انصراف شوقي إلى الشعر
هذا، وكان شوقي مُتصِلًا بخدمة سموِّ الخديو السابق، ومنذ بداية نبوغه لقَّبُوه بشاعر الأمير، فصار ذلك اللقب باعِثًا له على زيادة الاجتهاد وفرْط الارتياد حتى تكون مكانته الشعرية متناسبة مع المقام العالي الذي يخدمه بشعره، وبعبارة أخرى من حيث قِيل له شاعر الأمير آلى على نفسه أن يكون أمير الشعراء، فانصرف بكليَّتِه إلى الشعر حتى تعطيه الإجادة قِيادَها، ويعلم العزيزُ سيِّده أنه إن كان هو سيِّدَ الأمراء، فإن شاعره سيِّدُ الشعراء، وأن هذا المقام الذي يشغله شوقي برسمه يشغله أيضًا بنَظْمه. فإذا لزم أن يكون شاعرُ الأمير سبَّاقَ الحلبة ومِقْدامَ العصبة فإنه لكذلك، وإن سليقته قبل وظيفته. وقد كان هذا الحرص منه على إفهام سيِّده أنه الشاعر الذي لا يُشقُّ له غبار، والذي اتفقت على تقديمه الأقطار، هو الذي يدعوه أن يكون أبعد من غيره نجعةً وأوسع فتوحات عقليَّة، فلا يقول الشيء الذي يقوله سائر الناس. فكان يقضي مُعْظَم أوقاته في تجويد نظمه وتسديد سَهْمه في تعمير صَدْرِه بالمعاني العالية، وشَحْذ خاطره بالمرامي الدقيقة والأغراض السَّنِيَّة حتى صار ذلك خُلُقًا له غير مُنفَكٍّ عنه، وصار إذا قال كلمة سارت في الآفاق وتطاولت إلى قراءتها الأعناق وبذخ فيها على الشعراء بالاتفاق. وأظنُّ أن أصوب آراء شوقي هو أنه لم يُرِدْ أن يكون شيئًا غير شاعرٍ كبير لا يُقال لسيِّده إنه يوجد في غير المعية السَّنِيَّة مَنْ هو أشعر منه. فكان طبع شوقي ظرفًا لا يسع مع الشعر حاجة أخرى.
ولَمْ يخْلِط شوقي الشعر بالسياسة ولا التجارة ولا الفقه ولا الإدارة ولا الزراعة ولا عمل من الأعمال الأخرى التي يتعاطاها الناس وكثيرًا ما قرنوا بعضها ببعض فأخذ العمل الواحد من قوَّة العمل الآخر. وقلَّما زاول الإنسان عملين إلَّا غلب أحدهما عليه أو قصَّر في الاثنين، وقد علم شوقي بثقوب فِكْره أنَّه إن حاول أن يكون سياسيًّا عظيمًا أو إداريًّا ماهرًا أو زراعيًّا مُتقِنًا أو اقتصاديًّا مُدقِّقًا سلبت عنايته بمهنته هذه مِن مَلَكَتِه الشعريَّة بمقدار انصرافه عنها إلى غيرها، فقصر عن إدراك الأمد الأقصى الذي لم يزل مَطْمَح نظره في الشعر، وقعد عن الرتبة الأدبيَّة اللائقة بمَنْ يُقال له شاعر الأمير وأمير الشعراء. وكما أن لقب شاعر الأمير وأمير الشعراء كان يَزِيد شوقي نفاذًا في صنعته وصقالًا لقريحته، كان يكسوه أيضًا أمام الناس بهاءً يستمدُّه من منصبه، ويلمع عليه بسبب حظوته عند الجناب العالي، فكان كلٌّ مِن لَقَبِه وأَدَبِه عونًا للآخر.