ثالثًا: حدُّه

(١) نقد التعريف القديم

يكاد يُجمع القدماء على أن «علم التوحيد» أو «علم الكلام» هو «العلم بالعقائد الدينية عن الأدلَّة اليقينية»؛ أي أنه العلم بالأدلة على صحة العقائد،١ والصدق هنا نظري خالص يخضع لقواعد المنطق، ولأساليب البرهان؛ ومِنْ ثَمَّ ينفصل الاعتقاد عن العمل، وهو الفصل الشائع في كل التسميات، فالمراد بالعقائد هنا «نفس الاعتقاد دون العمل»، وكأن العقائد موضوعات نظرية صرفة وليست موجهات للسلوك، كما يخصص القدماء العقائد الدينية بالعقائد «الإسلامية» وحدها في حين أن الأدلة على صحة العقائد تتضمَّن كل دين، فالعقائد واحدة: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس حتى ولو اختلفت التسميات وتضاربت الآراء، وقد تجاوز القدماء أنفسهم العقائد «الإسلامية» إلى عقائد الديانات الأخرى حتى أصبح «تاريخ الأديان المقارن» جزءًا من العلم، كما أن هذا الحدَّ وضع للمنهج أكثر منه حد للعلم أي الاستدلال على صحة العقائد «بإيراد الحجج، ودفع الشبه»، وهو المنهج الجدلي ومعاندة الخصوم، والحقيقة أن هذا التعريف يُثير عدة تساؤلات رئيسية منها: هل هناك أدلة على صحة العقائد أم أن الأدلة يُمكن استعمالها وَفقًا لأهداف المستدل لإثبات أن الشيء صواب أم خطأ؟ فالدليل آلة كالمنطق يتوقَّف على كيفية استخدامه والهدف منه، ويمكن لنفس المتكلم أن يستدل على صحة الشيء وخطئِه في آنٍ واحد طبقًا لمهارته أو مزاجه المتقلِّب أم مصالحه المتغيِّرة، كما أنه يصعب الاقتناع من متكلمَيْن متصارعَيْن، كل منهما يثبت بالدليل نقيض ما يقوله الآخر، وكلاهما مُقنعان (مثلًا: التشبيه والتنزيه، الجبر والاختيار، النقل والعقل … إلخ)،٢ هل هناك نظرية ممكنة يتفق عليها الجميع ما دام الموضوع واحدًا، والعقيدة واحدة أم أننا بصدد فرق ومذاهب متصارعة متناحرة متناقضة تضيع فيها وَحْدة الموضوع؟ وأن هذه الفِرَق لا تعبِّر عن العقائد ولا تستدل على صحتها بقدر ما تستخدمها للتدليل على شيء آخر في الواقع والمجتمع والتاريخ؟ فالفرق والمذاهب مصالح، ومواقف عملية وليس النظر عندها إلا غطاء للعمل وأساسًا له، هل هناك عقائد صحيحة وأخرى خاطئة كما هو الحال في حديث الفرقة الناجية أم أن هناك عقائدَ سُلطة وعقائد معارضة، وأن الذي يحدِّد أحد النمطين من العقائد، الهالكة أم الناجية هو الموقع من السُّلطة ومن يحصل عليها؟ حتى على فرض إمكانية إثبات صحة العقائد بالأدلَّة، هل أقنعت أحدًا؟ هل قويت عقائد الناس أو آمن بها العوام؟ إن الأدلة يمكن الرد عليها بأدلة مضادة فتتكافأ الأدلة، ويقع الناس في الحيرة والتردد والشك واللاأدرية؛ وبالتالي ينتهون إلى الكفر بدلًا من الإيمان طبقًا لمقاييس «علم الكلام» نفسه وتصنيفه للفِرق.٣ هل هناك عقائد أصلًا أم أنها كلها تعبِّر عن مصالح وقوى اجتماعية بما في ذلك التوحيد الذي يعبِّر عن مصالح المضطهَدين والمعذَّبين والمظلومين والفقراء والعبيد والمساكين من أجل إعادتهم إلى البنية الاجتماعية الموحدة، والذي يعبِّر عن القبائل المشتَّتة التي مزَّقت شملها الحروب والمنازعات من أجل توحيدها في أمة واحدة قادرة على وراثة الأرض والإمبراطوريتين المنهارتين آنذاك؟ إن العقيدة تعبِّر عن وضع اجتماعي، تأصيل نظري لموقف إنساني، ولما كانت العقائد هي وسائل للحراك الاجتماعي وكان الحراك الاجتماعي بالضرورة حراكًا لصالح الأغلبية الصامتة، كانت العقيدة ثورة، وكان تاريخ العقائد جزءًا من تاريخ الثورات الاجتماعية، وكان تاريخ الأديان جزءًا من التاريخ البشري، هل حل الصراع العقائدي بالإقناع باستعمال الأدلة على صحة العقائد نظريًّا أم حله بالصراع الفعلي على الطبيعة وفي الواقع؟ لما كان الهدف من العقائد هو التأصيل النظري للأوضاع الاجتماعية والمواقف الإنسانية منها، فإن إثباتها لا يكون بالأدلَّة النظرية من أجل إثبات صحتها النظرية بل يكون بالدفاع عن هذه الأوضاع، كل من موقفه، بالفعل، فالتصديق لا يكون بالعقل بل بالممارسة، لا يوجد «علم كلام» مكتبي لإثبات صحة عقائد نظرية، بل حركة صراع اجتماعي، لا يقوم به متكلِّم من صحن الدار أو المسجد وظهره على عمود، متكئًا على وسادة وأمامه المؤلَّفات والمصنفات، وأمامه التلاميذ، ويحيط به المعجبون والمحاورون، بل يقوم الإمام الفقيه بقيادة هذا الصراع، وقيادة الجماهير في حركة تاريخية دفاعًا عن مصالحها وتحقيقًا للتوحيد، من المسجد وفي الشارع، في الحقل وفي المصنع، بقوة العقيدة وثقل الجماهير من أجل الثورة.
وربما لا يوجد حد آخر للعلم؛ لأنه لا وجود للعلم على هذا النحو القديم، ومع ذلك يُمكن وصفُه بعد إعادة بنائه وتصحيحه وإعادته من الوضع الزائف القديم إلى الوضع الصحيح الحالي، وتحويله ليس فقط من «علم الله» إلى «علم الإنسان»، فقد لا يكون هذا التقابل معبِّرًا تمامًا عن جوهر الحضارة التي نشأ فيها هذا العلم، بل من علم «العقائد الدينية» إلى علم «الصراع الاجتماعي»، فهو العلم الذي يتناول العقائد الدينية كموجهات لسلوك الجماهير اليوم، والتاريخ شاهد على ذلك منذ نشأة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة حتى انتصار الثورة الإسلامية الكبرى في إيران — من أجل المساهمة في حل قضاياهم المصيرية مثل الاحتلال، والقهر، والتخلف، والفقر، والتغريب، وسلبية الجماهير. هو العلم الذي يضع الأسس النظرية لسلوك الأمة الفردي والجماعي في مرحلة تاريخية محددة، وهي المرحلة التاريخية الحالية التي يعيشها جيلنا، فالجماهير ما زالت مؤمنة، تراثية، عقائدية، ولكنها في نفس الوقت في وضع احتلال وقهر وفقر وتجزئة وتخلف وتغريب ولامبالاة، جربتْ مناهج التغيير الاجتماعي والأيديولوجيات العلمانية للتحديث، ولكن ظلت قضاياها الرئيسية كما هي لم تحل إن لم تزد صعوبة بعد أن جُرب التغيير بواسطة القديم، وجُرب التغيير بواسطة الجديد كما جرب التغيير بواسطة التوفيق بين القديم والجديد، وكانت النتيجة إمَّا تقوقع القديم في الجماعات الإسلامية الغاضبة، أو تقوقع الجديد في الجماعات السرية المنتشرة أو انتهاء التوفيق إلى ردة ونفاق واستعمال القديم المتخلِّف كستار للجديد العميل.٤

(٢) وضع تعريف جديد

كما يُلاحَظ على هذا الحد القديم «العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية»؛ أنه خالٍ من أي تحديد لمضمون هذه العقائد الدينية، فإذا كانت العقيدة تعني التوحيد؛ أي نظرية في «ذات» الله فقد يكون ذلك متفقًا مع ظروف نشأة العلم القديمة؛ حيث كان التوحيد النظري بهذا المعنى موضع الأخطار، ومظان الطعان بعد أن انتصر «التوحيد العملي» على الأرض وفُتحت البلدان عندما أراد الأعداء النفاذ إلى مصدر القوة الجديدة وهي العقيدة، ثم انتصر التوحيد النظري وظهر التنزيه ممثلًا في نظرية الذات والصفات والأفعال، وتم إثبات وجود الصانع بالعقل، والبرهنة على صفاته الكاملة، كما تم إثبات النبوة وإمكانها وصدقها، ثم تحول علم التوحيد من الدفاع إلى الهجوم، فأثبت وجوه الخطأ في النقل في الكتب المقدسة في الملل الأخرى، ونقد التجسُّد والتثليث، وبيَّن خطأ الشِّرك، وأخطاء الممارسات العملية للكهان والأحبار.٥ ولما أصبحت المباحث الفلسفية العامة هي الأسس النظرية لعلم التوحيد بعد أن توقَّفت في علوم الحكمة، وتسرَّبت إليه، استطاع العلم أن يقضيَ على آخر ما تبقَّى من تشبيه وفكر ديني تقليدي أو كاد حتى لم تعد الإلهيات والسمعيات أكثر من ربع العلم، واحتوَت المقدمات النظرية الخالصة ثلاثة أرباعه،٦ أمَّا اليوم فقد تغيرت مواطن الخطر ومظان الطعان، وتحولت من ذات الله وصفاته وأفعاله إلى أراضي المسلمين وثرواتهم، حرياتهم وهويتهم، ثقافتهم ووحدتهم، قد تتحوَّل أيضًا المقدمات النظرية العامة من نظرية في العلم يغلب عليها الاستدلال ونظرية في الوجود يغلب عليها مبحث الجواهر والأعراض إلى مقدِّمات نظرية أخرى بها نظرية في العلم يغلب عليها الرؤية المباشرة للواقع والإحصاء الدقيق لمكوناته، ونظرية للوجود يغلب عليها تحليل الوجود الإنساني الاجتماعي ومفاهيمه الرئيسية، مثل الحرية والعدالة والديموقراطية والتقدُّم والتحرُّر والنهضة، لقد تغيَّر الواقع الاجتماعي والسياسي كلية عند القدماء وعندنا، وتحوَّل من دولة منتصرة قديمًا وإمبراطورية مترامية الأطراف إلى دولة محتلة حديثًا متجزئة متخلفة تتكالب عليها الدول العظمى كما الأكلة على قصعتها للقضاء على استقلالها، ونهب ثرواتها، ومنع وَحْدتها، وتشتيت شملها، وإيقاف تقدُّمها، وإجهاض نهضتها.٧ ولما كانت أوضاع الناس الاجتماعية هي أساس الواقع، وكان الواقع أساسًا هي الأوضاع الاجتماعية للناس، فإن الأمور العامة القديمة (الواحد والكثير، الماهية والوجود، العلة والمعلول، الوجود والعدم، الوجوب والإمكان، القِدَم والحدوث … إلخ) بالنسبة لنا هي المفاهيم الحديثة التي تؤثِّر في عقول الشباب، مفاهيم الحرية والتقدُّم والمساواة، والإنسان والمجتمع والتاريخ، والواقع الماضي المهاجم فكرًا والمنتصر واقعًا عند القدماء هو بالنسبة لنا الواقع الحالي المهاجم أرضًا والمهزوم واقعًا، وإذا كان العقل عند القدماء أساس نظرية العلم فإن الوعي عندنا هو شرطها، وإذا كان الوجود عند القدماء هو الوجود الطبيعي أو الميتافيزيقي، فإن الوجود عندنا هو الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأمة، أحوال المسلمين ومصائرهم، ثرواتهم وأراضيهم، وحدتهم وقوتهم، وهو ما فكر فيه المصلحون من قبل، وما حاوله الضباط الأحرار من بعد.٨ علم «أصول الدين» إذن هو العلم الذي يقرأ في العقيدة واقع المسلمين من احتلال وتخلُّف وقهر وفقر وتغريب وتجزئة ولامبالاة، كما يرى فيها مقومات التحرُّر وعناصر التقدُّم وشروط النهضة لو تم إعادة بنائه طبقًا لحاجات العصر بعد أن بناه القدماء تلبيةً لحاجات عصرهم، فقد احتُلت الأراضي وفي مقدمتها فلسطين، ونُهبت الثروات من الاستعمار الخارجي أو الإقطاع الداخلي حتى أصبح يُضرَب بنا المثل في أعلى درجات الغنى وأحط مستويات الفقر، غنى الأقلية المترفة، وفقر الأغلبية المطحونة، وقُضي على الحريات باسم الأهداف القومية والأخطار الخارجية، وانتشرت المحافظة من ثنايا الثورة المعاصرة وبراثن الحركة التقدمية، وزاد التغريب، وضاعت الهوية أو كادت وهي ترزح تحت أكوام المترجمات التي تمنع العقل من الفكر والإبداع، وتجزَّأت الأمة وتشتَّتت، وتقطعت أوصالها وأطرافها بعد أن كانت أمة واحدة قلبًا وأطرافًا، محورًا ومحيطًا، مركزًا ودوائر. فإذا كان علم أصول الدين يقوم تلبيةً لحاجات العصر، وكانت هذه متغيرة من عصر إلى عصر، فإننا إذا عددنا حاجات المسلمين اليوم التي يمكن أن تكون مادة لعلم أصول الدين وباعثه الأوَّل على إعادة بناء العقيدة وجدناها:
  • (أ)
    الحاجة إلى وضع أيديولوجية واضحة المعالم وسط هذا الخضم الكبير من أيديولوجيات العصر المنتشرة فوق الواقع، سواء كانت مُستعارة أو محلية، متخلفة أو توفيقية، بين هذا وذاك. وعلى هذا النحو يمكن حل موضوع «الأصالة والمعاصرة» الذي ما زلنا نتجادل حوله ونبحث فيه منذ فجر النهضة الحديثة حتى الآن، وربما إلى عدة أجيال قادمة أخرى إن لم يقدر لمشروع «التراث والتجديد» أن يعيش ويستمر ويؤثر، وينقل الحضارة من طور إلى طور، من طور الشروح والملخصات إلى طور النهضة الثانية، من القرون السبعة الأخيرة (من السابع حتى الرابع عشر) إلى قرون سبعة قادمة (نهضتنا الأولى من القرن الأوَّل حتى السابع)، حينئذٍ يربط الناس بين ماضيهم وحاضرهم، ويقومون بحركات التغير الاجتماعي من خلال التواصل لا الانقطاع، وتنتهي الازدواجية من حياتنا، ويتوارى فصام الشخصية الوطنية بين الحركة الدينية المحافظة والحركة التقدمية العلمانية، ويكون «علم أصول الدين» قد حقق الهدف المرجو منه، وهو إقامة علم نظري من أجل توجيه الواقع، سدًّا للفراغ النظري والركود العملي في حياتنا المعاصرة، فيُعاد فهم العقيدة، ويُعاد تصورها وتأصيلها في وجدان العصر، وخلق ثقافة وطنية مرتبطة بجذورها في القديم، وقائمة على تحليلات الواقع المعاصر؛ ومِنْ ثَمَّ نشأت الحاجة إلى معرفة إحصائية دقيقة لواقعنا المعاصر حتى يمكن فهم العقائد وتفسيرها على أساسها كما يفعل الأصولي القديم في البحث عن العلل الفاعلة والمؤثرة في سلوك الناس، كما أننا في حاجة إلى تحليل نفسي اجتماعي للجماهير حتى يمكن معرفة موجهات سلوكها وبواعثها، وإعادة تفسير العقائد حتى تكون موجهات مثالية للسلوك، ويستدعي ذلك تطوير حركات الإصلاح الديني الحديث التي لم تؤت أكلها بعد، ولم تستفد أغراضها كلها، بل وإقالتها من عثراتها وردتها وتراجعها من مؤسسها الأوَّل حتى ممثلها الأخير.٩ وعلى هذا يمكن الانتقال من الإصلاح إلى النهضة حتى يمكن الانتقال بعد ذلك من النهضة إلى الثورة، كما يستدعي إرساء قواعد النظرة العلمية كما كان الحال عند القدماء خاصةً في علم أصول الفقه، وهي النظرة التي تسلم بكل معطيات الواقع المادية والمعنوية، كل ذلك يؤدي بنا في نهاية الأمر إلى صياغة جديدة لعلم أصول الدين وفروعه مثل «لاهوت الثورة»، «لاهوت التحرر»، «لاهوت التنمية»، «لاهوت التغيُّر الاجتماعي»، «لاهوت المقاومة»، «لاهوت التقدُّم»، «لاهوت العدالة الاجتماعية»، «لاهوت الوحدة»، «لاهوت الجماهير»، «لاهوت التاريخ» … إلخ، وتلك هي «رسالة التوحيد».
  • (ب)
    ليست مهمة علم أصول الدين الجديد نظرية فحسب، بل هي أيضًا مهمة عملية من أجل تحقيق الأيديولوجية بالفعل كحركةٍ في التاريخ بعد تجنيد الجماهير من خلال ثورة عقائدها؛ ومِنْ ثَمَّ كان من مهامه القضاء على احتلال أراضي المسلمين المباشر منها مثل فلسطين وغير المباشر منها في صورة قواعد أجنبية أو تسهيلات دفاعية برية أو بحرية لقوى أجنبية شرقية أو غربية أو الأحلاف العسكرية أو المناورات المشتركة أو تبادل المعلومات العسكرية والخبرات الفنية، تعدَّدت الأسماء والمسميات واحدة، ومن مهامه أيضًا القضاء على نهب ثروات المسلمين من الخارج ونهب الإقطاع لها من الداخل، وإعادة توظيفها لخدمة جماهير المسلمين، والقضاء على استغلال هذه الثروات من الخارج أو الداخل من أجل قيام اقتصاد وطني مستقل للأمة، وكذلك أيضًا تنمية موارد المسلمين الطبيعية وعدم تركها نهبًا من الخارج أو دون السيطرة عليها وتركها للكوارث والفيضانات، وغريب حقًّا عندما يذكر الثروة والغنى فيُذكر المسلمون؛ الأغنياء الجدد منهم، وعندما يذكر الفقر والجوع يُذكر أيضًا المسلمون؛ عامة المسلمين، وكأنها ليست أمة واحدة بل أمتان، المال فيها دولة بين الأغنياء، والفقر فيها شائع وعام بين الفقراء، ومن مهامه أيضًا القضاء على كل صنوف القهر والتسلُّط، يضرب بالأمة المثل في وفرة عدد المسجونين السياسيين، واضطهاد المعارضة، وهربها من أوطانها إلى الخارج، والتصفية الجسدية للخصوم، وصياغة القوانين الاستثنائية والدساتير من أجل التقنين لحكم الفرد المطلق، وإجراء الاستفتاءات الشعبية لانتزاع الناس حرياتها وهي منزوعة سلفًا، كما يهدف إلى توحيد الأمة، ولم شتاتها، وجمع أجزائها المبعثرة، وتجاوز الحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار بين أجزاء الأمة، وأثار الأحقاد والضغائن بين طوائفها وجعلها أحزابًا وشيعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. ويكون همه الرئيسي القضاء على كل مظاهر التخلُّف في الأبنية التحتية والفوقية، في الهياكل الاجتماعية والتصوُّرات الذهنية حتى يمكن نقل المجتمع كله من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، ويتحوَّل من الخلود إلى الزمان، من الفيض والصدور من الأعلى إلى الأدنى إلى التقدُّم في التاريخ، من الأمام إلى الخلف، كما يقضي على التغريب محافظةً على الهوية، ويحجم الآخر إبرازًا لدور الأنا، ورد الحضارات الغازية إلى حدودها الطبيعية لإفساح المجال لإبداع الحضارات المحلية،١٠ وأخيرًا تكون المهمة تجنيد الجماهير، فتكون العقيدة المتحركة، والتوحيد الحي، فالتوحيد والجماهير واجهتان لشيء واحد، والعقيدة والحزب يمثِّلان النظر والعمل، يجمعان بين الإيمان والتصديق، ولا يبدو في ذلك أي تجاوز لعلم أصول الدين وإلحاقه بعلم الفقه؛ وذلك لأن الفصل بين العلمين غير واقع، وإن كُنَّا قد ورثناه من التراث، ومهمتنا إعادة بناء التراث من أجل إقامة «لاهوت الفقه» و«عقيدة الثورة»؛ أي تأسيس علم أصول الدين الذي يقوم على الاجتهاد، والذي يجمع بين النظر والعمل، بين الأصول والفروع؛ وهو «الإسلام السياسي» الذي طالما مارسه المصلحون وحاول صياغته النظَّار والباحثون.١١
  • (جـ)
    ليست مهمة علم أصول الدين عملية نظرية فحسب، بل عملية فعلية في الواقع؛ أي الدفاع الفعلي وتحقيق التوحيد في العالم الإسلامي، قلبه وأطرافه بصرف النظر عن الأسماء المحدثة له: العالم الأفريقي الآسيوي، العالم الثالث، مؤتمر القارات الثلاث، دول عدم الانحياز، الشعوب المتحرِّرة حديثًا … إلخ، فمنذ فشل الحروب الصليبية قديمًا في الغارة على العالم الإسلامي، قلبًا وبرًّا، بدأت المحاولة الثانية بالالتفاف حوله، أطرافًا وبحرًا، فيموت القلب نزيفًا وتتآكل الأطراف جمودًا، وتتساقط الواحد تلو الآخر. ينتشر سرطان الغزو الصهيوني الاستيطاني في القلب ابتداءً من فلسطين وتتآكل الأطراف تحت ضربات الاستعمار في جنوب شرقي آسيا، ووسط أفريقيا وجنوبها، والحزب الإسلامي الجماهيري قادر على تجنيد المسلمين وطاقاتهم بدلًا من التحزُّب والتشعُّب والتشتُّت في الأيديولوجيات العلمانية أو السلبية واللامبالاة وإيثار موقف المتفرِّج الذي لا يعنيه من الأمر شيء؛ وبالتالي تتأكَّد وَحْدة العالم الإسلامي الحالي، الفكرية والعملية، العقائدية والتشريعية، سواء كان ناطقًا بالعربية أم بغير العربية، تركية أو فارسية أو أردية أو ماليزية، فالروابط الثقافية، والتاريخ الحضاري، والعقيدة المشتركة، والمخاطر الواحدة؛ أقوى من الحدود القومية. يمكن تكوين جبهة واحدة من دول آسيا وأفريقيا ضد المخاطر التي تهدِّدها والآتية من الاستعمار الغربي القديم والجديد، ومواصلة النضال المشترك من خلال «ثورة العقيدة» أو «عقيدة الثورة»، واستئناف التعريب، والانتشار الحضاري، والتعمير البشري والعمراني، هذه الجبهة تكون نواة لتوحيد المسلمين في نظام واحد، اتحادي أو فيدرالي أو كونفيدرالي أو وحدوي، وهو ما تصبو إليه الأمة وما يعجُّ في صدرها، تأخذ «الخلافة» إذن مدلولها الحديث، يكون هو اتحاد آسيا وأفريقيا والمتعاطفين معه من دول العالم الثالث أو دول عدم الانحياز أو دول القارات الثلاث، ثم تنفتح على الشرق كما كان الحال قديمًا؛ حيث انتشرت الحضارة شرقًا بينما عاداها الغرب حتى الآن، وكما دُعي إلى ذلك في حركاتنا الإصلاحية الحديثة من إنشاء «للجامعة الشرقية» بعد أن ربطَنا الاستعمار بمنطقته الحضارية، جغرافيا وثقافة، وجعلنا امتدادًا بحريًّا له، ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا وبشريًّا، وإمكانيات العالم الإسلامي الحالية النظرية والعملية ضخمة تساعد على تحقيق هذا المطلب، يزيد عليها ربط المؤسَّسات الإسلامية والمعاهد العلمية، ومراكز الأبحاث والجامعات الوطنية والتنسيق بين الأحزاب السياسية وتبادل الصحف اليومية والدوريات حتى يمكن توحيد العمل، وتحقيق ما يمكن تحقيقه من خطة شاملة يتم إنجازها خطوة خطوة، فالعمل الجماعي هو الوسيلة لخلق إمكانيات جديدة للأفراد؛ وبالتالي تحل مشاكل التربية الإسلامية، وإعادة خلق المسلم الكامل كفرد ثم إعادة بناء الجماعة الإسلامية كأمة من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية، وخلافة الأمة في الأرض؛ وهو ما ركزت عليه أيضًا الدعوات الإصلاحية الحديثة، فإذا تم ذلك يمكن للعالم أن يجد قيادة جديدة فكريًّا وعمليًّا، وريادة إنسانية شابة بعد أن تخلَّت القيادات القديمة، وعلى رأسها القيادة الغربية، عن مثلها، وتوارت إلى الخط الخلفي، وإن كانت ما زالت تُصارع من أجل البقاء، ومن أجل البعث بدماء جديدة، وتغيير جذري في النظر والسلوك.١٢
١  التحقيق التام، ص٢-٣؛ المقاصد، ص١٢–١٦؛ شرح المقاصد، ص١٦-١٧؛ أشرف المقاصد، ص١٦؛ المواقف، ص٧؛ تحفة المريد، ص١٢؛ إتحاف المريد، ص٢٥؛ شرح الخريدة، ص٩؛ الحصون، ص٥؛ شرح التفتازاني، ص١١؛ حاشية الإتحاف، ص٢٧.
٢  عُرف عن ابن الراوندي ذلك وغيره من طبقة المتكلمين المهنيين، إبرازًا للبراعة أو تغيرًا للمصلحة طبقًا لاتهام الخياط له ولهم.
٣  انظر الخاتمة: «من الفرقة المذهبية إلى الوحدة الوطنية».
٤  انظر: «التراث والتجديد»، أزمة التغير الاجتماعي، ص٣٧–٥١؛ أيضًا: «التراث والتغير الاجتماعي»، «قضايا معاصرة (٣): في الثقافة الوطنية»؛ «اليسار الإسلامي ومستقبل مصر»، «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني»؛ وأيضًا: Des Idéologies modernistes à L’Islam Revolutionaire. Paris, 1983. The Origins of modern Concervatism and Islamic Fundementalism, Amsterdam, 1979. Islamic Alternative in Egypt. USA. 1980.
٥  يتَّضِح ذلك بوجهٍ خاصٍّ في «الفصل» لابن حزم، وفي «الملل والنحل» للشهرستاني.
٦  انظر الفصل الثاني: «بناء العلم».
٧  انظر: التراث والتجديد، تغير البيئة الثقافية، ص١٥٧–١٧١.
٨  «إجهاض العقول»، «مخاطر السلام»، «الضباط الأحرار أو المفكرون الأحرار»، في «قضايا معاصرة (٣): في الثقافة الوطنية».
٩  انظر: «ماذا يعني اليسار الإسلامي؟» في «اليسار الإسلامي»، العدد الأوَّل.
١٠  انظر بحثنا: «التراث والنهضة الحضارية»، «قضايا معاصرة (٣): في الثقافة الوطنية».
١١  نخص منهم بالذكر صديقنا الأستاذ الدكتور أنور عبد الملك في بحوثه العديدة حول «الإسلام السياسي» و«نهضة مصر» و«ريح الشرق» و«الجبهة الوطنية المتحدة».
١٢  وقد كان ذلك أيضًا مشروع مالك بن نبي في: «فكرة الآسيوية الأفريقية»، و«شروط النهضة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤