وكنت مع ذلك أعارِضه في الأحايين؛ فإنه نَظَمَ مرَّة قصيدةً لدى زيارته الأولى للآستانة
وحلوله ضيفًا كريمًا على السلطان عبد الحميد، فإنه قال يومئذٍ:
رضِيَ المسلمون والإسلام
فَرْعَ عثمانَ دُمْ فذاك الدوام
كيف يُحصَى على علاك ثناءٌ
لك منك الثَّناءُ والإكرام
هل كَلامُ العباد في الشمس إلَّا
أنَّها الشمس ليس فيها كلام
ومكان الإمام أعْلَى ولكن
بأحاديثه يَتِيهُ الأنام
إيهِ عبد الحميد جل زمان
أنتَ فيه خَلِيفةٌ وإمام
ما رأتْ مثلَ ذا الذي تَبْتَنِي الأقْـ
ـوام مجدًا ولن يرى الأقوام
دولة شاد ركنَها ألفُ عام
ومئات تُعِيدها أعوام
وأساس من عَهْد عثمان يُبنَى
في ثمانٍ ومثلُهن يُقام
حِكْمةٌ حَالَ كلُّ هذا التجلِّي
دونها أن تَنالَها الأفْهام
يسألُ الناسُ عندها الناس هل في النَّـ
ـاس ذو المقلة التي لا تنام
أم مِن الناس بعدُ مَن قولُه وحْـ
ـيٌ كريمٌ وفعلُه إلهام
صدقَ الخلْقُ أنت هذا وهذا
يا عَظِيمًا ما جازَه إعْظام
شَرَفٌ باذِخ ومُلْكٌ كَبِير
ويَمِينٌ بُسطٌ وأمْرٌ جِسام
عُمَرٌ أَنْتَ بَيْدَ أنَّك ظِلٌّ
للبَراياٌ وعِصْمةٌ وسَلام
ما تتوَّجْتَ بالخلافة حتى
تُوِّجَ البائِسون والأيتام
وسَرَى الخِصْب والبهاء ووافَى الـ
ـبِشرُ والظلُّ والجنَى والغمام
وتلقَّى الهلال منك جَبِين
فيه حُسْن وبالعُفاة غرام
فسلامٌ عليهمُ وعليه
يوم حيَّتْهمُ به الأيام
وبدا المُلْكُ مُلْكُ عثمانَ من عَلْـ
ـياكِ في الذروة التي لا تُرام
يُهرع العصر والملوك إليه
وبنو العصر والولاةُ الفِخام
هكذا الدهر حالة ثم ضدٌّ
ما لحالٍ مع الزمان دوام
ولأنت الذي رعيته الأُسـ
ـد ومَسْرى ظِلالها الآجَام
أمَّة التُّرْك والعِراق وأهْلُو
ە ولُبْنان والرُّبَى والخِيام
عالَمٌ لم يكن لِيُنْظَم لولا
أنَّك السِّلم وسْطه والوِئام
هذَّبَتْه السُّيوف في الدَّهْر واليو
م أتمَّتْ تَهْذيبَه الأقلام
أيقولون سَكرَةٌ لن تجلَّى
وقعودٌ مع الهَوى وقِيام
لَيَذوقنَّ للمُهَلهِل صَحْوًا
تشْرُفُ الكأْسُ عنده والمُدام
وضَعَ الشرقُ في يديك يديه
وأتتْ من حُماتِه الأقْسام
بالوَلاءِ الذي تُريدُ الأَيَادي
والولاء الذي يُريدُ المُقام
كيف تُهدَى لما تشيد عيون
في الثرى مِلْؤها حصًى ورَغام
مُقَلٌ عانَتِ الظَّلام طَوِيلًا
فعَمَاها في أن يزولَ الظَّلام
قد تَقُوم النفوسُ في الضَّيْم حتَّى
لنرى الضَّيْم أنها لا تُضام
أيُّها النافِرون عُودُوا إلينا
ولِجُوا البابَ إنه الإسلام
غَرَضٌ أنتمُ وفي الدَّهْرِ سَهْمٌ
يومَ لا تُقْعِد السهامَ السهامُ
نِمْتمُ ثمَّ تطلبون المعالي
والمعالي على النِّيام حَرام
شرُّ عَيْشِ الرجال ما كان حُلمًا
قد تُسِيغ المنيَّة الأحلام
ويَبِيتُ الزمانُ أنْدَلُسِيًّا
ثم يُضْحِي وناسُهُ الأعجام
عالِيَ البابِ هزَّ بابُك منَّا
فسَعَيْنا وفي النفوس مَرام
وتجَلَّيْتَ فاسْتَلَمْنا كما للنَّـ
ـاسِ بالرُّكْنِ ذي الجَلال اسْتِلام
نسْتَمِيح الإمامَ نَصْرًا لحلمي
مثلما يَنْصُر الحُسامَ الحُسامُ
فلِحُلمي وآله والرعايا
بك يا حامِيَ الحِمى اسْتِعْصام
يشهد الله للنفوس بهذا
وكَفَاها أن يشهد العلَّام
وإلى السيِّد الخليفة نَشْكو
جَوْر دهْرٍ أحرارُه ظُلَّام
وَعَدُوها لنا وُعُودًا كِبارًا
هل رأيتَ القُرى عَلاها الجَهام
فملَلْنا ولم يكُ الداءُ يَحْمي
أن تَمَلَّ الأرواحُ والأجسام
يمنع القَيْدُ أن نقومَ فهَلْ تا
جٌ فبالتَّاج للبلاد قِيام
فارفعِ الصَّوت إنها هي مِصْرٌ
وارفع الصوت إنها الأهرام
وارعَ مِصْرًا ولم تزل خيرَ راعٍ
فلها بالذي أَرَتْك ذِمام
إن جهدَ الوفاءِ ما أنت آتٍ
فلْيقُمْ في وفائك الخُدَّام
ولْيصُولوا بمَن له الدَّهْرُ عبدٌ
وله السعدُ تابِعٌ وغُلام
فاللِّواء الذي تلقَّوا رفيعٌ
والأمور التي تولَّوا عِظام
مَن يُرِد حقَّه فللْحَقِّ أنصا
رٌ كثير وفي الزمان كِرام
لا تَرُوقَنَّ نَوْمةُ الحَقِّ للبا
غِي فلِلْحقِّ هزَّةٌ وانْتِقام
إن للوَحْش والعِظام مُناها
لمنايا أسبابُهُنَّ العظام
رافِعَ الضادِ للسُّها هل قَبُولٌ
فيُباهِي النجومَ هذا النظامُ
قامت الضادُ في فَمِي لك حُبًّا
فهْي فيه تحِيَّة وابْتِسام
إنَّ في يلدِزِ الهدى لخِلالًا
أنا صبٌّ بلُطفِها مُستَهام
قد تجلَّت لخير بدرٍ أقلَّت
في كمالٍ بدَتْ له أعلام
فالزم التمَّ أيُّها البدرُ دَوْمًا
والْزَمِ البدْرَ أيُّهذا التمام
وهذه القصيدة غير خالية من أبيات فيها غموضٌ وأخرى فيها تعقيد، ولكنها على كلِّ حال
عامرة بشوارد الأبيات، وشوقيَّة كسائر الشوقيَّات وفيها دُرَرٌ يتائِم، وألفاظ كسجع
الحمائم، ولما طالعتها نظمت من البحر والقافية:
هل لسان أقواله الإلِهام
أم بيان آياته الأحكام
فتباري الألفاظ شَأْو المعاني
ويُوفَّى حق الثناء الإمام
الذي شَرَّفت خلافته الأرْ
ضَ فحفَّ الْبريةَ الإكرام
وغدتْ لهجةُ الثناء عليه
مثلما دامَ للصلاة إِقام
قَعَدَتْ نَهْضة البلاغة عنه
ودَنَتْ عن خَيْالِه الأوْهَام
قعَسٌ في الصفيح من أطلس العز
تهاوَتْ من دونهِ الأفْهَام
إنما وصْفُه على فاتح الأفـ
ـكار في الذروة التي لا تُرام
كلُّ طَرْف للفِكْر عنه كَلِيل
كلُّ طَرْف للجري فيه كهام
قصر الوَصْف دون مَنْ يفضح الوصـ
ـف وعندَ الفعالِ يَخْفى الكلام
ينبذ الشعر والشهود الرياضيـ
ـات عدًّا والحجة الأرقام
إن ما سال في ثناه يراع
لا كما سحَّ من يديه غمام
وفِعال الضِّرغام أوْقَع في النفـ
ـس من القول إنه الضِّرغام
كلَّ يوم له صنائع تَتْرَى
في البرايا لباسهنَّ الدوام
تكفل الناس مثلما يكفل الغبـ
ـراء غيث له عليها انسجام
طوَّق الخلقَ جودُه ونداه
فهي في مدحه لعمري حمام
وجَدِيرٌ أن تنطق الطيرُ والوحـ
ـش فيتلو الصدَّاحَ فيه البُغام
نُسخت عنده الملوك وأمسى
خبرًا من أخبار كان الكرام
ما رأى مثله الزمان عظيمًا
صِبْيةٌ عنده الرجال العظام
جاء من ضئضئ الخلافة فردًا
هو من معشر الملوك السنام
فرع عثمان وكفى المجد والأحـ
ـساب والمَكْرمات والأحلام
دولة حجة الزمان على الخلـ
ـق بها دون مِرْية إلزام
ليس للشرق غيرها فبنو المشـ
ـرق طرًّا بدونها أيتام
قد أقامت سرادق العزِّ يعليـ
ـه الوشيج الرماح والأقلام
فوقه راية الهلال مُنِيرًا
يدبر الظُّلْم عندها والظلام
ينضوي تحتها النقاد مع الأسـ
ـد وترعى الذئاب والآرام
مجدَ عثمان ليس غيرَك مجد
كلُّ مدح من دون مَدْحك ذام
لم تزل شامِخًا بأنف عزيز
ولكم أعطس الملوك الرَّغام
لا ترى دولة هزالًا وضعفًا
حولها المسلمون والإسلام
وعلى رأسها خليفة عصر
دهره تابِع له وغلام
لم يزَلْ قائمًا لَدَيْه بأبوا
ب عليهنَّ للجِباه ازدحام
حيثما تهطع الملوك وتعنو
تحت تيجانها الطلى والهام
موقِفٌ تخشع النواظر فيه
وتُسوَّى الرءوس والأقْدام
قد حباه عثمان أُسًّا مَتينًا
مُثِّل البيت عنده والمقام
شاب فرْقُ الزمان وهْو مكين
وتخطَّت مِئاتها الأعوام
وغدا آلفًا سهامَ الليالي
فلذا لا تنالُ منه السِّهام
إيه عبدَ الحميدِ إن زمانًا
أنت فيه عباسه بسَّام
أوْلِه نصرك العزيز وأيد
واروِ مصرًا له إليك أوام
أشْخَصَتْ نَحْوك العيون حيارى
أمم الخافقين والأقوام
وتصبَّى القلوبَ منك خلال
يحرم العشق دونها والهيام
أقبل العَصْر يرْتَجِيك وفي اليُمْـ
ـنى كتاب وفي الشمال حُسام
حبَّذا الدولة التي صار فيها
توءمين العلوم والأعلام
هو ذا الشرق في حماك لك الأمـ
ـر جميعًا وفي يديك الذِّمام
هزَّه هزةً تثوب بها الرو
ح وتحيا الآمالُ وهي رمام
أرهفِ الحدَّ للخُطُوب فما ينـ
ـفع معْ هذه الليالي احتشام
لم تزل أرضنا مآسد بالله
ومأوى رجالنا الآجام
إن للشرق هبَّةً بعد نَوْم
أزعجته خلالها الأحلام
هبَّة تبعث الحميَّة في النا
س كما يبعث الخمار المُدام
يسأل الغربُ عندها الشرق هل جا
ءك روح تحيا به الأصنام
ترسل الكهرباء فيها شعاعًا
ويُرَى للبخار فيها ركام
وتشبُّ النيران في كلِّ أرض
فتعود النيران وهْي سلام
إنما تثلج الصدور بسلْم
حينما يوقد الصدور ضِرام
يا إمامَ الهدى هنيئًا وأولى
أن يُهنَّى بالعيد عنك الأنام
إنْ أحاول على عُلاك ثناء
فهْو ممَّا قضى عليَّ الذمام
أو أعارِضْ فتَى القريض فما عا
رَضَ ورْدَ الحدائق القلام
ذا مجال رضيت فيه من السبـ
ـق بعزم لم يثْنِه الإحجام
وإذا كان بدع وصفك سمطا
جاء عفوًا من القريض النظام
إنَّ يومًا به الجلوس تجلَّى
هو يوم خدَّامه الأيام
كفَّر الدهْر فيه عن كلِّ ما جرَّ
فلم يتَّجه عليه ملام
جاء ختْمًا لطارقات الليالي
فاختلافاتها إلينا لِمام
ليس يَلحى على أواليه عصر
بمعاليك طابَ منه الخِتام
ولم أجاذب أخي شوقي الحَبْل إلَّا في هذه القصيدة، ولم أنسَ أن أُشِير فيها إلى
المعارضة مُعترِفًا بأن الدرَّ لا يُعارَض بالحصى، وذلك عند قولي:
وقد وُجِد مع هذا مَن رجَّح قصيدتي على قصيدته، ومنهم الشاعر الأديب داود بك عمون
الذي
صار فيما بعد الحرب رئيسًا لحكومة لبنان، وهو من أترابي في السنِّ، وقد تذاكرت وإياه
في
موضوع هذه المعارضة، فرأيته يستحسن قصيدتي على قصيدة شوقي، فقلت له وأين أنت من
قوله:
فقال لي: وأنت جعلت بإزاء هذا البيت قولك:
وعلى كلِّ حال فلست أدَّعي سبْقَ شوقي في هذا الميدان، وأنا الذي أقول فيه في القصيدة
التي قلتها في يوبيله:
ولكن مما لا مِرْية فيه أنني أنا منذ أيام الشباب قلَّما نظمت الشعر رغبةً فيه ونزوعًا
منِّي إلى الاتصاف بالشاعرية بعكس النثر الذي كان أبدًا مرمى آمالي ومطمح خيالي. وسألني
مرَّة إبراهيم بك المويلحي الكاتب المشهور عندما اجتمعنا في الآستانة سنة ١٨٩٠ فقال لي:
أيُّهما أفضل عندك النظم أم النثر؟ فأجبْتُه: لا مقايسة عندي بينهما، إني أفتخر بأن أكون
كاتبًا وأستحي من أن أكون شاعرًا. فاستحسن المويلحي هذا الجواب الذي لا شكَّ أني بالغت
فيه، ولكنَّه كان يُعرِب عن ذات صدري؛ لأنني طول حياتي لم أحاول أن أكون في الشعر سبَّاق
غايات وطلَّاع أنْجُد على حين أني كنت أرى مُنتَهى السعادة في الدنيا في أن أكون من
الكتَّاب المعدودين، وقلَّما نظمت الشعر انبعاثًا من نفسي وإطاعة لمجرد خاطري، فليس لي
على هذا الوجه إلَّا قصائد معدودات، وكلُّ ما عدا ذلك من شعري إنما نظمته قيامًا بواجب
أو امتثالًا لرسم أو نزولًا عند رغبة؛ ولهذا تجد أكثر شعري مراثي للأصحاب أو للأعلام
الذين لا مناص من رثائهم، وسيظهر ديواني قريبًا إن شاء الله، فيقف القرَّاء منه على تحقيق
كلامي هذا.