مقدمة

من الدعاء للسلاطين إلى الدفاع عن الشعوب

تبدأ المقدمات التقليدية في علم أصول الدين بحمدِ الله، والصلاة والسلام على رسوله، وهي مقدماتٌ إيمانية خالصة، تعبِّر عن إيمان ذاتي خالص، هو المطلوب إثباته، والبرهنة عليه، ولكن العالم الأصولي القديم يُعلن عنه، ويسلِّم به، وكأن مقدماته هي نتائجه، وأن ما بينهما إن هو إلا لهوٌ ولعبٌ وسدُّ فراغ، كما يغيب الأسلوب البرهاني، وعرض الإشكال، وبيان الهدف كما فعلنا في معنى «التراث والتجديد»، عارضين للتراث القديم، قارئين فيه أزمة العصر، ومحلِّلين أزمة العصر مكتشفين فيها بُعْد التراث القديم، إن التعبير عن مضمون الإيمان كإحدى المسلَّمات هو نقض للبرهان، وهدم للاستدلال، وضياع للعلم، خاصةً ولو كان هذا المضمون هو المطلوب إثباته، إيماننا هو «التراث والتجديد»، وإمكانية حل أزمات العصر، وفك رموزه في التراث، وإمكانية إعادة بناء التراث لإعطاء العصر دفعة جديدة نحو التقدُّم، فالتراث — كما بَيَّنَّا — هو المخزون النفسي لدى الجماهير، وهو الأساس النظري لأبنية الواقع.١
تبدأ المقدمات التقليدية بتنزيه الله تنزيهًا مطلقًا، والإعلان عن أوصاف ذاته الكاملة، وصفاتها المطلقة، والتعبير عن هذا المطلب الذي هو غاية الإنسان بلغة العشق والهيام،٢ وأن تحقيقها صعب المنال، وإدراكها يندُّ عن العقول، ويصعب على الخيال، وتجد الذات نفسها كلما أمعنت في التعبير عن هذا العالم اللانهائي، وأعلنت حيرتها أمامه، وضياعها فيه، أو لجأت إلى الفيض والإلهام، تجد فيه معرفة له، وحاولت الاتصال به كي تنهلَ منه أو رأَت في الطبيعة الآثار عليه، واكتشفت في الكائنات مظاهر لوجوده، وشعرت في نفسها بالدلائل عليه أو أعلنت في النهاية عن حيرة العقول والأفهام، وعجزها عن تحقيق بُغيتها، ضعُف الطالب، وقوي المطلوب.٣ ومع ذلك فإن المقدمات الإيمانية تُعلن عن هذا الوجود المطلق الأوحد باعتباره قدرةً شاملة، وإرادة مسيطرة، فهو الذي يُبدئ ويُعيد، وهو الذي يبدأ ويقرر، وهو الذي يحيي ويميت، ويظل العالِم الأصولي القديم يتغزَّل في هذه القوة المسيطرة لدرجة الفناء فيها، وكلما شعر بعجزه قوي مدحُه، وكلما شعر بأن الكون لا يسير وَفْقًا لما يحب تصوَّر وكأن «الآخر» قد قام بدلًا عنه بالسيطرة على هذا الكون المفقود، وبالتالي ينشأ السلطان؛ الديني أوَّلًا ثم السياسي ثانيًا، ويُصبح للعالم مركز سيطرة واحد لا يتزحزح، ويكون السلطان متفردًا بسلطانه، لا ينازعه أحد، ولا يشاركه شريك، ولا يعارضه معارض، ولا يقف بجواره نِد. يملك كل شيء، ويقدر على كل شيء، لا معقِّب على قراراته وأوامره؛٤ ومِنْ ثَمَّ كان من السهل الانتقال من السلطان الديني إلى السلطان السياسي، ومن الحمد لله إلى الحمد للسلطان، ومن الثناء على الله إلى الثناء على السلطان، ومن طلب العون والمغفرة من الله إلى طلبهما من السلطان؛ لأن التكوين النفسي للطالب واحد، وأحد البدائل يؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها الآخر. من هذه القوة المركزية يستمدُّ الإنسان كل شيء إن كان له فعل، أو تفعل هذه القوة بذاتها مستغنية عن الإنسان، فالله مُدحض الأباطيل، وكاشف الحق، ودافع الباطل، ومُعطي العلم، وواهب المعرفة، والمبرهن والمستدل والمنير الطريق، هو مصدر المعرفة وأساسها، ومعطي السعادة وواهبها، إن معرفة الحق والباطل، والصواب والخطأ، لا تأتي من علٍ، بل من تأمل في المعطيات الفكرية والواقعية، فالمعرفة النظرية لا تتمُّ كهبة مسبقة، بل عن طريق التحليل العقلي الرصين للأفكار والوقائع، وباستقراء مجرى الحوادث، ذلك لا يمنع من وجود مقاييس للصدق، وأنماطٍ مثالية للفكر، ولكن هذه المعطيات المسبقة تنبع من طبيعة العقل، ويُدركها الشعور بحدسه، وليست فعلًا لكائن خارجي مشخص، يفعل مباشرة أو بطريق غير مباشر من خلال الإنسان، ولا يمكن التسليم بشيء على أنه حق ما لم يُعرض على العقل ويثبت في الواقع أنه كذلك.٥
والحقيقة أنه لا يحمي الإنسان المعاصر، ولا يحافظ على مصالح الجماعة إلا الوعي الفردي، وتجنيد الجماهير، وكلاهما لن يتم إلا بالثورة الفعلية. لن يتغير الواقع بفعل خارجي، قادر على دحض الباطل والدفاع عن الحق، بل بفعل الطليعة الواعية من المثقفين التي يتحوَّل فيها الوعي الفرد إلى معبِّر عن وعي الجماعة، الجماهير هم الدرع الواقي، والطليعة هم رأس الحربة، لا تسليم هناك بشيء، بل لا يؤخذ شيء على أنه حق إن لم يُعرض على العقل والواقع وإثبات أنه كذلك، لا يوجد صمام أمان إلَّا في وعي الإنسان بذاته وليس في «عقدة القبة السماوية»٦ التي تغطي الأرض، فلا وكالة إلا من الأنظمة الاجتماعية والعجز عن مراقبتها وعدم القدرة على مراجعتها. ليس المطلوب في هذا العصر أن يتوهَ الإنسان تحت هذا الخواء، وأن يضيع في هذه المتاهة، وأن يشعر بضآلته تحت هذا الشمول، بل المطلوب تأكيد ذاته، وإعمال عقله، وإحساسه بالمسئولية، وتحقيقه للرسالة، ووعيه بالجماهير، وإدراكه لحركة التاريخ. ليس مطلب العصر هو تبرئة «عقدة القبة السماوية» الحافظة للعالم من كل سوء، تشبيه أو تجسيم أو شرك، بل معرفة المسئول عمَّا وصل إليه حالنا من احتلال وتخلُّف، وقهر وطغيان، وفقر وبؤس، وضنك وحرمان، وتشرذُم وتبعثر، وذل وهوان. ليس مطلب العصر هو إبراء الذمة، ووضع الطهارة المجردة، افتراضًا وأملًا، هذه الطهارة التي لا تشوبها شائبة، وتخليصها من مآسي العصر، مع أنها قد تكون أحد مظاهره أو أسبابه، بل المطلب هو تحديد المسئولية عمَّا وقع في حياتنا من مآسٍ وأزمات، وهزائم ونكبات، وكيف يكون الخالص مسئولًا عن الشائب؟ وكيف يكون البريء مسئولًا عن ذنوب العصر ومظاهر البؤس والشقاء فيه؟ كيف يكون الغني مسئولًا عن الفقر، والعادل عن الظلم، والقوي عن الضعف، والقيوم عن المحتل، والواحد عن المتجزئ؟ إن كل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نحن فيها ليست مفروضةً علينا ولا مكتوبة من أحد، بل هي نتيجة للأوضاع ذاتها، ويخطئ القدماء عندما يجعلون العلة معلولًا، ونخطئ معهم عندما نعلق مآسينا وهزائمَنا على مشجب لم يره أحد ولم ينقذ أحدًا، لا يعني ذلك رفض الشمول والعموم؛ فالشمول للأفكار وللمبادئ، وهي لا تعطي الإنسان أي ضمان أو أمان بل تعطيه فقط الأساس النظري للتطبيق والممارسة، وتصف له وسائل التحقيق، ولا يتوه فيها العقل، بل يُدركها ويحصل منها على معرفة، ولا تضعف أمامها الإرادة بل تتمثَّلها وتتأكَّد حريتها، ولا تضمحل أمامها الذات وتفنى، بل تثبت ويتأكَّد وجودها.

في هذه المقدمات الإيمانية تتحدَّد علاقة الإنسان بالله، ليس فقط على مستوى المعرفة والنظر، بل أيضًا على مستوى السلوك والعمل؛ فالإنسان يحمد الله على نعمه، ويشكره على فضله، مما يجعل العلاقة أحادية الطرف، من واهب إلى موهوب، ومن معطٍ إلى مُعطًى، وتجعل الإنسان مجرد وعاء للنعم، ومستقبِل للعطايا، ومنتظر للجود والإحسان، قد يرفض الإنسان بطبيعته الكرم والفضل، وقد ينفر من الهبات والعطايا؛ لأنه يأبَى أن تكون يده هي السفلى، ويد غيره هي العليا، وإن كثيرًا من مآسي عصرنا لَهو انتظار الكرم والجود، والتشوُّق إلى الهدايا والعطايا، والتزلُّف من أجل هبات السلطان حتى أصبح العصر كله عصر تعايش وارتزاق، بل إن سلبية الجماهير اليوم قد ترجع إلى أن معظم مظاهر التغيُّر الاجتماعي في حياتها قد تمت أيضًا بفعل الجود والكرم، وكأنها هبات من أعلى، وليست مكتسبات حصلت عليها الجماهير بعرقها وكفاحها، فإذا حصلَت الجماهير على بعض حقوقها، فإن الحاكم لم يتفضَّل عليها بشيء، بل نالت حقَّها، وحقها ليس مِنَّة ولا فضلًا عليها من أحد، وقد يكون هذا هو السبب في معاناة عصرنا من اعتبار كل حق منةً أو فضلًا من رئيس على مرءوس.

فإذا كان القدماء قد حمدوا الله على الكفاية، فإننا نتجه بكل قوانا نحو الناقص ونتوجَّه إلى ما لم يتحقَّق بعد، اتجاهنا نحو الحاجة أقوى من نزوعنا نحو الحمد، والحمد على ما هو موجود فيه رضاء واستكانة، والثورة على ما هو مفقود فيه غضب ومطالبة بحق، حالنا لا يتطلَّب حمدًا ولا ثناء على أحد، بل يقتضي رفضًا واعتراضًا، مطالبةً وثورةً، نحن لا نحمد بل نتضجَّر، ولا نرضى بل نغضب، ولا نُثني بل ننقد، ولا نشكر، فلا شكر على واجب، بل نثور ونطالب، إن الإحساس بالحق المشخص يعطي الإنسان نوعًا من الرضا، ويجعل نفسه طيبة طيعة حامدة شاكرة، وهذا على خلاف مقتضيات تكويننا النفسي المعاصر الذي يشوبه القلق والغليان، وتعتريه عواطف السخط والغضب، يئن تحت ضغوط العجز والحرمان،٧ فإذا طلب الإنسان شيئًا فإنه يدعو كي يُستجاب له، ويسأل كي يُعطى له، فتكوينه النفسي قد تعوَّد على السؤال والاستجداء، واعتاد على الشحاذة والتسول، ولن يتغير الواقع عن طريق الدعاء، ولن يُطعَم جائع بطريق الاستجداء، ولن يُنصَر مظلوم عن طريق البكاء! الدعاء تعبير عن أماني ورغبات وليس تحقيقًا لها، هو حيلة العاجز، وفعل القاعد، وأسلوب القعيد، وطريق الخامل، وسبيل المستكين، وقد بدأنا تغيير الواقع بالدعاء منذ تراثنا القديم ولم يتوقَّف حتى عصرنا الحاضر،٨ والخطأ لا يتغيَّر بالتوبة والاستغفار، بل بالتعلُّم والاستفادة منه، والعود من جديد إلى القيام بنفس الأفعال على أساس من المناعة ضد الخطأ والاكتساب النظري والعملي للصواب، لا يوجد ملجأ للإنسان إلا عمله، ولا نجاة له إلا بعمله المشترك مع الآخرين أي بالعمل الجماهيري الذي تؤيده حركة التاريخ، إن الحصول على القوة لا يأتي بالدعاء للقوي، وباستجداء واهب القوة بل يحصل عليها بالاستعداد، والحصول على القوة بالفعل.
ثم تنتقل المقدِّمات الإيمانية التقليدية من محورها الأوَّل، وهو الله، إلى محورها الثاني، وهو الرسول، وهما المحوران اللذان دار حولهما علم أصول الدين في المرحلة العقائدية المتأخرة، وتشرع في الصلاة والتسليم عليه،٩ وفرق بين الصلاة والعلم، بين الترانيم الدينية والتحليلات العقلية، البحث العلمي ليس صلاة، والنظر العقلي ليس دعاء، وسلامة المنهج هو الضامن لليقين، ودقة التحليل هو السبيل إلى الصواب، والتركيز على الرسول بشخصه، وفضله، وكرمه، ومآثره، وفضائلِه، وسجاياه، تشخيص للرسالة، وتركيز في الوحي على المبلَّغ إليه، وخلط بين الرسالة والرسول، والنبوة والنبي، ومدح الوحي المشخص في النبي تشخيص للفكر مثل تشخيص الحق، والقدوة لا تعني التبعية لشخص والثناء عليه ومدحه، بل تعني تجربة تاريخية فريدة، وأن الفكر ممكن التحقيق، تجربة يُستفاد منها ولكن لا يُمتدح محققوها، الهدف هو التجربة، كيف يتحوَّل الفكر إلى واقع، وليس الأشخاص.
ومن مآسي عصرنا تشخيص الأفكار، وعبادة الأشخاص، وقد قوَّى ذلك فينا الصوفية بنظرياتهم عن «الحقيقة المحمدية»، كما انتشر هذا التيار بيننا لأنه في غياب القدرة على فهم الأمور، وتصور الحقائق، والتعامل مع الأفكار، يستبدل بذلك كله الأشخاص الحسية، والجاهل بما لا يرى يستعيض عنه بما يرى، في حين أن الرسول ما هو إلا مبلِّغ للوحي، هو مجرد وسيلة لا غاية، فضله من الوحي، ومآثره من الرسالة، وعظمته في الجهاد، وقدوته في الأخلاق مثل أي قائد أو زعيم، فاختياره للرسالة ليس ميزة لشخصه، بل لأن الرسالة لا بد وأن تبلَّغ من خلال رسول تتوفَّر فيه شروط الأداء والتبليغ، والتركيز على الاختيار والاصطفاء ليس من الوحي في شيء، وهو أقرب إلى الاصطفاء اليهودي Election. والوحي يرمي إلى ما بعد الاختيار، وهو التبليغ، وليس إلى اختيار الشخص ذاته، وإلَّا خلطنا بين الوسيلة والغاية.١٠ وكثيرًا ما نقف في حياتنا المعاصرة على الأشخاص ونترك أفكارهم، ونتمسَّك بالأفراد ونترك رسالاتهم؛ لذلك جعلْنا الرسول شفيعًا في اليوم الآخر، وجعلناه واسطةً بين الله والخلق، واقتربْنا من المسيحية فيما تقوله في المسيح، واعتبرناه قديمًا لم يُخلَق، وأبديًّا لا يفنى؛ ومِنْ ثَمَّ شارك في صفات الألوهية في العقائد الشعبية المبنية على حب آل البيت، والخلود لا يكون للأشخاص بل للأعمال والأفكار.١١
ويستمر الفضل والاختيار ليس فقط للرسول، بل في آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،١٢ مع أن كل إنسان مسئول فردًا، بعمله وليس بانتسابه إلى جماعة، ويحاول كل فريق مِنَّا أن يكون هو الوريث لهذه الجماعة الأولى، فكثر الادِّعاء، واطمأنَّ كل فرد على حاله، ما دام ينتسب إلى العترة الطاهرة، والصحبة الخيرة، وقد يسمح لنفسه ما لا يسمح به لغيره، لأنه هو سليل الجماعة الأولى، مع أننا نعاني من الشللية، ونقاسي من الجماعات المغلقة، ثم يقل الفضل والاختيار حتى يمَّحي في عصرنا الذي يسوده الشر، ويعمُّه الضلال؛ ومِنْ ثَمَّ يتدهور التاريخ، ويسير في انحطاط مستمر، ويظل التاريخ الأوَّل قدوةً للناس، يتقدَّمون بالرجوع إلى الوراء، ويسيرون إلى الأمام ووجههم إلى الخلف، وهو ما نحن عليه الآن، وكما يبدو في الحركات الإسلامية المعاصرة، وهذا لا يمنع الإنسان من الانتساب إلى جماعة عمل مثل الحزب أو الجمعية، ولكن هذه الجماعة توجد في أي وقت وفي أي مكان، وليست في زمان أو مكان معينين، والتجارب التاريخية التي يتحقَّق فيها الفكر عامة وليست محددة، قد تكون الجماعة الأولى أقرب إلينا لأنها هي التي تعمل في مخزوننا النفسي والتي يمكن اتخاذها قدوةً ودليلًا.١٣ إن الصفوة المختارة ليست أسرة القائد ولا قبيلته ولا أصحابه، بل هي أية طليعة ثورية في أي مكان وفي أي زمان، تحاول توجيه الواقع بالفكر، فهي ليست جماعة تاريخية نسبية، بل هي جماعة فكرية لا مكان ولا زمان لها، هي كل جماعةٍ حاولت تحرير الإنسان، وتغيير الواقع، ومناهضة الظلم، وأداء الرسالة، وإذا كان هناك وضوح في الرسالة، وإذا اشتمل الوحي على البرهان، فإن ذلك راجع إلى طبيعة الرسالة والوحي، وليس إلى فعل المبلِّغ، فالوحي بطبيعته واضح، والرسالة بطبيعتها عقلية، وكلاهما يشتملان على البرهان الداخلي، والوضوح النظري للإعلان والبلاغ؛ ومِنْ ثَمَّ فالتصديق لا يحتاج إلى معجزة؛ لأن المعجزة برهان خارجي، في حين أن الوضوح النظري برهان داخلي، والقرآن ليس معجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة، بل بمعنى موضوعية الفكر، من ناحية المضمون وناحية الشكل، والتصديق بالفكر والإحساس بأسلوب التعبير، ورؤية المعنى والاتصال المباشر باللفظ.١٤ وإن إثبات أن الرسول خاتم الأنبياء والمرسلين لا يعني أيضًا تركيزًا على فضائل شخص أو على مزايا فردية لأحد، بل يعني أن الوحي قد اكتمل، وأنه تطور منذ أول الأنبياء حتى آخرهم، وأن آخرهم يعني أن النبوة قد انتهت، وأن الإنسان قد استقل، وأن عقله قد استطاع أن يصل بنفسه إلى اليقين، وأن فعله بإمكانه أن يحقِّق رسالة الإنسان دون ما تدخُّل من أية إرادة خارجية عامة أو مشخصة.١٥ كما يعني عموم الرسالة أنها أصبحت رسالة للبشر جميعًا، وأن هناك حقيقة شاملة يمكن لكل الشعوب معرفتها والوصول إليها.
وبعدما تبدأ المقدمات الإيمانية التقليدية بالحمد لله والصلاة على رسوله، فإنها تشفعهما بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، وفي حقيقة الأمر، وطبقًا لمقتضيات العصر، لا تعني الشهادة التلفُّظ بهما أو كتابتهما بل تعني الشهادة على العصر، وذلك ببيان المسافة بين نظام الواقع ومقتضى الفكر، وهي الشهادة النظرية ثم محاولة إلغاء هذه المسافة وتوجيه الواقع طبقًا لمقتضيات الفكر، والتضحية في سبيل ذلك بكل شيء حتى بالنفس فتتحقق الشهادة، وهي الشهادة العملية، ويصبح الإنسان شهيدًا بعد أن كان شاهدًا، فالشاهد والشهيد كلاهما موقف شهادة، ليست الشهادتان إذن إعلانًا لفظيًّا عن الألوهية والنبوة، بل الشهادة النظرية والشهادة العملية على قضايا العصر وحوادث التاريخ؛ فالتوحيد نوعان، توحيد قول وتوحيد عمل.١٦ ولفظ الشهادة الأولى «لا إله إلا الله» يحتوي على قضيتين: الأولى سالبة «لا إله»، والثانية موجبة «إلا الله»؛ فالتوحيد فعلان: فعل سلبي يقوم فيه الشعور الفعلي العملي بنفي كل آلهة العصر المزيفة التي تصبح تصوُّرات للعالم ودوافع للسلوك عند الناس، وفعل إيجابي يضع فيه الشعور مثلًا أعلى مبدأً واحدًا عامًّا وشاملًا، بفعل النفي يتحرَّر الوجدان الإنساني من كل صنوف القهر والظلم والتسلُّط والطغيان، وبفعل الإيجاب يضع الإنسان مثلًا أعلى ويعلن ولاءه للمبدأ الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع، الفعل السالب يحرِّر الشعور الإنساني من كل صور القهر، والفعل الموجب يضع الشعور حرًّا خالقًا مبدعًا؛ الأوَّل يحرر الإنسان من التبعية للقيم السائدة في عصره وما به من تطلعات، والثاني يجعل الإنسان متمثلًا لقيم جديدة ومرتبطًا بمبدأ عام.١٧ ولفظ الشهادة الثانية: «أن مُحَمَّدًا رسول الله» إنما تعني الإعلان عن اكتمال الوحي، ونهاية النبوة، وتحقُّق آخر مراحلها في نظام وتجسُّده في دولة، وأنه لا يمكن الرجوع إلى الوراء لمراحل سابقة منها، فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء، والتقدُّم جوهر الوعي الإنساني ومسار التاريخ وحركة التطور، فالإنسان بعقلِه المستقل وبإرادتِه الحرة قادر على أن يواصلَ حركة التاريخ وأن يستمر في تقدُّمه باجتهاده الخاص، فيرث النبوة وتراث الأنبياء، فالعلماء ورَثة الأنبياء، والاجتهاد طريق الوحي، والعقل وريث النبوة.١٨
ونظرًا لفراغ المقدمات الإيمانية التقليدية من أي مضمون فكري أو واقعي، عقلي أو مصلحي، فإنها تعبِّر عن نفسها بأسلوب السجع المملوء بالتلاعُب بالألفاظ التي لا تحمل وراءها إلا عواطف إيمانية، فالعاطفة تُنشئ اللغة، واللغة تعبِّر عن العاطفة، ويغيب الفكر كما يغيب الواقع، تعتمد المقدمات على المحسنات البديعية وعلى الإنشاء الخالص دون فكر ودون رؤية أو تحليل لشيء، لا يكمن وراءها إلا بعض الانفعالات الإيمانية تبلغ أحيانًا درجة التصوُّف، وكأن الإعلان عن العلم لا يتأتَّى إلا بالإغراق في المواجيد الصوفية، والتعبير عنها بالتراشق اللفظي.١٩ يغيب الأسلوب البرهاني والتحليل العقلي والوصف الواقعي للظواهر، ويحل محله أسلوب إيماني خالص يعبِّر عن العشق والهيام لموضوع فارغ، ويكشف عن مواجيد النفس ولوعات الإيمان، وكأن علم أصول الدين كأحد علوم النظر قد تحوَّل إلى علم التصوف كعلم للذوق، وإذا كانت «الأشعرية» قد ازدوجت بالتصوُّف في العقائد المتأخِّرة، فإن التصوُّف قد حل محل الأشعرية كليةً في العقائد الإيمانية، حتى الشروح والملخَّصات فإنها لا تبين الغاية من الشرح أو التلخيص، بل تقوم بشرح المقدمة الإيمانية، فالحمد تعني الحمد، والله يعني الرحمن، والثناء يعني المدح! فاستعاضت عن الفكر بالسجع واللفظ وبلعبة المترادفات، أمَّا في عصرنا فقد بلغت أزماته ومآسيه درجة أن الاعتناء بالمحسنات البديعية أصبح تعويضًا عن الشقاء، وتعبيرًا عن الخواء، ورغبةً في الحصول على شيء حتى ولو كان رنين الصفائح أو قرع الطبول، وأن أول ما نذكره نحن هو الواقع، أزماته وتقلباته، حاله ومآله، حتى يعي الناس حالهم، فالرموز والصور والتشبيهات تكرار وسجع لفظي لا يكمن وراءه وعي، ولا يغير الواقع قيد أنملة.
وأحيانًا تختلط المقدمات الإيمانية التقليدية بين الحمد لله والثناء عليه، وبين الدعوة للسلطة والتزلُّف إليها، فالحديث عن السلطان واحد، السلطان الديني أم السلطان السياسي، السلطان الإلهي أم السلطان البشري أو باختصار الله والسلطان، الأوَّل يمثل السلطة الدينية في قمة الكون والثاني السلطة السياسية على رأس الدولة، وكلاهما يتم الكلام عنه بلغة الجبروت والعظمة، حتى إنه لَيصعب الفصل بين السلطانين أو بين السلطتين أو بين الإلهين، إله السماء وإله الأرض، إله الدين وإله السياسة، وقد يكون ذكر اسم الله المطلق وأنه المسيطر على كل شيء تعبيرًا عن وضع اجتماعي يتَّحد فيه الله بالسلطة، فلا فرق بين الثناء على الله والثناء على السلطان، كلاهما يصدران عن بناء نفسي واحد، وكل منهما يغذِّي الآخر ويدعمه، فالثناء على الله تدعيم للثناء على السلطان، والثناء على السلطان نابع من الثناء على الله،٢٠ وكلاهما قضاء على الذاتية، ذاتية الأفراد وذاتية الشعوب.
فإذا كان هذا هو حال السلطان، فإنه لا يختلف كثيرًا في صفاته عن حال الله، كلاهما مُنعم، واهب، عادل، عالم، قادر … إلخ، وتملُّق السلطان ومنافقته لا يختلف كثيرًا عن مواقف الزلفى والنفاق لله، بل إن الموقفَيْن موقف نفسي واحد، مرة يتجه نحو الله ومرة أخرى نحو السلطان.٢١ فإذا أتى الشارح فإنه يقوم بنفس الدعاء لله وللسلطان الجديد، فالله قائم والسلاطين تَتْرى.٢٢ وما الفرق بين أسماء الله الحسنى وألقاب السلطان؟ بل إنه في كثير من الأحيان يوصف السلطان بصفات الله! في العقائد المتقدمة تقلُّ المدائح لله فتختفي المدائح للسلطان في حين أنه في العقائد المتأخِّرة تكثر المدائح لله فتظهر المدائح للسلطان، وكأنه إذا ظهر العقل خف المديح، وإذا عم الإيمان كثر المديح!
وفي عصرنا الحالي، بدلًا من الثناء على السلطة، والدعاء للمُمْسكين بها، والقائمين عليها، والقيِّمين على الناس، مستنصرين لهم، ومؤيدين لخُطاهم، فإننا نبيِّن تواطؤ السلطة الدينية والسلطة السياسية، وكيف أن كلًّا منهما تعيش على الأخرى، وفي كلتا الحالتين، الجماهير هي الخاسرة، والشعوب هي الضائعة، حريةً ورزقًا، إن مدح خصال السلطان النظرية والعملية تقرُّب وتملُّق، مداهنة وتزلُّف، وصوليَّة وانتهازيَّة، نفاق وكذب وخداع، وهذا ليس دور الجماهير ولا مهمة طلائعها؛ فدورها الرقابة، ومهمتهم النقد، وليس في كليهما مدح أو تعظيم، علاقة الرعية بالسلطان في عالمنا المعاصر وبأوضاعِه الحاليَّة التي ينكشف بناؤها من خلال وجداننا القومي، وإحساساتنا الدفينة ليست علاقة طاعة وقَبول بل علاقة ثورة ورفض، فكثيرًا ما أدَّت طاعة السلطان إلى الضياع والتخلُّف والاحتلال، والخروج على السلطان والثورة ضده كان فيه إجبار له على العدل والشورى، والرقابة عليه.٢٣ والسلطان لا يهدي ولا يضل، ولا ينفع ولا يضر، لا تتبع الأفلاك هواه، ولا تتحرَّى الأقدار رضاه فتلك صفات الله وحده.٢٤ هو سلطة تنفيذية خالصة، والسلطتان التشريعية والقضائية للفكر الذي وعد السلطان بتنفيذه، وعلى أساس التزامه به تمَّت البيعة له والعقد عليه، واختياره من بين المسلمين؛ فالفكر هو مصدر السلطات، والسلطة الحقيقية الفعلية هما السلطتان التشريعية والقضائية، والسلطان ما هو إلا منفِّذ للأولى، مُطيع للثانية، السلطان ليس ملكًا، ولا صاحبًا، ولا آمرًا ولا ناهيًا، ولا خالقًا، ولا قادرًا، بل هو منفِّذ لقانون الفكر، ومطيع لقضائه، ومستمِع للمشورة، وقابل للنصح. ليس السلطان باستمرار مصدر الخير والصلاح، بل كثيرًا ما يكون مصدرًا للفساد والطَّلاح لنفسه ولشعبه، السلطة في غياب الرقابة الشعبية تفسد، وتعمل لمصلحة القائمين بها، تغنم وتثرى، تتجبَّر وتنفرد بها، ثم نجد من يعاونها في ذلك؛ تحقيقًا لنفس الأغراض، الثراء والسلطة، المنصب والجاه، ثم تضع في الشعوب كل القيم التي تساعدها على تحقيق مآربها مثل الحرمان الجنسي بدعوى الفضيلة والتقوى ثم الإثارة الجنسية بدعوى المدنية وإدخال السرور على النفس حتى يتحول الشعب كله إلى فئتين؛ مثير جنسيًّا ومُثار جنسيًّا، أو تُلهي السلطة الشعب بقُوتِه اليومي، حتى يظل الشعب لاهثًا وراءه، تاركًا السياسة، وغافلًا عن السلطة، تاركًا لها مجال السياسة العُليا في الحرب والسلام، في الغنى والفقر، في الحرية والقهر، وفي الوحدة والتجزئة، أو تلوِّح بالمناصب حتى يتهافت عليها الناس، ويتسابق نحوها وزراء الغد، فتُعطى لمن لا يستحق حتى يظل عبدًا لها، حريصًا عليها، يستمد منها قيمته كل من لا قيمة له، إن أزمة السلطة في عالمنا المعاصر أنها لم تأتِ عن طريق الشورى والبيعة، ولكنها أتَت قفزًا عليها، واستمرَّت بقوانين القهر وبحكم العسكر وبسيطرة أجهزة الأمن بعد أن أخذَت شرعيتها أوَّلًا من الإنجازات الثورية أو الحركات الوطنية التي أدَّت إلى الاستقلال لا من البيعة والاختيار الحر، أخذت الشرعية من العمل ثم من القوة لا من النظر ثم البيعة، والثورية حتى في أحسن صورها واستمراريتها لا تكفي دون البيعة لتحقيق ذاتها ولاستمرارها ولالتفاف الجماهير حولها، وغالبًا ما تنقلب الثورية ضد الشعب، أصل البيعة، ومصدر الشورى. قد تكون السلطة مصدرًا للجهل لا للعلم، وقد يكون في مصلحتها نشر الأمية وليس محوها، والقضاء على الثقافة وليس تنميتها، فالسلطة تتأكد في شعب جاهل، وتقوى في جماعة مطيعة، فالجهل طاعة والعلم ثورة، وقد يكون المدح للدولة، لفكرها وعقيدتها، لحزبها ونظامها كما يحدث في عالمنا المعاصر من الدعوة للنظم السياسية وللثورات الوطنية، يكون التاريخ قبلها خواءً وظلامًا، ثم يحدث الملاء ويعم العدل في ظل النظام السائد، وبعد الثورات المباركة، وهو ما عاصرْناه في جيلنا من جبٍّ لما قبل تاريخ ثوراتنا المعاصرة، وشجب لكل ماضينا ثم الازدهار المفاجئ والنهضة الشاملة في ظل النظام القائم وبعد الثورة، فنولد من جديد، ونحيا بعد عدم، ونملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا، وتوجهنا عقائد الشيعة ونحن أهل سنة!٢٥ وهو ما يحدث أيضًا في خطب المساجد من الدعوة إلى السلطان، وتأييد للنظام، ومدح للحكام، وهو ما يكثر في عصور الانحطاط كأحد مظاهره أو أسبابه، فالإمام يخشى السلطان فيمدحه، والسلطان يخشى الإمام فيوظِّفه في رعيته ويجعله تابعًا له فقيهًا للسلطان، وبمدح الإمام تثبت شرعية السلطان في قلوب الناس والجهال، ولو أن الإمام فضح السلطان لما بقي السلطان، وشرعية الإمام في قلوب الناس أرسخ وأعمق من شرعية السلطان.٢٦ فإذا ما تغيرت السلطة بانقلاب أو بوفاة، انصبَّ نفس المدح للسلطان القديم على السلطان الجديد الذي يُعطي نفس الصفات، وتكون له نفس المحامد والآثار، وتوجِّه إليه نفس الدعوات والابتهالات، فمدح السلطان لا يقوم على خصائص موضوعية في السلطان، بل هو اتجاه نحو السلطة بالتملُّق والزلفى والنفاق، حتى ولو كان السلطان حيوانًا! ولقد نشأ بيننا كتَّاب لهم هذه الوظيفة في مدح القائد الملهم، والزعيم الشجاع، وابن الشعب البار، والمجاهد الأعظم، والرئيس الأفخم، وصاحب القرار، وإذا استنفدت السلطة أحدهم أو ضاقت به أو خدمها بغباء، أو استعمل ذكاءه لحسابه الخاص أتى الآخر، ثم تطول قائمة الانتظار، يودُّ الكل اللحاق بوظيفة مدَّاح السلطان.٢٧ وقد يكون الدعاء لرئيس المصلحة، السلطان الأصغر، الذي بيده الخبز والعيش، الرئيس المباشر الذي بيده الترقية والدرجة، والتقرير والتوصية، والذي يراه الكاتب وجهًا لوجه؛ فالسؤال هنا مباشرةً من شخص إلى شخص وليس إلى ذات مجردة أو لسلطان بعيد قد يسمع وقد لا يسمع، السؤال هنا لشخص حي، يصعد الدرج ويهرول، ويهبط تحفُّه البركات، ويصعد تنهال عليه الدعوات.٢٨ أمَّا الإهداء فإنه يكون أيضًا للحضرة العلية حتى يُذكر اسم السلطان في فاتحة الكتاب بعد فاتحة القرآن أو قبلها، فكل الآراء تتوجَّه إلى السلطان كما أنها بدرت منه، وخرجت بتوجيهاته.٢٩

أمَّا نحن فإهداؤنا «إلى علماء أصول الدين، تحقيقًا لمسئولية جيلنا»، تكاتفًا مع العلماء، وإبداءً للنصح، وتحمُّلًا للمسئولية عن هذا العلم وأثره في الحياة العملية وعلى سلوك الجماهير وعلاقتها بالسلطة، فإذا كان هذا هو المحتوى الرئيسي للمقدمات الإيمانية التقليدية التي تدعو إلى الله وإلى السلطان معًا، وتسبِّح بحمدهما معًا خاصةً في العقائد المتأخرة، عصر الشروح والملخصات، عصر الانحطاط وتلقي البركات، فإن عصرنا الحالي عصر إصلاح ونهضة، وجيلنا الحالي جيل تغيير وثورة، وكُتَّابه لا يتملَّقون السلطان الإلهي أو السلطان السياسي، بل يدافعون عن مصالح الشعوب ضد جميع السلاطين، هذه هي مسئولية «من العقيدة إلى الثورة» ومقدمته الأولى.

وإذا كانت بعض المقدمات الإيمانية القديمة تبدأ فقط ﺑ «اسم الله الرحمن الرحيم»، فإننا نبدأ «باسم الأمة»، فالله والأمة واجهتان لشيء واحد بنص القرآن.٣٠ فإذا كان الله قد تم الدفاع عنه عند القدماء وانتصروا في قضيتهم إثباتًا للتنزيه، فإننا ندافع عن الأمة التي اعتراها التفتُّت، وأنهكها الضياع، وتوالَت عليها الهزائم، وانتابها العجز، وعمها القعود، وإذا كان القدماء في دفاعهم عن التوحيد قد فتحوا البلدان، وغزوا في سبيل الله، وحرروا الوجدان البشري إعلاءً لكلمة الله، فانتصروا في الفكر والشريعة، وحققوا النظر في العمل، فإننا اليوم ندعو الأمة إلى الجهاد وإلى تحرير البلدان، واستعادة الأراضي المغتصبة، وذلك عن طريق تفجير التوحيد لطاقات المسلمين، وعودتهم إلى الأرض، فإذا دافع القدماء عن الله نظرًا لأنه كان مظان الخطر والهجوم، فإننا ندافع اليوم عن الأرض فهي المستهدفة، رقعة وثروة؛ فالله بنص القرآن إله السموات والأرض، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. فالتوحيد فتح وجهاد، تلك «الفريضة الغائبة»، وهذا الأصل من أصول الإسلام بل وعقيدته الأولى باسم التوحيد، لقد استُبيحت حرمات المسلمين، واحتلَّت أراضيهم، ونُهبت ثرواتهم، وانتهكت أعراضهم، وقُتلت نساؤهم وأطفالهم، وذبح أبناؤهم، فإذا كان القدماء قد بدءوا مقدماتهم الإيمانية التقليدية «باسم الله»٣١ فإننا نبدأها باسم الأرض المحتلة في مواجهة الاحتلال الأجنبي لأراضي المسلمين، وباسم حريات المسلمين في مواجهة صنوف القهر والطغيان، وباسم النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وباسم المساواة والعدالة الاجتماعية في مواجهة تجميع الثروات وتكديس الأموال لدى الأقلية المترفة أمام جماهير الأمة التي تموت جوعًا وقحطًا، بؤسًا وعريًا، وباسم الوحدة، وحدة الأمة بنص القرآن مرآة لوحدة الله في مواجهة التجزئة والتشرذُم والتشتُّت والتبعثر بين ملوك الطوائف، وباسم التقدُّم في مواجهة التخلف، وباسم النهضة في مواجهة الانحطاط، وباسم الهوية ضد التغريب، باسم جماهير الأمة، وباسم الأغلبية الصامتة، وباسم عامة المسلمين يصدر «من العقيدة إلى الثورة» بناءً على «العقل المصلحي» يجمع بين «علم أصول الدين» وبين «علم أصول الفقه» ليُعيد وحدة «علم الأصول» بشقيه.
وفي مرحلة ثانية،٣٢ انتقلت المقدمات الإيمانية من مجرد التعبير عن عواطف الإيمان إلى التركيز على «التأصيل العقلي» للعلم خاصةً، وأن علم التوحيد هو الذي يُعطي التصورات ويقدِّم المسببات والأسباب.٣٣ ونستمر أيضًا في التأصيل العقلي دون وقوع في أخطاء التجريد أو التشبيه.٣٤ ولكننا نزيد على «التأصيل العقلي» عند المتأخرين «التأصيل الواقعي» عند المعاصرين أسوةً بالمصلحين المحدثين حتى يرتبط التوحيد من جديد بالعمل، والله بالأرض، والذات الإلهية بالذاتية الإنسانية، والصفات الإلهية بالقيم الإنسانية، والإرادة الإلهية بالحرية الإنسانية، والمشيئة الإلهية بحركة التاريخ، وإذا كان الدافع عند القدماء هو العلم، فقد كانوا منتصرين في الأرض فاتحين للبلدان، وارثين الإمبراطوريتين القديمتين، الفرس والروم، فإن الدافع لدينا هو العمل، فنحن مهزومون، محتلُّون، تتداعى علينا الأمم كما تتداعي الأَكَلة على قَصْعتها، تريد الدولتان العظميان اليوم، في الشرق والغرب، وراثتَنا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا. ليس المهم لدينا هو فهم العالم كما كان عند القدماء بل تغييره وتطويره والسيطرة عليه، لقد عبَّرت المقدمات التقليدية الأولى عن واقع العلم والمناقشات النظرية في عصر كان الواقع الفعلي مستورًا: البلاد مفتوحة، والجنود منتصرة، والدول قائمة مستقلة، وكان الخطر يتهدَّد العقائد النظرية الجديدة؛ أي التوحيد، ولقد تغيَّر الوضع الآن فأصبح الخطر على الأرض بعد أن احتُلت البلاد، واستُعمرت الأوطان، واثَّاقل الناس إلى الأرض، وقعدوا عن الجهاد في حين أن التوحيد النظري قائم، وصفاتِ الله ظاهرة، وهو واحد حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يهدف التأصيل الواقعي إذن إلى إعادة بناء «علم أصول الدين» بحيث تتحوَّل العقيدة إلى ثورة للدفاع عن البلاد، وإطلاق التوحيد من عِقاله، وإيقاظه من سُباته، وتحويله إلى فاعلية في الأرض، وحركة في التاريخ.٣٥
وإذا كانت المقدمات التقليدية بلا استثناء قد جعلت هدفها الدفاع عن العقيدة، فقد كان الدفاع في معظم الأحوال دفاعًا عن عقائد فرقة معينة هي فرقة أهل السنة ضد أهل البدعة، ولكننا لا ندافع عن عقائد فرقة بعينها، بل نعيد تأصيل التوحيد كما ورثناه من القدماء وبعد عرضه على ظروف العصر دفاعًا عن مصالح الأمة. ليس الغرض من التأصيل العقلي المصلحي هو الهجوم على «الملحدين»، والدفاع عن عقائد الدين، بل إيجاد البراهين على الصدق الداخلي للعقائد عن طريق التحليل العقلي للخبرات الشعورية الفردية والجماعية، وبيان طرق تحقيقها من أجل إثبات الصدق الخارجي لها وإمكانية تطبيقها في العالم،٣٦ فإذا كان هدف القدماء إثبات عقائد «الفرقة الناجية» ضد «الفرق الضالة»، فإن هدفنا هو الدفاع عن اجتهادات الأمة كلها، ووضع العقائد كلها على قدم المساواة ومعرفة كيف نشأت في ظروف العصر القديمة وكيف يمكن أن تحيا في ظروف العصر الجديدة، إذا كان هدف القدماء هو بيان «الفرْق بين الفِرَق» فإن هدفنا هو «الجمع بين الفِرَق» في وقت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى الوحدة الوطنية، إذا كان هدف القدماء بيان «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، فإن هدفنا هو بيان «مقال المسلمين واتفاق المصلين»، إذا كان هدف القدماء عرض «اعتقادات فرق المسلمين والمشركين»، فإن هدفنا هو الكشف عن عقيدة الأمة وكيفية استعمالها من كافة قواها الاجتماعية والسياسية ولصالح من يتم تأويلها وفهمها واستخدامها.٣٧
وإذا كان القدماء قد اتبعوا نهج الالتزام بقواعد السلف، وبما قاله السابقون، ينقلون عنهم، ويهمشون عليهم، ويشرحون عقائدهم دون تجديد أو إضافة حتى أصبح علم أصول الدين لا يقص تاريخ الأمة، ولا يعكس صورة الأحداث فإن نهجنا هو عدم التأسِّي بأحد، قدماء أو محدثين، «هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم»، وإذا كان القدماء قد آثروا الإتباع دون الإبداع فإننا نرى مأساتنا في الإتباع لا في الإبداع، وأن هناك فرقًا بين الابتداع والإبداع؛ الأوَّل خروج على النهج بلا أصول، والثاني تطوير للأصول وتجديد لها، الأوَّل انقطاع بلا تواصل، والثاني تواصل بلا انقطاع. ليس السلف بأفضلَ من الخلف بالضرورة ولا الخلف أشر من السلف بالضرورة، ولكن لكل عصر اجتهاداته، ولكل جيلٍ إبداعاته، ولكل زمن سلبياته وإيجابياته، ولكن رؤية الماضي كنموذج للإتباع ورؤية المستقبل كنموذج للإبداع كلاهما إسقاط للحاضر من الحساب، وفي ذلك إهدار للإمكانيات البشرية لجيلنا وكأن الحل يُوجَد خارج عصرنا إمَّا في فردوس الماضي أو في حلم المستقبل، وكلاهما طريقان وهميَّان للخلاص، وذلك ضد حركة التاريخ ومساره، وتطوره على نحو طبيعي من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل بفعل الأجيال، وطالما أن القدماء لهم الطول على المحدثين فإن الأمة لم تحسم بعدُ في حياتها معارك النهضة، ولم تحصل بعدُ على شروط التقدُّم، بل إن بعض القدماء يضع لفظ «السلف» أو «السنة» في العنوان إيثارًا للسلامة، وتحقيقًا للإتباع، سواء من المؤلفين أو من الناشرين، ونحن لا نعتمد إلا على البحث الحر، والإيمان بقدرات الأمة على الإبداع، وتطبيق العقل المصلحي في العقائد، فهي إيمان الجماهير والتي تعطيهم تصوراتهم للعالم ودوافعهم على السلوك، كما فضل بعض القدماء ذكر سند الرواية وكأن العقائد أحاديث تُروى من شيخ إلى شيخ بالقراءة والإجازة والمناولة إلى آخر ما هو معروف من مناهج الرواية الكتابية القديمة.٣٨
فإذا كان القدماء قد جمعوا ما في الكتب السابقة المتفرِّقة وكان التأليف هو التجميع، فإننا نجتهد رأينا من واقع المسئولية، مسئولية الأصوليين الواضعين للعلم والمطورين له.٣٩ لذلك ارتبط «من العقيدة إلى الثورة» بالعقائد الإصلاحية فهي وحدها التي تركِّز على دور العقائد في تغيير حياة الناس، تصوراتهم وأساليب حياتهم من أجل تغيير الأنظمة الاجتماعية والسياسية وإعادة نظام التوحيد، بل لقد تأسَّست دول بأكملها ابتداءً من إعادة بناء العقائد، وإن مظاهر الشرك في حياة الناس عديدةٌ ليس فقط زيارة قبور الأولياء والأنبياء، والتبرُّك بالحجابة والتميمة وممارسة السحر، والرجم بالغيب، والوساطة والشفاعة، وهو الشرك في العبادات، بل أيضًا الشرك في المعاملات ووجود مجتمع به أغنياء وفقراء، قاهرون ومقهورون، أصحاب سلطة ومتزلفون منافقون، أو أن يظن إنسان أن لإنسان آخر سلطانًا عليه فيمدحه ويُداهنه، أو يجبن ويخاف ويسكت على الحق حرصًا على الدنيا وإيثار السلامة، ولا يكفي الشرك في العقائد النظرية ابتداءً من الغزو الثقافي الحديث إثر حركة الترجمة الثانية وضرورة الرد عليها بالاعتماد على العقائد السلفية والرد على نتائج العلوم الطبيعية والإنسانية الحديثة؛ فذلك نسيان لهموم المسلمين العملية، وإبقاء على النظر دون العمل وإعطاء الأولوية للمستوى النظري القديم على المستوى العلمي الحديث.٤٠
وقد بدأنا بعلم أصول الدين كأول جزء من «التراث والتجديد»؛ لأنه هو العلم الذي يمد الجماهير بتصوُّراتها للعالم وببواعثها على السلوك، فهو البديل لأيديولوجياتها السياسية خاصةً بعد فشل جميع الأيديولوجيات العلمانية للتحديث،٤١ فعقائد الإيمان هي التي حافظت على هوية الجماهير وعلى الشخصية الوطنية للبلاد إبان نضالها ضد الاستعمار، وعبارات الإيمان هي التي تخرج على اللسان في لحظات الحسم، مثل: «الله أكبر» أو «سبحان الله» أو «لا إله إلا الله» عند المصابين أو «الله، الله» في لحظات العجب والاستحسان، أو «لك يوم يا ظالم» في لحظات الإحساس بالقهر والعجز عن الظلم. فما سماه القدماء «أرفع العلوم وأعلاها» أو «أشرف العلوم وأسماها» هو عندنا أكثر العلوم فاعليةً وأثرًا في تصورات الناس وسلوكهم، فالشرف ليس من الموضوع كما قال القدماء، بل من الأثر والقدرة على تحريك الناس، وتجنيد الجماهير والدخول في حركة التاريخ.٤٢
وإذا كان القدماء قد وضعوا عقائدهم بناءً على سؤال الأمراء والسلاطين، أو بعد رؤية صالحة للولي أو للنبي، أو بعد استخارة لله، فإننا وضعْنا «من العقيدة إلى الثورة» دون سؤال من أحد أو رؤية أو استخارة، بل تحقيقًا لمصلحة الأمة وحرصًا على وحدتها الوطنية بعد أن أصبحت شيعًا وفرقًا في نضالها الوطني وتغيرها الاجتماعي، خاصةً بين أنصار التراث وأنصار التجديد، بين الحركة السلفية والحركة العلمانية، وهما الاتجاهان الرئيسيان في جسد الأمة، بدلًا من التكفير المتبادل، والصراع على السلطة، واستبعاد كل منهما الآخر؛ فعقائدنا هي حركة الوصل بين جناحي الأمة، والتي من خلالها يستطيع التراث السلفي أن يواجِه قضايا العصر الرئيسية، كما يستطيع العلماني التقدمي (الليبرالي أو الاشتراكي أو القومي) أن يحقق أهدافه ابتداءً من تراث الأمة وروحها، فيأمن الأوَّل المحافظة والرجعية، ويأمن الثاني الوقوع في التغريب والعزلة عن الناس، يأمن الأوَّل الخروج على المجتمع سرًّا أو علنًا ومعاداة الأهل والوطن، ويأمن الثاني الانتهاء إلى الردة والوقوع في الثورة المضادة، وهذا ما يبرهن عليه واقعنا المعاصر، سواء في موقف الحركة الإسلامية منه أو في انتكاسة الثورة العربية وردَّتِها.٤٣
والغالب على أسماء مؤلفات العقائد التقليدية إمَّا أسماء العلم والتبيين أو أسماء الجدل والإرشاد، أو أسماء تدل على القدرة الشخصية الفائقة أو التواضع الشديد أو أسماء محايدة لتأصيل الدين وشرح أصوله أو أسماء تبين العقائد الناجية طبقًا لتصوُّر أصحابها، أو بعض الأسماء التي لا تدل على مسمَّياتها.٤٤ أمَّا اسمنا فهو: «من العقيدة إلى الثورة»؛ فالعقيدة هي التراث والثورة هي التجديد، العقيدة هي إيمان الناس وروحهم، والثورة مطلب عصرهم، والسؤال هو: كيف يتم نقل الأمة على نحو طبيعي من الماضي إلى الحاضر؟ كيف تعود إلى التوحيد فاعليته في قلوب الناس ليعود نظامًا سياسيًّا لمجتمعاتهم؟ كيف تُصبح العقيدة باعثًا ثوريًّا عند الجماهير وأساسًا نظريًّا لفهمهم للعالم؟ كيف يتحول مسلمو اليوم إلى ثوَّار الغد بعد أن بدءوا ثوراتهم الوطنية العلمانية المحدثة والتي حقَّقت أقل قدرٍ ممكن من الاستقلال، وهو جلاء القوات الأجنبية، ولكن ما زالت الأرض محتلة، والثروات ضائعة، والاقتصاد تابعًا، والأبنية متخلفة، والهُوية مغتربة، والحريات مقهورة، والأمة مجزَّأة، والجماهير عاجزة؟ كيف يصبح التوحيد، وهو اسم فعل، تحريرًا للوجدان البشري، وتحرُّرًا للمجتمعات البشرية وللإنسانية جمعاء؟٤٥ أمَّا من حيث الألقاب التي تَبارَى فيها القدماء مدحًا لأنفسهم أو تعظيمًا من الآخرين لهم، فلست الإمام، ولا القطب، ولا الشيخ، ولا القاضي، ولا الرئيس، ولا العالم العلامة، الحبر الفهامة، ولا الصاحب، ولا الحافظ، ولا المحدث، ولا المحقق، ولا العالم، ولا الأستاذ، ولا المرجع، ولا سيدنا ومولانا! كما أني لست إمام العالمين، ولا قدوة علماء المسلمين، ولا سيف الحق والدين، ولا نجم الملة والدين، ولا فخر الدين، ولا عضد الدين، ولا سيف الدين، ولا أفضل المتقدِّمين والمتأخرين، ولا سيف السنة، ولا لسان الأمة، ولا حجَّة الإسلام، ولا صدر الإسلام، ولا شيخ الإسلام، ولا لسان المتكلِّمين، حجة الناظرين مع فرق المبتدعين، ولا صاحب الفضيلة، ولست العبد الفقير إلى رحمة ربه، الحقير الراجي من الله غفران الوزر.٤٦ بل أنا فقيه من فقهاء المسلمين أجدِّد لهم دينهم وأرعى مصالح الناس. ليس لنا ألقاب، بل نحن من علماء الأمة، وَرَثة الأنبياء، والمحافظون على الشرع كما كان فقهاء الأمة من قبل، لا نريد مدحًا ولا تعظيمًا كما فعل القدماء، فقد أُعطِي نفس اللقب لأكثر من عالم وإمام، وأُعطِي للإمام والعالم أكثر من لقب، وكثرت الألقاب قبل الاسم وبعده، يصحبه دعاء حتى اختلطت الوظائف بالألقاب، ويتساءل الإنسان: طالما أن في الأمة كل هؤلاء العلماء سيوف الدين، فلماذا احتلَّت الأرض، ونُهبت الثروات، وقُهرت الحريات، وتجزَّأت الأمة، وتخلَّفت الأبنية الاجتماعية، وتغرَّبت الهوية، وسكنت الجماهير؟ ولا نريد أن نُضيف إلى مئات الألقاب واحدًا، إنما نحن أحد علماء الأمة وواحد من المجتهدين.
وكما يستعين القدماء بالله، فإننا نستعين بقدرة الإنسان على الفهم والفعل، على النظر والعمل بالاعتماد على النصوص القديمة وتجارب العصر، ولا عصمة لأحد، والخطأ خطئي وحدي، فلا يستطيع الباحث أن يعيَ كل شيء، وأن يعرف كل تحليل، وأن يكون على علم تامٍّ بمطالب العصر؛ ومِنْ ثَمَّ فهي اجتهادات ومواقف محتملة، وكل التفسيرات ممكنة إذا كان فيها تلبية لمطالب العصر. فلا توجد صحة نظرية بقدر ما هناك من فائدة عملية.٤٧ وإذا كانت أخطاء القدماء تتغيَّر بالتوبة والاستغفار، فإن أخطاءنا تتغيَّر بالتعلُّم والاستفادة والمراجعة والنقد، ثم العود من جديد للقيام بنفس المهمة في تأصيل جديد عقلي مصلحي لعلم أصول الدين على أساس من اجتهاد العصر، والاكتساب النظري والعملي للصواب.٤٨ وإذا كان القدماء يريدون ثوابًا في الجنة أو إنقاذًا من النار، فإننا نريد صلاح الأمة؛ تحرير أراضيها، وإعادة توزيع ثرواتها بالعدل والمساواة، وإطلاق حرياتها في القول والعمل والاعتقاد، وتوحيد شتاتها، والقضاء على تخلُّفها، وإعادتها إلى هُويتها من غربتها، وتجنيد جماهيرها؛ نريد تحقيق الإصلاح في الأرض، ومقاومة الفساد فيها.٤٩ ولا أرجو مفازة، ولا أبغي جزاءً، بل سير الحضارة بعد أن توقفت، ونقلها من طور إلى طور، من الطور الثاني (من القرن السابع حتى الرابع عشر) إلى الطور الثالث (ابتداءً من القرن الخامس عشر)، مفازتي في تحمُّل المسئولية الوطنية والواجب الحضاري، رسالة العلماء وأمانة الجماهير، لا أطلب ثوابًا أخرويًّا ولا جزاءً دنيويًّا، بل تأدية الرسالة؛ فالرسالة تحتوي على جزائها في باطنها بتحقيقها، وتحول الإنسان من الفردية إلى حياة الحضارة الجماعية، فيتحوَّل الفرد إلى تاريخ، والزمان إلى خلود.٥٠
ونادرًا ما تصدر عقائد القدماء عن تجربة شخصية أصيلة، فإذا حدثت فإنها تجربة شروح وحواشي، فالمادة «الكلامية» محفوظة ومرصوصة، يتناقلها المصنفون أبًا عن جد، وابنًا عن أب، وتلميذًا عن شيخ، فهم مصنِّفون وليسوا مؤلِّفين، يرتِّبون ويبوِّبون مادة صماء لا باعث فيها ولا هدف لها، وأقصى ما يُوجد من تجارب شعورية وراء المؤلَّفات هي تجارب الشرح قبل فوات العمر!٥١ أمَّا «التراث والتجديد»، وأولى تطبيقاته هذه «من العقيدة إلى الثورة»، فإنه يمثِّل تجربة العمر دون ما تجريد في العرض أو ادعاء لعلم؛ فالعلم لا يأتي إلا من تجربة، فردية واجتماعية، تكشف عن تجربة جيل بأكمله، في عصر معين، في إحدى مراحل التاريخ، وموضوعية الفكر لا تنفي حياة المفكر، بل إن حياة المفكِّر وتجربته هي المحل الذي تنكشف فيه موضوعية العلم وشموله، وأرجو ألَّا تشغلنا زحمة الحياة، والخوض في تجارب العصر، وعيش أزماته عن إعادة بناء العلوم القديمة، وتأسيسها من جديد طبقًا لمقتضيات العصر.

كانت تجارب القدماء في أغلبها صوفيةً، وفي أقلِّها علمية نظرية، وبالتالي خلت من أي مضمون اجتماعي، وكيف يهتزُّ العالم كله من مجرد تجربة ذوقية شخصية تعتلج في صدر صاحبها، ويموج بها قلبه، ويهتزُّ لها وجدانه؟ وقد يكون الإحساس بخلاص العالم على يد الشارح؛ تعويضًا عن إفلاس علمي حقيقي، أو تغطية لا شعورية عن هزائم العصر، وانهيار الحضارة، أما تجاربنا نحن فهي اجتماعية بالأصالة، تجارب ذات مضمون، وضعناها في التراث، وقرأنا التراث من خلالها فتحوَّلت إلى فكر، وتحول التراث إلى تجربة، وتلك هي مقدمتنا لهذا الجزء الأوَّل من «التراث والتجديد» وهو «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين القديم.

يعبِّر مشروع «التراث والتجديد» عن تجربة العصر من خلال جيلِنا على الأقل، وهو جيل يكشف عن مسار التاريخ المعاصر في أحد مراحلِه الرئيسية، كما يعكس الصراع الدامي الذي حدث بين «الإخوان المسلمين» التي كانت تمثل الحركة الإسلامية المعاصرة وريثة الإصلاح الديني القديم من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى حسن البنا إلى سيد قطب ثم إليَّ، وبين «الثورة المصرية» منذ «عرابي» حتى «عبد الناصر»، كان أول وعيي بالعالم الحرب «العالمية» الثانية (إذ إني من مواليد ١٩٣٥م) وكانت عواطفنا ونحن صغار مع دول المحور؛ لأنها كانت ضد بريطانيا التي تستعمرنا، ولم نكن ندري وقتها ماذا تعني النازية أو العنصرية، وكان وعيي الثاني إبان حرب فلسطين ١٩٤٨م عندما ذهبنا للتطوع في جمعية «الشبان المسلمين» فطلبوا تحويلنا إلى حزب آخر «مصر الفتاة»، ويومها عجبت للفرقة المذهبية في قضية وطنية، ثم دخلت «الإخوان المسلمين» في نفس العام الذي اندلعت فيه الثورة المصرية في عام ١٩٥٢م، طالبت أن يكون شعار الإسلام مصحفًا ومدفعين وليس مصحفًا وسيفين، إعلانًا للتحديث وتأكيدًا على المعاصرة، وكُنَّا مع الثورة في صف «محمد نجيب» الذي دعا في جامعة القاهرة إلى الوَحْدة الإسلامية، ثم اشتعلنا بثورة محمد مصدق بإيران وتأميم البترول، وهرب الشاه، وكانت أول صدمة تراخى الإخوان في تأييدها، بل وتأييد الكاشاني! ثم حدثت أزمة مارس بين الإخوان والثورة، وكان مشروع المعاهدة المصرية البريطانية أقلَّ مما كانت تطالب به الحركة الوطنية المصرية، كما انضممنا إلى الحركة الوطنية المصرية العامة التي كانت تُطالب بالحريات وبالدستور، ثم اشتعلنا من جديد بالثورة المصرية بعد تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦م، وظهر «عبد الناصر» ليس فقط كمناضل ضد الاستعمار، بل كرمز لحركات التحرُّر في العالم الثالث كله.

بدأَت الأفكار الأولى لمشروع «التراث والتجديد» إذن من أتون الصراع بين «الإخوان» و«الضباط الأحرار»؛ أي بين «الإسلام» و«الثورة» أو بين «القديم» و«الجديد» أو بين «الماضي» و«الحاضر»، خلال أربع سنوات حياتي الجامعية من ١٩٥٢–١٩٥٦م، واكتشاف توجيه الفكر للواقع، والطاقة والحركة والتغير والجدة والحياة، حتى لقد حسبني أحد الأساتذة كانط أو برجسون، ومنه سمعت لأول مرة تكوين الشعور والإحالة المتبادلة أو القصدية، وأنه يمكن لتجارب الشعور (الدينية الصوفية عندي في ذلك الوقت) أن تتحول إلى علم. Les methodes d’Exégèse P. V-VI. وفي فرنسا في أواخر ١٩٥٦م تمت صياغة «المنهاج الإسلامي العام» الذي يتكوَّن من صورتين: الأولى ثابتة تصور ونظام والثانية حركية طاقة وحركة مما انتهى بعد تعديلات طويلة، وتطور في وعي المنهج برسالتي الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» (بالفرنسية)، أولى محاولات التراث والتجديد التطبيقية، وبعد عودتي من فرنسا في صيف ١٩٦٦م شرعت في كتابة المقدمات النظرية «أزمة الدراسات الإسلامية، التراث والتجديد، ص٧٥–١٢٢»، ثم وقعت هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وهنا تحوَّلت من باحث نظري «أكاديمي» إلى باحث اجتماعي، وانتقلت من «الوعي الفردي» الغالب على الرسالة الأولى إلى «الوعي الاجتماعي» من أجل التصدِّي للهزيمة كمفكر وباحث وعالم (وكانت حصيلة ذلك: «قضايا معاصرة (١): في فكرنا المعاصر»، و«قضايا معاصرة (٢): في الفكر الغربي المعاصر») لمدة ثلاثة أعوام، بعدها غادرت البلاد رغبة في الهدوء والنسيان، وتهدئة الخواطر مع السلطات الجامعية والسياسية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية (١٩٧١–١٩٧٥م) جمعت مادة «من العقيدة إلى الثورة» لأول مرة، ثم كتبت «التراث والتجديد» في ١٩٧٦م كمقدمة عامة بعد أن نضجت في ذهني أزمة التغير الاجتماعي، ولكن حدثت في ١٩٧٧م الردة الثانية، وانقلاب الثورة المصرية إلى ثورة مضادة مما جعلني أتحوَّل مرة أخرى من باحث ومفكر وعالم إلى «حارس للمدينة» حرصًا على الثورة، وحمايةً لمكتسباتها، ودفاعًا عن مشروعها، وظل ذلك على مدى أربع سنوات أخرى في هذه المهام العاجلة والشهادات المستمرة على أحداث العصر (وكانت حصيلة ذلك: «قضايا معاصرة (٣): في الثقافة الوطنية»، و«قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني»). ثم جاءت مذبحة سبتمبر ١٩٨١م، وخروج اضطراري من الجامعة مما أعطاني عامًا كاملًا لكتابة «من العقيدة إلى الثورة» للمرة الثانية، وبعد خلاص مصر من أسوأ عقد في تاريخها؛ وهو عقد السبعينيات كتبت «من العقيدة إلى الثورة» للمرة الثالثة في فاس بالمغرب الأقصى خلال عام ١٩٨٣م بعد أن برزت الحركة السلفية في المشرق كوريث للحركة الإصلاحية الدينية وكبديل للثورات العربية وللحركة العلمانية التقدمية بوجه عام، وبعد رصيدها في تخليص مصر، وعلى هذا النحو يكون «من العقيدة إلى الثورة» قد استغرق عشرة أعوام مثل رسالتنا الأولى عن «مناهج التفسير»، وكم في العمر من عشرات الأعوام؟ لذلك أرجو أن تتوالى أجزاء «التراث والتجديد» تباعًا، بعد أن شهدنا على أحداث العصر بما فيه الكفاية، الهدف الآن تنظيرها وإحكامها وتحويلها إلى علم محكم، ويكفي «اليسار الإسلامي» كمنبر عام لبيان كيفية الانتقال «من العقيدة إلى الثورة» قد أشفعها جميعًا بسيرة ذاتية وقد أترك «التراث والتجديد» يحكي قصة حياتي.
انظر أيضًا باقي الظروف في: التراث والتجديد، ص٢١٦.
١  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، دار التنوير ١٩٨١م.
٢  يقول الأشعري مثلًا: «الحمد لله الواحد، العزيز الماجد، المتفرِّد بالتوحيد، المتمجِّد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له منازعٌ ولا نديد، وهو المبدئُ والمعيد، الفعَّال لما يريد، جلَّ عن اتخاذ الصاحبةِ والأولاد، وتقدَّسَ عن ملابسة الأجناسِ والأرجاسِ، ليس له صورة تُقال، ولا حد يُضرب له المثال …» (الإبانة، ص٤). ويقول الجرجاني: «سبحان من تقدَّست سُبُحات جماله عن سمة الحدوث والزوال، وتنزَّهت سرادقات جلاله عن وصمةِ التحيُّز والانتقال، تلألأتْ على صفحاتِ الموجودات أنوار جبروته وسلطانه، وتهلَّلت على وجناتِ الكائنات آثار ملكوته وإحسانه …» (شرح المواقف، ص٢). ويقول الرازي: «الحمد لله المتعالي بجلال أَحَديته عن مشابهة الأعراض والجواهر، المقدس بعلو صَمَديته عن مناسبة الأوهام والخواطر، المتنزِّه بسمو سرمديته عن مقابلة الأحداق والنواظر، المستغني بكمال قدرته عن معاضدة الأشباه والنظائر، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء من مكنونات الضمائر، ومستودعات السرائر، العظيم الذي غرقت في مطالعة أنوار كبريائه أنظار الأوائل وأفكار الأواخر …» (المحصل، ص٢). ويقول البيضاوي: «الحمد لمن وجب وجوده وبقاؤه، وامتنع عدمه وفناؤه، دل على وجوده أرضه وسماؤه، وشهد بوحدانيته وصف العالم وبناؤه، العليم الذي يُحيط علمه بما لا يتناهى عدُّه وإحصاؤه …» (الطوالع، ص٣). ويقول الإيجي أيضًا: «وكَرَّم بني آدم بالعقلِ الغريزي، والعلمِ الضروري، وأهَّلَهم للنظر والاستدلال، والارتقاء في مدارج الكمال، ثم أمرهم بالتفكيرِ في مخلوقاته، والتدبُّر في مصنوعاتهِ؛ ليؤديهم إلى العلم بوجود صانع قديم، واحد أحد، فرد صمد، منزَّه عن الأشباه والأمثال، متصف بصفات الجلال، مبرَّأ عن شوائب النقص، جامع لجهات الكمال، غني عما سواه، فلا يحتاج إلى شيء من الأشياء، عالم بجميع المعلومات، فلا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء» (المواقف، ص٢).
٣  يقول البيضاوي: «تاهت في بيداء ألوهيته أنظار العقل وآراؤه، وأُرْتِجَت دون إدراكه طرق الفكر وأنحاؤه …» (الطوالع، ص٣). ويشرح الأصفهاني: «قصرت عن إدراك ذاتِه أفكار العقلاء، وتحيَّرت في بيداء ألوهيته أنظار العلماء …» (المطالع، ص٢). ويقول الجرجاني: «تحيرت العقول والأفهام في كبرياء ذاته، وتولَّهت الأذهان والأوهام في بيداء عظمة صفاته …» (شرح المواقف، ص٢). ويقول الظواهري: «وتحيرت في إدراك حقيقته أفكار العقلاء …» (التحقيق، ص٢). ويقول الرازي: «الحمد لله الذي تحيَّرت العقول والأرواح في مطالعة بِيد كبريائه وعزته، وتاهت الأبصار والأفكار في حضيض كمال صمديَّته …» (المسائل، ص٣٣٠).
٤  يقول الباقلاني: «أحمده حمد معترفٍ بأنه لا شبيه له يساويه، ولا ضد له ينازعه ويُناويه، وأنه مالك الخلق ومُنشيه، ومعيده ومُبديه، ومُفقره ومُغنيه، وراحمه ومُبتليه، لا مالك فوقه يزجره، ولا قاهر ينهاه ويأمره، وأن الخلق جميعًا في قبضته، ومتقلبون بمشيئته، ومتصرفون بين حدوده ومراسمه، ولا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لأوامره، ولا اعتراض لمخلوق في قضائه وقدره …» (التمهيد، ص٣٣). ويقول الجويني: «الحمد لله بارئ النَّسَم، ومحيي الرمم، ومقدر القسم، ومفرق الأمم إلى الهداية للطريق الأتم، والخِذلان بافتراق الزلل واللحم» (الإرشاد، ص١). ويقول الرازي: «الحمد لله فالق الإصباح، وخالق الأرواح والأشباح، فاطر العقول والحواس، ومبدع الأنواع والأجناس، الذي لا بدايةَ لقدمه، ولا غاية لكرمه، ولا حدَّ لسلطانه، ولا عدَّ لإحسانه، خلق الأشياء كما شاء بلا معين ولا ظهير، وأبدع في الإنشاء بلا تردُّد ولا تفكير، تحلَّت بعقود حكمته صدور الأشياء، وتجلَّت بنجوم نعمته وجوه الأحياء، جمع بين الروح والبدن أحسن تأليف، ومزج بقدرته اللطيف بالكثيف، قضى كل أمر محكم، وأبدع كل صنع مبرم عجيب» (العالم، ص٢-٣). ويقول الإيجي: «قادر على جميع الممكنات على سبيل الاختراع والإنشاء، مريد لجميع الكائنات، تفرد بمقتضيات الأفعال وأحاسن الأسماء، أزلي أبدي، توحد بالقدم والبقاء، وقضى على ما عداه بالعدم والفناء، له الملك، يحيي ويبيد، ويبدئ ويعيد، وينقص من خلقه ويزيد، لا يجب عليه شيء، له الخلق والأمر، يفعل ما يشأ ويحكم ما يريد، لا تتعلَّل أفعالُه بالأغراض والعلل، قدَّر الأرزاق والآجال في الأزل …» (المواقف، ص٢). ويشرح الأصفهاني ويقول: «أبدع المواد بقدرة قديمة ممتنعة عن الانتهاء، له الإعادة ومنه الابتداء، دبر الكائنات بقدره، الذي هو تالي سابق القضاء …» (المطالع، ص٢). ويشرح التفتازاني ويقول: «نحمدك يا من بيدك ملكوت كل شيء، وبه اعتضاده، ومن عنده ابتداء كل حي وإليه معاده … ولا توجد في الإمكان من طبقة إلا تشملها قدرته القاهرة …» (شرح المقاصد، ص٢-٣). والنصوص كثيرة من هذا النوع، أوردنا بعضها حتى يشعر القارئ بتحليلاتنا له، وتحدث له تجربتنا معها، فيشاركنا فيها.
٥  يقول الباقلاني: «الحمد لله قامع الأباطيل، ومدحض الأضاليل، وهادي من اختص برحمته إلى سواء السبيل، ومضل الناكب عن النهج المستقيم، والحايد عن واضحات الحجج، ونيرات البراهين …» (التمهيد، ص٣٣). ويقول البغدادي: «الحمد لله فاطر الخلق وموجِده، ومظهر الحق ومنجِده، الذي جعل الحق وزنًا لمن اعتقده، وعمرًا لمن اعتمده، وجعل الباطل مَزلًّا لمن ابتغاه، ومُذلًّا لمن اقتفاه …» (الفرق، ص٣). ويقول الجويني: «… موضح الحق بواضحات الدلائل، ومُزهق الكفر والباطل …» (الإرشاد، ص١). ويقول الآمدي: «الحمد لله الذي زلزل بما أظهر من صنعته أقدام الجاحدين، واستنزل بما أبان من حكمته ثبت المبطلين، وأقوى قواعد الإلحاد بما أبدى من الآي والبراهين، واصطفى لصفوتِه من عباده عصابةَ الموحدين، ووثَّقهم من أسبابه بعروته الوثقى وحبله المتين، فلم يزالوا للحق ناظرين، وبه ظاهرين، ولله ورسوله ناصرين، وللباطل وأهله دافعين، إلى أن فجر فجرُ الإيمان، وأشرق ضوءُه للعالمين، وخسف قمر البهتان، وأضحى كوكبه من الآفلين، وذلك من صنع الذي أتقن كل شيء» (الغاية، ص٣).
٦  Clé de Voûte في الهندسة المعمارية هو مركز القبة الذي يمسكها؛ أي أساسها الأعلى.
٧  يقول الملطي الشافعي: «الحمد لله ذي العزة والإفضال، والجود والنوال، أحمده على ما خص وعم من نعمه، وأستعينه على أداء فرائضه …» (التنبيه، ص١). ويقول الأشعري: «الحمد لله ذي الجود والثناء، والمجد والسناء، والعزة والكبرياء، أحمده على سوابغ النعم، وجزيل العطاء …» (اللمع، ص١٧). ويقول الشهرستاني: «الحمد لله حمد الشاكرين بجميع محامده كلها على جميع نَعْمائه كلها حمدًا كثيرًا طيبًا، مباركًا كما هو أهله …» (الملل ج١، ص٣). ويقول الباقلاني: «الحمد لله ذي القدرة والجلال، والعظمة والكمال، أحمده على سوابغ الإنعام، وجزيل الثواب …» (الإنصاف، ص١٣). ويقول البغدادي: «الحمد لله ذي الحكم البوالغ، والنعم السوابغ، والنقم الدوافع …» (الأصول، ص١). ويقول الشهرستاني: «الحمد لله حمد الشاكرين …» (النهاية، ص٣). ويقول الآمدي: «فنحمده على ما أولى من مننه، وأسبغ من جزيل نعمه، حمدًا تكلُّ عن حصره ألسنة الحاصرين …» (الغاية، ص٣). ويقول الرازي: «أحمده على جزيل نعمه، وجميل كرمه …» (الأساس، ص٢). ويقول المكناسي شارحًا: «إن أنجح الوسائل في فتح أبواب المسائل، وأرفع المطالب في الفوز بالرغائب، وأوثق العرى في التعلُّق بإله الورى حمد منعم جاد بالكونين بلا نفع له، وبسط البسيطة لنعمائه، وسمك السموات العُلا لإكرامه الخلق بلا علة، فله الحمد الذي لا يحصيه سواه، والشكر على ما جاد به على كل خلق سوَّاه …» (أشرف المقاصد، ص٢). وتبدأ كل العقائد المتأخرة بلا استثناء شعرًا أو نثرًا بالحمد لله، وكلما قل إحكام العلم وإبداعه وتعقيله زادت المقدمات الإيمانية.
٨  يقول الملطي الشافعي أيضًا: «وبالله نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل» (التنبيه، ص١). ويقول الطوسي ملخِّصًا: «الحمد لله الذي يدل افتقار كل موجود في الوجود إليه على وجوب وجوده وإفاضته إياه …» (التلخيص، ص٢). ويقول الإسفراييني: «… اللهم كما أنعمت أَدِم، وكما أسست أَقِم، فإنا لسنا إلا الظاهر، وليس عَنَّا ما يسند إلينا في الظاهر، انصرنا يا ناصر، وأعطنا أوفر من كل وافر، وكما أدخلتنا في الدنيا مسافرًا، أخرجنا عنها كالمسافر» (حاشية الإسفراييني، ص٣). قارن أيضًا: «انصرنا يا ناصر» بما يقوله الجبرتي: «يا نجيَّ الألطاف، نجنا مما نخاف»، ويُسَمَّى إقبال ذلك «فلسفة السؤال» التي تُميت الذات ولا تحييها.
٩  انظر: «محمد، الشخص أو المبدأ»، في «قضايا معاصرة (٤): اليسار الديني»؛ وأيضًا الباب الثالث، الفصل الأوَّل.
١٠  يقول الملطي الشافعي: «وصلى الله على محمد النبي المختار …» (التنبيه، ص١). ويقول البغدادي: «والصلاة والسلام على الصفوة الصافية، والقدرة الهادية، محمد وآله خيار الورى ومنار الهدى» (الفرق، ص٣). ويقول الباقلاني: «وأرغب إليه في الصلاة على نبيه محمد المختار، وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار» (الإنصاف، ص١٣). «والصلاة على رسوله المصطفى وآله الطيبين الطاهرين أجمعين» (النهاية، ص٣). «صلِّ على نبيك المصطفى، ورسولك المجتبى، محمد المبعوث بالهدى» (شرح المواقف، ص٢). «وأصلِّي وأسلِّم على رسله، سيَّما من اختص الله منهم بكمال عموم الرسالة محمد» (التحقيق، ص١). «وأفضل الصلاة والتسليم، على النبي المصطفى الكريم» (الخريدة، ص٥–٧).
١١  «والشفيع المشفَّع في الصغائر والأكابر» (المحصل، ص٢). «المقرب منزلته وآدم بين الماء والطين …» (المعالم، ص٢-٣). «والصلاة والسلام على أكمل مظاهر الحق، في مرأى الخلق، نبي الرحمة وشفيع الأمة» (شرح الفقه، ص٢). «والصلاة والسلام على الواسطة في وجود جميع اللطائف، من هو نور الأنوار، وينبوع المعارف، سيدنا ونبينا ومولانا محمد، المنفرد بأعمِّ رسالة، وأكبر شفاعة، والمهيمن على مَن قبله بكتابه المبين وسنَّته المطاعة» (أشرف المقاصد، ص٢). «الشفيع المشفَّع يوم المحشر» (المواقف، ص٣–٧). «ووعد لهم مقام الشفاعة يوم العرض والجزاء» (المطالع، ص٢).
١٢  «وعلى آله الطيبين الأخيار» (التنبيه، ص١). «وعلى إخوانه المرسلين، وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه المنتخبين، ومن بعدهم من التابعين، وأسأله التوفيق لإصابة ما به أمرنا، والاقتداء بالسلف الصالح من أمة نبينا، وصرفنا عن الميل إلى الحايد عن ديننا والطاعن على ملتنا» (التمهيد، ص٣٣). «وآله ضياء الورى، ومنار الهدى» (الفرق، ص٣). «وعلى آله الطيبين الطاهرين» (الملل، ج١، ص٣). «وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار» (الإنصاف، ص١٣). «وآله الطيبين الطاهرين أجمعين» (النهاية، ص٣) «وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا» (المحصل، ص٢). «وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الأنصار منهم والمهاجرين، وسلم عليهم أجمعين» (العالم، ص٢-٣). «وعلى آله البرَرَة الأتقياء، وأصحابه الخيرة والأصفياء» (شرح المواقف، ص٢). «وعلى العترة الطاهرة والأنجم الزاهرة من آله وأصحابه وخلفائه وحلفائه وأسلم تسليمًا» (المقاصد، ص٤–٧). «وعلى آله وصحابته المحرزين قصب السبق في إتقان الرواية، الفائزين بدراية صفو العلوم وصفاء الدراية» (أشرف المقاصد، ص٢).
١٣  «ولما توفَّاه الله، وفق أصحابه لنصْب أكرمهم وأتقاهم، وأحقهم بخلافته وأولاهم، فأبرم قواعد الدين ومهَّد، ورفع مبانيه وشيد، وأقام الأود، ورتق الفتق، ولم الشعث، وسد الثلمة، وأقام قيام الأبد بأمر دينهم ودنياهم، وجلب المصالح، ودرء المفاسد لأولاهم وأخراهم، وتبع مَن بعده سيرته، واقتفى أثره، والتزم وتيرته، فجبروا عتاة الجبابرة، وكسروا أعناق الأكاسرة، حتى أضاءوا بدينه الآفاق، وأشرقت كل الإشراق، وزينوا المغارب والمشارق بالمعارف ومحاسن الأفعال ومكارم الأخلاق، وطهَّروا الظواهر من الفسوق والبطالة والبواطن من الزيغ والجهالة والحيرة والضلالة» (المواقف، ص٣).
١٤  «كما أوضح السبيل وأنار الدليل» (التمهيد، ص٣٣). «فأوضح بنوره سبل السالكين، وشاد بهدايته أركان الدين» (الغاية، ص٣). «الذي رفع الهدى جده وعناؤه، وقمع الضلالة بأسه وعناؤه» (الطوالع، ص٣). «فأقام الحجة، وأوضح المحجة» (المواقف، ص٢). «وأصلي على من أرسل بالنور الساطع إيضاحًا للمنهج وإفصاحًا عن البيانات، وأتبعه بالأمر الصادع إقامةً للحج وإزالة للشبهات» (المقاصد، ص٤–٧). «والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله لتطهير العقول من نجاسة الإشراك، وتحرير العقائد من روح التقليد» (التحقيق، ص١). «والصلاة على نبيه محمد المؤمن بساطع حججه، وواضح بياناته» (شرح التفتازاني، ص٧٣). «وبيَّن من البرهان سبله، ومن الإيمان دليله، وأقام للحق حجته، وأنار للشرع محجته» (شرح المقاصد، ص٢-٣). «ثم إنه بعث إليهم الأنبياء والرسل مصدِّقًا لهم بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة … وأنزل معه كتابًا عربيًّا» (المواقف، ص٢).
١٥  «وصلى الله على محمد المصطفى، رسول الرحمة، خاتم النبيين» (الملل، ط١، ص٣) «وصلى الله على محمد عبده ورسوله، خاتم النبيين بكرةً وأصيلًا وسلم تسليمًا» (الفصل، ج١، ص٣). «ذلك محمد سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين» (المعالم، ص٢-٣). «محمد خاتم رسله وأنبيائه» (المقاصد، ص٤–٧). «ونشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الكافة أجمعين» (الغاية، ص٣). «ثم ختمهم بأجلِّهم قدرًا، وأتمِّهم بدرًا، وأشرفهم نسبًا، وأزكاهم مغرسًا، وأطيبهم منبتًا، وأكرمهم مَحتِدًا، وأقومهم دينًا، وأعدلهم ملةً، وأوسطهم أمةً، وأسدهم قبلةً، وأشدهم عصمةً، وأكثرهم حكمةً، وأغرِّهم نصرةً، سيد البشر، المبعوث إلى الأسْود والأحمر» (المواقف، ص٢). انظر أيضًا كتابنا: «لسنج: تربية الجنس البشري»، القاهرة، دار الثقافة الجديدة ١٩٧٧م، بيروت، دار التنوير ١٩٨١م.
١٦  «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة اللقاء، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله» (اللمع، ص١٧). «نشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة مبوِّئة لقائلها جنة الفوز والعقبى في يوم الدين، ونشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله» (الغاية، ص٣). «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تكون بالتخلُّص في الدارين إعلامًا، وأشهد أن سيدنا مُحَمَّدًا عبده ورسوله الممنوح من اتبعه من الجنان أعلامًا» (إتحاف المريد، ص٣–٥). «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القديم المخالف لما عداه من الكائنات، الباقي وهالك كل من عداه من المخلوقات، وأشهد أن سيدنا ونبينا مُحَمَّدًا عبده ورسوله، الصادق الأمين، المبلغ كل ما أمر بتبليغه من رب العالمين» (تحفة المريد، ص٣). وفي المؤلَّفات العقائدية المتأخرة تتقلص التمهيدات والبسملات وكأن العواطف الإنشائية الباقية من عصر الشروح والملخصات قد انتهت وتبخرت وتجمدت في عبارة واحدة.
١٧  قد حاولت معظم الحركات الإصلاحية الحديثة إعطاء الأولوية للتوحيد العملي على التوحيد النظري، وتوجيه النصوص نحو سلبيات الواقع، فخرج التفسير مرآةً تعكس الواقع، حتى ولو ظلَّت النصوص متفرقة لا يجمعها جامع واحد، ولا تخضع لنظرية واحدة تُعطيها أساسها النظري، ودون تحليل للواقع، ومعرفة أسباب نشأة سلبياته، ودون إعطاء مناهج للتغيير، وكأن النصوص بسلطتها وفاعلية الإيمان التلقائية كافية للتغيير (ابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، ومحمد عبده ورشيد رضا في تفسير المنار).
١٨  انظر مقالنا: «ماذا تعني شهادة أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله»، في «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني».
١٩  «وجعل الإسلام للأصول والعقائد عقله الوافي بالاتصال بالمبدأ الفياض، وذهنه الصافي عن كدر الإهمال بالأعقال والارتياض، وكأنه شربه من أنهار خمسة صافية ليس لها سادس ولا يركب لتحصيل نفائس الآراء وفرائد المعاني إلَّا بحر أبادي، فإياك وهذه المائدة الشريفة الموضوعة للكرام، ولو لم تصف أنهارك عن قذى الأوهام، ولم يغلب على نهارك ضوء مصابيح أسهارك المنورة للظلام، ولم يتسخر وهمك لعقلك وفهمك لجامع فضلك ولم تكن من فضلاء الأنام» (حاشية الإسفراييني، ص٢-٣).
٢٠  «أمَّا بعد، فإني وإن كنت ساكنًا في أقاصي بلاد المشرق إلا أني سمعت أهل المشرق والمغرب مطبقين متفقين على أن السلطان المعظَّم، العالم العادل، المجاهد سيف الدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أفضل سلاطين الحق واليقين، أبا بكر أيوب، لا زالت آيات رائيه في تقوية الدين الحق والمذهب الصادق متصاعدة إلى عنان السماء، وآثار أنواره وقدرته ومكنته باقية بحسب تعاقب الصباح والمساء، أفضل الملوك وأكمل السلاطين في آيات الفضل، وبينات الصدق، وتقوية الدين القويم، ونصرة الصراط المستقيم، فأردت أن أتحفه بتحفة سنية، وهدية مرضية، فأتحفته بهذا الكتاب الذي سميته بأساس التقديس، على بعد الديار، وتباين الأقطار، وسألت الله الكريم أن ينفعَه به في الدارين بفضله وكرمه» (أساس التقديس، ص٣). «أمَّا بعد، فقد عرفت إيثار سيدنا الأمير، أطال الله في دوام العز بقاءه، وأدام بالتمسُّك بالتقوى ولزوم الطريقة المثلى نَعْمائه، ومن بإرشاده هداه، وجعل له من وافر عقله وحزمه واعظًا ومن علوِّ همته وسؤددِه زاجرًا ورقيبًا، ومن استكانته لربِّه تعالى والخنوع لطاعته سامعًا ومطيعًا حتى يلحقَه اعتقاد فعل الخير وإيثاره، بأهل النجاة والسلامة، ويبلغه بما يتيح له ذلك، ويوفقه لأقصى منازل أهل الزلفة والكرامة … ولا آلو جهدًا فيما يحيل إليه سيدنا الأمير، حرس الله مهجته، وأعلى كعبته …» (التمهيد، ص٣٣-٣٤). «وأسمي الكتاب تلخيص المحصل، وأتحف به بعد أن يتم ويتحصل عالي مجلس المولى المعظَّم، الصاحب الأعظم، العالم الأعدل، المنصف الكامل، علاء الحق والدين، بهاء الإسلام والمسلمين، ملك الوزراء في العالمين، صاحب ديوان الممالك، دستور الشرق والغرب، عطاء ملك، ابن الصاحب السعيد، بهاء الدولة والدين محمد، أعز الله أنصاره، وضاعَف اقتداره؛ إذ هو في هذا العصر بحمد الله معتنٍ بالأمور الدينية لا غير، موفَّق في إحياء معالم كل خير، منفرد في اقتناء الكمالات الحقيقية، متخصص بإنشاء الخيرات الأخروية، فإن لاحظه بعين الرضا فذلك هو المبتغى، وإلى الله الرُّجعى، والعاقبة لمن اهتدى» (التلخيص، ص٣). «وحينما حُمت حول لُجينه، ورُمت تزيين شينه وسينه، ألحقتْه إلى خزانة مَن لا مثل له في العُلا، وله المثل الأعلى، الصاحب الأعظم، والدستور المعظم، بابه كعبة الحاجات، يُطوى إليه كل فج عميق، وتستقبله وجوه الآمال من كل بلد سحيق، باهت تيجان الوزراء بهامته، وحلل الإمارة بقامته، وليُّ الأيادي والنعم، ومربي أهل الفضل والحكم، آخذ أيدي العلماء والعلوم، ورافع ألوية الشرع المرسوم، حائز المآثر والمفاخر، وحاوي الرياسات الأوَّل والأواخر، أول مدارج طبعة النُقَّاد، آخر مقامات نوع الإنسان، وآخر معارج ذهنه الوقاد، وخارج عن طوق البشر بل عن حد الإمكان:
لو لم يدل الوهم حيث جلاله
ما خيل طيف خيال سامي حاله
ناظورة الديوان آصف عصره
وهو العزيز الفرد في إقباله
محمود أهل الفضل طرًّا كاسمه
وكفى به برهان حسن خصاله
بكماله في الأوج بدر كامل
بحر محيط زاخر بنواله
في كل علم عالم متبحر
في فن حلم عالم بحياله
سحبان عيٌّ في فصاحة لفظه
معن بليغ النمل في أفضاله
الصائب الأفكار في تدبيره
الثاقب الآراء في أقواله
للناس يبذل ليس يمسك لفظه
فكأنما ألفاظه من ماله
يتزاحم الأنوار في وجناته
فكأنه متبرقع بفعاله
وهو الذي عمَّ إنعامه وفشا، الوزير الكبير محمود باشا، أوضح الله عزة العزة بضيائه، ورفع علم العلم بإعلائه، ولا زال مورد أفضاله ماء مدين المآرب، يوجد عليه أمة من الناس يسقون منه المطالب، فإن رفعه إلى سماك القبول فقد سعد كوكب الأمل في برج شرف الحصول، والله ولي الإعانة، وكفى به وكيلًا» (حاشية التفتازاني، ص٢-٣).
٢١  «فأشار إليَّ مَن لا يسعني مخالفته، ولا يمكنني إلا موافقته أن أشرح له شرحًا … فبادرت إلى مقتضى إشارته … ورسمته باسم من هو متخلٍّ عن قبائح الرذائل، متحل بمحاسن الشمائل، منبع الجود والإحسان، المؤيد بتأييد الرحمن، وهو المقر الأشرف، العالي، المولوي، الأميري، الكبيري، الأجلي، المخدومي، المجاهدي، المرابطي، المتاغري، المؤيدي، المنصوري، العضدي، الذخري، الأتابكي، الأسفهسلاري، السيفي، قوصون، الساقي، الملكي، الناصري، شيد الله عضده بمن جاهد في الله، واجتهد فأقام العدل والإحسان، ونصر أهل الدين والإيمان، مولانا السلطان الأعظم، مالك رقاب ملوك العجم، السيد، العادل، المجاهد، المرابط، المتأخر، المظفر على أعدائه، المنصور من السماء، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، إمام المتقين، جامع كلم المؤمنين، أبي المعالي محمد ابن مولانا السلطان الأعظم، الملك المنصور، سيف الدين أبو الفتح قلاوون، مدَّ الله سلطانه على الأمة ظلًّا، وأوسعهم من نصله وفضله صونًا وبذلًا، ومهد لمقامه الشريف بين منازل الكواكب محلًّا، بالسعود محلى، وقسم البأس والبذل لأعدائه وأوليائه من الليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، شكرًا لبعض أياديه وإكرامه، وشيء من إحسانه وإنعامه، والمرجو من محاسن شيمه أن يتلقى بالقبول بفضله وكرمه» (المطالع، ص٢-٣). «وكنت برهة من الزمان أجيل رأيي، وأردد قداحي، وأؤامر نفسي، وأشاور ذوي النهى من أصدقائي مع تعدُّد خاطبيها، وكثرة الراغبين فيها في كفو أزفها إليه، يعرف قدرها، ويغلي مهرها، موفق له مواقف، يعز الدين فيها بالسيف والسنان، وهو متطلِّع إلى مواقف ينصره فيها بالمحجة والبرهان، فإن السيف الغاضب إذا لم تمض الحجة حده، كما قيل، مخراق لاعب حتى وقع الاختيار على من لا يوازن ولا يوازى، وهو غني عن أن يباهي، وأجل من أن يباهى، وهو أعظم من ملك البلاد، وساس العباد شأنًا، وأعلاهم منزلًا ومكانًا، وأنداهم راحةً وبنانًا، وأشجعهم جأشًا وجنانًا، وأقواهم دينًا وإيمانًا، وأروعهم سيفًا وسنانًا، وأبسطهم ملكًا وسلطانًا، وأشملهم عدلًا وإحسانًا، وأعزهم أنصارًا وأعوانًا، وأجمعهم للفضائل النفسية، وأولاهم بالرياسة الأنسية، من شيَّد قواعد الدين بعد أن كادت تنهدم، واستبقى حشاشة الكرم حين أرادت أن تنعدم، ورفع رايات المعالي وإن ناهزت الانتكاس، وجود مكارم الشريعة وقد آذنت بالاندراس، محرز ممالك الأكاسرة بالإرث والاستحقاق، جمال الدنيا والدين أبو إسحاق لا زالت الأفلاك متابعةً لهواه، والأقدار متحرية لرضاه! وإلى الله أبتهل بأطلق لسان، وأرق جنان أن يديم أيام دولته، ويمتعه بما خوله دهرًا طويلًا، ويوفقه لأن يكتسب به الأبقين ذكرًا جميلًا، وأجرًا جزيلًا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير» (المواقف، ص٥-٦).
٢٢  «ولما تيسر لي إتمامه، وختم بالخير اختتامه، حبَّرته بالدعاء لمن أيَّده الله بالسلطنة العظمى، والخلافة الكبرى، وزاده بَسْطة في الفضل والندى، وشيَّد ملكه بجنود لا قِبَل لها من العدى، وأمده بمعقِّبات من السموات العُلا، يحفظونه من بين يديه ومن خلفه بأمر ربه الأعلى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ليحق به الحق، ويقطع دابر الكافرين، ويُبطل به الباطل، ويشفي غيظ صدور قوم مؤمنين، ويجعل له لسان صدق في الآخرين، ويرفع مكانه يوم الدين، في أعلى عليين، وما هو إلا حضرة المولى، السلطان الأعظم، والخاقان الأعلم الأكرم، مالك رقاب الأمم، من طوائف العرب والعجم، المختص من لدن عليم حكيم، بفضل جسيم، وخلق عظيم، ولطف عميم، شمل الورى ألطافُه، وعمهم أعطافُه، وصافهم أكنافه، من كل ما لا يرتضي، مكارمه لا تُحتصى، ومآثره لا تُستقصى.
مُولٍ عطاياه سمَت فوق المدى
وتباعدَت من رتبة الأفلاك
الدرُّ والدرِّيُّ خافا وجوده
فتحصَّنا في البحر والأفلاك
من التجأ إلى جنابه يجد له مكانًا عليًّا، ومن أعرض عن بابه لم يجد له نصيرًا ولا وليًّا، إذا همَّ بمَنْقبة أمضى، وإذا منَّ له بمكرُمة أسرع إليها ومضى.
عزماته مثل السيوف صوارمًا
لو لم يكن للصارمات فلول
ناشر العدل والإحسان على الأنام، وباسط الأمن والأمان في الأيام، وهو الذي رفع رايات العلم والكمال بعد انتكاسها، وعمر رباع الفضل والأفضال بعد اندراسها، فعادت رياض العلوم إلى رُوائها، مخضرة الأطراف، وأمنت حدائقها إلى بهائها مزهرة الجوانب والأكناف، ملجأ سلاطين العالم بالاستحقاق، ومفخر سلاطين بني آدم في الآفاق، السلطان المؤيد المنصور، غياث الحق والدولة والدين بير محمد إسكندر، خلد الله ملكه وسلطانه، وأفاض على العالمين بره وإحسانه.
وهذا دعاء لا يُرَد لأنه
صلاحٌ لأصناف البرية شامل
وها أنا أفيض بالمقصود متوكِّلًا على الصمد المعبود» (شرح المواقف، ص٣).
٢٣  «أمَّا بعد، فقد أشار إليَّ مَن إشارته غُنم وطاعته حتْم أن أجمع له مشكلات الأصول، وأحلَّ له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنٍّ بي أني وقفتُ على نهايات النظر، وفزت بغايات مطارح الفكر، ولعله استسمن ذا وَرَم، ونفخ في غير ضَرَم» (النهاية، ص٣).
٢٤  يقول القرآن الكريم: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (١٣: ٣٣)، قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (٧: ١٨٨)، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (٢٣: ٧١)، وهو معروف في عقائد الأشعرية التي يُنتسَب إليها مؤلِّفو العقائد.
٢٥  هذا لا يعني أي قدح في عقائد الشيعة، بل على العكس يعني سريان عقائد الشيعة في المجتمع المضطهَد مثل مجتمعاتنا أكثر من سريان عقائد السنة التي لا تستفيد منها إلا السلطة القائمة، فهذا حكم واقع وليس حكم قيمة.
٢٦  «فإن أمر العلم بمغربنا قبل هذا متضائل الحجة، متضايق المحجة؛ حيث معالمه موسومة بالاندراس، ورجوع الحشاشة إليه من روحه بادية الإياس، لتضاعف أهوال على معاشرة تشيب لها النواصي، فشغل كلٌّ عن نفسه بكثرة ما يُقاسي، ولترادف فاقات كاسرة لعزماتهم أشد من كسر الهمام العواصي؛ فهي بحيث تذوب لها الجنادل الصلب القواسي، حتى صار من هو منهم أهل لاقتناص أزاهره، وجدير بنظم فرائد جواهره، منبوذًا بالعرا، ملزوم أفنية الورى، منقطع المدد، وفي تلك المدد لا يلوي على أحد، هام حزب أهل العلم في ظلمات الافتقار، وطال عليهم ليل الإلغاء والاحتقار إلى أن تداركتْهم نعمة من ربهم بطلوع طالع السعادة لحزبهم، وذلك بظهور الدولة الشريفة المولوية الهاشمية الإسماعيلية، فإذا بدور عزمهم طالعة مسفرة، وإذا وجوه أفراحهم ضاحكة مستبشرة، فذهبوا حينئذٍ في العلوم كل مذهب، وتسنموا في المدارك أعلى ما يتطلب، فعمت مجالس التدريس مساجدهم، وغشيت رحمة التعاطي للفهوم معاهدهم، وصارت حجج العلم لديهم تتخايل اتضاحًا، وشبهات الجهل في جانبهم تتضاءل افتضاحًا، ولم يزالوا في الارتقاء في تلك المدارج، والتنافس فيها طلبًا لسلوك أعدل المناهج، إلى أن بلغوا أعلى مراتب الإنشاء والتأليف، فصاروا بعد التعرف والتعلم رءوس التعاليم والتعاريف، ثم زادهم من لا يخيب لآمل أمله، ولا يبطل لعامل مؤمن عمله، نعمة منه بأن جعل خليفته فيهم هو المنصور بالله مولانا إسماعيل رأس أملاك العصر، وهامة القماعيل، وجعله ملاحظًا لهم بعين الإجلال والتوقير، رءوفًا بهم رأفة الوالد بولده الصغير، خافضًا لهم جناح رحمته، حافظًا لهم من كل إهانة بسطوته، مادًّا عليهم سرادقات عزته، يزيد لمحسنهم في الإحسان، ويتجاوز عن مسيئهم بالعفو والامتنان، قد كفاهم مهمات دنياهم. وأنعش لنيل المعالي قواهم. آمنهم من الخوف بحسن ما أظهره، وفتح عليهم منافع الدين والدنيا بصفاء ما أضمره، خلد الله تعالى ملكه، وأدام حسن سيرته في ما ملكه. ومن قال آمين، أمنه الله في العاجل والآجل، فإن هذا دعاء للبرية شامل، ثم إن من بركة هذه الدولة السعيدة، ومن لطائف ميامنها العديدة، أن فتح لي في إنشاء عدة من المؤلفات، في فنون صعبة وعلوم مختلفات، وكان هذا الشرح من جملتها، ومما يجب الثناء على المولى تبارك وتعالى المعين على إنشائه، فهو الهادي للعبد إلى مراشده الدينية والدنيوية؛ ليشتغل بها بصدق نيته واعتنائه» (أشرف المقاصد، ص٢-٣).
٢٧  «ولما منَّ الله تعالى على أهل هذا العصر بخليفة رفعت لجلالته ألوية الشرف والفخر، ونشرت لحضرته رايات العز والنصر، وسار في إصلاح الرعية سيرًا عجيبًا، وسلك في نجاح البرايا سلوكًا غريبًا، وقام على أقدام الإقدام، ونشر منشور فضله على عموم الأنام، وصرف أوقاته لنفع الخاص والعام، وبسط بساط المراحم لكافة تبعته، وأفاض فيوض المكارم على جميع صنوف رعيته، ألَا وهو ثاني القمرين، ومحيي سنة سيد الكونين، ناصر الشريعة الغراء، ورافع لواء المحبة البيضاء، سلطان سلاطين العرب والعجم، ومعيد ما اندرس من آثار سالف الأمم، الخليفة الأعظم، والخاقان الأفخم، السلطان ابن السلطان، الغازي عبد الحميد خان ابن السلطان عبد المجيد خان، نصره الله تعالى وأدامه، ورفع على ذروة الخافقين بالفتح المبين أعلامه، وجه عنايته حفظه الله تعالى إلى أحوال العلوم والمعارف، وألفت الطرف إلى شئون الفضائل والعوارف، فرآها بلسان الحال تشكو لجلالته، وتطالب إحياءها بلمحة من أنظار دولته، فرثى لحالها، وأصغى لمقالها، وسمع دعواها، ولبى شكواها، فشيَّد لها المكاتب والمدارس، وأحضر لها من الكتب والرسائل أنفس النفائس، وساق إليها المعلمين من أقطار الأرض، وأمر بإحيائها دارسها، وإطاعة أمره فرض وأي فرض، فقرئ فيها من العلوم والفنون ما يسرُّ القلب المحزون، ولم تزل المعارف تنتشر في البلاد، وتتضاعَف ثمراتها وتزداد حتى استنقذت شباب الرعية من ظلمات الجهل، ونوَّرت أفكارهم بأنوار العرفان والفضل، وقد علَت بذلك همتهم، وازدادت بحسن معارفهم قيمتهم، إلا أن ما أحدثته الفلسفة الحديثة التي نُقلت إلينا على متون المطبوعات من نوائل الشبهات، قد يُخشى منها زيغ عقائد شبان ضعفاء الأمة، ووقوعهم في الضلالات، فكان المطابق لرضائه العالي، والموافق لرأي جلالته السامي، تأليف كتاب مختصر يشتمل على تقرير العقائد الإسلامية ببراهينها العقلية، ويتكفَّل بدفع تلك الشبهة التي حدثت من الفلسفة الجديدة، وسواها من الأغاليط المضرة بالعقيدة مع بيان ما يقضي بجلب قلوب شباب المسلمين لمحبة الدين المبين، والتعشُّق لحضرة سيدنا محمد سيد المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، عسى أن تعم قراءته في جميع المكاتب السلطانية والمدارس الشاهانية، محافظةً على عقائد تلامذتها من أهل الملة الإسلامية والشريعة المحمدية، فوفقت لهذه الخدمة الشريفة التي ينتج عنها إن شاء الله تعالى بأنظار خليفة رسول الله الخير الأعظم لعموم الأمة الإسلامية، وتكون حسنة من حسنات شوكته حفظه الله، وغرة من غرر عصره الحميدي السعيدي، المؤيد بتوفيق الله تعالى، فجاء كتابًا يسرُّ قلوب المؤمنين ويقر أعين الموحدين، مشتملًا على مقدمة وثلاثة أبواب، كل باب منها يشتمل على فصول تحتوي على ما تمَسُّ الحاجة إليه من مهمات الأصول، وعلى خاتمةٍ تشتمل على بيان وجوب الخلافة في الدين المحمدي المبين، وما لها من حقوق الإطاعة على عموم المسلمين، وهو حقيق بأن يُسَمَّى «الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية»، فنتوسَّل إلى الله تعالى بروحانية حبيبه الأعظم، صلى الله تعالى عليه وسلم، أن يؤيِّد عرش الخلافة العظمى بطول عمر وحياة مولانا الخليفة الأعظم، ويحفظ ذاته الكريمة، ويؤيده بالنصر المكين، والفتح المبين، اللهم آمين آمين» (الحصون، ص٣-٤).
٢٨  يقول المفتقر إلى رحمة الكريم الثواب، عبد العليم ابن الشيخ محمد أبي الحجاب: هذا شرح لطيف على متن السنوسية، راعيت فيه حال طلبة السنة الثانية النظامية التي أدرس الآن بها مع جمع من حضرات العلماء الأكابر تحت رئاسة صاحب الفضيلة الشيخ محمد شاكر وكيل الجامع الأزهر، وشيخ القسم الأولي الأنور … (الخلاصة، ص٢).
٢٩  «أمَّا بعد، فهذا مختصر في أصول الدين، أدرجت فيه الدلائل الجدلية، والقواعد الأصولية، وأهديت بها إلى الحضرة المشرفة، اللهم أوصل بركات معرفتك وتوحيدك إلى دولة السلطان الأكبر، واجعله في الدارين متوجهًا مستوجبًا للسعادات والكرامات بفضلك يا أرحم الراحمين» (المسائل، ص٣٣٢).
٣٠  إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٢١: ٩٢)، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٢٣: ٥٢).
٣١  المقدمات التي تبدأ باسم الله الرحمن الرحيم مثل: الفقه الأكبر، ص١٨٤؛ التنبيه، ص١؛ أصول الدين، ص١؛ نهاية الإقدام، ص٣؛ المختصر، ص١٦٨؛ عقيدة العوام، ص٣–٥؛ رسالة التوحيد، ص٢؛ الحصون، ص٢؛ التحقيق، ص١؛ تجريد التوحيد، ص٨١؛ تطهير الاعتقاد، ص١٢٨؛ عقيدة الفرقة الناجية، ص١٦٢؛ العقيدة التوحيدية، ص٢؛ جامع زبد، ص٢؛ قلائد الخرائد، ص٣٧؛ كفاية العوام، ص٢.
٣٢  وذلك ابتداءً من القرن الخامس كما يبدو في «الإرشاد» للجويني.
٣٣  يُشير الجويني إلى ضرورة البحث عن «القواطع الساطعة، والبراهين الصادعة لا تنهض لدَرَكها همم أهل هذا الزمان، صادفنا المعتقدات عريَّة من قواطع البرهان، رأينا أن نسلك مسلكًا يشتمل على الأدلة القطعية والقضايا العقلية متعلِّيًّا عن رتب المعتقدات، منحطًّا عن جملة المصنفات» (الإرشاد، ص١). «وكرَّمَ بني آدم بالعقل الغريزي، والعلم الضروري، وأهَّلهم للنظر والاستدلال، والارتقاء في مدارج الكمال، ثم أمرهم بالتفكُّر في مخلوقاته، والتدبُّر لمصنوعاته ليؤديهم إلى العلم …» (المواقف، ص٢). «وإنما يتميز بما أُعطي من القوة المنطقية، وما يتبعها من النقل والعلوم الضرورية، وأهليته للنظر وللاستدلال، وعلمه بما أمكن واستحال، فإذا كماله بتعقل المعقولات، واكتساب المجهولات، والعلوم متشعبة متكثِّرة، والإحاطة بجملتها متعسرة أو متعذرة …» (المواقف، ص٣-٤). «ومن غير نظر إلَّا إلى صحة الدليل وإن جاء في التعبير على خلاف ما عهد من هيئة التأليف» (رسالة التوحيد، ص٢). «تقرير البراهين، والدليل بحسب المدلول» (كفاية ص١٠).
٣٤  الأوَّل تصوُّر المعتزلة والفلاسفة والثاني تصور الأشاعرة وأهل الظاهر وجميع الفرق المجسمة.
٣٥  «فيما يفتقر أهل التكليف إلى معرفته في أصول العلم وفروعه» (الاقتصاد، ص٤). كما يشير البغدادي لأهمية العقل والنظر والفطرة «والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخًا في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حال الاختيار ومن دعاء الأبرار» (نهاية، ص٤). ومع ذلك فقد أشار بعض القدماء إلى الطابع العملي لعلم التوحيد، فليس المطلوب هو المعلومات بل العمليات (غاية المرام، ص٣)، ولكن كان العمل عندهم بمعنى الالتزام بالحق، والسلامة من البدع، والانتفاع بالعلم «أعوذ بالله من علم لا ينفع» (تجريد التوحيد، ص٨١؛ عقيدة الفرقة الناجية، ص١٦٢). «والله أسأل أن ينفع به كل من تلقَّاه بقلب سليم» (شرح الخريدة، ص٣). كما كان العمل عندهم هو الحصول على السعادة الأبدية وليس السعادة الدنيوية (غاية المرام، ص٤).
٣٦  «الحمد لله الذي زلزل بما أظهر من صنعته أقدام الجاحدين واستزلَّ بما أبان من حكمته ثبت المبطلين، وأقوى قواعد الإلحاد بما أبدى من الآيات والبراهين» (غاية، ص٣). «منبِّهًا على مواضع مواقع زلل المحققين، رافعًا بأستار عورات المبطلين، كاشفًا لظلمات تهويلات الملحدين كالمعتزلة وغيرهم من طوائفنا الإلهيين» (غاية، ص٥) «أمَّا بعد، فإنك سألتني أن أصنف لك كتابًا مختصرًا أبين فيه جملًا توضح الحق، وتدفع الباطل، فرأيت إسعافك بذلك، رزقك الله الخيرات، وأعانك على الخير والمطلوبات» (اللمع، ص١٧) «طلب الحق ونُصرته، وتنكب الباطل وتجنبه، واعتماد القربة باعتقاد المفروض في أحكام الدين» (الإنصاف، ص١٣). وأيضًا نفس المعنى في: تجريد التوحيد، ص٨١؛ عقيدة الفرقة الناجية، ص١٦٢.
٣٧  «راميًا إلى الخلاف من مكان بعيد حتى ربما لا يدركه إلا الرجل الرشيد … وبعد عن الخلاف بين المذاهب بعد مُمْليه عن أعاصير المشاغب» (رسالة التوحيد، ص٢-٣). وفي ذلك يقول الإيجي: «فلذلك افترق أهل العلم زمرًا، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، بين منقول ومعقول، وفروع وأصول، وتفاوت حالهم، وتفاضَل رجالهم إلى أن قال ابن عباس في درجاتهم: إنها خمسمائة درجة ما بين الدرجتين مسير خمسمائة عام. وقال بعض أكابر الأئمة وأحبار الأمة في معنى الخبر المشهور والحديث المشهور: اختلاف أمتي رحمة، يعني اختلاف هِمَمهم في العلوم، فهمة واحد في الفقه وهمَّة آخر في الكلام، كما اختلف همم أصحاب الحرف ليقوم كل واحد بحِرفة فيتم النظام» (المواقف، ص٣-٤).
٣٨  مثلًا: «الاعتقاد على مذهب أهل السلف» للبيهقي (ص٣). أو: «لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة» للجويني، أو: «عقيدة أهل الفرقة الناجية»، «أهل السنة والجماعة»، لمحمد بن عبد الوهاب، أو: «عقيدة السلف أصحاب الحديث» للصابوني (ص٢٧–٢٩). أو: «التحف في مذهب السلف» للشوكاني (ص٩). وكثيرًا ما تكثر الإشارة إلى «أتباع السلف الصالح من المؤمنين» (الإنصاف، ص١٣). «هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين» (الطحاوية، ص٣). «وإن جاء في التعبير على خلاف ما عهد من هيئة التأليف … قد سلك في العقائد مسلك السلف ولم يصب في سيره آراء الخلف» (رسالة التوحيد، ص٢-٣). وهذه أول مرة يتم فيها الجمع بين السلف والخلف، والاعتماد على الآية القرآنية: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ (١٩: ٥٩) لا يعني أي سقوط في تصور التاريخ بل إقرار واقع تاريخي معاصر وإعطاء دفعة من التاريخ، فالبدائية Primitivism وحركات الإحياء Revivalism كلها حركات إصلاحية تقوم بدافع إرساء شروط النهضة، أمَّا عبارة «هم رجال ونحن رجال …» فهو قول مأثور عن الشيخ أمين الخولي في تجديده لمناهج النقد في الأدب العربي، أمَّا لفظا الاتِّباع والإبداع فهما من أدونيس في «الثابت والمتحول» في «أصول الإتباع والإبداع عند العرب».
٣٩  مثل مسئولية الشاطبي في «الموافقات» بتطوير فكرة المقاصد، ومسئولية الإمام محمد عبده في تطويره لعلم العقائد في «رسالة التوحيد».
٤٠  «فهذا «تطهير الاعتقاد من أدران الاتحاد» وجب عليَّ تأليفه، وتعين عليَّ ترصيفه، لما رأيته وعلمته من عموم اتخاذ العباد للأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد من اليمن والشام ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدَّعي العلم بالمغيبات والمكاشفات، وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجدًا، ولا يُرى لله راكعًا ولا ساجدًا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب، فوجب عليَّ أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره. فاعلم أن ها هنا أصولًا، هي من قواعد الدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين» (تطهير الاعتقاد، ص١٢٨-١٢٩). «هذه فوائد غزيرة … لهداية أكثر المؤمنين والإخوان، عسى الله أن ينفع بها مدى الزمان أقصى حد الهداية» (قلائد الخرائد، ص٣٧؛ وأيضًا: الحصون الحميدية، ص٢-٣).
٤١  انظر دراساتنا السابقة: «نشأة الاتجاهات المحافظة»، «التراث والتغير الاجتماعي»، «اليسار الإسلامي ومستقبل مصر» في «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني»؛ وأيضًا مجلة «اليسار الإسلامي»، العدد الأوَّل، يناير ١٩٨١م؛ وأيضًا: Origines of modern Concervatism and Islamic Fondamentalism, Amsterdam, 1979; Islamic Alternative in Egypt, Boston, 1981; Des Idéologies modernistes à L’Islam Revolutionaire, Paris, 1983.
٤٢  «وأشرف العلوم إنما هو الملقَّب بعلم الكلام … العلم به أصل الشرائع والديانات، ومرجع النواميس الدينيات، ومستند صلاح نظام المخلوقات» (غاية، ص٤). «وأن أرفع العلوم وأعلاها، وأنفعها وأجداها، وأحراها بعقد الهمة، وإلقاء الشراشر عليها وآداب النفس فيها، وصرف الزمان إليها، علم الكلام، المتكفل بإثبات الصانع، وتوحيده وتنزيهه عن مشابهة الأجسام، واتصافه بصفات الجلال والإكرام، وإثبات النبوة التي هي أساس الإسلام، وعليه مبنى الشرائع والأحكام، وبه يترقَّى في الإيمان باليوم الآخر من درجة التقليد إلى درجة الإيقان، وذلك هو السبب للهدى والنجاح، والفوز والفلاح، وأنه في زماننا هذا قد اتخذ ظهريًّا وصار طلبه عند الأكثرين شيئًا فريًّا، لم يبق منه بين الناس إلا قليل، ومطمح نظر من يشتغل به على الندرة قال وقيل، فوجب علينا أن نرغب طلبته في زماننا طلب التدقيق، ونسلك بهم في ذلك العلم مسالك التحقيق» (المواقف، ص٤). انظر أيضًا: الباب الأوَّل، الفصل الثاني، تعريف العلم – مرتبته.
٤٣  يذكر صاحب «نور الظلام» شارح عقيدة العوام للمرزوقي أن سبب التأليف هو أن الناظم رأى النبي في المنام سنة ١٢٥٨ﻫ آخر ليلة الجمعة من أول جمعة من شهر رجب، سادس يوم حسابًا من شهور السنة من النبي (نور الظلام، ص٢-٣)، انظر أيضًا بعض هذه الأسباب في (لمع الأدلة، ص٧٥؛ غاية المرام، ص٥؛ البداية، ص٣٩؛ التحف، ص٩؛ عقيدة الصابوني، ص٢٨؛ كفاية العلوم، ص٩)؛ انظر لنا أيضًا: «الحركة الإسلامية المعاصرة» دراسة في التحقيقات (مقالات الوطن، ٢٠ نوفمبر–١٢ ديسمبر ١٩٨٢م)؛ «ضرورة الحوار»، «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني».
٤٤  أسماء العلم والتبيين، مثل: «الإبانة»، «الفقه الأكبر»، «معالم أصول الدين»، وأسماء الجدل والإرشاد مثل: «التنبيه والرد»، «الإرشاد»، «الانتصار»، «البداية من الكفاية في الهداية»، «إرشاد المريد»، «البرهان»، «وسيلة العبيد»، ومعها تأتي الأسماء الإصلاحية السلفية، مثل: «تطهير الاعتقاد من أدران الاتحاد»، «مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد»، أمَّا الأسماء التي تدلُّ على القدرة الشخصية الفائقة والغرور العلمي، فهي مثل: «اللمع»، «لمع الأدلة»، «نهاية الإقدام»، «البرهان»، «طوالع الأنوار»، «المحصل»، «الدر النضيد»، «المحيط»، «بحر الكلام»، «المغني»، «التحقيق التام»، «غاية المرام»، «الشامل»، «جامع زبد»، «الحصون»، «كفاية العوام»، «جوهرة التوحيد»، «الخريدة البهية»، «قلائد الفرائد»، «جواهر العقائد»، «التحف» … إلخ، وعكسها الأسماء التي تدل على التواضع مثل: «التمهيد»، «الاقتصاد»، «الفصل»، أمَّا الأسماء التي تدل على العقائد الشخصية، فمثل: «الطحاوية»، «النسفية»، «العضدية»، «النظامية»، أو «عقيدة السلف»، «عقيدة الفرقة الناجية»، «العقيدة التوحيدية»، «عقيدة العوام»، أمَّا الأسماء المحايدة فمثل: «أصول الدين»، «الإنصاف»، «أساس التقديس»، «معالم أصول الدين»، «مسائل أبي الليث»، «المسائل الخمسون»، «كتاب التوحيد»، «جوهرة التوحيد»، «رسالة التوحيد»، أمَّا الأسماء التي لا تدل على مسمياتها فمثل: «المقاصد»، «المواقف». وكان العنوان قبل «من العقيدة إلى الثورة» هو «علم الإنسان» (التراث والتجديد، ص٢٠٥) Anthropologie في مقابل Théologie (انظر بحثنا Théologie or Anthropologie? La Renaissance du Monde Arabe, Duclos Bruxelles, 1973). ولكن اتضحت لنا عيوب هذا العنوان ونقائصه فيما بعد، فهو عنوان غربي يحيل إلى فيورباخ وكتابه الشهير «جوهر المسيحية»، كما أن علم أصول الدين أو علم الكلام عندنا لا يقابل تمامًا «علم اللاهوت» في الحضارة الغربية، كما أن تعبير «علم الإنسان» قد يُحيل إلى «علم الإنسان» كأحد العلوم الاجتماعية المعاصرة في الغرب، والتي انتقلت إلى فكرنا المعاصر بكافة فروعه. هذا بالإضافة إلى أن «الإنسان» كان فقط أول محاور العلم، ثم تم اكتشاف «التاريخ» كمحور ثانٍ له كبديل للمحورين التقليديين القديمين «ذات الله»، «ذات الرسول» أو «الإلهيات» و«النبوات»، كما أن الإنسان لا يوحي بالضرورة بالثورة، ولكنه يوحي فقط بحقوق الإنسان وبالنزعة الإنسانية التي ارتبطت بالقيم الفردية وبالنظم الليبرالية.
٤٥  يستأنف «من العقيدة إلى الثورة» العمل العظيم الذي بدأه الإمام الشهيد سيد قطب في المرحلة الثالثة من حياته بعد مرحلة النقد الأدبي، ومرحلة التصوير الفني في القرآن، وهي مرحلة «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «معركة الإسلام والرأسمالية»، «السلام العالمي والإسلام»، ثم محاولة تأسيس هذه «الثورة» على أسس نظرية في «خصائص التصوُّر الإسلامي»، «المستقبل لهذا الدين»، وفي نفس الوقت يطوِّر المرحلة الرابعة ويعيدها إلى العالم، مرحلة «معالم في الطريق» أي مرحلة «العقيدة» التي تمَّت وهو بريء في السجن قبل الشهادة والتي يغلب عليها نفسية السجين البريء، والتي تعبِّر عن المجتمع المضطهد، «من العقيدة إلى الثورة» يعبِّر عن ممارسة طبيعية للسياسة، ومشاركة طبيعية في حركات التغير الاجتماعي دون عداء لأحد ودون ثأر لا يمحوه إلا الدم، انظر دراستنا: «أثر الإمام الشهيد سيد قطب في الحركات الإسلامية المعاصرة»، «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني».
٤٦  هذه كلها ألقاب القدماء، تُعطى فرادى أو مجتمعة مثل الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة، البخاري، أبو سعيد الدارمي، الحسن البصري، يحيى بن الحسين الرازي، ابن حزم، الباقلاني، سعد الدين التفتازاني، الصابوني، أبو البركات سيدي أحمد البدوي السنوسي، الأشعري، أو مشتقات الإمام، مثل: إمام أهل السنة «أحمد بن حنبل»، الإمام الحجة ناصر الحق فخر الدين «الرازي»، الإمام الأجل، رئيس أهل السنة والجماعة، سيف الحق والدين «النسفي»، الإمام الهمام، قدوة علماء الإسلام، نجم الملة والدين «النسفي»، الإمام العلَّامة، لسان المتكلمين، حجة المناظرين مع فريق المبتدعين، سيدنا ومولانا «أحمد بن محمد بن محمد بن يعقوب الدلالي المكناسي»، الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام «البيجوري»، الإمام شيخ الإسلام «محمد بن عبد الوهاب»، الإمام الحافظ الكبير «البيهقي»، إمام المتكلمين سيف الإسلام «الباقلاني»، الإمام الفقيه المحدث الثقة «الملطي الشافعي»، إمام المتكلمين، ناصر سيد المرسلين، والذاب عن الدين «الأشعري»، صاحب رسول الله ، الإمام الأعظم «أبو حنيفة النعمان»، الإمام الهمام، ناصر السنة، وقامع البدعة، شيخ عصره «ملا علي القاري الحنفي»، إمام الحرمين «الجويني»، الإمام الأستاذ «البغدادي»، الإمام الحبر، شيخ الإسلام «محمد بن عبد الوهاب»، الإمام العلامة «الهدهدي»، إمام المحققين، وقرة السالكين، شمس الشريعة، وبدر الحقيقة، العلَّامة شيخ الإسلام «الشرقاوي»، الإمام المحقِّق والفهَّامة المدقِّق الشيخ «محمد نووي»، الإمام الفاضل «محمد بن سعد»، أو العلَّامة والعالم ومركباتهما مثل العلامة «الطوسي، محمد نووي الشافعي، الخيالي، البيجوري، الأنصاري»، العلَّامة السلفي «أحمد محمد مرسي»، العلامة المحقق، الحَبْر الفهامة المدقِّق «التَّفْتازاني»، العلامة العصام «الإسفراييني»، العلامة المحقق «التفتازاني» العالم العلامة شيخ الإسلام «البيجوري»، العالم العلامة، والحَبْر الفهامة، ذي الفيض الداني الشيخ «إبراهيم اللقاني»، العلامة الكبير معز الدين السيد «القزويني»، العالم العلَّامة المُسَمَّى «ولد عدلان»، العلامة الشهير سليل العلماء النحارير، فريد عصره، ووحيد دهره الشيخ «أحمد جمال الدين القاسمي»، العلامة الشيخ «أحمد بن عيسى الأنصاري»، العلَّامة المحقِّق، الفهَّامة المدقِّق الشيخ «الدسوقي»، العالم العلَّامة، الحَبْر الفهامة الشيخ «محمد نووي»، العلامة الشمس «الإنبابي»، العلَّامة المحقِّق «السيالكوتي»، العلَّامة المدقِّق «محمد عبده»، أو الشيخ ومركباته مثل الشيخ «محمد الفضالي، حافظ بن أحمد»، الشيخ الإمام «عضد الدين الإيجي، الصابوني، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، أبي الليث»، الشيخ العالم اللوذعي «السيد أحمد المرزوقي المالكي»، شيخ الإسلام «محمد بن عبد الوهاب»، شيخ علماء الشافعية «الإيجي»، الشيخ الإمام العالم «الشهرستاني»، شيخنا العالم العلَّامة، الحبر الفهامة من هو للخصال الحميدة والي مولانا «الشيخ محمد الفضالي»، الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام «الهروي الشافعي»، شيخ الإسلام القاضي العلَّامة «الشوكاني»، الشيخ الإمام العلامة «اليمني الصنعاني»، الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام «محمد بن عبد الوهاب»، الشيخ الإمام علم الهدى «الماتريدي»، أو الأستاذ ومركباته مثل الأستاذ صاحب الفضيلة الشيخ «حسين أفندي الجسر»، الأستاذ العلامة، شيخ المحققين الشيخ «طاهر الجزائري»، الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده»، الأستاذ الفاضل الشيخ «أحمد زناتي»، أو القاضي ومركباته مثل القاضي «البيضاوي، عبد الجبار»، قاضي القضاة «الباقلاني»، القاضي الفقيه، الإمام العالم، الصدر الكبير، شيخ القضاة، بقية المشايخ، الزاهد، العابد، الورع «جمال الدين الأنصاري» أثابه الله الجنة، أو باقي الألقاب التي تجمع بين الوظائف العلمية، مثل المحدث، وألقاب المدح والتعظيم مثل سيف الدين … إلخ. المحقق الرباني مولانا الشيخ «الكردستاني»، أو سيف الدين «الآمدي»، عضد الله والدين «الإيجي»، حجة الإسلام «الغزالي، الطحاوي»، الحافظ الكبير «البيهقي»، قدوة علماء الإسلام نجم الملة والدين «النسفي»، الصاحب الجليل إمام العالمين في العلم والدين والفضل أدام الله علاه لأهله من حيث أحلَّه محل الولد وشاهد منه آثار الفضل وعلامات النجابة والتقدم، أفضل المتأخرين، وقدوة المحققين، فخر الملة والدين، مرجع أفاضل علماء الأكراد حتى زمانه الشيخ «الكردستاني»، صدر الإسلام، الأصولي العالم المتفنن «البغدادي»، خاتمة المحققين الأدباء، وخلاصة المدققين الألِبَّاء والبلغاء الذي عقم بعد نتاجه الزبد، وبخل بوجوده مثله وضن، الممتاز في فنون الكلام بطول الباع الجلي الشيخ «إسماعيل الكلنبوي»، وحيد زمانه، ونادر عصره وأوانه، عمدة المحققين مولانا الشيخ «محمد بخيت»، قاضي ثغر إسكندرية غفر الله له ونفع به آمين، القطب «الدردير»، أو الألقاب العادية الوظيفية مثل صاحب الفضيلة الشيخ فلان أو «محمد الحسيني الظواهري» من علماء الأزهر الشريف، ومدرس بكلية أصول الدين، الفاضل «إسماعيل الكلنبوي»، وإذا كانت بعض الألقاب تكشف الغرور الساذج فإن البعض الآخر يخفي الغرور المستتر مثل الفقير إلى رحمة ربه تعالى ومركباته، الفقير إلى رحمة ربه «إبراهيم البيجوري» الضعيف، ابن محمد غفر الله له اللطيف الكريم، الفقير الحقير الراجي من الله غفران الوزر «عبده حسين بن محمد الجسر الطرابلسي» عفا الله عنه، العبد الفقير إلى الله الغني «أحمد بن محمد بن يعقوب الدلالي نسبًا المكناسي دارًا» طهَّره الله بلا محنة من جميع العيوب، وأوجب له برحمته وكرمه مغفرة تمحو جميع الذنوب، الفقير لغفران العزيز الجبار، لكثرةِ الذنوب والأوزار «محمد نووي الشافعي»، الفقير الورى إلى ربه القدير «ابن محمد البيجوري» ذو التقصير، راجي رحمة القدير «أحمد المشهور بالدردير»، الفقير إلى رحمة الكريم التوَّاب «عبد العليم ابن الشيخ محمد بن حجاب» الشافعي مذهبًا، الحدادي بلدًا ومولدًا، أحد علماء الأزهر الشريف، ومدرس بنظام القسم الأوَّل الأزهري، عفا الله عنه آمين، مرتكب الذنوب «محمد نووي»، فقير رحمة ربه الخبير البصير «إبراهيم الباجوري» ذو التقصير، الفقير إلى مولاه القدير «إبراهيم الباجوري»، العبد الضعيف بنفسه، القوي بالله، الغني عمن سواه، الفقير إلى لطفه الخفي «محمد بخيت»، وكلما تأخَّرت العقائد زادت مثل هذه الصفات التي تدل على الضعف والمسكنة ولو في الظاهر والتي قد تكشف عن جو ثقافي وحضاري عام؛ لأن الفقير لا يضع أمام نفسه كل هذه التحديات بالأسماء والمذاهب والألقاب، وهي من وضع الفرد واختياره وإن كانت ألقاب المديح من صنع التاريخ، أمَّا نحن فإن الحرف د. أمام الاسم إنما اختصار لدرجة علمية وليست لقبًا، فنحن في غنى عن الألقاب.
٤٧  اللمع، ص١٧؛ «واللهَ أسأل أن يعصمني من الأباطيل، ويهديني سواء السبيل، ويغفر لي خطيئتي يوم الدين» (الطوالع، ص٦). «وكانت عصمة الله له من الخطأ والزلل في الاعتقاد والعمل جنته وسميته» (القول، ص٢).
٤٨  التنبيه، ص١؛ التلخيص، ص٢؛ حاشية الإسفراييني، ص٣؛ شرح الأصول، ص٣٩.
٤٩  المحصل، ص٢؛ المعالم، ص٢؛ الاعتقاد، ص٣-٤؛ غاية المرام، ص٣؛ طوالع الأنوار، ص٦.
٥٠  «ويبدأ في أعلى عليين، مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين» (الطوالع، ص٦). «وسببًا للفوز لديه بجنات النعيم» (الإتحاف، ص٦). «والله أسأله أن ينفع به كل من تلقَّاه بقلب سليم» (شرح الخريدة، ص٣). «فإذا سلك هذا الطريق سلك الله به طريقًا إلى الجنة» (القول، ص٢).
والله أرجو في القبول نافعًا
بها مريدًا في الثواب طامعًا
الجوهرة، ص٩
والله أرجو في قبول العمل
والنفع منها ثم غفر الزلل
الخريدة، ص١٠
أرجو من الله حصول الأجر
وكونها عدة يوم الحشر
الوسيلة، ص٤
٥١  «فقد كنت في إبان الأمر، وعنفوان العمر؛ إذ العيش غض، والشباب بمائِه، وغصن الحداثة على نمائه، وبدور الآمال طالعة مُسفرة، ووجوه الأحوال ضاحكة مستبشرة، ورباع الفضل معمورة الأكناف والعرصات، ورياض العلم ممطورة الأكمام والزهرات، أسرح النظر في العلوم طلبًا لأزهارها وأنوارها، وأشرح الكتب من الفنون كشفًا لأستارها عن أسرارها، يرد علي حذاق الآفاق غوصًا على فرائد فوائدها، ويتردد إلي أكياس الناس رومًا لشوارد عوائدها، علمًا منهم بأنا بذلنا قوانا لكسب الدقائق، وقتلنا نُهانا في طِلاب الحقائق» (شرح المقاصد، ص٢). «وحين حررت بضعًا من الكتاب، ونبذًا من الفصول والأبواب، تسارَع إليه الطلاب، وتداولتْه أيدي أولي الألباب، وأحاط به طلبة كل طالب، وناط به رغبة كل راغب، وعشا ضوء ناره كل وارد، ووجه إليه الهمة كل رائد، وطفقوا يمتدحون ويقترحون، وزناد الازدياد يقتدحون، وأنا أصرف جهدي والمراد ينصرف، والمقصود يتقاعس عن الحصول وينحرف، والأيام تحول وتحجز، وتعد ولا تنجز، والدهر يشكي ويتكي، والعقل يضحك ويبكي، العجب من تقاصُر همم الرجال وفسادها، وتراجع سوق الفضائل وكسادها، وتضعضُع بنيان الحق وتداعي أركانه، وترعرع شأن الباطل وتمادي طغيانِه، وتطاوُل أيام كلها غضب وعتب، وعلى الألباب عون وألب، تجمع بين الجفون والسهاد، وتفرق بين العيون والرقاد، لا في القول إمكان وللتحصيل تأييد، ولا في قوس الرماة منزع ولسهم النضال تسديد، وهلمَّ جرًّا، إلى أن رماني زماني بما رماني، وبلاني من الحوادث ما بلاني، وحالَت الأحوال دون الأمان بل الأماني، وأصبح شاني أن يفيض غروب شاني، تناوبني الأوطان والأوطار، وترامت بي الأقطار والأسفار، أقاسي أحوالًا تشيب النواصي، وأهوالًا تذيب الرواسي، أشاهد من أسباب انقراض العلوم، وانتقاص مددها، ما تكاد له الأنفاس تنقطع، والجبال تتصدع، وقد ملكتها وحشة المضياع، وحيرة المرتاع، ووقفت على ثنية الوداع، لا طلول ولا يفاع، ولا رسوم ولا رباع، كلما نويت نشر ما طويت، وتصديت لإتمامه أو تمنيت، عرض من الموانع والقواطع، وحدث من النوائب والشوائب، ما يحول أيسرها بين المرء وقلبه، وتصدأ به مرآة فكره وعقله، ويزول بأدونها ريق خاطره وناظره، ويذهب رونق باطنه وظاهره، إلى أن تداركني نعمة من ربي، وتماسك بي عودة من فهمي ولبي، فأقبلت على إتمام الكتاب، وانتظام تلك الفصول والأبواب، فجاء بحمد الله كنزًا مدفونًا من جواهر الفوائد، وبحرًا مشحونًا بنفائس الفرائد، في لطائف طالما كانت مخزونة، وعن الإضاعة مصونة، مع تنقيح للكلام، وتوضيح للمرام، بتقريرات ترتاح لها نفوس المحصلين، وينزاح منها شبه المبطلين، وتضيء أنوراها في قلوب الطالبين، وتطلع نيرانها على أفئدة الحاسدين، لا يعقل بياناتها إلا العالمون، ولا يجحد بآياتها إلا القوم الظالمون، يهتزُّ لها علماء البلاد، في كل ناد، ولا يغض منها إلا كل هائم في واد، من يهدِ الله فهو المهتد، ومن يضلله فما له من هاد، وإذا قرع سمعك ما لم تسمع به من الأولين، فلا تُسرع وقف وقفة المتأمِّلين، لعلك تطلع بوميض برق إلهي، وتألق نور رباني، من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة على برهان له جلي أو بيان من آخرين واضح خفي، والله سبحانه ولي الإعانة والتوفيق، وبتحقيق آمال المؤمنين حقيق» (شرح المقاصد، ص٣-٤). «يا من وفقنا لتحقيق العقائد الإسلامية، وعصمنا من التقليد في الأصول والفروع الكلامية، صلِّ على سيدنا محمد المؤيَّد بقواطع الحجج والبرهان، المشيد بلوامع السيف والسنان، وعلى آله وأصحابه الأعيان، قومه المبشرين بالدخول والخلود في غُرف الجنان، وبعدُ، فيقول الفقير إلى عفو رب الغنى محمد بن أسعد الصديقي الدواني، ملَّكه الله نواصي الأماني: إن العقائد العضدية لم تدع قاعدةً من أصول العقائد الدينية إلا وأتَتْ عليها، ولم تترك من أمهاتِها ومهماتها مسألة إلا وقد صرحت بها أو أومأت إليها، ولم أطلع على شرح بها يكشف مقاصدها، ويبسط فوائدها، بل لم أرَ لها ما يعد في عداد الشروح؛ إذ كل ما وصل إليَّ من ذلك مقدوح ومجروح، فحداني ذلك إلى أن أشرحها شرحًا وافيًا بحل المعاقد، وتبيين المغالق، كافيًا في تحقيق المقاصد، والتقصي عن المضائق، ولم أسترسل مع شعب القيل والقال، على ما هو دأب أهل الجدال، القاصرين عن انتهاج طرق الاستدلال، بل اتبعت الحق الصريح وإن خالف المشهور، وأخذت بمقتضى الدليل وإن لم يساعده مقالات الجمهور» (شرح الدواني، ص٤–٩). «الحمد لله على ما هدانا إلى سبيل الصواب، وأرشدنا إلى الحق بالسنة والكتاب، والصلاة والسلام على نبينا الهادي لأولي الألباب، وعلى آله وصحبه خير الآل وخير الأصحاب وبعد … وإني كنت قد صرفت جل همتي في عنفوان الشباب في الفنون العقلية والنقلية لحسن المآب، وحررت ما يتعلق بفنَّي المنطق والآداب، وانتهى العمر إلى أواسط الشَّيب بلا ارتياب، فكرهت أن تكون الآلات المهيئة مجرَّدة عن الأثر، بحيث تكون خلاقًا بلا ثمر، ودار في خَلَدي أن أكتب بعض ما يتعلق بعلم الكلام، حسبما يساعده الطاقة في تحقيق المرام، فلما اتفق لي الشروع في تعليم شرح العقائد العضدية للمولى المحقِّق جلال الدين الدواني البارع في المباحث العقلية والكلامية، قصدت أن أجمع ما يتعلق به من كلام الأكابر، وما سنح في أثنائه للفكر الفاتر، تذكرة للأحباب وتكملة لأفكار الطلاب، والمرجو من الإخوان الأمجاد، أن ينظروا إليه بعين الوداد.
وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلة
ولكن عين السخط تُبدي المساويا
متوكلًا على هادي السبيل، وهو نعم الولي ونعم الوكيل» (شرح الكلنبوي، ص٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤