عِفَّة لسان شوقي وبُعده عن الهجاء
ولْنَعُد إلى أوصاف شوقي الشعريَّة، فنقول: إنه وإن كان أسرف في المديح وفي مديح أميرِ بلاده خاصَّة، فلم يلوِّث شعرَه بالهجاء، ولم أسمع له قصيدةً يهجو بها أحدًا، قد عَصَمَه الله من ذلك، فإن من أقبح ما قبَّح سمعةَ الشعراء وجعل الخلْقَ ينظرون إليهم بشيء من الرِّيبة، أن كثيرًا منهم رَتَعُوا في لحوم الناس وسيَّروا المثالب التي قد تكون بلا أصل، أو يكون لها أصل ضعيف ولكن الناس حفظوها وتدارسوها لبداعة قوالبها خلفًا عن سَلَف، حتى انتهى الأمر بأن صدَّقوا فحواها وصارت في نظرهم وقائع تاريخية. فلو كان شوقي شتَّامًا مُقْذِعًا مع ما أُوتي من الإجادة لكان ثَلَم أعراضًا وخلَّد مقابح وأورث أحقادًا وقيَّد فضائح، وكان هجا نفسه بهَجْوه لغيره، وما أصدق هذه الجملة: الإناء ينْضَح بما فيه. فعِفَّة لسان شوقي وتنكُّبه طريقًا طالما سلكها شعراء كبار وصغار ومُتوسِّطون هذا دليل على زكاء طبعه وفَرْط حيائه وأيضًا رجاحة عقله وأصالة رأيه، فكم أحدث الشعر من فتنةٍ وأراق من دمٍ وأحرج من جماعةٍ وحرم العالم من نعمةٍ، وأية نعمةٍ كانت أعظم من شعر المتنبي الذي كانت حياته كلُّها أقوالًا عبقريَّة آخذًا بعضُها برِقاب بعض، ولكنه برغم جميع حكمه الاجتماعية وآرائه الفلسفيَّة لم يتنبَّه إلى ما في الهَجْو من الاستهداف للمَقْت والتعرُّض للهلكة، فقال من الأقوال الصغار ما يخالف تلك الحِكَم التي تفرَّد بها وأسفَّ في الهَجْو إسفافًا يَحارُ العقل لصدوره من مثله، وانتهى بأن ذهب فريسة إقذاعه، وكلٌّ يعلم أن قصيدته المسخوطة التي أوَّلها:
قد كانت سبب قتله على يد فاتك الأسدي خال ضبَّة الذي انتقم لشرف أخته وحَرَم الناس مواهب تلك النفس العظيمة في إبَّان إجادتها وأَوْج مجادتها، ونكتفي بهذا المثال عن الأمثلة الكثيرة التي كانت مآسي في تاريخ العرب، وجِراحات اللسان ليس لها الْتِآم، فمن محاسن شوقي التي يجب أن تُذكَر وتُؤثَر أنه لم يستمطر عارِضَ خاطِره في تقييد شنعاء أو تخليد صلعاء، وما أجدره بقول نصيب الشاعر: ما قلت بيتًا قطُّ تستحي الفتاة الحيية من إنشاده في ستر أبيها. كان شوقي عفًّا طاهرَ اللفظ صافي النفس تنعكس على مرآه نفسه النقيَّة المحاسِن دون القبائح، وكان لا يسلم من الحسد والمنافسة ومثله مَنْ يحسد ويغص بمكانه، ولكنه كان يمر باللغو كريمًا وبالحسد عظيمًا وكأنه يرى نفسه فوق أن يُزاحَم ويجد شوطه أبعد من أن يُسابَق فيعف عن قُدْرةٍ ويتواضع عن أنَفة، وقد صدق حيث قال:
وما قال هذه الأبيات إلَّا على أثر قالة بلغته، وهذه كانت غاية ما ثار ثائره، ويجوز أن يكون وقع له غيرها، ولكنِّي لم أطلع على ذلك بمكاني من برِّ الشام والمصريون أدرى بهذا منِّي، وأنت ترى أن في تعريفه هذا بمن ينافسه أو يحاول الغضَّ منه ما لا يجد فيه قائل مقالًا.
وقد كان يتجنَّب أيضًا المساجلات والمناقشات في شعره؛ فلا يهاجِم ولا يُهاجَم، وربما نِيل منه في غيابه ولكنه كان يقابل بالسكوت، ولعلَّ سكوته هو لِما تقدَّم من ثقته بنفسه وشعوره بأنه الصخرة التي ينحطُّ عنها السيل، وربما لو ذهب في المناقضات مذهب الغابرين لكان أتى ببدائع أبقاها عزوفه عن هذا الأمر ملفوفة في غلافها مكنونة في أصدافها، فقد قرأنا فعلمنا أن الشعراء المُفلِقين إنما يحلِّقون في سماء الفصاحة عندما يناقض بعضُهم بعضًا، انظر على سبيل التمثيل قول رمَّاح بن ميادة يمدح قيسًا ويفتخر بها ويهجو تميمًا وأسدًا:
فأجابه عبد الرحمن بن جهيم الأسدي:
لا جرم أن في هذا الشعر، سواء من المهاجم أو المدافع من جزالة اللفظ وبلاغة التأثير وعلوِّ النفس وقوة الطبع، ما يندر أن يكون في شعر شاعر، وقد كان يلذُّ للقارئ ويحلولى في ذوق السامع ويُستعاد مرارًا لولا ما في جواب الشاعر الأسدي من المقاذر، ولو أنهم كانوا اقتصروا على المفاخرة والمعاتبة لكان بهم أحْجَى، ولهم أنْجَى، وبالأفئدة أعلق، وبزكاء شمائلهم أنطق، وعلى كلِّ حال لم يُعلَم ماذا كان يكون من شوقي لو فاخره مفاخِر أو كاثَرَه مُكاثِر؛ فإنه لم يسلك هذه الطريقة ولا اختار هذا المرْكب ولو أنه كان اختاره أو دُفِع إليه لوجد مَنْ يجاذبه الحَبْل ومَنْ يقف في وجهه وقوف الكفْءِ للكفْءِ فلا حافظ إبراهيم ولا خليل المطران ولا الكاظمي ولا الرصافي ولا من في درجتهم، كان يعجز عن أن يقابل شوقي السجل بالسجل، ولكن إما لرغبة منه عن الشحناء وإما لترفُّع منه عن مباراة النظراء، رَبَأَ بنفسه عن القال والقيل، وتَباعَدَ بها عن كلِّ نزاع من هذا القبيل، وأصبح الفذَّ الذي لا يُساجَل والجواد الذي لا يُجارَى، حتى إني قلت فيه عند وفاته من جملة رثائي له: