صداقة ومكاتبات
وأعود إلى ما قاله شوقي من أنه تفرَّق جسمي وجسمه ولم يتفرَّق الضمير والخاطر؛ فقد صدق في هذه الأبيات وأحسن الشعر ما حكى الحال؛ فقد كرعنا من الوفاء بنمير، وتفارقنا ولم يتفارقْ خاطر وضمير، وبقينا أكتب له ويكتب لي وأبثُّه ما في نفسي ويبثني ما في نفسه وأداعبه ويداعبني ونتناجى على بُعْد الديار، ونتراءى بالقلوب لا بالأبصار، وكنت لا أجد أعزَّ عليَّ ولا أغلى لديَّ منه مع كثرة الأصحاب ووفْرَة الأتْراب، وهذا ما ترجمه هو بقوله:
فقد كنت أحبه لعذوبة أخلاقه وحسن معاشرته وأُجِلُّه لعلوِّ فِكْره وبداعة شعره، وأجمع فيه بين الحبِّ والحُرمَة، وما أسعد الإنسان إذا كان يحبُّ مَنْ يحترم ويحترم مَنْ يحب! وما أصدق قول المتنبي:
وإني أتذكَّر من جملة ما كان بيننا من النكات كتابًا بعث به إليَّ من فرنسا ضمَّنه عدةَ جُمَلٍ متتابعة؛ قلَّد في كلِّ واحدة منها أديبًا من الأدباء المَعْدُودِين حاكيًا أسلوبه الخاص، وليس الكتاب — مع الأسف — محفوظًا عندي ولا غيره من تلك المكاتبات، ولكنَّني أتذكَّر بعْضَه، فهو يقول: لم يتمَّ له ما أراد من إيصال النفيعة إلى أبناء الجلدة «بَكْرِيَّة»، وقد مرق من ذلك مروق السهم من الرَّميَّة «شكيبيَّة»، ثم ذكر جملةً ثالثة ما عدْتُ أتذكَّرها، وقال عنها «صبريَّة»، وجملةً رابعة لم أعُدْ أتذكَّرها ولا أتذكر مَنْ حاكى بها؛ والحاصل أنه في الجملة الأولى يُشِير إلى أسلوب السيد توفيق البكري الأديب المشهور، وفي الجملة الثانية إلى أسلوب هذا العاجز، وفي الجملة الثالثة التي نَسِيتها إلى إسماعيل صبري باشا، وهلمَّ جرًّا.
وأرسلت إليه من بيروت صورتي الفتوغرافية، وكتبت تحتها:
وكنت أبعث إليه من فرنسا بكثير من حلاوات الشام، وأتلذَّذ على البُعد بأن يتذوَّقها ويتلذَّذ بها، وكنت كلما قرأت له قصيدة من تلك القصائد الرنَّانة — لأن شعره بدأ يرنُّ من ذلك العهد — تمتلئ جوانحي بها مسرَّة ونواظري قرة، وبقي ذلك دَيْدَني معه إلى أن مات، لا أتلو له شعرًا إلَّا كان لي سبب سرورٍ، وإلى هذا أشرت بقولي في القصيدة التي نظمتها له بمناسبة يوبيله سنة ١٩٢٧:
ومن نِعم الله عليَّ أنه عافاني من داء الحسد الذي قد يُبتلَى به الكثيرون لا سيَّما من رجال الأدب الذين لا يزال الواحد منهم يتعقَّب ويترقَّب حتى يجد لأخيه غلطةً يبرِّد غلَّته بتكرارها وتنبيه الأفكار إليها. وأنا لم أكن حاسدًا لشوقي ولا كافيًا إيَّاه حسدي ونفاستي وغُصَّتي برفيع مقامه فحسب، بل كنت مُفتخِرًا به فرِحًا بنبوغه سعيدًا بعبقريته أجده من حسنات هذا الزمان الكبرى، ولا تُتاح لي الفرصة للإتيان بذكره أو للاستشهاد بشعره إلَّا توردتها، وقد كان يبدو لي من كُتُبه إليَّ أن ذلك يَرُوقه لا سيَّما عندما كان في أول ميدانه ولم يكن أحرز ما أحرزه فيما بعدُ من الشهرة الطائرة والزعامة القاهرة، وقد كان يُفضِي بما يشعر به من افتتاني به إلى خليله وخليلي معًا شاعر القطرين وثالث القَمَرَيْنِ خليل بك المطران، فكان الخليل يقول له: إن شكيب لا يحسدك ولا يحسد أحدًا؛ ولذلك تراه دائمًا مُفتخِرًا بك.
ولما نشرت كتابي في تاريخ الأندلس تذييلًا على رواية «آخر بني سراج» للفيكونت شاتوبريان ختمت ذلك الكتاب بفصلٍ في حالة الشرق وما آل إليه، واستشهدت لشوقي بأبياتٍ ذَكَرْتُ بمناسبتها أنه شاعر العصر وهي: