أسر
سارت السفن بابن عباد وأسرته وهم في غم ونواح: ملك زال كأنه ضحوة من نهار، وعز طار كأنه حلم نائم، وسطوة وسلطان حلَّ مكانهم الذل والإسار، فكان المعتمد دائمًا مطرقًا مفكرًا، وكان ينظر إلى قيده ويقول:
ولما بلغت السفن طنجة، رأى المعتمد جماعة بالبادية يستسقون لقلة المطر، وشدة الجفاف، فقال:
ثم نقل إلى أغمات، وأودع السجن فقال:
وكانت بناته يعشن في السجن من غزل أيديهن في فقر وكفاف عيش، فحل أول عيد له بالأسر، فدخلن عليه في أطمار بالية، وقد غيرهن البؤس، وأنحلهن السغب، فلما رآهن قال:
ورأى من نافذة السجن، سربًا من القطا، يطير حرًّا طليقًا، فهاج وجده وأنشده:
وقتل المرابطون ابنه المأمون بقرطبة، وابنه الراضي برندة، فزاد جزعه واشتد حزنه، فقال:
ولم يزل في أنينٍ وحنين، يرسل الزفرات ويطوي صدره على اليأس، حتى أدركته منيته سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة.
ومن العجيب أن هذا الملك الذي سار في الخافقين ذكره، وهز أعطاف الزمان شعره، وكان اسمه على كل لسان، والثناء عليه يجلجل في كل مكان — ينادى للصلاة عليه بعد موته فيقال: الصلاة على الغريب!!
إن من الغريب أن يكون ابن عبّاد غريبًا!!
وبعد أيام من موته، قدم إلى «أغمات» شاعره أبو بكر بن عبد الصمد، وكان اليوم يوم عيد، فوقف على قبره خاشعًا باكيًا.
وحشد الناس حول القبر يبكون وينتحبون، ثم سكن الجمع، وأخذ ابن عبد الصمد ينشد:
وقرأ قارئ بصوت نديٍّ، شجيّ النبرات: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.