ثانيًا: تعريف العلم

لما كان علم الكلام «علمًا»، فإن السؤال يكون: وما هو العلم؟ وما تعريفه؟١ وبالرغم مما يبدو على التعريفات من مسائلَ نظريةٍ خالصة إلا أن أهميتها ترجع إلى أنها ضرورية لتعريف العلم قبل تأسيس علم الكلام. وهو ما حدث أيضًا في علم أصول الفقه وعلوم التصوف بتحديد كلمة «علم» دون علوم الحكمة التي جعلت المنطق مدخلًا لها وآلة للعلوم جميعًا. ولا يمكن الحديث عن تعريف «علم الكلام» دون معرفة أوَّلًا بتعريف العلم؛ أقسامه، وشروطه، وطرقه. البحث عن إمكانيات المعرفة الإنسانية إذن سابق على تأسيس هذه المعرفة ذاتها. وربما لا تسمح قدرات العلم الإنساني بإقامة «علم إلهي» يدعي أنه يصدر أحكامًا على الله في ذاته، وهو في الحقيقة يتحدث عن طريق القسمة والمثال أو عن طريق التشبيه والقياس؛ قياس الغائب على الشاهد. معرفة إمكانيات العلم إذن مطلبٌ أساسي لتأسيس العلم وقبل الحديث عن أي علم. وقد أسقطنا نحن في حياتنا المعاصرة هذا الجزء من علم الكلام وبدأنا بالذات والصفات والأفعال كما هو الحال في علم الكلام المتأخر دون حديث عن إمكانية العلم بمثل هذا الموضوع وشروطه.
وعندما يعرَّف العلم فإن الذي يعرَّف هو العلم الإنساني، وليس «العلم الإلهي» موضوع الذات والصفات والأفعال؛ لأننا لا نعلم علمًا آخر سوى العلم الإنساني، بل إن الوحي ذاته بعد نزوله وفهمه يصبح علمًا إنسانيًّا، سواء كان أصول دين أو أصول فقه، علوم حكمة أو علوم تصوف. والعلم الإنساني لا حدود له. وكل عصر يضيف إلى العلم علمًا؛ تقدم العلوم إذن غير محدود. لقد استطاع العقل الإنساني أن يدرك التنزيه وأن يتصوَّر اللانهائي ويتمثل اللامحدود. وإن تصور العلم الإنساني محدودًا والعلم «الإلهي» غير محدود لهو تصوُّر يقوم على احتقار الذات وتملُّق الغير، وتعذيب النفس والرضا بالغير. ليس العلم الإنساني محدودًا، ولن يزداد «الله» فرحًا بأن نجعل علمه لا محدودًا. تعبر هذه الثنائية عن تخلفٍ ثقافي واجتماعي؛ حيث تكون الجماعة أقرب إلى الجهل منها إلى العلم، وتجد تعويضًا عن جهلها بنسبة العلم إلى قوةٍ خارجية عنها تكون الوصية عليها والملهمة لها، سواء كانت مشخَّصة أو غير مشخَّصة، دينية أم سياسية، عاقلة أو أسطورية. هل العلم ضروري لا يحتاج إلى تعريف؟ فكل إنسان يعلم بوجوده، والعلم بالوجود شرط العلم وأساسه، كما أن العلم لا يعرف إلا بالعلم، وهو ما يستلزم الدور، وبالتالي وجبت البداية بعلمٍ ضروري ليس في حاجة إلى تعريف. العلم مساوِق لوجود الإنسان، ومطابق لفطرته، كما أن الجهل مضاد لطبائع الأمور. العالم موجود، والجاهل غير موجود، والأمة العالمة موجودة، والجاهلة لا وجود لها؛ لذلك قد يرفض البعض حد العلم باعتباره لا ضرورة له؛ فكيف يُحدُّ العلم وهو أمرٌ بديهي يعلمه كل إنسان وشعر به من نفسه. كما أنه يصعب تحديد العلم لأنه يتحدَّد بعلم، وهذا العلم بآخر إلى ما لا نهاية. لا بد إذن من علم بديهي لا يحتاج إلى حد، فيكون العلم حينئذٍ لا حدَّ له. ولا تمنع التفرقة بين تصور العلم وحصوله من الوقوع في الدور؛ لأن تصور العلم، وهي المقدمة، غير حصوله وهي النتيجة. وذلك لأن تصور العلم أيضًا يحتاج إلى تصورٍ آخر، وهذا إلى ثالث إلى ما لا نهاية.٢ والحقيقة أن العلم بناءٌ نظري، العلم الضروري أولى خطواته. والنظر والاستدلال يفيدان العلم، والرؤية المباشرة للواقع، كما أن الإحصاء الكمي للظاهر يفيد العلم؛ ومِنْ ثَمَّ فتعريف العلم ممكن، بل ضروري حتى يتأسس العلم؛ فالبداهة أحد جوانب العلم وليست العلم كله.
والعلم وإن عسر تعريفه إلا أن كل إنسان يشعر به، ويحصل عليه، ويجاهد في سبيله، ويفهَّمه ويقتنصه، ويرتقي الإنسان في مداركه. ولا يهم تعريف الشيء بقدر ما يهم الحصول عليه. قد تأتي صعوبة من أنه يشمل كل أفعال الشعور ابتداءً من النظر ومقدماته حتى العلم ونتائجه؛ وبالتالي يكون من الأفضل إذن تحديد العلم مجازًا أو تشبيهًا لصعوبة الحصول على حدٍّ حقيقي للعلم. أو على الأقل يكون العلم بديهيًّا لا مكتسبًا، ومثال ذلك علم الإنسان بوجود نفسه. والحقيقة أن العلم البديهي أحد مراحل العلم وليس كله. وجعلُ العلم كله بديهيًّا ضروريًّا رد للعلم كله إلى أحد مراحله مع إغفال الاكتساب والاستدلال وتحليل العقل، وعمل الشعور.٣

ومع ذلك يمكن تعريف العلم عن طريق القسمة ابتداءً من الاعتقاد غير الجازم الذي يجعل الإنسان متردِّدًا بين شيئين وهو موقف الشك، أو قادرًا على الترجيح بينهما؛ فيكون الراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. ويكون ذلك تعريفًا للعلم عن طريق السلب؛ أي بنفي مضادات العلم، وما ليس بعلم ابتداءً من الشك ثم الظن والوهم والجهل والتقليد. وقد أوفى القدماء الحديث في كلٍّ منها وكأنه موضوعٌ مستقل؛ نظرًا لأهميته وخطورته على العلم.

(١) الشك والظن والوهم

فالشك هو تردد بين معتقدَين دون ترجيح لأحدهما على الآخر. ويعتبره القدماء مذهب السوفسطائيين، وهو على ثلاثة أنواع: اللاأدرية، والعنادية، والعندية. وهي في حقيقة الأمر اتجاهات في المعرفة الإنسانية قبل أن تكون فرقًا كلامية أو مذاهبَ تاريخية. لا يهمنا رصد أسماء الفِرَق القديمة واتجاهاتها وآرائها من الناحية التاريخية الخالصة، بل يهمنا وجود هذا الاتجاه الفكري في كل عصر، وتعبيره عن موقفٍ معرفيٍّ خاص وكشفه عن بناءٍ فكري عام.

اللاأدرية هو الشك المبدئي، الشك في الشك إلى ما لا نهاية حتى تنتفي الحقائق ويستحيل العلم. وقد صاغ القدماء حجتَين لهدم هذا الموقف، الأولى جدلية مؤدَّاها أن نفي الحقائق هو نفسه حقيقة، والثانية تجريبية تعتمد على إثبات الحركة بالسير، وإثبات الألم بالضرب. ولا ينفع المناظرة أو الأدلة والبراهين لإثبات العلم مع الشُّكَّاك عامةً واللاأدرية خاصةً، لأن إمكانية العلم مستحيلة؛ إذ لا يحدث العلم إلا بالانتقال من معلوم إلى مجهول، والشك ينفي إمكان قيام أي معلوم. الدليل الوحيد هو تجارب الألم واللذة، حرق الأصابع للشكاك مثلًا من أجل إثبات المعارف الحسية لهم.٤ فالإنسان لا يشعر بحقيقة إلا في موقف، ولا يثور إلا عندما تُهدَّد حياته. التجربة أصدق من الجدل العقلي؛ يتطلَّب الجدل العقلي التسليم بإمكانية المعرفة ووجوب النظر، في حين أن الموقف اللاأدري لا يُسلِّم بأية حقائق لأنه موقفٌ إراديٌّ خالص؛ لذلك منع القدماء مكالمتهم لعدم وجود أي أساسٍ مشترك بينهم. الشك اللاأدري تقصير في النظر وإنكار لعمل العقل، ونفي لقدرة الإنسان على البحث والكشف، وتحليل الواقع ورؤية مكوِّناته. هناك حقائق يمكن معرفتها مثل وجود النفس الذي لا يمكن نفيه، وجود نفس الذي يشك؛ فالشك فعل من أفعال النفس؛ لذلك جعل علماء أصول الدين أول أركان نظرية العلم إثبات الحقائق والعلوم.٥ هناك حقائق تسكن إليها النفس ضرورة، لا مجال فيها للإيهام أو الخداع، مثل أني موجود الآن، جالس وأكتب، أُفكِّر فيما أكتب فيه، وأني مُحتلٌّ ومُتخلِّف، وأعيش في عصر يسوده النفاق. الشك مضاد لسكون النفس؛ ولما كانت النفس تطلب سكونها فإنه يستحيل الشك.٦ يمكن تفنيد الشك ليس فقط بالرجوع إلى بداهات الحس وأوليات العقل التي تحدث عنها القدماء، بل إلى بداهات الموقف الإنساني، حيث تبرز الوقائع التي يحيا بينها الإنسان؛ فمثلًا نحن نعيش في العالم، نتعامل مع الآخرين، نحن شعب أرضه محتلَّة، وبلده نامٍ، تعيش جماهيرنا في ضنك، تصارع من أجل لقمة العيش. هناك حقائق الحياة المرة التي نعيشها، وإنكارها هو إثبات لوجودها، وإبعاد الشعب عنها وتجاهل أجهزة الإعلام لها عمدًا إبعاد للجماهير عن المشاركة في صنع القرار والوعي بها اتقاءً لحركتها. نعاني من الفقر يوميًّا، ونقاسي من الاستغلال كل لحظة. البيروقراطية مأساتنا، والتسلط يجثم على صدورنا، والنفاق يلفُّ ويدور حولنا، والسخط يُعمينا، والاضطهاد موجَّه ضدنا، والعيون تقف لنا بالمرصاد. هذه هي الحقائق اليومية التي نعاني منها ليل نهار، والتي هي مثار حديث الناس في الطرقات علنًا أو في الدور همسًا، والتي تكمن وراء هموم المواطنين. أدرك ذلك بحياتي، وأعيشه بوجودي، أراه وألمسه، أسمعه وأشعر به، ولا أكاد أخطئ في أي منهما لأنها تتحول إلى ثورةٍ ساخطةٍ عارمة، وانتفاضةٍ شعبية لا ينكرها إلا متسلط يعمل لصالح طبقة تستغل الشعب وتثري على حسابه. وأنضم إلى حزبٍ سياسي يعمل على استرداد حقوق الفقراء من الأغنياء، ويعدُّ لتحرير الأرض وتوحيد المنطقة. الحس يدرك، والوجدان يشعر، والعقل يُحلِّل. ولا يشك في ذلك كله إلا ضالٌّ أو مُضلِّل، يريد أن يبقي الوضع القائم كما هو عليه، ويريد أن يقضي على مشاركة الجماهير، وأن يستمر في سلبها حقوقها والتنكُّر لها، يظهر غير ما يبطن؛ يظهر الشك، ويبطن اليقين، يدعو الناس إلى الريبة، وهو جازم بما يهدف إليه؛ فالشك زعزعة لمعتقدات أصحاب الحقوق، وتثبيت لمعتقدات سالبي الحقوق، الشك ضياع للنظر وبالتالي ضياع للأساس الواعي للسلوك، فلا يبقى إلا الهوى والمصلحة؛ حينئذٍ تركن النفس إلى الدنيا، ويترك الإنسان رسالته. العمل هو أكبر رد فعل على الشك، واسترداد الحقوق بالفعل أكبر إثبات للحقائق النظرية؛ لذلك كان الشهداء هم الدليل على إثبات وجود الحقائق، وكانت ثورات الشعوب أكبر دليل على إثبات وجود المبادئ. يمثل الشك إذن خطورة على الحياة الاجتماعية وتاريخ الشعوب، وذلك برفض المبادئ؛ أي رفض الالتزام والانتهاء إلى العدمية أو الفوضوية أو اللامبالاة أو السلبية المطلَقة. ومرحلتنا التاريخية التي نمر بها الآن لم تصل إلى هذا الحد، بل إن مأساتنا هي اللامبالاة التي تنشأ من عدم الإحساس بالرسالة، وعدم تحمل الأمانة، وليس من عدم تمثُّل مبدأ والعمل على تحقيقه.٧ ولا يعني إثبات الحقائق الوقوع في «الدجماطيقية»، وإثبات حقائقَ مستقلة عن الواقع، لا تتغيَّر بتغيُّره؛ فالحقائق هو هذا الواقع نفسه على مستوى الإدراك. إذا تخلَّف الإدراك عن الواقع تحول الفكر إلى صوريةٍ خالصة، وإذا سبق الفكر تطور الواقع تحوَّل إلى طفولة ومراهقة. ولكن تحويل الواقع إلى فكر ثم العود إلى الواقع للتأثير فيه هي حقيقةٌ ثابتة. لا إثبات إلا لحركة الواقع وصياغتها بالفكر. التاريخ حقيقة أولى، مساره وحركته وتطوره، مثل حقيقة وجود النفس.
والعنادية مذهب من يعترف بوجود الحقائق، وبالتالي يكون أقل شكًّا من مذهب اللاأدرية الذي يُنكِر وجود الحقائق أصلًا، وينفي إمكان معرفتها. وهو المذهب القائل بتكافؤ الأدلة واستحالة الوصول إلى اليقين حيث تتعادل المواقف كلها، وتتساوى الحجج، وتختلف الآراء وتتضارب الأقوال دون إمكانية ترجيح أحدهما على الآخر. كل الدلائل ينفي بعضها بعضًا. ليس هناك دليل إلا وله دليل مضاد، ولا توجد حجة إلا ولها حجةٌ مناقضة. ومِنْ ثَمَّ تساوت الآراء في الحق والباطل؛ فهي إمَّا كلها باطل وإمَّا كلها حق. ولما استحال أن تكون كلها حق، فالحق لا يُناقِض الحق؛ فهي إذن كلها باطل لاستحالة تغلُّب حجة على أخرى أو دليل على آخر؛ وبالتالي ليس هناك رأي أو مذهبٌ أصح من الرأي أو المذهب المعارض.٨
والحقيقة أن القول بتكافؤ الأدلة نفي لبداهات الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان، مثل وجود النفس ووجود العالم بصرف النظر عن إثبات حدوثه أو نفيه؛ فالأدلة لا تهدم بعضها البعض لأن بداهات الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان لا يختلف عليها اثنان، بل إنها مقاييس للخطأ والصواب. والقول بتكافؤ الأدلة إثبات لعلمٍ يقيني لا يتساوى مع نقيضه وهو هذا القول نفسه، وذلك يثبت وجود حقيقة يمكن معرفتها. وهي حجةٌ جدلية يُقدِّمها القدماء لتفنيد رأي الخصم. وأن افتراض خطأ كل رأي يعني أن القول بتكافؤ الأدلة باعتباره رأيًّا خطأ، وبالتالي ينهزم المذهب لعدم وجود دليل، وهي حجةٌ جدلية لتفنيد رأي الخصم. ولا يمكن أن تصدَّق الأحكام المتناقضة كلها على شيءٍ واحد كما لا يمكن أن تكون كلها صحيحة لأنها متناقضة أو باطلة. لكل شيء حكمٌ معيَّن هو الحكم الصحيح، وما سواه باطل. الأحكام المتناقضة على الشيء الواحد لا تصدَّق معًا ولا ترتفع معًا على رأي المناطقة، بل بها صواب وخطأ، إذا صح أمرها بطلت الأحكام الأخرى. والسبيل إلى التمييز بينها هو البرهان. لا يوجد دليل يهدم دليلًا آخر، بل هناك تفسيراتٌ مختلفة تتنازع واقعةً معينة. لا يوجد التناقض إلا على المستوى الصوري أو المادي، أمَّا على المستوى الإنساني فيمن الاحتكام إلى الواقع العملي لمعرفة أي التفسيرات أصدق. تدل الأحكام المتناقضة على اختلاف وجهات النظر أكثر مما تدل على تساوي الحق والباطل وتعادلهما، تشير إلى البعد الذاتي أكثر مما تشير إلى البعد الموضوعي،٩ وتغيير الإنسان لوجهة نظره لا يعني تغيير الحق أو إنكار وجود حقيقة ثابتة، بل يعني تغيير الظروف والأحوال والمادة وتقييم الحكم طبقًا للأدلة الجديدة، وذلك على مستوى تعين المبدأ في الواقع وليس على مستوى المبدأ ذاته. إن كل حكمٍ إنساني هو حكمٌ تقريبيٌّ مشروط بدقة البحث وسلامة الإدراك. وقد ينتقل الإنسان من خطأ إلى خطأ حتى يعثر في النهاية على الصواب. ويرجع الخطأ والصواب في الأحكام إلى شمول الحكم واتساعه. الحكم الضيق لا يصدق على واقع أشمل، والحكم الشامل قد لا يصدق على واقع أضيق إذا كان متفرِّدًا. قد يكون الانتقال من رأي إلى آخر هو انتقالًا من رأيٍ أقل صوابًا إلى رأيٍ أكثر صوابًا، وهذا الانتقال ذاته إقرار بوجوب الصواب. وطريق الانتقال هو البرهان حتى يتم الوصول إلى اليقين. يمكن إذن الانتقال من رأي إلى آخر بشرط توافر حسن النية؛ إذ ينضج الإنسان مع تقدم العمر، وتصحُّ آراؤه بدقة البحث وتغير المناهج ومستويات التحليل، وربما لاختلاف اللغة والمصطلحات. وذلك طبيعي؛ نظرًا لما يحدث في حياة الإنسان من تطورٍ فكري ونضجٍ علمي، ووعيٍ اجتماعي. إن ثبوت الحقائق لا يعني جمودها من حيث الصورة أو المضمون.١٠ ولا يعني تفاوت البراهين دقةً ووضوحًا أنها لا تُثبِت شيئًا، فالناس متفاوتة في الإدراك. ويمكن أن يتضح الخفي، وأن يُفصَّل المجمَل، وأن يحكم المتشابه؛ لذلك كان العلم أساسًا نظرية في الإيضاح.١١ وإن تفاوت الناس في المدركات الحسية لا يعني انتفاء الحقائق وعدم إمكان معرفتها، فذاك راجع إلى اختلاف دقة الحواس وتفاوت عملها وطريقة تحويلها إلى تصورات ثم أحكام. كما يتوقف على درجة تيقُّظ الشعور، وهو شرط إدراك الحواس.١٢ ويتوقَّف على حياد الشعور وعدم تحيُّزه أو خضوعه لهوًى أو مصلحة. ولا يضير المعرفة الإنسانية احتمال الخطأ؛ فالخطأ كالصواب طرفان لها. وقد يحدث الخطأ في فهم الوحي وتحويله إلى علومٍ عقلية أو إنسانية. والمعرفة لا يضيرها البحث ودقة النظر وشدة الخصومة وتوالي الأجيال؛ فتلك مهمة الإنسان وشرفه وعظمته، وقد يكون البحث عن الحق أولى من الحصول عليه.١٣ ولا يعني كون البرهان إجماليًّا العجز عن الإتيان بالبرهان التفصيلي؛ فالعقل قادر على إعطاء أكثر الاستدلالات دقةً وتفصيلًا. قد يؤدي البرهان الإجمالي إلى التأويل كما تفعل الباطنية، وقد يحدث بعد التصديق وليس قبله. وقد لا يخضع للبحث الدقيق فيكون أقرب إلى التمويه والمغالطة منه إلى البرهان، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى العلم إذا امتنع التأويل وكان سابقًا على التصديق وخضع لمناهج البحث المحكمة كالسبر والتقسيم.١٤ وإذا استحال الترجيح بين معتقدَين أو تصورَين نُظِر لنقصان الدليل، فإنه يمكن أخذ أنفعهما للناس وأقلَّهما ضررًا دفاعًا عن المصلحة العامة والأقرب إلى تحقيق مصالح الأغلبية. إن وجود شيءٍ حقيقي تتمثله الجماهير أو تسعى لتحقيقه لهو الشرط الضروري لأي تغيرٍ اجتماعي، وإلا فلماذا يُضحِّي الإنسان؟ ولماذا يستشهد؟ إن ضرورة العمل وثقل الحياة تستلزم أخذ المواقف. وبدلًا من أن تؤخذ بالبخت والمصادفة فتكون عشوائية عابثة يلزم الترجيح إن لم يكن بالدليل النظري فبالمصلحة العامة. وقد نشأ علم بأكمله في علم أصول الفقه لهذا الغرض وهو «علم التعارض والتراجيح» بين الروايات والأدلة. موقف الشك إذن بالإضافة إلى أنه مستحيل عملًا لأن الحياة تسير وفقًا للاعتقاد؛ مستحيل نظرًا لما تقدمه الحياة من بواعث ودوافع ولما تقوم عليه من مقاصد وغايات، تعمل كلها كمرجِّحات.
ولا يعني اختلاف الآراء وتضاربها وعناد الناس عدم وجود الحقائق أو إمكانية معرفتها أو إنكار شرعيتها أو صدقها؛ إذ يمكن معرفة كل ذلك بالبرهان. وهو أقل منه في العلوم الصورية والعلوم المادية منه في العلوم الإنسانية؛ نظرًا لتداخل الأهواء والمعتقدات والمصالح. كما ينشأ هذا الاختلاف والتضارب نتيجة للتكاسل عن طلب البرهان أو الوقوع في التقليد والتسليم بالموروث دون نقد أو تمحيص. كما ينشأ من اختلاف مناهج التحليل ومستوياته ولغته وأسلوبه بين الخطابة والجدل والبرهان. ولا يعني عدم اتِّباع النفس للحق انتفاء الحق واستحالة معرفته، بل يدل على الجهل أو نقص في الوعي أو تغليب المصالح والأهواء على المبادئ العامة. كما لا يدل تخلف العمل عن النظر على استحالة النظر، بل يدل على الخوف وإيثار السلامة. ولا يعني اختلاف العلماء فيما بينهم انتفاء وجود الحقائق واستحالة معرفتها، بل يُشير إلى تعدُّد التفسيرات طبقًا لمكونات الواقع وحركة التاريخ. وكلها مشروعة طبقًا للحاجة؛ إذ يتحول الوحي بمجرد نزوله في زمان ومكان معينَين ولدى شعب بعينه وفي مرحلةٍ تاريخيةٍ محددة؛ يتحول إلى حضارة. والحضارة لها بناؤها الإنساني، ونشأتها طبقًا للحاجات البشرية. لا يعني التعدد في التفسيرات إذن التضارب والتناحر، بل الاجتهادات المختلفة طبقًا للصالح العام وما تستطيع أن تُحقِّقه من نفع للناس. والرأي غير الهوى. الرأي له برهانه، أمَّا الهوى فانفعال ومزاج؛ لذلك كتب الفقهاء في «ذم الهوى»، الرأي قول يقوم على دليل، والهوى دعوى بلا دليل. إن القول بتكافؤ الأدلة ثم الاعتراف بأن أحدها حق والآخر باطل دون التعيين والتخصيص هو اقتراب من اليقين وترك الشك دون أن تكون هناك ثقة بالعقل وقدرته على تعيين الحق والتمييز بينه وبين الباطل، سواء التعيين النظري أو الترجيح العملي طبقًا للصالح العام. إن القول بتكافؤ الأدلة فيما دون «الله» اعتراف بتعيين واحد هو وجود مبدأ أو حقيقة يعقلها الجميع ويترك تفسيرها بعد ذلك طبقًا للمجتمعات وحسب مراحل التاريخ. والقول بتكافئها فيما دون «الله» و«النبوة»؛ أي أقوال البشر وتفسيراتهم هو أيضًا نزول إلى تعيينات الواقع درجة أكثر والاتفاق على وجود فكرٍ إنسانيٍّ متكامل ونظامٍ اجتماعي يصلح للناس في كل زمان ومكان. إن القول بتكافؤ الأدلة نظرًا لا يمنع من اليقين عملًا؛ وذلك لأن الإنسان بموجب عقله يلتزم بمبدأ ينتج عنه إدراك الفضائل وممارستها، ويمكن إدراك هذا المبدأ بالعقل ولكنه يقينٌ عمليٌّ خالص.١٥ وخلاصة القول إن القول بتكافؤ الأدلة يؤدي إلى إنكار عدة أشياء، منها: قدرة العقل على الوصول إلى حقائق الأشياء وبداهة الحسِّ وأوليات العقل ومعطيات الوجدان، قدرة العقل على وصف العاقل وتحليل الأوضاع الاجتماعية وهموم الناس التي تجثم على الصدور، دور الآخرين في إمكانية اطراد التحليل والوصف ولأهمية رأي الجماعة والتجربة المشتركة، حاجة الواقع إلى بناء والعمل إلى نظر، فالترجيح والتفصيل أولى من العشوائية والمصادفة، قدرة الإنسان على الاختيار بين المواقف وتفضيل مصلحة على أخرى، وحرية الحركة في الممارسة، وجود قوًى اجتماعية وراء الأدلة تحسم الصراع لمصلحة الأقوى والأدلِّ، وجود حركة التاريخ وقانون الأغلبية وحق الشعوب؛ فاليقين التاريخي لا يقل أهمية عن اليقين النظري والعملي.
أمَّا «العندية»، وهو المذهب الثالث في الشك، فلم يفصل فيه القدماء تفصيلهم للاأدرية والقول بتكافؤ الأدلة. ومع ذلك ترى العندية أن كل الآراء صحيحة عند قائليها، ومن هنا جاءت تسميتها بالعندية، وهي على نقيض العنادية التي ترى الآراء كلها باطلة. والحقيقة أن اعتبار الاعتقادات كلها صحيحة نفي لمعيارية العلم وإمكانية إثبات حقيقةٍ واحدة والتمييز بين الحق والباطل، ووقوع في النسبية المطلقة. وقد قلب القدماء الحجة الجدلية ضد المذهب؛ فالعندية مذهبٌ باطل لأنه عندنا باطل، وبالتالي يكون بطلانه حقيقة. العندية إنكار للصفات الموضوعية للأشياء، وإرجاعها إلى مجرد انطباعاتٍ ذاتية وأمزجةٍ فردية، وإحساساتٍ خاطئة. لا توجد صفاتٌ متناقضة في الطبيعة، بل في إدراك الناس لها. كما توجد حقائقُ موضوعيةٌ اجتماعية، مثل ضرورة الثورة استردادًا لحقوق الفقراء من الأغنياء، وحصولًا على الاستقلال الوطني ضد المحتل الأجنبي، ودفاعًا عن الحرية والديمقراطية ضد التسلط والطغيان، وتوحيد الأمة بعد التجزئة والتشرذم، وحفاظًا على الهوية ضد التغريب، وتجنيدًا للجماهير حتى تكون بثقلها الضمان الوحيد لنيل حقوقها. لا يعني اختلاف التعبيرات ضياع الحقيقة. هناك عدة مستويات لتحليل الواقع وللقدرة على الفعل ولدرجة الوعي ولصراحة التعبير، والقدرة على التعبير عن الصالح العام.١٦

الشك إذن بمذاهبه الثلاثة لا يمكن أن يكون أساسًا لنظرية في العلم تقوم على إنكار الحقائق أو على استحالة معرفتها أو على نسبيَّتها، وهذا لا يعني ألا يكون الشك مقدمة للنظر وشرطه، بل إنه عند البعض أول الواجبات على المكلَّف حتى يخف التقليد ويقضي على التبعية.

والظن أعلى درجة من الشك وأقرب إلى المعرفة والعلم؛ لأنه قد تحوَّل من اعتقادٍ غير جازم إلى اعتقادٍ جازم يتجاوز التردد إلى الترجيح. ولما كان المرجَّح ليس دليلًا برهانيًّا يظل الظن في مرتبة الاعتقاد غير الجازم، ولا يرقى مطلبًا إلى درجة العلم. فإذا كان الراجح هو الظن فالمرجوح هو الوهم، وهو قياس أمرٍ غير محسوس على أمرٍ محسوس، وهو أساس قياس الغائب على الشاهد الذي هو أساس الفكر «الإلهي» كله. وقد يقوم على المخيَّلات؛ أي على الصور الشعرية ترغيبًا للنفس أو تنفيرًا لها. والحقيقة أن القياسات الشعرية قد تكون صادقة؛ نظرًا لإحساس الشاعر وصدقه؛ وبالتالي لا يكون النموذج الأمثل للوهم؛ فالوهم إصدار حكم على واقع غير مطابق له، في حين أن الشعر لا يهدف إلا إلى التأثير على النفوس وإيصال تجربةٍ إنسانية تطابقها مع نفسها ومع تجارب الآخرين بالمشاركة.

وبالرغم من أن القدماء لم يتوسَّعوا كثيرًا في وصف الشك والظن والوهم، إلا أن لها أبلغ الأثر في حياتنا المعاصرة؛ فنحن لا نفرق بين منطق الظن ومنطق اليقين، بل نخلط بينهما، فكثيرًا ما نستعمل منطق الظن على أنه منطق لليقين، كما أننا لا نُميِّز بين أنواع الحجج، البرهاني والخطابي والجدلي. فكثيرًا ما نخطب ونظن أننا نُبرهن، وكثيرًا ما نُجادل ونظن أننا نستدل. تمثل قسمة القدماء لأنواع الحجج تقدُّمًا أكثر مما نحن عليه الآن، بل إن بعض الجوانب في فكرنا المعاصر يقوم على الوهم والمخيلة أكثر مما يقوم على العقل، ويعتمد على المغالطات أكثر مما يعتمد على الحجج والبراهين. نستعمل القياسات الظنية ونظن أنها برهانية. وكثيرًا ما نُسلِّم بالمشهورات التي تُروِّجها أجهزة الإعلام فتصبح بمثابة معتقدات للناس بكثرة ترديدها، وتصبح جزءًا من ثقافتهم تعمية لهم عن الحقائق البرهانية، كما أننا في حياتنا الثقافية نُجادل الخصم دون التسليم بمقدِّماته، بل نشغل أنفسنا بتفنيدها؛ ومن ثَمَّ يتحوَّل جدلنا إلى تناطح وتنازع وخصام؛ لذلك يستحيل الحوار ولا يكون هناك مجال إلا للتقاذف والاتهامات والسباب. وكثيرًا ما تغلب المغالطات على ثقافتنا الوطنية، وتغليب المرجوح على الراجح، كما أننا غالبًا ما نقيس غير المحسوس على المحسوس، خطأ في أمور لا تُقاس مثل فكرنا لإلهي، وتصوير الله غير المحسوس بالإنسان المحسوس، والوقوع في التجسيم والتشبيه، أو بالنسبة إلى أمور المعاد وقياسها على النعيم والعذاب في الدنيا، في حين أنه يمكن استعمال المحسوس لتفسير نشأة غير المحسوس من حيث الصورة الأدبية والنشأة. فلا يوجد تصور في الذهن إلا ما ينشأ في الواقع أوَّلًا، سواء كفعل أو كرد فعل. ولا نقيس غير المحسوس على المحسوس بطريقةٍ صائبة على نحو ما يفعل أصوليو الفقه في قياس الغائب على الشاهد. كما تغلب على فكرنا القومي الخيالات الشعرية والأساليب الخطابية بغية التأثير على النفوس، تأييدًا لشخص أو هجومًا على آخر، حتى اتُّهمت عقليتنا على مسار التاريخ بأنها عقليةٌ إنشائية لا خبرية، وبأن لغتنا غنائية وليست تقريرية؛ فنحن نعيش في هذا العالم خطباء وشعراء دون أن نعيش مفكرين وعلماء.١٧

(٢) الجهل

والجهل اعتقادٌ جازم غير مطابق، والاعتقاد الجازم قطعيةٌ مضادة للعلم ونقيض النظر، وينقصه البرهان، ويكون عدم المطابقة مع الواقع؛ فمقياس العلم مطابقة الاعتقاد للواقع، إن كان مطابقًا كان علمًا، وإن لم يكن مطابقًا كان جهلًا. ويصاحبه سكون النفس وغياب التردد والريبة؛ وبالتالي غياب الظن والوهم. ويمر التطابق بالشعور، وليس مجرد تطابقٍ آليٍّ صوريٍّ مادي بين الفكر والواقع؛ أي تطابق بين المفهوم والماصَدَق.

وبالرغم من أن القدماء لم يفصلوا في الجهل إلا أنه يغلب أيضًا كالظن على حياتنا المعاصرة، لا بمعنى عدم العلم أو بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، أي الأمية، التي نتحدَّث كثيرًا عن محوها ونعقد لها البرامج والندوات، فقد يكون غياب العلم علمًا، وهو الجهل العالم كما هو الحال لدى الأمي العالم. وقد يكون حضور العلم جهلًا، وهو العلم الجاهل كما هو الحال لدى المتعلم الجاهل.١٨ فالأُمي بصدق فراسته، وبأمثاله العامية، وبإحساسه بالواقع، بنكاته الشعبية، وبوجدانه التاريخي، وبتراكم آلاف السنين؛ قد يكون أعلم من المتكلم حيث الوعي والانتباه، والقدرة على الرؤية المباشرة للواقع بلا تدليس أو إيهام. كما أن المتعلم باغترابه، وانفصاله عن الواقع، وباستخدامه جعبة من الألفاظ للتضليل والتعمية يكون أجهل من الجاهل، وبل ويكون جهله مركَّبًا لأنه لا يعلم أنه جاهل. قد يكون الجهل في حياتنا المعاصرة ماثلًا في عدم الوعي بأنفسنا، وبالمرحلة التاريخية التي نمرُّ بها، وفي غياب مشروعٍ قومي تحققه الأمة، وتُجنِّد له قواها، وتحشد له إمكانياتها، بعد أن كان لها واحد وانتكس بعد أن فرغ من مضمونه؛ فأصبح مثل كرة الهواء بلا ثقل من التراث وبلا أساس من الجماهير. قد يكون الجهل في تخلُّف مؤسساتنا القومية عن درجة تقدم الواقع وحركته، وفي عدم تمثيل السلطتَين الدينية والسياسية لحركة الواقع العريض ومحاصرتهما لطلائع هذه الحركة ومحاولة عزلها عن الواقع ومن وسط الجماهير. الجهل هو هذا التفاوت الشديد بين ما يدور في الواقع من قوًى للتغير والحركة، وبين النظم الاجتماعية والسياسية القائمة التي تحاول إيقاف هذه القوى والقضاء عليها، وهو في الحقيقة جهل بالتاريخ وبمساره. والإنسان مسئول عن هذا الجهل، ولكننا في حياتنا المعاصرة جعلْنا الله مسئولًا عنه، وبرَّأنا أنفسنا من تبعة هذا الجهل بدعوى أن علمنا محدود أمام العلم «الإلهي»، وإدراكنا قاصر عن إدراكه، وعقلنا ضعيف لا يقدر على تجاوز الحدود التي رسمها الله له. نتوقف أمام الغيب لأن الإنسان ذو علم محدود والله ذو علم مطلق؛ وبالتالي نكون أكثر تخلُّفًا في تحليلنا لأسباب الجهل وتحديد المسئول عنه، في حين أن الجهل لدينا له أسبابه المباشرة في مضمون ثقافتنا التي هي أقرب إلى الاعتقاد الجازم غير المطابق للواقع أو للفكر أو للتاريخ؛ لذلك سادت حياتنا المعاصرة القطعية، وهدم العقل، وإنكار النظر، وإسقاط الواقع من الحساب، وغياب التاريخ كبعدٍ شعوري وكميدان للعمل والتحقيق.

(٣) التقليد

لقد أفاض القدماء في التقليد كما غصنا نحن فيه إلى الأذقان؛ فالتقليد اعتقادٌ جازم مطابق، ولكن دون سبب للمطابقة؛ ومِنْ ثَمَّ فهو لا يؤدي إلى العلم، هو قطع وجزم دون نظر، هو اعتقاد أي حكم أو تصديق، وجازم لأنه لا شك فيه ولا تردد. ومطابق لأنه يتماثل مع شيءٍ آخر قد يكون تراثًا قديمًا أو معاصرًا حديثًا أو شخصًا ميِّتًا أو شخصيةً حية، ولكن دون سبب وبلا برهانٍ قطعي من حسٍّ أو عقل أو استدلال. التقليد تبعية للآخرين من غير مطالبتهم بالبرهان، لا يرتقي إلى اليقين، ولا يفيد الظن، ولا يمكن اختيار أحد الاحتمالَين عن طريق التقليد بلا سبب للتفضيل.١٩

ويقوم التقليد على بعض الحجج، هي في الحقيقة ضد النظر، فإذا بطل النظر ثبت التقليد اتِّباعًا لبرهان الخلف، نفي الشيء لإثبات نفيضه، وهو برهانٌ سلبيٌّ خالص لا يثبت شيئًا؛ لأن النظر والتقليد ليسا هما الاحتمالَين الوحيدَين كطريقَين للمعرفة؛ إذ يضع الصوفية الذوق والإلهام. إن مجرد إنكار القياس لا يثبت التقليد، وإنكار الشيء لا يثبت ضده، وبرهان الخلف يدخل ضمن منطق الظن لأنه يقوم على حجةٍ جدلية. ليس التقليد هو البديل الوحيد على فساد القياس؛ فهناك بداهة الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان. وكل الحجج مستقاة من قصة إبليس وصراعه مع آدم. فقد قاس إبليس النار على الطين، «خلقتني من نار وخلقته من طين»، فأخطأ، وهي حججٌ ضعيفة لعدة أسباب. فالهدف من القصة هو التأثير على النفس وليس إصدار حكم، والحث على العمل أكثر من الوصف والتقرير، والإيحاء إلى النفس وليس مصدرًا للأحكام الشرعية؛ فهي صورةٌ شعرية أكثر منها حادثةً تاريخية، والقصص والمجاز ليسا مصدرًا للأحكام. وحتى على فرض صحة استنباط أحكام من القصص فإن أشخاصًا كثيرةً تقيس وتُصيب، وليس كل من قاس فقد أخطأ. ولا يُمكِن إصدار حكمٍ كليٍّ على واقعة. وكثير من المؤمنين يقيسون ويصيبون. كما تقيس الأنبياء وتصيب، وكما بيَّن الفقهاء ذلك في كتب «أقيسة الرسول»، بل إن الله ذاته يقيس ويصيب، والوحي مملوء بالأقيسة الصائبة على ما بيَّن الفقهاء. ليس الخطأ من القياس في ذاته، بل من طرق الاستدلال الخاطئة. وتقوم مناهج الأصوليين على القياس، والقياس الشرعي يصيب، وهو مصدر من مصادر التشريع. إن أقصى ما تستطيع هذه القصة أن تقدمه هو أنها تُنبِّه على القياسات القائمة على مقدماتٍ خاطئة، فتقيس الكم على الكيف، وليست تلك التي تقوم على المقدمات الصحيحة. هذه الحجج كلها يمكن في نفس الوقت استعمالها دفاعًا عن القياس كأحد أشكال النظر وليس فقط ضد التقليد.

وقد صاغ المعتزلة عدة حججٍ عقلية ضد التقليد لبيان استحالة النظرية والعملية، وضرورة الاستدلال؛ فالمقلد لا يستطيع تقليد المذاهب كلها؛ لتعارضها ولحاجة السلوك إلى مذهبٍ واحد. ولا يمكن أن يكون الاختيار بينها مصادفةً عشوائية أو بالمزاج والهوى، بل بالنظر والاستدلال، كما أن المقلِّد لا يُقلِّد غير العالم؛ لأنه جاهل، بل يقلِّد العالم الذي له علم عن طريق غير التقليد، وإلا تسلسلنا إلا ما لا نهاية. وعلم العالم إمَّا من العلم الضروري أو العلم النظري. والعلم الضروري مشاع عند الناس جميعًا، يستطيعه المقلد وبالتالي فلا حاجة له إلى التقليد، والعلم النظري هو طريق العلم لأن النظر يفيد العلم. هذا بالإضافة إلى أن التقليد يؤدي إلى الخطأ النظري والخطأ العملي على السواء؛ لأنه خالٍ من اليقين، في حين أن العلم يقيني في النظر، وبالتالي يقيني في العمل.

ولا يمكن تقليد الأكثرين لأن الكثرة حجة كمية والعلم كيف. وقد كان الأنبياء أقلية في قومهم وهم الأغلبية. وكان الدعاة والمصلحون أقلية في أقوامهم.٢٠ وكان أهل الحق باستمرار أقل عددًا من أهل الباطل، وهذا لا يعني التنكُّر لدور الأغلبية أو إهمال مصالحها أو الإقلال من شأنها؛ فالأغلبية الصامتة يدافع عنها الأنبياء والدعاة والمصلحون، ويُعبِّرون عن مصالحها، ويبعثون فيها النظر وحسَّ العلم حتى تستنير وتستقلَّ فتصبح قادرة على الدفاع عن حقوقها بنفسها وحتى تُفرز طليعتها من ثناياها وهم العلماء والفقهاء والأمة، وتكون قادرة على قيادتها وحمايتها. وهذا لا يعني أيضًا إنكار دور الأغلبية النظري في الإجماع والنزول على رأيها؛ فالإجماع أحد مصادر التشريع ودرءًا لمخاطر الفردية والتسلط والاستبداد بالرأي. ولا يقوم الإجماع على تقليد، بل هو أخذ بالدليل النقلي أو العقلي أو المصلحي الذي يعلمه الجميع.٢١
كما لا يجوز تقليد الأزهدين؛ لأن الزهد لا يعني العلم بالضرورة، بل قد ينشأ عن خطأ في الحكم وعلى جهل بالوحي وانحراف بالدين، كما هو الحال عند الصوفية وفي باقي الديانات، كما لا يعني الفضل بالضرورة، بل قد يكشف عن طمعٍ مقنَّع ورغبة فيما هو أكثر؛ مما في أيدي الناس. هذا بالإضافة إلى أن الزهد ليس حقيقةً نظرية وبالتالي فهو ليس دليلًا أو برهانًا.٢٢
ولا يمكن تقليد السلف لأن التقليد إنكار لدور العقل، ولضرورة التصديق، وللمسئولية الفردية، ولمهمة الإنسان في التجديد والتطوير والتغيير. تقليد السلف قضاء على الحاضر والمستقبل باسم الماضي، وإيقاف لمسار التاريخ على إحدى مراحله الماضية، فيتحدَّب التاريخ وتتقوَّس حركته ويتحوَّل إلى كهف يغلف الإنسان، ويعيش فيه تحت قبوه، وكلما ازداد تمسُّك الإنسان بالقديم ازداد التحدُّب حتى ينهار التاريخ، ويتخلَّف الإنسان، ويلفظ أنفاسه خارج المسار، ويتحول إلى كائن من الحفريات يعيش في طي النسيان. ثم يزداد الأمر سوءًا بتدخُّل التعصُّب؛ نظرًا لغياب العائل والحس والاتصال المباشر بالواقع؛ فتقع الفتن ويحدث الشقاق. قد تكون النشأة الاجتماعية على دين الأسلاف نقطة البداية، ولكنها لا تكون نقطة النهاية بالضرورة؛ نظرًا لتطور الوعي ونضج الإنسان وإدراكه لما يحيط به من أمور، وما يأخذه من مواقف. فالحياة تسير نحو الأفضل. إن تقليد السلف هو قول بتكافؤ الأدلة؛ نظرًا لاختلاف أقوال السلف وعدم وجود مقياس للاختيار بينها أو للتحقق من صدق أحدهما. وقد رفض القدماء تقليد السلف بحجةٍ جدلية تقوم على القسمة لمصدر التقليد، الله أو الرسول أو العقل، والمصادر الثلاثة تحرم التقليد، بنص القرآن، وبنص الحديث، وبنظر العقل. حتى إذا صعب على الإنسان الحصول على اليقين النظري فهناك اليقين العملي؛ يقين السلوك القائم على الطبيعة والصالح العام. التقليد إذن ضد العقل النظري وضد العقل العملي على السواء. والإنسان قادر بعقله وبعمله الصالح أن يسير وفقًا لهداه.٢٣ التقليد ضد الفطرة، وإنكار لمعطياتها من حقائق وعلوم. والوحي فطري في الإنسان، حتى العامي يدركه بنفسه دون نظر، ببداهة الحس، وأوليات العقل، ومعطيات الوجدان. تقليد العامي إذن إنكار لفطرته حتى ولو لم يستطع استعمال مصطلحات العلماء. يمكنه أن يُعبِّر تلقائيًّا عن تصوُّره للحياة دون تقليد للغير. المعرفة إذن طبيعية، سواء الفطرية منها أو الاستدلالية. والتفكير أي طلب الدليل فطري في الإنسان، سواء من بلَغتْه الرسالة أو لم تبلغه. تقوم الرسالة على العقل، والعقل قائم في الإنسان قبل أن تأتي الرسالة. الاستدلال إذن فرض كفاية على من لم تبلغه الرسالة وفرض عين على من بلَغتْه؛ لذلك جعل بعض القدماء موضوع التقليد لفظيًّا خالصًا؛ لأن جميع الناس لا تعرف عن طريق التقليد، بل عن طريق النظر والاستدلال.٢٤
وتحريم التقليد ينطبق على كل الموضوعات، لا فرق بين دينية ودنيوية، بل من حيث هو موقف في الحياة نظري أو عملي لأنه مجرد تبعية واعتقادٍ جازم بلا دليل. وخطورته في أن المقلد لا يرجع عن تقليده حتى ولو رجع العالم بعد إعماله النظر. تحريم التقليد إذن عام وشامل بصرف النظر عن المقلِّد، سواء كان فردًا أم جماعة، بل لقد تجرَّأ القدماء، وحرَّموا تقليد الرسول باعتباره فردًا. أمَّا إذا كان التقليد اتِّباعًا لدلالة فإنه لا يكون تقليدًا؛ لذلك قبل بعض القدماء تقليد القرآن والسنة القطعية باعتبارها قطعية الدلالة، ولو أن ذلك أيضًا خاضع لقواعد اللغة والتفسير. ولا يجوز تقليد الرسول لظهور المعجزة عليه؛ لأن المعجزة ليست دليلًا، بل هي نفسها في حاجة إلى دليل من الحس أو العقل أو الوجدان. التقليد هنا لا يتعدى كونه استرشادًا بالتجارب السابقة كقدوة ونموذج، ولكن بُعد نظر واستدلال. ومِنْ ثَمَّ فإنه لا يكون تقليدًا.٢٥ كما يحرم التقليد على العامي للعالم من حيث هو فرد، أمَّا إذا كان سؤالًا عن دلالة واسترشادًا برأي فإنه لا يكون تقليدًا؛ فالعامي قادر بفطرته على إدراكه. وغالبًا ما يكون هذا الاسترشاد عمليًّا عن طريق القدوة وليس نظريًّا. بل إن طريق التطور ومسار التقدم في إلغاء هذه القسمة للجماعة إلى عامة وخاصة، وهي لا توجد إلا في المجتمعات المتخلِّفة التي تتسم بأمية الأغلبية وبعلم الأقلية؛ مما يسبب تضليل الأغلبية وحجب الحقائق عنها أو تشويهها، وشراء الأغلبية لحساب الأقلية، وهي في الغالب السلطة السياسية؛ دفاعًا عن مصالحها ضد مصالح الأغلبية وحقوقها.
وبالرغم من سقوط المقدمات النظرية، واختفاء نظرية العلم وضمورها، إلا أن رفض التقليد ظل قائمًا باعتباره الجانب السلبي في نظرية العلم؛ فإيمان المقلِّد لا يجوز، والتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم ولا أصلًا من أصوله. كما حرص الفقهاء على نقد التقليد في علم الأصول بفرعَيه علم أصول الفقه وعلم أصول الدين؛ فقد قام الوحي ذاته على البرهان والنظر ولم يكتفِ بدعوى الرسول، وبالتالي يكون عدم الاكتفاء بالتقليد أَولى، دعا الوحي إلى إعمال النظر وترك التقليد حتى تثبت المسئولية وتصحَّ المساءلة.٢٦
ويتفاوت حكم المقلِّد بين الإيمان والعصيان والكفر على سبيل الإطلاق أو على سبيل التقييد.٢٧ والحقيقة أن القول بصحة إيمان المقلِّد وتحريم النظر لم يتبنَّه إلا القليل؛ لأنه لا يقوم على دليلٍ نقلي أو عقلي. ويخرج على الإجماع الذي يرى أن التقليد إثم وعصيان بشرط وجود الأهلية وهي القدرة على النظر. ولقد أخذ القدماء حكم الوسط لأن التوازن بين التقليد والنظر كان قائمًا في حياتهم، ولم تكن خطورة التقليد ماثلة في حياتهم كما هي الآن ماثلة في حياتنا. أمَّا الآن، والناس تؤمن بالتقليد، وتمارسه في حياتها، ولا تستدل على صحة إيمانها أو تطلب اليقين فيه، فإن اعتبار المقلِّد كافرًا أكثر إيقاظًا للناس، وأقوى صدمةً لهم. إن المحك في الحكم هو حالنا الراهن، ومأساتنا هي التقليد، وعدم إعمال النظر كحكمٍ شرعي أو كوضع اجتماع والحكم بكفر المقلِّد يعبر عن ضرورةٍ اجتماعية. وقد أصدره القدماء والمحدَثون لإيقاظ المقلِّدين وحثِّ الهمم على النظر والاستدلال، كما حدث في فكرنا الاعتزالي القديم وفي فكرنا الإصلاحي الحديث، وهو أقوى من حكم المكروه لأن طبيعة المرحلة التاريخية التي نمرُّ بها تجعل التقليد أكبر عائق على التقدم وعلى إعمال العقل. ففي المجتمعات الغارقة في التقليد مثل مجتمعاتنا المعاصرة يكون إصدار الحكم على التقليد بالتحريم أقوى صوتًا وأشد إيقاظًا للمقلِّدين. التقليد مظهر من مظاهر التخلُّف وأحد أسبابه في آنٍ واحد، وسببٌ مباشر لطغيان السلطتين الدينية والسياسية وسيطرتهما على رقاب الناس. لا تهم أحكام التقليد من ثواب أو عقاب خارج الدنيا، بل الذي يهم فاعليتُها لإيقاظ الهمم في هذه الدنيا. للأحكام الشرعية غاياتٌ عملية وصدقٌ مادي في الدنيا. ولما كانت حياتنا المعاصرة يغلب عليها التقليد، بل وأشنع أنواع التقليد؛ تقليد الرؤساء الذين لا هم بالعلماء ولا بالفضلاء ولا الأنبياء، بل وتعدَّى التقليد إلى النفاق والمدح وأصبح رياءً ومداهنة. وأصبح الدافع على التقليد ليس طلب النصح والاسترشاد برأي الآخرين، بل تحقيق مصلحةٍ عاجلة أو درء خطرٍ حقيقي أو متوهَّم؛ فإن تحريم التقليد واجبٌ قومي وشرعي. وقد كان القدماء على وعي بذلك فأجمعوا على رفضه، وكانوا أكثر تقدُّمًا مما نحن عليه الآن بدفاعنا عنه واتهامنا لكل من يخرج على التقليد بالخروج والمادية والإلحاد والتبعية والعمالة.٢٨

(٤) المطابقة في العلم

وبعد أن رفض القدماء مضادات العلم من شك وظن ووهم وجهل وتقليد، لم يبقَ إلا العلم. ومهما عسر تحديد العلم، فإن الإنسان قادر على أن يصل إليه حتى ولو بأبسط الطرق، وهو طريقة القسمة والمثال؛ مما يدل على أن تأسيس العلم ممكن وأن إقامة نظرية في العلم ممكنة.٢٩ والعلم عن طريق القسمة والمثال هو أحد طرق العلم المستعمَلة في علم الكلام؛ إذ تؤدي القسمة إلى التمييز بين المستويات، في الغالب بين الأعلى والأدنى، كما يؤدي المثال إلى القياس والتشبيه. ومع ذلك فطريق القسمة والمثال ليس منهجًا علميًّا يؤدي إلى تأسيس نظرية في العلم، بل أقصى ما يستطيعه هو التصنيف، وقياس الشبيه بالشبيه. وعلى هذا النحو تستحيل معرفة «الله» معرفةً نظرية؛ لأن الله لا شبيه له، وإلا وقعنا في التشبيه لا محالة. وهو ما حدث بالفعل في علم الكلام. حتى التنزيه لم يسلم من التشبيه أو على الأقل من ألفاظه وتصوُّراته ومعانيه. هذا بالإضافة إلى أن التحديد بالقسمة تحديدٌ خارجيٌّ محضٌ وليس تحديدًا داخليًّا من بناء الموضوع وماهيته. وهو في حقيقة الأمر ليس حدًّا، بل ترتيب وتصنيف وبناء لعلاقات الموضوع مع غيره دون وصف لبناء الموضوع ذاته. وعلى هذا النحو يكون العلم «كل اعتقادٍ جازمٍ مطابق لسبب»؛ فيتميَّز عن الظن والشك وهما ليسا اعتقادَين جازمَين. كما يتميَّز عن الجهل وهو اعتقادٌ جازم غير مطابق، كما يتميز عن التقليد الذي هو اعتقادٌ جازمٌ مطابق لغير سبب. التعريف عن طريق التصنيف والترتيب وصفٌ خارجي وليس تحليلًا داخليًّا لمضمون الشيء. وقد تستكمل القسمة بالمثال ويتحدَّد العلم حينئذٍ عن طريق المثال، فيُقال مثلًا العلم مثل إدراك البصر، وحدوث العلم مثل حدوث الصورة في المرآة. ولكن المثال أو ضرب المثل ليس حدًّا تامًّا على تقوُّل المناطقة، بل حدٌّ ناقص. وقد لا تكون الصورتان مطابقتَين تمامًا من كل ناحية، كما قد يُغفل أحد جوانب الصورة أو يقرب بين جانبَين مختلفَين أو يباعد بين جانبَين متشابهَين. ليس التشبيه حدًّا بل هو تقريب للأفهام، ويكون أقرب إلى البلاغة والأدب منه إلى المنطق والعلم. والتمثيل على ما تقول المناطقة أقل يقينًا من القياس؛ لأنه يقوم على تشبيه الخاص بالخاص دون منطق البرهان، على ما هو الحال في القياس، وشروط القياس المنتج والفرق بينه وبين القياس غير المنتج. وقد استمر التعريف عن طريق القسمة والمثال في عقليتنا المعاصرة وكما هو واضح في الأمثال العامية من قولنا: «العلم نور» أو «العلم في الصغر كالنقش على الحجر» أو غيرها من الأمثال.
وقد يُعرَف العلم بالمعرفة، فكل علم معرفة، وكل معرفة علم، وكلاهما دراية تقوم على سكون النفس. وهنا يتم التحديد عن طريق التعريف بشيء يحتاج إلى تعريف، وبالتالي لا يمنع من الوقوع في الدور؛ حيث يكون الموضوع محمولًا، والمحمول موضوعًا. العلم والمعرفة مترادفان، وكلاهما يتم في الشعور في نسقٍ عقليٍّ واحد. وكلما كانت المعرفة دقيقة لها منهج وموضوع وغاية كانت أقرب إلى العلم منها إلى مجرد الآراء والنظريات المتناثرة؛ لذلك كان العلم أو المعرفة واقعًا لكل شيء، بشرط الاعتقاد بالشيء على ما هو عليه بالاعتماد على شهادات الحس وأوائل العقول.٣٠ وقد حدث هذا الترادف في عقليتنا المعاصرة عندما وحَّدنا بين المعارف والعلوم بالرغم من أن معارفنا لم تتَّحد بعدُ في مناهجَ دقيقةٍ. فنظن أن كل عارف عالم، وكل عالم عارف، مع أن العلم ليس هو المعارف، بل بناءٌ نظري يتأسَّس في الشعور، هو نظرية في العقل وفي الواقع وفي الشعور أكثر منه نتائج ومكتَشفات لتطبيقها في الحياة العملية.
ولا يمكن أن يكون العلم هو «اعتقاد الشيء على ما هو به»،٣١ فقط لأنه إذا كان علمًا مطابقًا فقد ينشأ هذا التطابق عن التقليد وليس عن النظر. والنظر منهج العلم وطريقه؛ لذلك كانت المطابقة في العلم قائمة على الضرورة أو الدليل أي المطابقة مع الحس أو مع العقل. وقد يكون التعريف «معرفة المعلوم على ما هو به» أي مطابقة الحكم للواقع أو كما يقول الحكماء «مطابقة عالم الأذهان مع عالم الأعيان». الحق والباطل في الأحكام، والصدق والكذب في الأقوال. والواقع في هذه الحالة ليس هو العلم «الإلهي» أو «اللوح المحفوظ» بل الواقع العريض. التجربة الإنسانية من الحياة ومن التاريخ، العلم «الإلهي» هو الوحي الذي تكيَّف طبقًا للواقع كما هو الحال في «الناسخ والمنسوخ»، والذي هو نداء للواقع كما هو الحال في «أسباب النزول».٣٢ قد يكون اللوح المحفوظ هو قوانين التاريخ، وقد تحقَّقتْ من قبلُ أي صدقت في الواقع. العلم البسيط هو المطابقة للواقع، والعلم المركَّب هو العلم بهذه المطابقة؛ أي العلم بالعلم. ويكون الجهل البسيط هو عدم المطابقة، والجهل المركَّب هو الجهل بهذه المطابقة. لا يتعلق العلم بالمستحيل؛ فالمستحيل ليس شيئًا، أي غير ثابت في نفسه، والعلم علم بالأشياء؛ ومِنْ ثَمَّ لا يتعلق العلم إلا بالأشياء الممكنة. والممكن هو الشيء الذي يمكن التحقق من صدقه، فإذا كانت معرفة الله مستحيلة، فإنها تكون خارج موضوع العلم، وإذا كان العلم هو «معرفة المعلوم على ما هو به» يخرج «علم الله» لأنه ليس معرفة، ولا يمكن معرفته «على ما هو عليه»، ولا يمكن ذلك إلا عن طريق التقريب والتشبيه أو طبقًا لقياس الغائب على الشاهد أو طبقًا لتأويل النصوص، وهي كلها لا تكون نظريةً عقلية في العلم. كما يتضمن هذا التعريف نفس الدور السابق وهو أن العلم معرفة، والمعرفة علم. وهذا يدل على صعوبة تعريف العلم النظري. أمَّا الرؤية المباشرة للواقع، وحدس الماهيات، وإدراك البداهات، وهو طريق المطابقة، فإنه يحدد منهج العلم وليس نظرية العلم؛ مما يدل على أن منهج العلم هو الذي يحدِّد نظرية العلم كما حدد منهج علم الكلام تعريف علم الكلام. ولا يختلف في ذلك الأشاعرة عن المعتزلة إلا في اتهام المطابقة عند المعتزلة بأنها تجعل العلم شاملًا للتقليد؛ لذلك أضاف المعتزلة «المطابقة عن ضرورة أو نظر» مع استبعاد العلم بالمستحيلات أو بوجود الله، وهو اعتراض لا يقوم على أساس؛ لأن العلم لا يكون إلا علمًا بالممكن وليس بالمستحيل، ولأن «وجود الله» ليس موضوعًا للعلم بشخصه، بل بعلمه وهو الوحي، والوحي علم وموضوع للعلم.٣٣
وكما يرتكز العلم بالمطابقة على أساسٍ نظري في العقل، فإنه يقوم أيضًا على أساسٍ شعوري في النفس؛ وبالتالي تظهر الصفات أو المعاني العقلية في النفس حتى تتمايز وتتضح؛ وفي هذه الحالة يكون العلم «صفة توجب لمحلها التمييز بين المعاني لا يحتمل النقيض.»٣٤ العلم موضوع أي صفة ومعنًى متميز عن غيره، العلم هو المعنى القائم بالنفس والقادر على التمييز بين المعاني المتناقلة، العلم علم للمعاني ومنهجه الإيضاح، وكل نقيض له هو نقص في التمييز.٣٥ ترتبط الصفة بالنفس، ويصبح العلم هو ما يحدث في النفس من الواقع من خلال التجربة. ومِنْ ثَمَّ لا يمكن إخراج الحواس من المعاني؛ فالحواس طريق الحصول على المعاني، والتجارب موطن لها. العقل هو الرصيد النهائي للمعاني ولكن المعاني تنشأ من التجارب الحية في العالم. لا تتحقق المعاني الكلية إلا في تجاربَ جزئيةٍ. التقابل بين الكل والجزء تقابل في المنطق الصوري لا وجود له في تحليل التجارب الحية لإدراك معانيها المستقلة. لا يظهر المعنى إلا في موقف، والموقف لا يمكن إلا أن يكون موقفًا إنسانيًّا خاصًّا قد يتكرر بعد ذلك في الزمان والمكان. وعلى هذا النحو يكون العلم هو الذي يوجب كون من قام به عالمًا.٣٦ فرغمًا من قيام هذا التعريف على الدور، تعريف العلم بالعالم الآن يظهر الموضوع من خلال الذات؛ نظرًا لأنه لا وجود لعلم بلا عالم. فإذا غاب العالم غاب العلم. مما يشير إلى أهمية العلم في الصدور وأهمية موقف العالم. صحيح أن العلم بناء نظري، لكنه موجود في شعور العالم، ويتحدَّد ببنائه، ويتحقق ببواعثه. فالبناء النظري للعلم لا ينفصل عن تحققه العملي، لذلك ارتبط العلم بالعلماء؛ إذا حضر العلماء حضر العلم، وإذا غاب العلماء غاب العلم، إذا فسد العلماء انهار العلم، وإذا صلح العلماء قام العلم. ترتبط إذن الصفة أو الحال بالإنسان، هل هما نفسه أم غيره أم لا هما نفسه ولا غيره بصرف النظر عن ارتباطهما بالصفات والأحوال «الإلهية»؟ فإنها تعبر عن البناء الإنساني والاجتماعي لنظرية العلم، دور العلماء في تأسيس العلم.٣٧
وبالإضافة إلى وجود العلم كحالة للشعور، كما يركز المعتزلة، إلا أنه أيضًا صفة ومعنى كما يركز الأشاعرة.٣٨ والحقيقة أن كون العلم حالًا لا يقضي على موضوعية العلم؛ فالعلم علم بالدليل، وبالتالي لا خوف من الوقوع في الذاتية النسبية. يظل النظر الصحيح حالًا مختلفًا عن النظر الفاسد ولا سبيل إلى التماثل بين الحالين. النظر حال للناظرين. وهناك فرق بين تصوُّر العلم وحصوله؛ فقد يتصور المؤمن الإيمان دون أن يكون مؤمنًا، التصوُّر عقلي وحصوله نفسي. ويدل الدليل بصيغته النفسية، ويمحو كل شبهة. الدليل أيضًا دليلٌ وجداني. فإذا كان الدليل هو ما يُتوصَّل إليه بصحيح النظر، فإن السبيل المُفضي إلى العلم بوجوب النظر «اختلاج الخواطر في النفس وتعارُض الجائزات في الحدس.» النظر علمٌ شعوري؛ لذلك كان العلم صفة للحي؛ أي حالة له وصفة للعالم. تعريف العلم إذن: «اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إليه.» فإذا كانت الصفة للكائن الحي فالحياة شرط العلم؛ إذ لا علم للأموات وللجمادات، والصفة هي التي يمكن إدخالها بعد ذلك في منطق اليقين تصوُّرًا وتصديقًا. فسواء كانت نقطة البداية الحالة أو الصفة، فكلتاهما تنتهي إلى تحليل العقل. ويبدو أن إثبات العلم كصفة هو انعكاس لمسألة الصفات في «الإلهيات» حين أثبت الاشاعرة الصفات وأثبت المعتزلة الأحوال. كما أن المسألة انعكاس للطبيعيات، فإثبات الصفة موجه ضد نفاة الأعراض والذين يعتبرون الصفات أجسامًا.
وقد ارتبطت نظرية العلم أيضًا بالعمل والممارسة؛ فإذا كان العلم حالة شعور، فالإرادة أيضًا حالة شعور، ومِنْ ثَمَّ يكون الشعور مصدر العلم والإرادة معًا، ومنبع النظر والعمل سواء. وقد يُرمَز لهذا التوحيد أيضًا في الذات المشخَّصة في الإلهيات عندما يُوحَّد فيها بين العلم والإرادة. يشمل العلم القدرة، فعل النظر وفعل الإتقان كلاهما مكونان للعلم؛ لذلك فضل البعض جعل العلم «ما يصحُّ ممن قام به إتقان الفعل»، وبالتالي تدخل القدرة على تحقيق العلم. ولا يمكن الاحتجاج على هذا التعريف بعلم الإنسان بنفسه وبالله؛ فذاك أيضًا ممكن التحقيق؛ إذ يحقق الإنسان ذاته بتحقيقه رسالته وغايته في الحياة، ومشروع عمره. كما يحقق الإنسان علمه بالله عن طريق تحقيق مقاصد الوحي في العالم، وتحويل الوحي إلى نظامٍ مثالي للعالم، وتحويل العقيدة إلى شريعة، والتصور إلى نظام؛ فالتوحيد ليس نظرًا فقط بل عمل أيضًا، إدراك وسلوك، فكرة وفعل.٣٩
أمَّا تعريف العلم بأنه «اعتقادٌ جازمٌ مطابق لموجب»،٤٠ فإنه يخرج التصور من تعريف العلم لأن التصديق هو الذي يطابق أو لا يطابق، كما أن الجزم في الاعتقاد قد يُحيله إلى تعصب وهو ورفض للحوار، وإذعان للمعارض، والتوقُّف عن التغير والاتساع طبقًا للقرائن الجديدة. العلم ليس اعتقادًا جازمًا، بل معرفةٌ نظريةٌ مفتوحة؛ لذلك عرف الحكماء العلم بأنه «حصول الشيء في العقل.» أو «تمثل المدرَك في نفس المدرِك.»٤١ وهو تعريفٌ صوري خالص يقوم على إثبات الوجود الذهني للأشياء وتحويلها إلى صور ومعقولات، ويُنكر دور الحس والمشاهدة والتجربة، بل وينكر وجود الأشياء المادية ذاتها والتأثير عليها وتحريكها وتغييرها والعيش معها، ورؤيتها رؤيةً مباشرة. وهو تعريفٌ تطهريٌّ خالص يقوم على عالم المعقولات كبديل عن الإيمان، كما أنه لا يُبين مستوى اليقين في هذا الإدراك، هل هو الشك أم الظن أم الوهم أو الجهل أو التقليد؟ فقد تحصل الصور في النفس بإحدى هذه المراتب في اليقين، وقد تكون علمًا وقد لا تكون علمًا، قد تكون صورةً ذهنية وقد تكون تخيُّلًا. فبالرغم من أن تعريف العلم بالمطابقة يشير إلى الذهن، فإن المتطابق يكون مع وجود الأشياء في الذهن؛ أي تطابق العقل مع نفسه. العلم هنا بناء الذهن أو صورة الشيء في العقل، وبالتالي لا يختلف العلم عن باقي مكونات الحياة العقلية من تخيُّل وتذكُّر. ونظرًا لهذه الصورية في تحديد العلم، فقد يعني العلم أيضًا عدم النقيض طالما أن التحليل الصوري يقوم على الاتساق. والنقيض يحدث في العلوم الجزئية ولكن مطلق العلم لا نقيض فيه. وإذا كان هذا التحديد العقلي للعلم يتجاوز الانطباع الحسي والسكون النفسي، فإنه يصل إلى تحليل المعاني الكلية الخالصة. والحقيقة أنه لا يتحدَّد العلم بهذا المستوى الصوري الخالص إلا بعد نشأة العلم في الشعور ثم تحويل مناطق الشعور إلى «أنطولوجيا» خالصة. حينئذٍ يمكن الاستغناء عن العالم الحسي والتجربة الحية وأفعال الشعور. ولا تجعل المطابقة مع الذهن العلم مجرد صورة بل هو معنًى أو صفة أو موضوع. وهو ما سيصبح في علم أصول الدين المتأخر نظرية في المنطق، تصورًا وتصديقًا، فإذا ما أحدث العلم انكشافًا في الشعور فإنه يتحول بعد ذلك إلى قضايا عقلية.

تتجه التعريفات السابقة كلها نحو المطابقة، وتظهر المطابقة في العقل وبالشعور ومع الواقع؛ لذلك تفاوتت حدود العلم في ثلاث: المطابقة مع الواقع، والمطابقة في العقل، والمطابقة في النفس. المطابقة مع الواقع تمنع أن يكون العلم وهمًا أو خيالًا. والمطابقة في العقل تجعل العلم مُتسقًا مع نفسه قائمًا على البرهان، والمطابقة في النفس تجعل العلم تمثُّلًا واعتقادًا ويقينًا. العلم إذن مطابقة الشعور مع نفسه أو هو سكون النفس وتوطينها واطمئنانها وذلك لأن العقل والواقع مجالان للشعور وقُطبان له. العلم في الشعور، والشعور مركز اللقاء بين العقل والواقع. لم تجد التعريفات السابقة للعلم بالمطابقة في العقل ومع الواقع مناصًّا من التعرُّض لأفعال الشعور في صورة أنماط للاعتقاد وعمليات التوضيح والبيان؛ فأصبح العلم هو الاعتقاد الجازم أو التبيين والاستبصار أو الفهم والفقه والفطنة والإحاطة والإدراك حتى يصل في النهاية إلى سكون النفس والاطمئنان إليه. فالعلم أوسع نطاقًا وأشمل من المطابقة مع الواقع فحسب. إذا وقع العلم بعد الشك كان التبيين والتحقق والاستبصار، وإذا كان عملًا للعقل سُميَّ فهمًا وفقهًا وفطنة. قد يكون العلم هو العقل أو الإحاطة أو الوجود طبقًا للحظة العلم وبنائه في الشعور. ولا يدخل هنا موضوع العلم، القديم أو المستحيلات، بل أفعال الشعور المؤدية إلى العلم. ولا يعني وجود العلم في الشعور اتجاهًا سلبيًّا أمام الأشياء، مجرد الحصول على انطباعات حسية منها، وأن الشعور لا يكون إلا محصلًا مكتسبًا مستقبلًا بل هو اتجاهٌ إيجابي نحوها لإنارتها وإدراك دلالتها وتعقيلها وتنظيرها وفهمها. يشمل العلم سكون النفس بالنسبة لشيءٍ ما مع إدراك دلالته. الشعور موطن السكون، والواقع به الأشياء، والدلالة يُحلِّلها العقل. وعلى هذا النحو يحمي العلم نفسه أوَّلًا من الوقوع في الصورية والتجريد لارتباطه أيضًا بالشعور الحي وبالواقع الملموس، كما يحمي نفسه ثانيًا من التجريبية الفجة لارتباطه أيضًا بالشعور الحي وبالعقل، كما يحمي نفسه ثالثًا من الوجدانية الانفعالية الخالصة لارتباطه بالواقع الحسي وبالعقل النظري. للعلم إذن كيانه الذاتي والموضوعي، الصوري والمادي بفضل بنائه الشعوري.

١  في «المواقف» تعريف علم الكلام هو المرصد الأوَّل من الموقف الأوَّل عن المقدمات النظرية، ص٧–٩. وهنا يبدو موقف الأشاعرة الذي يوحد بين العِلْمين؛ أكثر تقدُّمًا من موقف الفقهاء الذين يفصلون بينهما. وليس لتخوف الفقهاء من مساواة الله بالإنسان بعد مساواة العلم الإلهي بالعلم الإنساني ما يبرره؛ لأننا نتحدث في نظرية العلم وليس في نظرية الوجود. «وذهبت الأشعرية إلى أن علم الله واقع مع علمنا تحت حدٍّ واحد، وهذا خطأٌ فاحش؛ إذ من الباطل أن يقع ما لم تزل النهايات وعلم الله ليس هو غير الله» (الفصل، ج٥، ص١٨٥).
٢  وهو موقف الرازي (المواقف، ص٩. شرح التفتازاني، ص٤٢؛ الأنصاري، ص٥؛ الخلاصة، ص٦؛ الإرشاد، ص١٤؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص٢٥، ص٣٤٥؛ المقاصد، ص٨٦-٨٧).
٣  المحصل ص٦٩؛ المعالم ص٥؛ المقاصد، ص٢٤–٢٨؛ شرح القاصد، ص٢٧–٢٩؛ أشرف المقاصد، ص٢٤–٢٨؛ حاشية الإتحاف، ص٢٢؛ التحقيق التام، ص٥-٦؛ شرح الأصول، ص٤٧.
٤  المواقف، ص٢٠-٢١؛ الإرشاد، ص٥، ص١٤-١٥؛ المقاصد، ص٤٦–٥٢؛ شرح المقاصد، ص٥٢؛ شرح التفتازاني ص٢٠–٣٢؛ التحقيقق التام، ص١٣؛ الفصل، ج١، ص٧-٨، ج٥، ص١٢٤؛ أصول الدين، ص٦؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص٤١–٤٥؛ المحصل، ص٢٢-٢٣.
٥  أصول الدين، ص٦-٧؛ الفِرَق، ص٣٢٣–٣٢٨؛ النسفي، ص١٥.
٦  المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص٢٣، ص٣٢–٤٣.
٧  الفصل، ج٥، ص١٩٤، ص١٩٧-١٩٨؛ انظر أيضًا دراستنا «عن اللامبالاة» بحث فلسفي، «قضايا معاصرة (١): في فكرنا المعاصر».
٨  الفصل، ج٥، ص١٩٣.
٩  الفصل، ج٥، ص٢٠٤–٢٠٦. ص١٩٥–١٩٧. وقد أفاض ابن حزم في مذاهب الشك لأنه يجمع بين علم أصول الدين وتاريخ الفِرَق.
١٠  الفصل، ج٥، ص٢٠٣-٢٠٤، ص١٩٦.
١١  انظر سابقًا: أولًا: نشأة نظرية العلم وتطورها – (٧) بناء نظرية العلم؛ وأيضًا رسالتنا الثانية: L’Exégèse de la Phénomenologie. La Clarification.
ونظرية الإيضاح مستقلة تمامًا عن التراث الغربي، لها أصولها في مناهج الأصوليين.
١٢  الفصل، ج٥، ص١٩٦، ص٢٠٢-٢٠٣. انظر أيضًا لسنج: تربية الجنس البشري.
١٣  يتضح ذلك في كثير من الآيات القرآنية عن الحواس الخمس، مثل: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٢٢: ٤٦).
١٤  الفصل، ج٥، ص٢٠٦.
١٥  الفصل، ج٥، ص٢٠٠–٢٠٣. ص١٩٣-١٩٤؛ وبالنسبة لتعدد التفسيرات، هذا هو معنى الحديث المشهور: «أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم»، أو «اختلاف الأئمة رحمة بينهم»؛ انظر رسالتنا: Les Méthodes d’Exégèse.
١٦  الفصل، ج١، ص٨-٩؛ التلخيص، ص٢٣؛ شرح التفتازاني، ص٢٠٠؛ التحقيق التام، ص١٣؛ الإرشاد، ص٧؛ أصول الدين، ص٧؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص٤٥–٥٣؛ تحفة المريد، ص٣٣. وأبو هاشم الجبائي هو الذي يجعل الشك أول الواجبات.
١٧  انظر مقالنا: «التفكير الديني وازدواجية الشخصية»، «قضايا معاصرة (١): في فكرنا المعاصر».
١٨  للإمام الشهيد سيد قطب تعبيرٌ مشهور، هو: «الجهل الذي يحمل الدكتوراه».
١٩  شرح الأصول، ص٦١-٦٢؛ المحصل، ص٢٧؛ شرح التفتازاني، ص٤٢؛ المقاصد، ص١٢، ص٨٦–٨٧؛ شرح المقاصد، ص١٣؛ الأنصاري، ص٨؛ تحفة المريد، ص٣١. شرح الخريدة، ص١٣؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٢٣–١٢٥؛ المحيط، ص٣١.
٢٠  يرفض القرآن حجة الأكثرية في النظر والعمل على السواء في كثير من الآيات: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (٥: ١٠٠)، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٦: ١١٦)، وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ (٥٧: ٢٠)، لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ (٤: ١١٤)، وتظهر النواحي العملية في القتال مثل: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (٨: ١٩)، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا (٩: ٢٥)، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ (٢: ٢٤٩). ويشير القرآن إلى الكثرة بأن أكثر الناس فاسقون، لا يشكرون، كافرون، جاهلون، جاحدون، لا يعلمون، للحق كارهون … إلخ.
٢١  شرح الأصول، ص٦١-٦٢؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٢٣-١٢٤.
٢٢  شرح الأصول، ص٦١؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٢٣، ص٥٣١-٥٣٢.
٢٣  الفصل، ج٥، ص١٩٤–١٩٩. انظر أيضًا: الفصل الثامن: العقل والنقل.
٢٤  هو التاج السبكي، تحفة المريد، ص٣٣.
٢٥  المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٢٤–١٢٦؛ شرح الخريدة، ص١٣؛ شرح الأصول، ص١٦١–١٦٣.
٢٦  المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٢٦. والآيات التي تدل على رفض التقليد في القرآن كثيرة، منها آيات، مثل: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٤٣: ٢٣). والآيات التي تشير إلى المسئولية الفردية أيضًا لا حصر لها، مثل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٧٤: ٣٨). وكل آيات الكسب، وهي ٦٧ آية. أمَّا آيات الدعوة إلى العقل، مثل: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أو النظر مثل أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أو البرهان والحجة، فهي أيضًا لا تُحصَى مثل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٧: ٦٤).
٢٧  هناك احتمالاتٌ ثلاث: المقلِّد إمَّا مؤمن غير عاصٍ على الإطلاق؛ لأن النظر شرط كمال وليس شرط وجود، أو هو العاصي؛ نظرًا لتقييد الحكم بشرط الأهلية للنظر، أو هو المؤمن بشرط تقليد الدليل القطعي. تحفة المريد، ص٣١-٣٢؛ الأنصاري، ص٨؛ شرح الخريدة، ص١٣؛ شرح العقيدة، ص١٧–١٩.
٢٨  قال بكفر المقلِّد من المعتزلة أبو هاشم الجبائي، ومن القضاة ابن العربي، ومن المصلحين السنوسي (إتحاف المريد، ص٣٠–٣٨؛ كفاية المريد، ص١٦–١٩؛ شرح الخريدة، ص١٣؛ حاشية العقيدة، ص١٦–١٨؛ تحفة المريد، ص٣٣)، ومن القدماء قال بتكفير المقلِّد ابن حزم الأندلسي.
٢٩  هذا هو موقف إمام الحرمين والغزالي (المواقف، ص٩؛ التحقيق التام، ص٥-٦؛ شرح المقاصد، ص٢٩؛ أشرف المقاصد، ص٢٨–٣٢؛ حاشية العقيدة، ص١٦).
٣٠  وهذا هو تعريف القاضي أبي بكر والكعبي (الإنصاف، ص١٣؛ التمهيد، ص٣٤؛ المواقف، ص١٧؛ شرح التفتازاني، ص٤١؛ تحفة المريد، ص٢٩؛ شرح الخريدة، ص١٢-١٣؛ شرح الأصول، ص٤٦؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٦؛ الفصل، ج٥، ص١٨٥).
٣١  هذا هو تعريف بعض المعتزلة (المواقف، ص١٠؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٧–٢١، ص٥٢٥–٥٣١؛ شرح المقاصد، ص١٩؛ أشرف المقاصد، ص٢٨–٣٢؛ التحقيق التام، ص٥؛ شرح التفتازاني، ص١٥–١٩؛ الإنصاف، ص١٣؛ التمهيد، ص١٣؛ التمهيد، ص٢٤؛ الإرشاد، ص١٢؛ إتحاف المريد، ص١٥؛ ص٢٣–٤٠؛ تحفة المريد، ص١٦-١٧، ص٢١؛ شرح العقيدة وحاشيتها، ص١٦).
٣٢  انظر مقالَينا: «ماذا تعني أسباب النزول؟»، «ماذا يعني الناسخ والمنسوخ؟» في «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني».
٣٣  عند الجبائي: العلم «اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو دلالة»، انظر أيضًا: الإرشاد، ص١٣؛ شرح الأصول، ص٤٦–٤٨؛ الشامل، ص٤٣٠.
٣٤  هذا هو تعريف الإيجي (المواقف، ص١١)، انظر أيضًا: المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص٩، ص١٣، ص٢٦–٣١؛ الشامل، ص١٠٩؛ التحقيق التام، ص٤.
٣٥  انظر رسالتنا، الجزء الخامس، عن منهج الإيضاح: L’Exégèse de la Phénoménologie.
٣٦  هذا هو تعريف الأشعري، بناء على حديث: «إن الله لا ينتزع العلم انتزاعًا، ولكنه ينتزع العلم بانتزاع العلماء» (المواقف، ص١٠؛ مقالات الإسلاميين، ج٢، ص١٤٥-١٤٦).
٣٧  وهو التعريف الذي بقي في الحركات الإصلاحية الحديثة؛ إذ يُضيف محمد بن عبد الوهاب إلى الحديث السابق: «سبب فقد العلم موت العلماء» (كتاب التوحيد، ص٤٦)، ويذكر أيضًا: «البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا نزاع عليه. طائفة الآية العظمى أنهم مع قِلَّتهم لا يضرهم مَن خالفهم. حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين» (كتاب التوحيد، ص٤٦).
٣٨  يُعرِّف أبو هاشم العلم بأنه: «اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إليه.» ويقول القاضي عبد الجبار: «لأن كثيرًا من الأمور لا يمكن بيانه إلا بالرد إلى النفس» (المغني، ج٦، التعديل والتجوير، ص٢٢٦).
٣٩  هذا هو تعريف ابن فورك (المواقف، ص١٠)، انظر أيضًا الأصول، ص٦.
٤٠  هذا هو تعريف الرازي (المواقف، ص١٠؛ التحقيق، ص٥؛ المغني، ج١٢؛ النظر والمعارف، ص٣–١٩، ص٣٣؛ الإرشاد، ص٢–١٣؛ الأصول، ص٥-٦؛ شرح المقاصد، ص٥٥–٥٧؛ المقاصد، ص٥٤–٥٦؛ الشامل، ص١٢٢-١٢٣؛ طوالع الأنوار، ص٣١).
٤١  هذا هو تعريف الحكماء (المواقف، ص١٠-١١؛ المقاصد، ص٢٨–٣١؛ المغني، ج١٢؛ النظر والمعارف، ص٢١؛ التحقيق التام، ص٤-٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤