اجتماعنا الأول في باريس
ومن غريب الاتفاقات أننا في سنة ١٩٢٦ تلاقينا أنا وشوقي — رحمه الله — في باريس، جاء فسلَّم عليَّ في فندق ماجستيك؛ فذهبت أردُّ له السلام في فندقٍ كان نازلًا به في الحي اللاتيني، فسألت عنه فقيل إنه خرج إلى النزهة وإذا بهذا الأوتيل على مسافة مائة متر من مقهى داركور، وإذا بشوقي جالس هناك ومعه مُطرِبه محمد عبد الوهاب، فجلست إليهما وأخذت أتأمَّل في دوران الدهر وردِّ العَجُز على الصَّدْر؛ فقد كنتُ أوَّل مرة عرفت فيها شوقي أجلس وإياه في هذا المقهى نفسه، ومضى على ذلك ستة وثلاثون حولًا ولم نجتمع في باريس، فلما اجتمعنا إذ بنا من دون تعمُّد في هذا المقهى أيضًا، فقلت لشوقي: أتدري كم سنة مضت على اجتماعنا في هذا المقهى؟ هذه ستُّ وثلاثون سنة، وكان رحمه الله لا يرتاح إلى الأحاديث التي تذكِّره بالشيخوخة، فقال لي: تمسُّكك بهذه التواريخ لا أدري لمَ؟ فضحكت وعرفت أنه ضاق صدْرُه من هذه الذكرى، وأنا قصدت أن أتذكر نعمة بقائنا طول هذه المدَّة ولقائنا من بعدها؛ هذا إذا كان طول العيش معدودًا من النعم.
جمعتْنِي باريز في أيام الصبا بالأمير شكيب أرسلان وأنا يومئذٍ في طلب العلم والأمير — حفظه الله — في التماس الشفاء، فانعقدت بيننا الألفة بلا كلفة، وكنت في أول عهدي بنظم القصائد الكُبَر، وكان الأمير يقرأ ما يرِدُ عليه منها منشورًا في صحف مصر، فتمنَّى أن تكون لي يومًا مجموعة، ثم تمنَّى عليَّ إذا ظهرَتْ أن أسمِّيَها «الشوقيات»، ثم انقضت تلك المدَّة فكأنها حُلم في الكَرَى أو خلسة المُختلِس، أو هي كما قلت:
هذا أصل التسمية سبقت به إشارة لا تُخالَف، ودفعت إليه طاعةٌ واجِبة، وأنا بين هاتين هدفٌ للقال والقيل يُظنُّ بي نسبة الأثر الضئيل إلى الاسم القليل.
كانت وفاة والدي من نحو ثلاث سنوات، فكان لي عجبًا أن وجدت بين أوراقه شيئًا كثيرًا من مُشتَّت منظومي ومنثوري ما نُشر منهما وما لم يُنشر، قد كُتب بعضه بالحبر والبعض الآخر بالرصاص، والكلُّ خط يد المرحوم، وقد لفَّه في ورقةٍ كُتِبَت عليها هذه العبارة: «هذا ما تيسَّر لي جمعه من أقوال ولدي أحمد وهو يطلب العلم في أوروبا؛ فكنت كأنِّي أراه، وأني آمره أن يجمعه ثم ينشره للناس؛ لأنه لا يجد بعدي مَنْ يعتني بشئونه، وربما لم يُوجَد بعده مَنْ يُعنَى بالشعر والآداب.» فبينما أنا ذات يوم تَعِبٌ بهذه الأوراق حَيْران لوصيَّة الوالد كيف أجريها زارني صديقي مصطفى بك رفعت، فحدَّثته حديثي فسألني أن أُعِيرَه الأوراق أيامًا ثم يعيدها إليَّ ففعلت، ثم لم يمضِ شهرٌ حتى بعث بها إليَّ وإذا هي قد نُسِخَت بقلمٍ مليحٍ يؤيِّده ذوقٌ صحيح؛ بحيث لم يبقَ إلَّا أن تُدفَع إلى المطابع، فأخذتها وبودِّي لو وفَّيتُ صديقي المشار إليه حقَّه من شُكْرِ الصنيع، وأنا أقول في نفسي: لئن صدق أبي في الأولى لقد ظُلم في الثانية؛ فإن الخير لا يزال في الناس.
انتهى كلام شوقي، وأنا أزيد على ذلك أن والد شوقي — رحمهما الله — قد أفرط في التشاؤم؛ فإن نابغةً مثل ولده لا يمكن أن يُهمَل وأن يعدم مَنْ يعتني بشئونه، وإن لم يكن للمرء مَنْ يحنو عليه حنوَّ والده فكم قام الأدب مقام الوالد، وقد قِيل:
وهذه الأبيات وتلك القصائد التي كان منها ما هو مكتوب بالحبر، وما هو مكتوب بالرصاص جاء وقتٌ نسخَها فيه ناسخٌ بخط مليح، ثم جاء وقتٌ آخرُ يُقال فيه: إن هذه القصائد التي كُتِبَت بالحبر جديرة بأن تُكتَب بماء التِّبْر. وهكذا رجال الدهر تنمو أقدارهم بطول الدهر.