وهو مُقيَّد، ولكن بحرًا كهذا الذي نظما عليه، وإن كان مرقصًا يعجب القارئ بمقاطعه ويلذُّ بخَبَبِه، ترى الشاعر فيه راسفًا في قيد ثقيل يمنعه أن يجْرِيَ جَرْيه المُعْتاد.
(٣٦) قصيدة شوقي في شكسبير
ولشوقي قصيدة في شكسبير بالغَ بها في مدح عظمة الإنكليز، فقال:
لا نزاع في عظمة الإنكليز الماديَّة، وفي كثير من عظمتهم المعنويَّة، وإن كانت هذه قد غدت تتضاءل في نظر الناس شيئًا فشيئًا، وصار ثوبُها يشفُّ عمَّا تحته. وعلى كلِّ حالٍ فقد أصابَ شوقي بتقييد ودِّ الإنكليزِ الصافي للمسلمين بفِعْل «كان»؛ إذ إننا إذا نظرنا إلى العصر الأخير لا نجد لهذا الودِّ أثرًا يستحقُّ أن ينوِّه به، ثم قال في شكسبير:
كان كارليل يقول: إن شكسبير أفضل عندنا من الهند.
سبق لي كلامٌ نقله المنفلوطي، وهو أن الشعر هو من الوحي بمكان الدرجة الثانية من العلياء.
ثم إنه يخاطب شكسبير، فيقول له: قد أفضيت إلينا عن الحياة بأسرارٍ لم يكشفها حتى الآن شاعر قبلك، فهل تقدر أن تفضي إلينا بشيء عما بعد الحياة؟ فإن السرَّ هو هنا.
ثم يسأله عن جمجمته ماذا جرى عليها بعد موته، فيقول:
الأصيص نصف الجرَّة يُزرَع فيها الرياحين.
وصف جمجمة شكسبير بما لم يصف به شاعرٌ رأسَ شاعرٍ، وقال إن رأسًا جبَّارًا كهذا الرأس لا يسطو عليه إلَّا الثرى الذي يجعله أجزاءً كالليث لا يُؤكَل إلَّا إذا صار أشلاء. ومن أحسن ما ورد في هذه القصيدة ذكره للمدنيَّة العصريَّة التي كان ترقِّي الإنسان فيها بالعلم سببًا لزيادة تفنُّنه في ضروب القَتْل والإفناء، فهو يقول:
قال: يا شكسبير قد كنتَ تصف الدم يجري من هنا ومن هناك أشبه بجداول وتجد ذلك فظيعًا، فقم اليوم وانظر الدم فإنه ليس بجداول ولا بأنهار ولكنه دأماء؛ أي بحر عجاج مُتلاطِم بالأمواج، ثم قال:
(٣٧) قصيدة شوقي في كتاب حافظ عوض عن تاريخ مصر الحديث
ولشوقي أبياتٌ في كتاب فَتْح مصر الحديث للأستاذ الفاضل السياسي المُحنَّك حافظ بك عوض، يبدأ فيها بذكر الصاحب الأمين الذي هو الكتاب، فيقول:
ثم اختص التاريخ من بين الكتب بزيادة الإجلال، فقال:
يقول: كم عاش أمم وأقوام ومضوا فما قدروا أن ينقصوا الأرض ولا أن يزيدوها حبَّة تراب، وإنما تركوا ما حفظه لهم التاريخ لا غير، وهو كما قال الآخر وهو ابن دريد:
ثم يصف القوم بدون تاريخ لهم، فيقول:
ثم يصف العربية الفصحى — أيَّد الله سُلْطانها — فيقول:
يقول: إن لغة القرآن ولسان المصطفى — عليه السلام — ليست باللغة التي يعييها إجابة من يناديها إلى البيان عن ضَرْب من ضروب القول والإعراب عن خالجٍ مهما دقَّ من خوالج النفس، وهي لعمري مليئة بحوائج كلِّ عصر بشرط أن تجِدَ مَنْ يُحسِن الاطلاع على دقائقها والاضطلاع بحقائقها، ثم يذكر كيف كان الأزهر هو الكوكب الوحيد في دجنة أيام المماليك فيقول:
ولشوقي وصف للجبرتي المؤرِّخ ينطبق عليه أحسن انطباق، فهو يقول عنه:
أي إنه يجمع الفِطْنة والغباوة في نسق واحد، وهو من الأصل فطن شديد الذكاء، إلَّا أنه قد يتغابى أحيانًا بحسب غرضه.
ثم يذكر أيَّام مصر في حروبها، فقال إن المصريين فيها لهم وعليهم؛ ففي وقعة نصيبين التي يقول لها الأتراك وقعة نِزب لبسوا رِداء الفخر، وفي وقعة التل الكبير التي على أثرها احتل الإنكليز مصر التحفُوا رِداء الذل، ثم ذكر وقعة الأهرام ووصف جيش نابليون فقال:
ثم ذكر عَجْز المصريين يوم اقْتحَم بلادهم بونابرت، فقال:
(٣٨) زهرية مرنان لشوقي
هذا ولما كان شوقي يأبى إلَّا أن يُجِيد في كلِّ لون من ألوان التأثُّر بمظاهر الحياة عالجَ أيضًا الزهريات بما يناسبها من شعره نَضارة ورَوْنقًا، فقال في الربيع:
ثم يذكر الحمام فيقول:
ثم يقول عن الربيع:
إلى أن يقول في وصف السواقي التي ترفع الماء:
وما زال الشعراء يصفون أنين السواقي والنواعير، وأشهر هذه في الأنين والبكاء نواعير مدينة حماة على وادي العاصي التي صارت مَضْرب المثل؛ لارتفاع دواليبها التي قد يبلغ الواحد منها ثمانية أمتار، فيكون لها أنينٌ يُسمَع إلى مسافة بعيدة، هذا وليس في زهريات الشعراء أجمع ما يبذُّ زهرية شوقي هذه التي قدَّمها إلى الكاتب الروائي الشهير «هول كين»، وختمها بخطاب له يقول فيه:
يريد بصلاحٍ صلاحَ الدين الأيوبي بعد ذِكْره أعاظم من ملكوا مصر، ثم يقول لهذا الكاتب العظيم:
(٣٩) قصيدة شوقي في مسجد أيا صوفيا
وله في مسجد أيا صوفيا:
ومنها:
ثم يقول عن السلطان محمد الفاتح:
إني أرى المختار من شعر شوقي إنما يكثر في الأوابد ووصف المباني والمشاهد، وكلُّ ما له صلة بالتاريخ؛ فلذلك يعلو في هذه السَّموَات ما لا يعلو في غيرها، فشعره في المواضيع التاريخيَّة والملاحم ينحطُّ عنه كلُّ سيلِ بلاغة، ولا يرتقي إليه طَيْر فصاحة؛ ولذلك أُفضِّل قصائده في هذه المقامات الهائلة على قصائده في الغزل والنسيب والرثاء والمديح مع رِقَّة الأولى وجزالة الثانية.
وانظر الآن إلى قصيدته السينيَّة الأندلسية، فإن شوقي في أيام الحرب الكبرى قد ارتحل إلى الأندلس وزار أفخر مآثر العرب فيها، قال: وكان البحتري — رحمه الله — رفيقي في هذا الترحال وسميري في الرحال، فإنه أبلغ من حلي الأثر وحيي الحجر ونشر الخبر وحشر العبر، ومَن قام في مأتم على الدول الكبر … إلخ، ثم استشهد بالعماد الأصفهاني صاحب «الفتح القَسي في الفتح القُدُسي»، وهو قوله: فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه تجدوا الإيوان قد خرَّت شعفاته وعفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد بقي بها كسرى في ديوانه أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه ا.ﻫ.
قلت: من حيث أراد شوقي معارضة البحتري في سينيته الكسرويَّة فيحسن أن نورد قصيدة البحتري هذه وبعدها قصيدة شوقي ثم نقابل بينهما. ولا يعيب شوقي إن قصر عن البحتري في مداه البعيد؛ والبحتري ثالث ثلاثة مع أبي تمام والمتنبي.
(٤٠) سينية البحتري في إيوان كسرى
الجرماز بالكسر بناء عظيم كان عند أبيض المدائن وقد عفا أثره، جاء ذلك في تاج العروس. وقد أشرنا إلى هذا عَمْدًا؛ لأنه لا يوجد في العربي لفظ الجرماز، وإنما يوجد الجرموز، قالوا عنه إنه الحوض المُتخَذ في قاعٍ أو روضة ويكون مرتفع الأعضاد فيسيل منه الماء ثم يفرغ بعد ذلك. وقيل الجرموز البيت الصغير وقيل الجرموز الركيَّة، فوجب التنبيه إلى أن الجِرماز مكان معين.
الدِّرَفْس كدِمَقْس، وهو العلم الكبير وقد قالوا إن هذا البيت هو بيت هذه القصيدة.
ما اهتديت إلى الآن إلى معنى البلهبذ الذي هو لفظ فارسي فيما يظهر.
البُرس هو القطن، والغلائل جمع غِلالة بالكسر وهو شعار يُلبَس تحت الثوب وتحت الدرع، ويجوز أن يكون «فلائل» جمع فليلة وهو الشعر المجتمع، ولكن الأول هو الأقرب.
مُوقَفات حقها أن تكون مَوقُوفات، ولكن البحتري تكلَّم هنا بلغة تميم، فكانوا يقولون أوقف بمعنى وقف، وأنكرها الأصمعي وقال الكلام وقف بغير ألف، وجاء عن بعضهم ما يمسك باليد يُقال فيه أوقفته وما لا يمسك باليد يُقال فيه وَقَفْتُه.
مَن تأمَّل في هذه القصيدة وما ختمها به البحتري لم يجد نَظْمها مجرَّدًا لإجلال الفنِّ والتنويه بعظمة البنيان الذي لا تزال فخامته دليلًا على عظمة الملوك الذين بنوه وبُعْد شأْوِهم في العمران، وإنما اتَّخذها أبو عبادة فرصة للتغنِّي بمجد فارس التي كان ينتسب إليها كثيرون من أُمَراء الدولة العباسية، ومن هؤلاء من كان يُسنِي العطاء للبحتري ويواصل إجازته، بحيث لم يكن يدع فرصة يتغنَّى بها بمجد فارس إلَّا ويتوردها، فكم جاء ذلك في شعره، فمنه قصيدة يمدح بها إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال فيها:
(٤١) إشادة أبي عبادة بمجد العجم
وله فيه أيضًا من قصيدة أخرى:
وقال فيه أيضًا ولم يغفل نسبه الساساني ولا تاجه الخسرواني:
وقال أيضًا من قصيدة أخرى:
وقال أيضًا:
وللبحتري في أحمد بن علي الإسكاف، ويظهر أنه كان من غطاريف فارس:
(٤٢) وصف البحتري لواقعة بحريَّة
وله في مدح أحمد بن دينار بن عبد الله، وكان أمير البحر وقد غزا بلاد الروم ويظهر أنه من أصلٍ فارسيٍّ:
وله في وصف مركبه الخاص:
يريد بصهب العثانين الروم الذين غزاهم ذلك الأمير بحرًا، ثم يقول:
لك أن تقول عود مجرجر؛ أي مصوت من جرجر أي صوت، ولك أن تقول إنه كبير من الإبل يردِّد رغاء في حنجرته من جرجر البعير؛ أي ردَّد رغاءه.
وله فيه أيضًا من قصيدة:
وله أيضًا في مدح يعقوب بن أحمد بن صالح:
وله في مدح الحسن بن مخلد، ويظهر أنه كان فارسي النسب:
الأمن يُسكَّن ويُحرَّك.
وله في إبراهيم بن المدبر:
وله في إسماعيل بن نيبخت:
قد استوفينا هنا أكثر ما تهافت عليه البحتري من الإشادة بمجد العجم وذِكْر ملكِهم القديم وحَسَبِهم الصميم، ولا نزاع في أن ممدوحيه من أمراء الدولة العباسية الذين ينتمون إلى الفُرس كانوا أُولِي حَسَب ضَخْمٍ وسؤدد فخم، ولكن لم نجد مثل البحتري في شعراء العرب من ينوء بمجد العجم بإسراف، فلا عجب أن نظم تلك القصيدة الخالدة في وصف إيوان كسرى وانتهى منها إلى مدح فارس وذكر مواقف رجالات الفرس من خدمة الخلافة الإسلامية.
(٤٣) سينيَّة شوقي
ولْنعُد الآن إلى شعر شوقي ونثبت سينيته الأندلسيَّة التي يليق أن تُقرَن بسينية البحتري.
يقول شوقي إنه اتخذ قصيدة البحتري مثالًا، ونسجَ على منوالها وقد صرَّح عن ذلك بقوله: ثم جعلت أروِّض القول على هذا الروي وأعالجه على هذا الوزن حتى نظمت هذه القافية المهلهلة، وأتممت هذه الكلمة الريِّضة ا.ﻫ.
وقد تأمَّلت في معارضة شوقي للبحتري فوجدت القسم الأول من قصيدته نازلًا نزولًا بارزًا عن طبقة البحتري إلَّا أنه عندما وصل إلى الأوابد وشرع في وصف الملاحم والوقائع، رجع فأخذ يعلو حتى قارن البحتري سائرًا وإيَّاه الكتف مع الكتف، قال:
الملاوة مُثلَّثة: البرهة من الدهر.
جانس شوقي هنا بين «سلا» و«سلا» الأولى من السؤال والثانية من السلوِّ، وقد سبق لي هذا الجناس نفسه، ولم أكن اطلعتُ على شعر شوقي هذا، وهو في قولي في رثاء الشيخ عبد القادر الشيبي سادن البيت الحرام رحمه الله.
ثم قال:
ما رأيت في هذا الشعر إلى هنا سوى التكلُّف والتعمُّل كأنما شوقي يقطع في صوَّان، فلشد ما لقي من عناء المعارضة، وقد حاول مباراة مثل البحتري إلَّا أنه ما لبث أن أسلس له القول، فقال:
الثغر هو الإسكندريَّة، وهذا هو اسمها من قديم الزمان، والرمل والمكس هما من ضواحيها، ثم قال:
هذا بيت خالد ومعنًى طريف؛ أي إنه لو سكن الجنة لبقي ينزع إلى وطنه مصر، وكأنه يشير إلى بيت المتنبي:
ثم يقول:
يُنسَب الوشي عادة إلى صنعاء، وهنا مكان آخر تُنسَب إليه الثياب وهي القسيَّة، وهي ثياب من كِتَّان مخلوط من حرير كانت تجلب من بلدة يُقال لها القسُّ بين العريش والفرما من أرض مصر، وهي على ساحل البحر الملح، قال في تاج العروس إنها خَرِبت من زمانٍ ولم يبقَ إلَّا آثارها، وهناك تلٌّ عظيم من رمل خارج في البحر الشامي. قال وقد يكسر القاف في قس وأهل مصر يقولونه بالفتح.
وادي العقيق هو في المدينة المنوَّرة وكانت فيه أيَّام عمران المدينة القصور الباذخة والجنان الغنَّاء.
أخذ جملة «يحسر العيون ويخسي» من كلام البحتري، ثم قال:
يريد برمس الملك رمسيس، ولكن رخَّم الاسم نظيرَ قولِهم: «يا حار» أي يا حارث و«يا أحم» أي يا أحمد، والترخيم نوع من أنواع البديع وفي بديعيَّة ابن حجة الحموي «كالأغصان حين تمي» أي تميس وتميل وتميد.
اليراع هنا هو القصب.
سلست النخلة ذهب كرَبها مُحرَّكة، وهو أصول السَّعَف الغلاظ.
يشير إلى أبي الهول.
العبقري الفرنسي هو نابليون بونابرت.
ليلة الوكس هي ليلة دخول البَدْر في نجم مَنْحوس.
من هنا بدأ شوقي يُسامِت البحتري لأنَّه إنما يستولي على أمد الإجادة في الملاحم ثم قال:
أي كان لبني أُمَية في الشام عرشٌ عمَّ الإسلام وفي قرطبة كرسيٌّ خصَّ الأندلس.
أي إن إيوان كسرى كان موعظةً للبحتري وأما أنا فبلغت منِّي غاية الوعظ قصور بني أمية آل عبد شمس.
أي أطوي شرق الجزيرة الأندلسيَّة وغربها وأَجوبُ وعْرَها وسَهْلها.
كان أُمَراء بني أميَّة في قرطبة لا يقدرون أن يدعوا الخلافة فلم يكن يُقال لهم الخلفاء، بل كان هذا اللقب لبني العبَّاس، بل كان يُقال لأمراء قرطبة الخلائف كناية عن أنهم ذُريَّة الخلفاء آبائهم الذين كانوا بالشام، وبقي ذلك إلى زمان الناصر عبد الرحمن الثالث فهو أول من تلقَّب بالخليفة من أمراء قرطبة.
وأما الطوائف فهم ملوك الأندلس المتفرِّقون بعد أن انتثر سِلْك الخلافة فيها مثل بني جهور في قرطبة وبني ذي النون في طُلَيطلة وبني هود في سرقسطة وبني رزين في السهلة، والموالي العامريين في بلنسية ودانية وبني صمادح في المرية وبني عبَّاد في إشبيليَّة وبني الأفطس في بطليوس وهلم جرًّا.
الحَدس هنا ليس الظن والتخمين بل هو بمعنى السير على غير هداية.
كانت قرطبة في وقتها مدينةَ العلماء لم يخرج من العلماء مَن خَرَج من قُرطبة لا في الكميَّة ولا في الكيفيَّة، وكان إذا أجمع أهالي قرطبة على شيء فعليه تكون الفتوى، وكان فيها العلم بأنواعه وفنونه، وكما كانت قرطبة عاصمة الإسلام في العلم فقد كان إلى جانب علماء المسلمين فيها أحبار وأَقِسَّة يفتون في دين النصرانية ولهم بِيَع وأديار مشهورة.
يتكلَّم عن الخليفة عبد الرحمن الناصر وعن جلالة الجُمَع التي كان يشهدها في المسجد الأعظم بقرطبة أو في مسجد الزهراء المدينة التي كان شيَّدها لسُكناه في سَفْح جبل العروس من قرطبة، ويقول إنه كان نورًا للجيوش تحت العلم الكبير وكانت تلجأ إليه ملوك الإفرنج والإسبان وغيرهم وربما خلع بعضها وأدالَ لبعضها من بعض.
وفي سنة ٤٤ بعد الثلاثمائة جاء رسول أردون يطلب السلم فعقد له — أي الناصر — ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فردلند قومس قشتيلة في عهده فأذن له في ذلك وأدخل في عهده، وكان غرسية بن شانجة قد استولى على جليقية بعد أبيه شانجة بن فرويلة ثم انتقض عليه أهل جليقية وتولى كبرهم قومس قشتيلة فردلند المذكور، ومال إلى أردون بن ردمير، وكان غرسية بن شانجة حافدًا لطوطة ملكة البشكونس فامتعضتْ لحافدها غرسية ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين مُلقِية بنفسها في عَقْد السلم لها ولولدها شانجة بن ردمير الملك وإعانة حافدها غرسية بن شانجة على مُلْكِه ونصره من عدوِّه. وجاء الملكان معها فاحتفلَ الناصر لقدومهم وعقدَ الصُّلْح لشانجة وأمِّه، وبعث العساكر مع غرسية ملك جليقية فردَّ عليه ملكه، وخلعَ الجلالقة طاعة أردن إليه وبعث إلى الناصر يشكره على فعلته، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك وبما ارتكبَه فردلند قومس قشتيلة في نكثه ووثوبه ويُعيِّره بذلك عند الأمم. ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك. ولما وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالشرق وصل معه رسول ملك برشلونة وطركونة راغبًا في الصلح، فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودة فأجيب.
قلنا: لم يبقَ ملك من ملوك ذلك العصر الذي عاش فيه الناصر إلَّا أرسل إليه وفدَه يخطب ودَّه وأعظمهم أوتون إمبراطور ألمانية الذي طالما تبادَل السفارات مع الخليفة الناصر وكذلك إمبراطور القسطنطينية الذي كان يرسل إلى الناصر الهدايا والألطاف ويوفد الوفود الحافلة.
وإلى ذلك أشرت في قصيدتي الأندلسية التي قلتُ فيها:
يُقال إن أبا جعفر المنصور هو الذي لقَّب عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وقال: «الحمد لله الذي جعل البحر بيننا وبينه.»
إشارة إلى المَحْفل النادر الذي احتفل به الخليفة الناصر لوفود صاحب القسطنطينيَّة وذلك في قصره الزهراء، وانتُدب كثير من العلماء للكلام في ذلك المحفل فأُرْتِج عليهم من شدَّة المهابة، وتكلَّم ارتجالًا القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وكانت خطبةً رنَّانة، وهي مذكورة في الكتب.
كان الخليفة الناصر يأتي أحيانًا إلى المسجد في الجُمَع المشهودة مُرتدِيًا ثوبًا خَلِقًا تواضُعًا منه لله تعالى.
ثم نعود إلى سينية شوقي:
إشارة إلى قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا.
الحَرْس بفتح أوله فسكون: هو الدهر أو قطعة منه، يقال: مضى عليه حَرْسٌ من الدهر، وهو يريد بهذا البيت العتيق مسجدَ قرطبة. ثم يقول:
قدس: جبل عظيم بأرض نجد، قال الأزهري: قدس وآرة جبلان لمزينة، وهما معروفان بحذاء سقيا مزينة، وقيل في الحجاز جبلان كلٌّ منهما اسمه قدس: قدس الأبيض وقدس الأسود، وهما عند ورقان وكلاهما لمزينة، والقدس أيضًا البيت المقدس.
يعني بالوزير ابن مُقلة الخطاط الشهير.
السطر بالسكون وبالتحريك: الصف من الشيء.
يريد أن يقول كم تزيَّنت لعالم من أفراد الدهر واستعدت لإقامة الصلوات الخمس، ولو قال: كم تزَّينت لإمامٍ، كان أحسن.
يريد بمنذر القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وبقُسٍّ قُسِّ بن ساعده، أي بخطيب نظيره في الفصاحة.
فأما منذر فقد كان مشهورًا بالعدل والصلابة في الحق، وقد تولَّى قضاءَ الجماعة في الأندلس، وكان الناصر وولده المستنصر يبالغان في تعظيمه، ولكنه لشدة ورعه لم يكن يتوقَّف عن تقريع الخليفة إذا رأى منه ما يُوجِب ذلك، ولما كان الناصر كلفًا بالبناء وأَمْرُه في هذا الباب مشهور، وقد بنى الزهراء التي قدَّروا النفقةَ على بنائها بثلاثمائة ألف دينار كل عام، واستمرَّ ذلك خمسةً وعشرين عامًا، حتى قيل إنَّ ما أنفقه على الزهراء بلغ ١٥ من مائة من دخل الدولة كلها، وبلغ من انهماكه بالبناء فيها أنه تأخَّرَ ثلاثَ جُمَعٍ متواليات عن شهود صلاة الجمعة بمسجد الزهراء، وكان القاضي منذر بن سعيد خطيب ذلك المسجد، فلم يصبر على هذا الإهمال، ولما صلَّى الخليفة بعد ذلك صلاةَ الجمعة عرَّضَ منذر به في الخطبة تاليًا في أول خطبته قوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلكُمْ تَخْلُدُنَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الذِّي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ، ثم أخذ يتكلم بما يناسب تلك الآية مقرِّعًا وموبِّخًا وموردًا ما جاء في هذا المعنى في كتاب الله إلى أن تَلَا: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذِّي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وكان الناصر يسمع ويعلم أن القاضي منذرًا إنما يشير إليه. ثم قرن منذر بن سعيد هذه الآي العظام بالأحاديث النبوية والآثار المروية، وأضاف إليها من بلاغته النادرة وفصاحته الساحرة، حتى خشَعَ كلُّ المصلين ذلك اليوم ورقُّوا وبَكُوا وضجُّوا وتضرَّعُوا إلى الله تعالى أن يغفر لهم، وبكى الخليفة نفسه معهم واستعاذ بالله من سخطه، إلا أنه وجد في نفسه على منذر لغلظ ما قرعه به، فشكَا ذلك لولده الحَكَم (المستنصر) وقال: والله لقد تعمَّدَني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، وكاد بعصاه يقرعني. وأقسَمَ لا يصلي الجمعة وراء منذر، وجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرَّف إمام المسجد الأعظم في قرطبة، ويجانب الصلاة بجامع الزهراء حيث يؤمُّ منذر بن سعيد، فقال له الحَكَم: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟ فقال له الناصر: أَمِثْل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يُعزَل لإرضاء نفسٍ ناكبةٍ عن الرشد، سالكة غير القصد، هذا ما لا يكون، وإني لَأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصِدْقه، ولكنه أحرَجَني فأقسمتُ، ولَوددْتُ أني أجد سبيلًا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض منه أبدًا. ا.ﻫ. فتأمَّلْ في عظمة أخلاق هذا الخليفة العظيم وفي إنصافه من نفسه.
ثم انتهى شوقي من قرطبة، وبدأ بذِكْر حمراء غرناطة فقال:
يصف زائري تلك المعاهد الذين إنما يأتون ليشاهدوا آثارَ تاريخٍ ماضٍ.
أتذكَّرُ بين الكتابات التي قرأتُها على جدران الحمراء بالخطِّ المذهب قصيدةً لابن زمرك من كتاب بني الأحمر.
الثريا إحدى ملكات بني الأحمر.
يقول إن السفن كانت لهم في الآخِر نعشًا، كما كانت في الأول عَرْشًا، فقد جاءوا الأندلس راكبين البحر ففتحوها، ثم أعادهم أعداؤهم ركوبًا في البحر لما برحوها.
بعد أن أشارَ إلى انقراض مُلْكِ العرب بالأندلس بوهي أخلاقهم، أحَبَّ أن يعِظَ أبناءَ وطنه مصر حتى يتنبَّهوا ويتجنَّبوا النبوات والغفلات التي بمثلها تضيع الممالك، فقال:
(٤٤) قصيدة شوقي في آثار الأقصر
وخاطَبَ روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة عندما زار الصعيدَ بالقصيدة التالية:
ثم يقول:
(٤٥) شوقي يعارض ابن سينا
ولشوقي معارَضةٌ لقصيدة الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا التي مطلعها:
فقال شوقي:
يخاطب النفس فيقول لها تبرجي أو تستري، فإن محاسنك ما خُلِقت حتى يُسدَل فوقها نقاب، فهي محاسن ضاحية ظاهرة، وإنْ كان متناولها بعيدًا، وستر جلالها حاجبًا بينها وبين المتأمِّل فيها، إنْ حُسْنَكِ ليس عليه من مزيدٍ، أفلا تريدين أن تزيديه بالإحسان؟
يقول: أنتِ تحرصين على حجابك، والحال أن الحجاب أنت في غنًى عنه؛ لأنه لا وصالَ إليك، وما كان الحجاب إلا لغير المنيع.
يحكم بأن الجمال صناع اليد، وأنه صنع بدائع كثيرة، ولكنه لم يصنع أدق وألطف من النفس.
البديع يأتي بمعنى المبدِع، ومنه قوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وهو يأتي أيضًا بمعنى المبدَع بالفتح كما هو هنا.
يقول: إن الأحبار والحكماء هلكوا من العناء في البحث عن حقيقة النفس، ومنهم مَن غوَى في سبيل الرشاد، وعصَى وهو يريد الطاعة، وكانوا كلما آنسوا نارًا خبت فهم أبدًا بين وميضٍ وخمودٍ أشبه بمصابيح لعبَتْ بها الرياحُ، وما كان العلم في هذا المقام إلا ليزيدهم خبالًا، أما العامة الجهلاء فهم سائرون على سواء السبيل؛ لأنهم مؤمنون متوكِّلون لا يتفلسفون، وهنا يتذكَّرُ الإنسانُ قولَ الفخر الرازي: اللهم إيمانًا كإيمان العجائز.
ثم يقول:
يُقال إن شوقي كان قد جعل هذا الشطر «بل ما لعيسى لم يقل ويدعي»، فلاحَظَ عليه بعضهم بأنه لو قال ذلك لَكان المعنى: ما بال عيسى لا يشرح لنا حقيقة النفس وهو يدَّعِي معرفة ذلك، فعاد شوقي وغيَّرَ ما قاله أولًا وقال: «بل ما لعيسى لم يقل أو يدع» أي لم يقل عن النفس شيئًا ولا ادَّعى أنه قال عن النفس شيئًا.
أيْ لما نفخك الله في آدم استوَى قائمًا ومشى يباري الملائكة.
أي حتى إذا طويت وبقيت أنت خلالها، رفعت وبقي أثرها كما يبقى أثر الرحيق بعد رفعه.
(٤٦) النيل في شعر شوقي
ولشوقي يخاطب النيل، وجدير بالشاعر الذي أنجَبَه هذا الوادي أن يكون له منه خطاب شهير:
ومهما قيل في النيل فهو قليل، إلا أن شوقي جاء من وصف النيل بما يناسِب جلاله وجماله، ولا أظنُّ شاعرًا قديمًا ولا حديثًا وصَفَ النيل بمثل هذه الإجادة، ثم إنه انتقل من وصف النيل إلى وصف الفراعنة وأهرامهم، فلا نعلم أحدًا جاء بمثل فريه في هذا الباب، فقد قال:
يقال صعقته السماء وأصعقته.
منذ وُجِد الإنسان على الأرض لم يجد في نظره أجلَّ وأنفعَ من الشمس؛ فلذلك عبدها كثيرٌ من بني الإنسان قبل أن جاء الأنبياء فأخبروهم بأن هذه الشمس هي أيضًا مخلوقة، وهي مادة لا تقدر على شيء بنفسها، وإنما الذي تجب له العبادة هو الذي أوجد الشمس وسائر الشموس السابحة في الأفلاك ودبرها، وهو وراء المادة وفوق الطبيعة، وهو العلة الأولى وهو الأزل وهو الأبد، فمنذ جاء الأنبياء ارتقت عبادة البشر وسمت إلى الأفق اللائق بهذه النفس الناطقة، ولكن الأقدمين من شدة إجلالهم للشمس جعلوها هي مصدر كل شيء ورفعوا إليها أنساب ملوكهم.
لم يصف أحدٌ الموميا ولم يمثِّل معناها بمثل ما وصفها شوقي. ثم يقول:
والحقيقة هي أنهم حاولوا الخلود فلم يقدروا عليه، فاعتاضوا منه بتخليد الأجسام بعد أن يئسوا من خلود الحياة في هذه الدنيا.
ثم قال في الأهرام:
ثم يذكر عادةَ المصريين القدماء في إلقاء عذراء في النيل كل سنة في يومٍ مخصوصٍ وموسمٍ كانت تحتفل به الفراعنة، فيقول:
أي لا تُعطَى صداقها.
ما وصف هذا المشهد الغريب من عبادة النيل قبل شوقي شاعِرٌ بمثل هذا الوصف الذي بلغ فيه الإحسان مداه الأقصى، وظني أنه لن يباريه فيه شاعِرٌ آخَر، ولقد أبطَلَ الإسلام عادةَ تقديم بِكْرٍ كلَّ سنة للنيل؛ لأن الإسلام لا يعرف عبادةَ ماء ولا سماء ولا بشر ولا حجر ولا خشب ولا شجر ولا شيء من الأشياء كلها، وإنما هو عبادة الواحد الأحد خالق كل شيء بقدرته، ومدبِّر كلِّ شيء بحكمته سبحانه وتعالى عمَّا يصفون.
الكلمة بفتح فسكون، وكذلك بكسر فسكون، وكذلك بفتح فكسر، والجمع كلمات وكَلِم، وهو ما ينطق به الإنسان مفردًا كان أو مركبًا، وأما كلمة الله فهي خلقه، يقال كلمات الله أي مخلوقاته، وقيل في عيسى عليه السلام إنه كلمة الله، وفسَّروا ذلك أنه انتفع به وبكلامه على حدِّ قولهم سيف الله وأسد الله؛ وقيل بل لأن الله تعالى خلَقَه بمجرد كلمة «كن» من غير أبٍ؛ أي ألقَى الكلمة ثم كونها بشرًا. ومعنى الكلمة معنى الولد قاله الأزهري في تفسير قوله تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي يبشِّرك بولدٍ اسمه المسيح، وقيل كلمة الله بمعنى مشيئته وقدرته، وقيل غير ذلك كما في تاج العروس، والظاهر أن شوقي يريد بكلمة الله هنا المادة التي خلقها الله، وبروحه هذه الحياة التي بثَّها فيها، إلى أن قال:
قال إن الناس في القِدَم فُتِنوا بهذه المادة فألَّهوها، وبدلًا من أن يعبدوا الخالق عبدوا المخلوق؛ لأن الإنسان كما أنه لا يميز في الظلام لا يميز في الضلال. ثم قال عن ضلال البشر:
تأبَّقَ: استتر.
ثم ذكَرَ مآثرَ مصر التاريخية مخاطِبًا وادي النيل:
إلى أن يقول:
يذكر فتح الإسلام لوادي النيل، ثم ينهي هذه الكلمة التي تاهَتْ على الكلمات، وجرت من مطارف الحكمة ما يندر في ماضٍ وآتٍ بخطاب للوادي هو هذا:
يقول لوادي النيل: إن ثنائي عليك ليس فيه تكلُّفٌ، وحبي لك ليس من باب التزلُّف، ويكفي أننا نترك عندك أولادنا تُرزَق في جوانبك بعد أن نكون افترقنا عنهم، فإننا نفكِّر فيهم ولو كنَّا ترابًا. وما زال شوقي من أبرِّ الناس بأهله ووطنه، ولكنه في الآخِر مع شدة حبِّه لوادي النيل لم يشأ أن يعبده عبادةَ المصري القديم؛ فإنه مسلم لا يعبد غير الله، فهو يقول للنيل: أنت المرجوُّ لأولادي، وإنما الله تعالى من فوقك هو أبر بهم مني ومنك.
(٤٧) كلمة شوقي في الطيران
ولشوقي قصيدة في الطيران والطيارات نظمها عندما كان أمر الطيارة عجبًا — ولم يزل عجبًا — وكان الناس لما يألفوا مثلَ اليوم هذه الأعجوبةَ المعدودة من المعجزات العصرية، فقال شوقي:
ثم يقول:
إلى أن يقول:
يشير إلى العباس بن فرناس القرطبي الأندلسي، الذي كان من العلماء أولَّ مَن حاوَل الطيران، وكانت كنيته أبا القاسم، وكان مع علمه بالعلوم الطبيعية أديبًا مشهورًا، عاش في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الثاني صاحب الأندلس، وقيل إنه أول مَن ابتَنَى طيارةً وطار بها، ولكنه لم يحسن التحيُّل في أمرِ نزولها فسقطَتْ به ومات.
ثم يقول في مغزى الطيران:
نقول: مع الأسف إن الشر قد اعتَزَّ بهذه الطيارات اعتزازًا جاء فوق ما كان يخشاه شوقي، وصارت تُمطِر الموت الزؤام في كلِّ مكانٍ تقع فيه حرب، وصارت عمدةً في القتال الحديث، وأخذت الدول التي تزعم أنها تريد نشْرَ المدنِيَّة ونصر الإنسانية في العالم تطير من هذه الطيارات أسرابًا، ترمي منها بالموت الزؤام على الضعفاء الذين لا قِبَل لهم بمقاومتها، وكثيرًا ما تقتل النساء والأطفال والعاجزين، وتدمر البيوت على رءوس أصحابها.
وقد تحرَّكَ عرق الإنسانية بكثيرٍ من رجال السياسة والعلم، وحاولوا حمْلَ جمعية الأمم على اتخاذ قرارٍ يمنع القتالَ بالطيارات، ففشلوا وإلى الآن ولا يزال اعتماد الدول الكُبَر على القتال في الجو، ونرى الدول يكاثر بعضها بعضًا في عدد الطيارات التي لا تشتغل معامل الأسلحة بشيء شغلها بها. ثم قال شوقي:
ثم قال في إظهار الفرق بين قدرة الخالق والمخلوق:
(٤٨) ما قاله في توت عنخ آمون
وقال في توت عنخ آمون وحضارة مصر القديمة:
يشير إلى ما ورد في الأثر من أن أهل بدر مغفورة لهم ذنوبهم «إلا الكبائر».
ثم يصف تلك الآثار التي وُجِدت تحت الأرض، وإليك أنموذجًا من وصفه:
فعل وثب لا بد من أن يتعدَّى بحرفٍ، ولكن شوقي عدَّاه بلا حرفٍ على نزع الخافض.
(٤٩) قصيدة شوقي في دمشق
ولشوقي قصيدة دمشقية يوم زار دمشق غير القصيدة الطائرة الصيت التي قالها يوم ضرب تلك الحاضرة بالقنابر:
يريد أن يقول إنه بكى آثارَ بني أمية عندما كان بالأندلس، واليوم يبكي آثارَهم وهو في دمشق.
يشير إلى فتح الأندلس كان الأصل فيه دمشق، وأن عاصمة بني أمية هي التي استلحقت عاصمة القوط، ولولا عاصمة بني أمية لما كانت عاصمة بني العباس الذين انتزعوا منهم الخلافة موحدة. وبغدان لغة في بغداد.
الحقيقة أن الأذان لا يزال كما كان، وإنما اختلف تأثيره في الآذان، وعسى كل شيء يعود إلى أصله.
عاد فاستثنى دمشق وقال: آمنت بالله، يقلد الدمشقيين في كلماتهم؛ لأنهم يستعملون هذه الجملة كثيرًا في موضع العجب.
أي ظننتُ لبنان هو الجنة، ولكن بعدما أفضْتُ منه إلى دمشق علمتُ أنه لم يكن إلا طريقَ الجنة.
اختصَّ بالذكر من قبائل العرب طيًّا التي منها حاتم، وشيبان التي يُنسَب إليها معن بن زائدة.
الجنَّان بمعنى البستاني، لفظة مولَّدة لم نعثر عليها في كتب اللغة، وقد استعملها صاحب نفح الطيب من المتأخِّرين.
أصاب شوقي هنا شاكلة الداء الذي به انحَطَّ الشرق وتقهقر العالم الإسلامي، وهو عدم ائتلاف أهلهما على الإنفاق على المصالح العامة، بخلاف الأوروبيين الذين كان أكبر عوامل نجاحهم وفلاحهم بذل كل واحد منهم على قدر حالته في مصلحة الجمهور. ثم قال:
كنَّا نتمنَّى لو عاش شوقي إلى هذا العهد وشهد انحلالَ المسألتين المصرية والسورية باستقلال كلٍّ من القطرين الشقيقين، فكان لذلك البلبل الصداح غناء يرقص الجماد كما كان له من أجل استيلاء الأجانب عليهما نواحٌ يذيبه.
(٥٠) حنين شوقي من الأندلس إلى وطنه مصر
ولشوقي قصيدة نظمها وهو في منفاه بالأندلس أيام الحرب العامة، يحنُّ فيها إلى مصر وطنه، ويعارض قصيدة ابن زيدون في ولادة بنت المستكفي وهو يخاطب حمام وادي الطلح الذي بظاهر أشبيلية:
وأكثر أبيات هذه القصيدة شبهًا بقصيدة ابن زيدون، وهي التي تلي:
(٥١) المكتب في شعر شوقي
ومن ألطف كلمات شوقي وَصْفُه حياة المكتب، وكيف يتدرَّج الناشئ في أطوار الحياة:
إلى أن يقول:
ثم ذكَرَ دخولَ الإنسان في دور الكهولة بعد أن ودَّعَ الشبابَ:
إذا وضعتَ هذا الشعر في شعر المتنبي لم تفرقه عنه، وما زال شوقي أشبه الشعراء المحدثين بأبيه أبي الطيب، لا سيما إذا طرق بابَ الحكمة وتكلَّمَ في الأوابد.
(٥٢) كلمة شوقي عن لبنان
ولشوقي قصيدة عن لبنان من جملتها هذه الأبيات:
يظهر من البيتين الأخيرين أن شوقي استلطَفَ وادي عين زحلة، وهناك نبعان أحدهما يقال له نبع القاعة، والآخَر نبع الصفا، والمسافة بينهما قصيرة يجتمعان فيسيل منهما نهر الصفا الذي ينحدر إلى البحر عند الدامور، وقد عبَّرَ شوقي عن القاعة بالقاع، وليس كذلك بل هو بالتاء، والقاع في اللغة هو الأرض السهلة المطمئنة، ولا محلَّ له هنا، وإنما سُمِّيَ أحد هذين النبعين بنبع القاعة؛ لأنه يخرج من مغارة تراها كأنها منحوتة باليد، فأطلقوا عليها اسم القاعة التي هي البهو عند أهل الشام، وهكذا يُسمِّي أهلُ الجبل هذا الكهفَ.
(٥٣) كلمة شوقي عن حرية المرأة
ولشوقي شعر في حفلة نسائية عظيمة انعقدَتْ تحتَ رئاسة السيدة هدى شعراوي:
نعم، وكلٌّ من هاتين الحريتين لا يجوز أن تكون مُطلَقة كما يتوهَّم بعضهم، بل يجب أن تكون مقيَّدة بقيود الشرع، وإلا فسد المجتمع وانتشرت الإباحة، وهذا التقييد بقيود الشرع لا يعني أسْرَ المرأة ولا قَصْرَها في الحجال غير مشتركة في الحياة العامة. ثم يخاطب قاسم بك أمين رحمه الله فيقول له:
(٥٤) موشح أندلسي لشوقي
ولشوقي موشح أندلسي في عبد الرحمن الداخل الذي لقَّبَه أبو جعفر المنصور وهو عدُوُّه بصقر قريش:
•••
ثم يقول:
ثم أخذ يسوق قصةَ بني أمية مع بني العباس، وكيف ثارَتْ بين العائلتين الثارات إلى أن تغلَّبَتِ العباسية على الأموية، وأخذ بنو العباس يقتلونهم في كلِّ سهلٍ وجبلٍ، فقال:
قال إن الظالمين من بني أمية وأعوانهم كيزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف وغيرهما، قد كانوا السببَ فيما لقيه أعتابهم من ظالمين مثلهم من بني العباس، وأعوانهم كأبي العباس السفاح وأبي مسلم الخراساني وغيرهما، وما ظالم إلا سيُبلَى بأظلم. ثم ذكر كيف نجَا عبد الرحمن بن معاوية سبحًا بالفرات ومعه أخوه وهو ولد، فبعد أن خاض الولد وراء أخيه في الماء غلب عليه الخوف، وناداه الجند من عن الشاطئ ليعود وله الأمان، فانخدع بقولهم فرجع فقتلوه وأخوه عبد الرحمن يرى قتله بعينه من الشاطئ الآخَر. قال شوقي:
ثم أتى على قصة عبد الرحمن ونجاته وانسلاله إلى المغرب واختفائه، ثم إجازته إلى الأندلس وغلبته على تلك الأرض بعد أن لقي من الأهوال ما تشيب له ذوائب الأطفال، وكيف صبر وآل به الصبر الجميل إلى الملك، فاستخرج شوقي العِبرة اللازمة، ولم يزل في الحِكَم والمواعظ الشاعر الذي لا يشقُّ له غبار ولا يصطلى له بنار.
نعم، كان عبد الرحمن بن معاوية من أفحل رجال الإسلام في عقله وتدبيره وصبره وشدة بأسه، ولكن كان وراءه عظمة اسم بني أمية، ذكر صاحب «أخبار مجموعة» في فتح الأندلس وذكر أمرائها، وهو أقدم تاريخ عربي لها، أنه لما وصلت رُسُلُ عبد الرحمن بن معاوية إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس يلتمس منه تمكينه من الإجازة إلى الأندلس والسكن بها، كان أجمع في البداية أن يسمح له بدخولها وانصرف الرُّسُل وقد حصلوا على هذا الوعد، ثم ما ساروا أكثر من ساعة حتى سمعوا صائحًا يصيح خلفهم ليتوقفوا، فإذا الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الذي كان بمقام الوزير عند الأمير يوسف الفهري، يقول لهم: كنَّا قد أجبنا دعوة ابن معاوية، ولكننا روينا في هذا الأمر، فوجدنا أن عبد الرحمن بن معاوية هو من قوم لو بالَ أحدهم في هذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، والله إن أول سيف يُسَلُّ عليه هو سيفي. وهكذا انقطع رجاء جماعة عبد الرحمن من ربيعة ومضر في نصرته، وإنما استمالوا اليمانية لما كان في صدورهم من الأحقاد على المضرية.
قال في «أخبار مجموعة» نقلًا عن رسل عبد الرحمن: فألفينا قومًا وغرت صدورهم يتمنون شيئًا يجدون به سبيلًا إلى طلب ثأرهم، ورغبوا في عقد بني أمية بالأندلس، ثم ساق القصة إلى آخِرها، وخلاصتها أن عبد الرحمن بن معاوية لم يتمكَّنْ من الأندلس إلا بواسطة عداوة اليمانية للمضرية الذين كانوا جماعة يوسف الفهري، وكان اسم بني أمية مليًّا بأن ينهض به مهما كان مهيض الجناح، على أن عبد الرحمن كان جامعًا بين الاسم والفعل.
(٥٥) أبيات شوقي عن زحلة من لبنان
ولشوقي قصيدة يصف بها زحلة من لبنان، لا نحب أن نختم هذا الكتاب بغير ذِكْر بعض أبياتها الرشيقة:
ومنها:
البردوني هو نهر زحلة.
ثم يقول:
جبل صنين من أعلى قمم لبنان، وهو مُطِلٌّ على زحلة من الغرب، والحرمون هو جبل الشيخ الذي قنته تعلو عن البحر ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وهو يقابل زحلة من جهة الشرق، وبينهما سهل البقاع. ثم يقول:
(٥٦) كلام شوقي عن استقلال سورية وذكرى شهدائها وأولهم يوسف العظمة
وله قصيدة عن استقلال سورية وذكرى شهدائها جاء فيها:
ثم يقول:
يذكر يوسف بك العظمة قائد الجيش السوري الذي استشهد في وقعة ميسلون، ثم يقول عنه:
(٥٧) كلمة شوقي عن تمثال نهضة مصر
وله في تمثال نهضة مصر:
لم يخالف شوقي طريقتَه في التيه بشعره على نسق المتنبي الذي كان تيَّاهًا بعبقريته، وليس هذا بوجه الشبه الوحيد بينهما. ثم قال:
يقول إن محمد علي وإن لم يكن مصريًّا في نَسَبِه، فقد أسَّسَ لمصر دولةً لم يشهد وادي النيل مثلها.
(٥٨) قصيدة شوقي في عيده الخمسيني
ولما احتفل بعيد شوقي الخمسيني سنة ١٩٢٧، وأنشد الشعراء في ذلك المحفل العظيم القصائدَ التي شرَّقت وغرَّبت، أجابهم عليها بهذه القصيدة التي نأخذ من أبياتها ما نجعله مِسْكَ الختام لهذا الكتاب الذي أهديناه إلى روحه العبقرية، وإلى عشاق شعره من أبناء العربية، قال:
ومضى في وصف الربيع إلى أن قال:
وكان لا بد لشوقي من ذِكْر ملك البلاد في حفلةِ عيده هذا، فقال:
وقد وصل الفاروق إلى اليوم الذي أشار إليه شوقي بعد تسع سنوات من قوله هذا، وبُويِعَ الفاروق ملكًا على مصر والسودان موفَّقًا منصورًا إن شاء الله، وزاد تيمُّن الناس به نيل وادي النيل استقلالَه التامَّ لدى استهلال ملكه.
ثم ذكر سعد زغلول فقال: