صنعة الشعر وإبداع شوقي فيها
ومن المعلوم أن صاحب الصنعة إنما يتقدَّم فيها إذا كان راغبًا لا مُتكلِّفًا ومُغْرمًا لا مُتبرِّمًا، وكان مجتهدًا أن يبدع فيها لأجل الإبداع ولأجل سَبْق غيره من الصنَّاع، فأما شوقي فكان كلُّه شعرًا قد وقفَ نفسَه على هذه الصنعة؛ لا يهمُّه أن يُتْقِن غيرها وصارت له غرامًا؛ فهو آناء ليله يفكر في الشعر، وأطراف نهاره يستنبط المعاني الغريبة، وكلَّما عَنَّ له معنًى قيَّده، وكلَّما انفتق في ذهنه مرمًى أحْرَزه وهيَّأ له قالبًا رائعًا حتى إذا جاءت أوَّل فرصة أوْدَعه إيَّاها.
ومن أهم ما يغفل عنه الناس، وهو من أحقِّ الحقائق أن نفوس الأدباء لها أوقات صفْوٍ وأوقات كَدَر، وأنها في أوقات الصفاء قد تُبْرِم قوانين وتخلق معاني لا تتأتَّى لها في جميع الأحايين. وربَّما لاح في فكر الأديب خاطرٌ في إحدى السُّوَيْعات لو استرسل فيه لأتى فيه بالعجائب، على حين أنه إذا نشده في وقت آخر وحاول أن يستأنف ما كان يلوح له في ساعة الصفاء لوجد زَنْدَه فيه صلدًا، ورأى أنه يهيب بتلك الخواطر السابقة فلا تجيبه، ويطمع أن يقتنص تلك الشوارد التي كانت بين يديه، فإذا هي الآن لا تُطِيعه ومنها ما ذهب غير مُعاوِد، ومنها ما عصى غير مقرِن؛ ولذلك كان يجب على الأديب شفَّاف الطبع أنه إذا عَنَّ له في سُوَيْعات الصفاء معنًى مُبتكَر أو خاطر شريف ووجد هذا الموضوع مُنثالًا عليه أن يُسرِع إلى قَيْده أوابده، ويأخذ القلم فيحرِّره، وإذا كان شعرًا نظمه وإذا كان نثرًا دبجه حتى لا يفوته فيما بعدُ؛ فإن الأفكار من جملة حظوظ الدنيا تَهُبُّ أحيانًا وترْكُد أحيانًا، فإذا هبَّت مرة وجب اغتنامها ولم يجُزْ إهمالها على نيَّة أن يُعاد إليها مرة أخرى، وإن الأفكار نظير الأقدار ليس في مقدور الكاتب أو الشاعر أن يُجِيدها كلَّ حين، وقد تفيض على الرءوس أشعَّة إذا ولَّت تعذَّر استردادها. فاللَّبِيب اللَّبِيب هو الذي يقتنص الشارِدة لأوَّل سنوحها ولا يدعها تذهب على أمَلِ أنه يصطادها فيما بعدُ فإنها إذا شردت قد تفوت، والفَلاة طويلة عريضة، فلا يُحِيط بها الصائد ولا تُطوَى له كيف يشاء.
وقد كان شوقي ممَّن يُقيِّد الشوارد ولا يَدَعها تفوت، وممَّن يقف في المظانِّ التي تختلف فيها الطرائد فكلَّما عنَّ سانِحٌ رمى بسهمه، فلهذا عَظُم توفيقه في الصيد، وجاء بما لم يجئ به غيره، ولم يقل لنفسه في وقت من الأوقات: دعينا من هذا الآن؛ لأن لنا ما يشغلنا عنه وسنعود إليه في ساعة أخرى، بل كان المعنى المُبتكَرُ هدفًا له كيفما عنَّ وأنَّى عرض، فلا يكاد يتراءى له شيء إلَّا وَتَّر قوسه وفوَّق سهمه.
وهكذا ينبغي أن يكون الشاعر إذا أراد أن يُجِيد وأن يقول فيه الناس: مَنْ ذا قالها؟ ولا يجوز للشاعر أن يجعل السياسة أو الاقتصاد أو الصناعة أو الفِقْه أو شيئًا آخر من مناحي الحياة فوق الشعر، بل ينبغي أن يكون الشعر هو غرضه الأول، وأن تدور حياته من حوله، فجميع المشاغل تكون له فضلة ويكون الشعر هو العمدة؛ ولهذا قال خليل مطران: إن شوقي كان يفكر في الشعر قاعدًا وقائمًا وحاضرًا وباديًا وسائرًا وساريًا وفي المركبة وماشيًا إلى غير ذلك؛ فقد قام نحو الشعر بالواجب الذي لم أقُمْ به أنا ولا غيري ممَّن جعل الشعر فَضْلةَ عَمله ولم يقُلْه إلَّا عند الضرورة. قد أعطى شوقي نفسَه للشعر، فأعطاه الشعر ما لم يُعْطِ غيره في هذا العصر.