السنوات الأولى

في عام ١٩٢٦، دُعي صبي يعرف باسم ريتشي، يبلغ من العمر ثلاثة أعوام، طُبع على الفضول ويعيش في الطابق الأرضي من منزل خشبي لأسرتين في شارع تيلر في برونكس؛ دُعي إلى الصعود إلى الطابق العلوي من مسكنه لمشاهدة الأولاد الأكبر سنًّا وهم يلعبون بالقطارات الكهربائية. كان سكان الطابق الثاني هم فتًى مراهق يدعى سامي كان يتحمل وجود الصغير ريتشي، وثلاثة أشخاص راشدين نادرًا ما كانوا ينتبهون لوجوده. وفي الوقت الذي تحوَّل عنه انتباه سامي للحظات، جلس ريتشي على قضبان القطارات الكهربية واجتاحته نوبة من البكاء عندما اكتشف ما أدركه بنجامين فرانكلين قبل قرنين من الزمان، وهو أن البول موصل جيد جدًّا للكهرباء. وهكذا كان ولوج ريتشي إلى عالم الفيزياء على نحو غير معتاد بالمرة.

بعد أعوام قليلة من ذلك، كان أول تعارف جدير بالذكر لريتشي مع الجاذبية الأرضية، عندما كانت سيارة والده الفورد من طراز تي تقف على التل خارج منزله. كان الصبي ذو السنوات الست كعادته يدخل السيارة ليمسك بعجلة القيادة ويحرِّكها متخيلًا نفسه في رحلة على أحد الطرق السريعة. وعندما حرر الصبي مكابح السيارة دون قصد، تدحرجت السيارة إلى أسفل التل، وتوقفت دون حدوث أضرار عند الرصيف، كان فطنًا بما يكفي ليقفز بعيدًا خارج السيارة، لكنه لم يكن بالمهارة التي تحول دون أن يتلقى العقاب الذي أنزله به والده. وبذلك تأثرت مؤخرته بقانون نيوتن الرابع للحركة الذي ينص على أن: لكل فعل طائش رد فعل مساوٍ ومؤلم. وهكذا، ما بين فرانكلين ونيوتن ومؤخرة تعاني الألم، بدأ ريتشي يشعر بشغف عكسي نحو الفيزياء.

كانت والدة ريتشي دائمًا ما تصف سلوك ولدها بأنه نضج مبكر. ولم يكن هذا صحيحًا؛ فقد كان ريتشي طفلًا مزعجًا. ففي زفاف عمته أثار جلبة عظيمة حين طارد قطة سوداء في ممر الكنيسة، ثم أفسد الحفل الذي تلا ذلك بالتقيؤ على حلبة الرقص. لقد زاد من درجة الفوضى إلى حد بعيد جاوز الحد الذي يقتضيه قانون الديناميكا الحرارية الثاني. ولعله كان مستحقًّا لعقاب فوري في ذلك الوقت، لكن أنقذه جلال المناسبة.

وفي العام الذي ولد فيه ريتشي، افتُتح استاد «يانكي ستاديوم» على بعد بضعة أميال من محل إقامة عائلته في برونكس. وكان ريتشي في الخامسة من عمره حين اصطحبه والده لمشاهدة بيب روث (لاعب البيسبول الشهير). كان بيب يخطف أنظار المشجعين إلى الناحية اليمنى من الملعب عن طريق الطيران إلى الأمام للإمساك بإحدى الكرات الطائرة المنخفضة، ثم التدحرج عدة مرات حتى تنفد القوة التي تدفعه إلى الأمام. وقد كان هذا العرض المثير لتعاقب كمية الحركة الخطية وكمية الحركة الزاوية؛ يتوافق مع رد فعل الجماهير تجاه ظهور بيب الممتلئ بالحيوية وهو ممسك بمضرب البيسبول. ومنذ تلك اللحظة، صارت لعبة البيسبول أهم عند ريتشي من اهتماماته الفكرية.

نتج عن الزيادة الكبيرة في أعداد الصبية من جيران ريتشي في الشارع الذي يقطن به في برونكس وجود أنواع كثيرة من اللعبات، وكانت لعبة ستيك بول (نوع من البيسبول) من أكثرها شعبية. كان كل ما تحتاجه هذه اللعبة شارعًا، والشوارع متوفرة لدى الجميع، وكرة تنس أو كرة من المطاط الخالص — وبطريقة ما، كانت توجد واحدة دومًا — وعصا مكنسة. وكانت عصا المكنسة هذه هي التي تمثل مشكلة. ذلك أن الصبية كانوا كثيرًا ما يتوددون إلى أمهاتهم للحصول على واحدة، لكن دون تحقيق نجاح يُذكَر. ودائمًا ما كان الجواب يأتي بالنفي عن السؤال: «أماه، هل لديكِ أي مكانس قديمة؟» فقد كان الصبية يضيعون مقابض تلك المكانس أو يكسرونها قبل أن تتلف رءوسها بمدة طويلة، وكثيرًا ما كانوا يضحون بمكانس منزلية في حالة جيدة للغاية من أجل أصدقائهم. دفع ذلك جدة ريتشي إلى أن تضع تلك المكانس في خزانة مغلقة، إلا أن المكانس ظلت أعمارها قصيرة للغاية إذ كانت الجدة تُضطَر إلى فتح الخزانة بين الحين والآخر. وعلى الرغم من هذه الحوادث المتفرقة التي تُعد سرقة منزلية، ظل ريتشي صبيًّا «رائعًا» في عين والدته، مع أنه لا يذكر مطلقًا أنه استخدم المكنسة فيما صُنعت من أجله.

ومما يدل بقوة على السلوك المزعج لريتشي أيام شبابه المبكر غضبه من إغلاق ملعب البيسبول المجاور لمنزله أمام بيسبول الكرة الصلبة (بسبب كثرة عدد النوافذ التي تعرضت للكسر). فقد عُلِّقت لافتة تخبر شباب الحي بالقواعد والتعليمات الجديدة. فما كان من ريتشي وأحد أصدقائه إلا أن جلبا علبة طلاء أبيض، وفي منتصف إحدى الليالي غطيا اللافتة بالكامل بهذا الطلاء. لكن للأسف لم يكن ذلك الطلاء إلا محلولًا مبيضًا من ماء الجص وحين سقط المطر أزال كل ما قاما به وعادت اللافتة كما كانت. وللأسف الشديد، حلت رياضة الكرة اللينة محل بيسبول الكرة الصلبة بصفة دائمة. وحيث إن لعبة الكرة اللينة لم تكن هي وسيلة التسلية الوطنية في ذلك الوقت، نتج عن هذا الحدث مرور ريتشي بفترة عصيبة من الحرمان والألم النفسي المصاحب له. كان هو وأصدقاؤه يُضطَرون إلى السير أميالًا طويلة للعثور على ملعب ذي أرض عشبية.

لم يكن كسر النوافذ هو الخطر الوحيد المصاحب للعب بيسبول الكرة الصلبة في حي مأهول بالسكان. ففي إحدى المرات، كانت والدة ريتشي تسير على الرصيف المجاور لملعب الكرة عندما أصابتها ضربة كرة في جانبها الأيمن فوق الخصر. وعلى أثر ذلك، سقطت أرضًا، وهرعنا جميعًا إليها. ولكنها نهضت واقفة وأكدت لنا أنها على ما يرام دون أن تبدو عليها علامات الانزعاج.

علق أحد أصدقاء ريتشي على هذه الحادثة قائلًا: «ريتشي، إن والدتك امرأة حديدية حقًّا.»

ثم عرف ريتشي بعد ذلك أن والدته كانت ترتدي درعها. وعندما التحق بالعمل في مختبر أدوات بالجيش بعد انتهاء الحرب وجَّه اهتمامه إلى مقاومة القذائف، وساعده ذلك على فهم السبب الذي حال دون إصابة أمه بأذًى أثناء الحادث. فقد كانت الدرع التي ترتديها أمه حزامًا تشده على الخصر يوزع الضغط على منطقة واسعة. وهكذا تظهر الفيزياء في أغرب المواقف!

لعب علم الصوت دورًا في شباب ريتشي. كانت والدته تمتلك أقوى رئتين في شارع تيلر. وعندما كانت تصيح «ريتشي!» عدة مرات كان صوتها ينتقل عبر عدة بنايات ويأتي ريتشي مسرعًا. أما والده فكان أسلوبه أكثر براعة؛ إذ كان يكتفي فقط بالصفير باستخدام نغمتين فقط؛ نغمة «مي» يصعد بها في حركة منزلقة إلى نغمة «سي». ولا يدري أحد حتى الآن كيف كان صوت والده يصل إلى المسافة نفسها التي يصل إليها صياح والدته. لا شك أن لذلك بعض التفسيرات الفيزيائية والفسيولوجية المثيرة.

مع ذلك كله، وعلى الرغم من سذاجة ريتشي العلمية آنذاك، كانت قوانين الفيزياء تنال منه دائمًا. فقبل عام من انهيار سوق الأوراق المالية (البورصة) عام ١٩٢٩، عندما كان الاقتصاد بعدُ بحالة جيدة، أمضت العائلة الصيف في جزيرة كوني. ورغم التحذيرات التي تلقاها ريتشي من أمه، فقد قضى يومه الأول كله يلعب في الرمال ويعدو على الشاطئ، وهكذا أصابته حروق مؤلمة. لقد أحدثت الأشعة فوق البنفسجية ضررها. كانت الحروق مؤلمة للغاية حتى إنه في ساعات صحوه كان يجلس في المطبخ بلا حراك. وحين شاهدته إحدى زائرات المنزل على هذا الوضع علَّقت بقولها «يا له من صبي مطيع!» ولم تغب عن ريتشي السخرية في كلماتها.

افتُتن ريتشي بالبواخر التي تعبر المحيط ذات الثلاث المداخن والأربع، التي تمر بجزيرة كوني في طريقها من موانئ مانهاتن وإليها. ولعل ذلك أثر لاحقًا على قراره بالالتحاق بالبحرية وتأليف رواية عن الباخرة الضخمة لوسيتانيا. فالبواخر الضخمة مثل ماجستيك وليفياثان وبرنجاريا وموريتانيا كانت تستدعي في الخيال صورًا عن المغامرة والفداحة.

وقد تسببت زيادة معرفة ريتشي بمخاطر الجاذبية والتغيرات المفاجئة في كمية الحركة في تعرضه لأولى الحوادث التي كادت تودي بحياته، وذلك عندما انزلقت المزلجة التي كان يتزلج بها في أحد التلال على كومة من الجليد وأدي ذلك إلى ارتطام جذعه بشجرة. تسبب نقص الاحتكاك بين شفرة المزلاج الفولاذية والجليد إلى لزومه مستشفى موريسانيا لعدة أسابيع. كان الضرر الذي لحق بكبده مؤلمًا إيلامًا بالغًا، لكنه لحسن الحظ كان قابلًا للشفاء ذاتيًّا. وقد استحوذت عليه خيالات الموت أثناء الفترة التي قضاها في المستشفى وأخذ يتساءل عما سيصبح عليه مستقبله في الحياة إن أتيحت له فرصة ثانية للنضج ومواصلة حياته. لكن لم يخطر بباله قط أنه قد يصبح فيزيائيًّا، أو عالِمًا، بل على وجه الخصوص كاتبًا «لم تُنشَر أعماله».

قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الفيزياء مجالًا منعزلًا لا يكاد واحد بالمائة من الأشخاص يدرك ماهيته، وكان مفهوم كلمة فيزياء عند البقية الباقية من الناس لا يزيد عن كونها مصطلحًا يشير إلى أنواع الأدوية المسهلة أو محلول الماجنيزيا. وباستثناء ألبرت أينشتاين، الذي كان عنوانًا للعبقرية، وجائزة نوبل، التي كانت مرادفًا للشهرة والثراء السريعين، ظلت الفيزياء ومبادئها الأساسية مجهولة لريتشارد إلى أن التحق بمدرسة «موريس هاي سكول» الثانوية في سن السادسة عشرة. وكان سبب التحاقه بالمدرسة الثانوية مبكرًا هو ترقيته صفًّا كاملًا ثلاث مرات في المدرسة الابتدائية. وقد حدث ذلك عندما قرر نائب المدير، السيد برايس، إعادة توزيع عبء التدريس عن طريق اختيار أفضل الطلاب للترقية الفورية. فما كان منه إلا أن دخل الفصل في منتصف العام الدراسي وأشار نحو عدد من الطلاب قائلًا: «أنت، وأنت، وأنت، وأنت، اتركوا كتبكم واتبعوني.» لم يستغرق ذلك أكثر من دقيقة واحدة. في تلك الأيام، كان الطلاب يهابون مساعدي المديرين، وكان هؤلاء المساعدون على درجة كبيرة من البراعة في إنجاز المهام. (لم يرَ ريتشي مدير المدرسة إلا نادرًا، وقد عرف فيما بعد عن ذلك المدير إدمانه الشديد للخمر، مما جعله يفضل أن يتولى مساعده القيام بأعماله نيابة عنه.)

قبل أسبوع واحد فقط من إحدى هذه الترقيات الفورية، طُلب من ريتشي إحضار والدته لمقابلة السيد برايس. وكان يعرف السبب. فقد كانت في فصل ريتشي فتاة ذات شعر أحمر اسمها فرجينيا، وكان ريتشي مولعًا بها لكن لم تواتِه الشجاعة الكافية مرة ليتحدث إليها. وأثناء عودته إلى منزله ذات يوم، ابتسمت له هذه الفتاة. انعقد لسان الفتى تمامًا، فضربها حتى يخفف من حدة التوتر الذي يشعر به. وأمام النظرات الحادة للسيد برايس والفتاة وأمها، تمكَّن ريتشي من النطق بالاعتذار عما فعل، ومنذ ذلك الوقت أصبح صديقًا حميمًا لفرجينيا التي التحقت فيما بعد بأحد أديرة الراهبات.

أصبحت التجربة هي عماد المنهج التجريبي الذي اتبعه ذلك الشاب القادم من برونكس، كما حدث في أول أيامه بدار الحضانة عندما جرى إلى دورة المياه الخاصة بالفتيات، وتبعته المعلمة مسرعة لتجذبه من أذنيه بشدة وتدفعه إلى دورة مياه البنين. بالطبع لم يكن لذلك الطفل في تلك السن الصغيرة أن يدرك طبيعة «الجريمة» التي ارتكبها، نظرًا لأن البيت الذي كان يعيش به آنذاك لم يكن به إلا دورة مياه واحدة يرتادها الجميع، مع ذلك نُزعت عنه براءته في تلك اللحظة القصيرة في الخامسة من عمره. ولم يقبل ذلك الطفل قط بعد ذلك على تكرار هذه الفعلة، مما يدل على أنه متبع جيد لمنهج التجريب.

وكان من بين معلمي ريتشي معلِّم رياضيات يُدعى فريمان، وكان رجلًا لا يتسامح مطلقًا مع أي سلوك غير منضبط، وعقوبته للتلميذ الذي يرتكب خطأً ما تشمل القبض بإحكام على أذن ذلك التلميذ وسحبه على أرضية الفصل وتركه في الردهة فريسة لأعين كل من يمر به. واكتشف ريتشي أنه من المستحيل الإفلات من قبضة قوية تمسك بأذن المرء. وكان على السيد فريمان أن يدرك أن مثل هذه المعاملة من مفتش تذاكر على متن أحد القطارات هي التي تسببت في إصابة توماس إديسون بالصمم حين كان فتًى مراهقًا. وكان ضعف السمع لدى ريتشارد ليظهر فيما بعد في كل مرة كانت والدته تطلب منه تأدية مهمة ما. أما فيما يخص حصة الرياضيات الخاصة بالسيد فريمان، فقد كان أداء ريتشارد فيها طيبًا؛ إذ كان انخفاض الحد الأدنى لتحمل الألم حول شحمات أذنه هو صاحب الدرجات المنخفضة.

إذا كان شيء ما قد غرس في ذهن ريتشارد فضولًا فكريًّا تجاه العالم، فلا بد أن ذلك الشيء هو مجموعة «كتاب المعرفة» القديمة التي ظهرت في منزله يومًا من الأيام. فجأة، بفضل تلك المجموعة، صارت حياة ريتشارد التي كانت تملؤها ألعاب البيسبول، وستيك بول، وكرة السلة، والصراع ضد الكساد — تعج بالمسائل العقلية كالألغاز الرياضية. وفي الأيام التي كان يهطل فيها المطر، ونظرًا لعدم امتلاك الأسرة مذياعًا، كانت مجموعة «كتاب المعرفة» هي معبر ذلك الشاب إلى معارف لم يكن ليتعرض لها في ملاعب البيسبول أو أثناء تسكعه في متاجر الحلوى القريبة.

كان للفقر السائد في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين بصمات عميقة الأثر في نفس ريتشارد. فقد جعلت هذه الحقبة من الزمن — قبل أن يقلب فرانكلين روزفلت والحرب العالمية الثانية حالة الاقتصاد العالمي رأسًا على عقب — الكثيرين مثل والد ريتشارد يشعرون أن الرأسمالية قد خذلتهم. فقد ظل أبوه سنوات يبحث عن وظيفة ثابتة بعد أن منعه كبرياؤه من تقبل الإعانة والصدقة. في تلك الأثناء، كان على ريتشارد السير أميالًا لشراء أكياس من الخبز القديم المتعفن، ولشد ما يكون حرجه إذا ما رآه أحد من الجيران. في تلك الأيام، قبل إضافة المواد الحافظة، كانت أرغفة الخبز تشبه الخرسانة، وتحتاج إلى غمسها في قهوة ساخنة حتى يمكن تناولها. وكان مؤيدو اليسار المتشدد آنذاك يبثون أفكارهم في المجتمع خلال فترة الكساد التي استحوذت على خيال ريتشارد. وكانت والدة ريتشارد وجدته، اللتان كانتا من المؤيدين المخلصين، تجهشان بالبكاء عندما كان يردد بعض العبارات المناهضة للسلطة التي سمعها فيما بعد عندما التحق بالكلية.

وعلى الرغم من الأوقات العصيبة، وجد ريتشارد وأخوه الأصغر المأوى والحماية لدى والديهما. كانت الرياضة هي الشغل الشاغل لريتشارد في أيام صباه، حيث داعبه، كغيره من الصبية، حلم واحد فقط هو أن يصبح لاعب بيسبول. أما أقاربه المقربون فقد اقترحوا أن يضع مهنة التدريس نصب عينيه، فهي مهنة مجزية خلال فترة الكساد. وأثناء دراسته بالمدرسة الإعدادية، تأثَّر كثيرًا بأحد المدرسين الذي زعم تدريسه للاعب البيسبول المشهور هانك جرينبيرج، وقد أشار ذلك المعلم إلى المقعد الذي كان يجلس عليه ريتشارد في الفصل باعتباره المقعد نفسه الذي شغله لاعب البيسبول. وكان أحد زملاء ريتشارد، وهو جابرييل بريسمان، متميزًا في اللغة الإنجليزية؛ حيث كانت مواضيع الإنشاء التي يكتبها تنم عن إتقان ومعرفة باللغة تفوق أي تلميذ آخر داخل الفصل. ومع ذلك، ظل ريتشارد يشعر بالزهو لمعرفته أن جابرييل لا يمكنه رمي كرة البيسبول. كما أنه ظل يخبر نفسه أن اسم جابرييل ليس الاسم الذي قد يتمناه أحد لنفسه. وأصبح بريسمان بعد ذلك مراسلًا ناجحًا كثيرًا ما اقترن اسمه بالتقارير الإخبارية؛ ومَن ذا يستطيع نسيان اسم مثل جابرييل بريسمان في الولايات المتحدة؟ ومع ذلك، ترك شبح هانك جرينبيرج أثرًا أعظم مما سواه في ريتشارد. وقد شعر بنشوة غامرة حين أعلنت إدارة المدرسة وهو في سنته النهائية عن تشكيل فريق للعب البيسبول. حاول ريتشارد الانضمام إلى الفريق، لكن المدرب انفرد به وأخبره أنه لاعب بيسبول ممتاز لكنه لا يزال صغيرًا على الانضمام إلى الفريق، ورغم أن الذنب ليس ذنبه، فقد شعر بأنه تحطم، ويقع اللوم على السيد برايس الذي قرر ترقيته إلى مراحل متقدمة.

في أول تجربة أكاديمية جمعت ريتشارد بالفيزياء في المدرسة الثانوية، لم يتأثر كثيرًا بالموضوعات التي تناولها المقرر الدراسي رغم احتفاظه بذكريات طفيفة عن أسلوب المعلم في شرح المادة. إذا لم تكن المعلومة واردة في الكتاب المدرسي، فهي غير صحيحة. واستنتج ريتشارد أن المدرس لم يكن يفهم مادة الفيزياء حقًّا، ولكنه كان من الذكاء بحيث يسبق التلاميذ في قراءة فصل من الكتاب. وكان من المؤسف حقًّا أن فيزياء البيسبول لم تكن جزءًا من المنهج؛ كان هذا سيصيب عصفورين بضربة واحدة. فمعلمو الفيزياء في العصر الحالي يمكنهم تحقيق نتائج عظيمة عن طريق البدء في تلقين المادة من خلال ربطها برياضة البيسبول.

شعر ريتشارد في سنته النهائية بالمدرسة الثانوية أنه في مأزِق حقيقي، فلم يكن يملك أي نقود تمكنه من الالتحاق بالجامعة، وكانت الأوضاع في سوق العمل عام ١٩٣٩ غاية في السوء. كان والده يشعر بالعجز لعدم قدرته على إلحاق ولده بالكلية. لكن شاء حسن الطالع أن أعلنت مدينة نيويورك عن افتتاح كلية مدينة نيويورك، وهي كلية مجانية مخصصة للموهوبين أكاديميًّا. سجل ريتشارد اسمه في تلك المؤسسة التعليمية المكدسة بعد أن سدد رسوم التسجيل التي بلغت دولارين، ومن العجيب أن هذه المؤسسة قد استعانت بعد سنوات عديدة بأحد علماء الفيزياء وهو روبرت مارشاك ليكون رئيسًا لها. وحين علم ريتشارد في سنوات لاحقة أن الجنرال كولن باول تتلمذ في مدرسة «موريس هاي سكول» وكلية مدينة نيويورك، أرسل إليه خطابًا وأسعده الرد الذي أكد فيه على جودة التعليم الذي تلقاه في الكلية. وحدث ريتشارد نفسه بأن الجنرال لم يجلس على الأرجح في مقعد هانك جرينبيرج، وإلا لاشتهر في مجال الرياضة وليس كعبقري في العسكرية!

قضى ريتشارد عامَين يستقل فيهما مترو الأنفاق الذي يمر بطريق جراند كونكورس عند شارع ١٧٠ مقابل خمسة سنتات متجهًا إلى وسط مانهاتن، حيث يواظب على الحضور في الفصول المكدسة في الحرم الجامعي الواقع بشارع ١٣٥ وطريق كونفنت. وفي أحد الأيام بينما كان ريتشارد سائرًا في شارع ١٣٥، لمح شاحنة محملة بخزانات غاز مضغوط. اصطدمت الشاحنة بمطب في الشارع فسقط أحد الخزانات مما تسبب في انفجار صمام الخزان. اندفع الخزان في الشارع بسرعة كبيرة ودار بطريقة عشوائية عندما تحقق قانون نيوتن الثالث للحركة بفعل الغاز المندفع. التمس ريتشارد ساترًا يلوذ به إلى أن هبط ضغط الغاز في الخزان من ٢٠٠٠ رطل إلى صفر. كان صوت ومشهد هذه الكارثة لا يُنسى؛ لقد كان دليلًا فيزيائيًّا تنبأ بعصر الصاروخ قبل أوانه بعقد كامل.

كان ريتشارد طالبًا سيئًا يقضي الجزء الأكبر من وقته في التدرُّب على البيسبول مع فريق كلية مدينة نيويورك (بيفيرز). ولكن في نهاية السنة الثانية، كان عليه أن يعلم الجهات الأكاديمية عن المادة التي يرغب في التخصص فيها؛ لأن الدرجات لا تُمنَح في البيسبول. تساءل في نفسه: هل يتخصص في الرياضيات؟ لم يكن بارعًا فيها بما يكفي. الكيمياء؟ كان يجد العمل داخل مختبرات الكيمياء مقززًا. الأحياء؟ لكنه يكره التشريح. هل يصبح عالم فيزياء؟ نعم، لقد كانت المادة العلمية الوحيدة المتبقية، وأكثر المواد العلمية نظامًا. ليس من المستغرب إذن أنه عاد إلى الفيزياء من جديد.

وعندما وصل ريتشارد إلى الصف قبل الأخير من دراسته في كلية مدنية نيويورك، أصبح فردًا أساسيًّا في فريق البيسبول، ليثبت أن براعته في البيسبول تجاوزت براعته كفيزيائي في مستهل طريقه، أو أن الطلبة الموهوبين الذين التحقوا بكلية مدينة نيويورك لم يكونوا على درجة عالية من التنسيق. وكان فريق لعبة اللكروس يتدرب أيضًا في ملعب استاد لويوزون تحت إشراف «القائد» تشارلز بندر، الذي انفرد بريتشارد ذات يوم واقترح عليه احتراف لعبة اللكروس واصفًا تلك اللعبة بأنها «أفضل من البيسبول». وما يثير العجب حقًّا هو أن بندر الملقب ﺑ «القائد» الذي ترجع أصوله إلى الهنود الحمر من أهل تشيبوا، كان واحدًا من أبرز لاعبي الرمي بفريق «فيلادلفيا أثليتكس» للبيسبول طوال الفترة من ١٩٠٣ إلى ١٩١٤، بل جرى اختياره لدخول قاعة مشاهير البيسبول في كوبرزتاون عام ١٩٥٣. لكن في عام ١٩٤٢، لم يكن ريتشارد يعرف أي شيء عنه.

وفي الوقت الذي شرع فيه عدد من علماء الفيزياء البارزين في أنحاء العالم في الاهتمام بانشطار اليورانيوم، وفي الوقت الذي كانت فيه الحرب الدائرة في أوروبا تحيط الجزء الأكبر من هذا الموضوع بالسرية، كان ريتشارد يبذل جهدًا مضنيًا لفهم منهج الديناميكا الحرارية الذي وضعه زيمانسكي، ومنهج الفيزياء النووية الذي وضعه سيمات. بدا منهج الديناميكا الحرارية لريتشارد متعلقًا بالتناول الرياضي للمعادلات، أما العالم الحقيقي للديناميكا الحرارية فقد استعصى على فهم ريتشي. وحتى غلي إناء من الماء لعمل الشاي لم يثمر أي أفكار جديدة أو أي دلالة علمية مشتقة من معادلات زيمانسكي. وبدأت الفيزياء تفقد جاذبيتها في رأي ريتشارد، لو أنه كان منجذبًا إليها أصلًا. وبعد مضي قرابة ٤٠ عامًا، اكتشف ريتشارد فجأة ماهية موضوع الديناميكا الحرارية حين أوضح كلارنس زينر أن الطرف الناتئ من معدن الحديد في درجة حرارة معينة يمكن إرجاعه إلى مغناطيسية الحديد. وقد قال ريتشارد بعد محاضرة زينر معلقًا إن الديناميكا الحرارية أثبتت أخيرًا وبعد وقت طويل أن لها بعض الفوائد! ثم راح يكتب وينشر بطريقة موسعة عن هذا الموضوع.

في أوائل عام ١٩٤١، اشترى والد ريتشارد مطعمًا صغيرًا في بروكلين، وكان الأب والابن يقضيان عطلات نهاية الأسبوع في العمل به. وبدون أدنى مساعدة من الديناميكا الحرارية، تعلم ريتشارد مبادئ طهي الأطعمة الخفيفة المتنوعة. وفي أحد أيام الآحاد من شهر ديسمبر، بينما كان ريتشارد منشغلًا بتنظيف المنضدة التي يقدمون عليها الأطعمة، سمع عما حدث في بيرل هاربر عبر المذياع، وبعد أقل من عام واحد، تطوع ريتشارد — الذي كانت ذكريات السفن عابرات المحيطات أثناء مرورها بجزيرة كوني لا تزال عالقة بذهنه — في برنامج البحرية في-٧، الذي يسمح له بالبقاء في الكلية إلى حين احتياج البحرية له.

حل صيف عام ١٩٤٢ وكانت أمريكا آنذاك تعد العدة لاقتصاد وقت الحرب. وكان ريتشارد في السنوات السابقة قد نجح في العثور على بعض الوظائف التافهة خلال الإجازات الصيفية، لكن في صيف هذا العام حالفه حظ وافر. فقد أرسله مكتب البطالة التابع للولاية إلى أحد المباني الكبرى في شارع ٧ في وسط مانهاتن وأُسندت إليه وظيفة حارس المبنى. وبعدها بنصف ساعة وجد ريتشارد نفسه يكنس أرضية مكتب مراقبة المراسلات الحربي، وهو مبنى متعدد الطوابق كان في الأساس مصنعًا للمفروشات ويكتظ بآلاف الموظفين المنهمكين في قراءة الرسائل القادمة من خارج البلاد.

سأل ريتشارد المشرف عليه، الذي أحب ريتشارد منذ لقيه، إن كانت هناك أي وظيفة أخرى يمكن أن يقوم بها بدلًا من الوظيفة التي يؤديها أم لا. ذلك أن الشيء الوحيد الذي كان يعرفه عن المكانس هو كيفية كسر مقابضها لاستخدامها في لعبة ستيك بول. وعندما تفاخر بأنه يجيد الحساب، أُلحِق بقسم الإجازات حيث كان يحسب مقدار الإجازات السنوية والمرضية المستحقة للموظفين دون الاستعانة بالحاسبة، ثم يطرح منه الأيام التي حصل عليها كل عامل بالفعل. وكان نصف العاملين على الأقل — وهم خبراء في لغاتهم — يمثلون مشكلة كبيرة لوايس عندما كان يُضطَر إلى أن يشرح لهم باللغة الإنجليزية النظام المعقد نسبيًّا الذي يحكم عملية تجميع الإجازات واستخدامها. فضلًا على ذلك، كان المكان الذي يجلس فيه ريتشارد يقع قرب الباب المؤدي إلى دورة مياه السيدات، وكانت السيدات بما يتمتعن به من جمال يفرضن عليه عبئًا إضافيًّا يشغله عن التركيز فيما يجريه من عمليات حسابية. وكانت الدبلوماسية واللياقة في التعامل مطلبًا أساسيًّا في هذا النوع من العمل. فلم يكن يحق للموظفين الحصول على إجازة مرضية إلا إذا قدموا لريتشارد شهادة من الطبيب توصي بذلك. وكانت هناك تعليمات من جهات عليا تقضي بعدم حصول الموظفين على أي إجازات مرضية بموجب توصية من طبيب أسنان. وعندما حاول أن يشرح ذلك لعامل يعاني من ألم شديد في أسنانه ولا يعرف إلا لغة أفريقية، كانت براعته وسعة حيلته موضع اختبار قاسٍ.

وكانت شيكات الرواتب التي لم يطلبها أصحابها بسبب مرضهم تترك لوايس، مع تعليمات بعدم تسليمها لمن يطلبها إلا بعد التأكد من شخصية المستلم. وفي أحد الأيام، ترك أحد العاملين شارته في مكان عمله، لكنه أبرز لوايس آخر إيصالي صرف راتب! وتسببت عملية تكرار شرح كيفية حساب الإجازات لشخص لا يعرف الإنجليزية في تنمية بعض من خصال البالغين الراشدين مثل التعاطف والصبر.

في ١ يوليو عام ١٩٤٣، استُدعي ريتشارد لأداء الخدمة في البحرية الأمريكية، مما جعله يودع فريق البيسبول في كلية مدينة نيويورك وأقران لعبة ستيك بول في شارع تيلر. نصت الأوامر العسكرية على أن يقضي فصلًا دراسيًّا في جامعة سانت لورانس، التي قيل إن النجم السينمائي العالمي كيرك دوجلاس كان أحد المتخرجين فيها.

لا يكاد ريتشارد يتذكَّر عبارات الوداع التي تبادلها مع أسرته عند رحيله إلى سانت لورانس، لكنه يتذكر جيدًا لقاءه عشرات الملتحقين بالبحرية في محطة «جراند سنترال»، الذين تجمعوا لاستقلال القطار في رحلة تستغرق يومًا كاملًا إلى كانتون أعلى ولاية نيويورك، وهو أبعد الأماكن التي زارها ريتشارد عن منزله. وكانت نسبة الإناث إلى الذكور بالكلية في زيادة مستمرة منذ بداية الحرب العالمية الثانية، وأدى الظهور المفاجئ لما يزيد عن ألف بحَّار إلى شعور الفتيات والأولاد من جنود البحرية الجدد بسعادة بالغة. ولم يشرع البحار الصغير وايس في التعرف إلى أي فتاة (ليسجل مساعد مدير المدرسة السيد برايس ذلك)، فقد كرَّس وقت فراغه في تعلم الضرب على الطبلة الكبيرة في الفرقة الموسيقية العسكرية، وتعلُّم السباحة في النهر المجاور، ومواصلة تحصيل المعلومات الدراسية استعدادًا للامتحان.

كان الضرب على الطبلة الكبيرة تحديًا كبيرًا لريتشارد؛ لأن قارع الطبول يتحمل مسئولية الحفاظ على الإيقاع العسكري، الذي يصل إلى ١٢٠ ضربة في الدقيقة. وبالطبع فإن ثقل هذه الآلة كان يتسبب في حالة من الإرهاق الدائم، ومن ثَم بطء عام في إيقاع الضرب. وعندما جاء الأميرال بعد شهرين لتفقد أحوال الكتيبة، كانت خطوات صف البحارة الكبير لا تتوافق مطلقًا مع الإيقاع الذي يصدره قارع الطبول. ومن حسن حظ وايس أنه لم يكن ثمة قانون في البحرية يقضي بإحالة قارع الطبول في الفرقة العسكرية إلى محاكمة عسكرية إن لم يحسن ضبط الإيقاع. وهكذا أضيف الإيقاع غير المنتظم إلى متاعب وايس المتكررة مع مادة الفيزياء.

وقرب نهاية الفصل الدراسي، أعلنت الجامعة تنظيم حفل راقص لكن دون فرقة موسيقية. وعلى مدى أسبوع، تمكن وايس من اكتشاف عدد من المواهب بين البحارة يكفي لتشكيل فرقة موسيقية تضم مجموعة متجانسة من عازفي البيانو، والترومبون، والترومبيت، والطبلة، والمزمار، وأخيرًا الجيتار الخاص به، الذي كان والده قد أحضره له من برونكس في إحدى الزيارات الأسبوعية. لكن مع الأسف، واجه حفل ليلة يوم السبت مشكلة كبيرة حيث تعرض رسغ عازف البيانو للكسر أثناء اشتراكه في إحدى مباريات كرة القدم في عصر يوم الحفل. ومع غياب البيانو، تراجع كل أعضاء الفرقة عن العزف فيما يشبه تفاعلًا بشريًّا متسلسلًا. ولا يتذكر البحَّار وايس كيف تمكن من العثور على عازفي أوكورديون مع الجيتار الذي يعزف هو عليه. واستحوذت على عقله طوال فترة ما بعد الظهيرة مخاوف التوبيخ من قائده المباشر، لكن الآلات الموسيقية الثلاث أنتجت قدرًا من الأصوات الموسيقية كان كافيًا لإمتاع الراقصين، بل تلقى وايس المديح على الجهد الذي بذله. لقد كان الجميع يعرف أن على المرء أن يضحي في زمن الحرب.

أعقبت فترة وجود ريتشارد في جامعة سانت لورانس تلقيه دورة في الهندسة البحرية للمتخرجين حديثًا مدتها ٩٠ يومًا في أنابوليس. كان ريتشارد قد طلب الحصول على دورة في الفيزياء، إلا أن الضابط المسئول لم يتقبل فكرة وجود اختلاف بين الفيزياء والهندسة البحرية. وخلال الأشهر الثلاثة التي قضاها ريتشارد كضابط صف بحري في الأكاديمية البحرية، عكف على حفظ قوانين الهندسة البحرية وتلخيصها استعدادًا للامتحانات الأسبوعية. وبكل صراحة لم يتمكن من فهم أي شيء عن المحركات التي تدفع السفن في عرض البحر، بالإضافة إلى أنه نسي كل ما تبقى في ذهنه من معلومات عن الفيزياء منذ دراسته في كلية مدينة نيويورك. لكنه تمكن من اجتياز نظام أنابوليس العسكري، وفي ٢٦ أبريل عام ١٩٤٤، وقبل أن يتم ٢١ عامًا، أدى القسم في الأكاديمية البحرية كملازم بحري، وعُين لأداء الأعمال الهندسية على متن حاملة الطائرات «سي في إي ١٠٠»، وهي حاملة طائرات صغيرة على الساحل الغربي. وعندما توجه إلى سياتل لينضم إلى طاقم السفينة التي سيخدم عليها، شعر الملازم بحري وايس بأهميته؛ إذ ترسخت في نفسه قناعة تامة بمدى أهميته بوصفه ضابطًا في البحرية وسيدًا نبيلًا. لكن على متن الطائرة التي أقلته إلى الساحل الغربي أصابه دوار الجو وكرر ما فعله وهو صبي في حفل زواج عمته، وهكذا فقد شعوره بالثقة وأفسد زيه العسكري. دفعه ذلك إلى التفكير في أن القوة والعظمة قد تزولان عن أي شخص في غمضة عين.

بالنسبة إلى شخص مثل ريتشارد، لم يعتَدْ ركوب أي سفينة بحرية إلا تلك المعديات النهرية أو الزوارق الصغيرة في سنترال بارك، كانت حاملة الطائرات الصغيرة شيئًا عظيمًا. وعندما خُصصت له حجرة فاخرة داخل السفينة، انتابه شعور عظيم بالسعادة. وتطوَّع للعزف على آلة الأرغن المحمولة في الصلاة داخل الكنيسة، وسُمح له بالاحتفاظ بالآلة في حجرته. ولكن تكليفه بمهمة الإشراف على المحركات الرئيسية بحكم رتبته كان بمنزلة مأزِق رهيب! فقد استغرق الملازم بحري وايس عامًا كاملًا لتعلم كيفية استخدام المفتاح الإنجليزي، وقراءة عداد الضغط، وتجنب الإصابة بدوار البحر، وهي أشياء بسيطة تعلمها معظم جنود البحرية من خلال خدمتهم الطويلة في البحرية. وإذا كانت لمحاضرات زيمانسكي عن الديناميكا الحرارية أي علاقة ذات مغزًى بالمحركات الترددية البخارية التي تدفع حاملة الطائرات في عرض البحر، فلا شك أنها فشلت في ترك أي انطباع إيجابي لدى الملازم البحري الصغير وايس الذي كان قد بلغ سن الرشد للتو. إلا أن إيمان السيد برايس، مساعد المدير في مدرسة وايس الابتدائية، بضرورة ترقية ريتشي إلى مراحل دراسية متقدمة كان قد بدأ أخيرًا يؤتي ثماره.

فبعد عام واحد، فاقت معرفة ريتشارد بوظائف الآلات الموجودة على ظهر السفينة معرفة الغالبية العظمى من جنود البحرية. فقد اكتشف ضمن المعدات التي عُهد بها إليه مؤشر قياس؛ وهو جهاز صغير يسجل ضغط البخار داخل أسطوانات الدفع مع مرور الوقت. واستطاع تسجيل تلك المعلومات، لكنه لم يجد فيما لقنه إياه زيمانسكي فكرة لكيفية الاستفادة منها! ربما كانت الفيزياء مغروسة بعمق في عقله الباطن إلى درجة يستحيل معها تحقيق الاستفادة منها!

كانت ذكرياته الرئيسية عن سنوات الحرب تلك هي ذكريات الإرهاق والملل. فلم يجد الملازم بحري وايس، الذي كان يجوب الساحل الجنوبي للمحيط الهادي الممتد بلا نهاية، في منظر المياه المالحة الذي لا يكاد يتغير مع مرور الأيام إلا عند استجابتها للرياح، أو في منظر الأسماك الطائرة التي تحلق مسافة ثلاثين قدمًا في بعض الأحيان، أي متعة تذكر. حتى الأوقات التي كانت السفينة تقف فيها قريبًا جدًّا من الساحل أثناء غزو جزر أيوجيما وأوكيناوا بدت على القدر نفسه من الملل. وربما كانت نغمات آلة الأرغن الموسيقية التي تدار من خلال دواسة هي ما منح ريتشارد بعض الهدوء، مع أن ذلك كان نادرًا ما يلقى ترحيبًا بين زملائه من الضباط الذين كانوا يحاولون اختلاس بعض ساعات النوم أثناء النهار. وبدا له الامتداد الشاسع للمحيط الهادي كحوض استحمام عظيم، وكانت القراءات التي تُسجَّل كل ساعة لدرجة الحرارة لا تتغير مطلقًا أسابيع كاملة عن درجة ٨٥ فهرنهايت في كل مرة تقاس فيها، والشيء نفسه فيما يخص درجة حرارة غرفة المحركات التي كان ريتشارد معنيًّا بمراقبتها، والتي كانت ثابتة عند درجة ١٠٠ فهرنهايت. شهد وايس أيامًا تنعدم فيها حركة الرياح وتختفي الأمواج، رغم أنه ذات مرة حين أبحر الأسطول بالكامل بعيدًا عن جزيرة أوكيناوا أثناء إعصار استوائي، رأى أمواجًا يصل ارتفاعها إلى ١٥٠ قدمًا. وذكر خبير الأرصاد الجوية أن الرياح سجَّلت سرعة قياسية زادت عن ١٥٠ ميلًا في الساعة. وفي صباح اليوم التالي للعاصفة، كانت أدوات المائدة التي أُعدت للعشاء في اليوم السابق في غرفة طعام الضباط قد تبعثرت جميعها في أركان الغرفة.

صورة واحدة توضح قوة البشر حفرت مكانها بين ذكريات ريتشارد عن زمن الحرب. فحين تجمع الأسطول الثامن قبل غزو جزيرة أوكيناوا، كانت هناك سفن حربية ممتدة على مرمى البصر. لعلها كانت خمسمائة سفينة حربية من أنواع لا حصر لها تسد الأفق. لكن يا لها من طريقة للتغلب على الشعور بالملل؛ عامان من الملل مقابل يوم واحد يشد الأبصار!

كانت هناك حكاية أخرى جديرة بالذكر خفَّفت من حدة الملل الذي كان يشعر به ريتشارد. فقد سجلت حاملة الطائرات ميلًا قدره عدة درجات، وهو أمر طبيعي للغاية مع استهلاك الوقود وأثقال حفظ توازن السفينة. وأثناء وجود ريتشارد وقت الخدمة في غرفة المحركات، طلبه ضابط سطح السفينة لإعلامه بوجود الميل وسأله عن المدة التي ستستغرقها السفينة كي تعود إلى وضع الاتزان الطبيعي. تشاور وايس مع البحار ذي الصلة، وأبلغ منصة القبطان بأن السفينة ستصل إلى وضع الاتزان الطبيعي في غضون ساعتين. واستغرق الأمر خمس ساعات واستُدعي ريتشارد إلى منصة القبطان حيث تلقَّى توبيخًا شديدًا.

– «ألا تدرك أننا في حالة حرب؟»

– «نعم يا سيدي.»

– «وأنه يجب أن تنفذ الأوامر بكل دقة؟»

– «نعم يا سيدي!»

– «قد يؤدي بك ذلك إلى محاكمة عسكرية، هل هذا واضح؟»

– «نعم يا سيدي.»

– «انصراف.»

عرف ريتشارد بعد ذلك أن القبطان كان قد خرج من حجرته عند بداية فترة مناوبته للحصول على حمام الشمس اليومي كعادته، لكن ميل السفينة تسبب في أن يحجب ظل منصة القبطان ضوء الشمس عن البقعة التي يفضل الحصول على حمام الشمس فيها. وعاد الرجل بعد ساعتَين ليصب جام غضبه على فشل وايس في إعادة ضوء الشمس إلى بقعته المفضلة.

كان الشعور بالتعب والإرهاق الذي عانى منه ريتشارد في جبهة القتال الأمامية، عندما كانت نوبات الخدمة تنقسم إلى أربع ساعات خدمة وأربع ساعات راحة، أسوأ من شعوره بالملل، فقد أفسدت إيقاع حياته اليومي تمامًا. وقد جعله ذلك يثور من أعماقه ضد سوء الاستخدام البيِّن لطبيعته البيولوجية. لا يستطيع المرء أبدًا نيل قسط كافٍ من النوم!

كانت الأفلام السينمائية التي تُعرَض كل مساء داخل حظيرة الطائرات تقلل إلى حد بعيد من رتابة الحياة على ظهر السفينة، وفي يوم من الأيام أعلن طاقم إحدى المدمرات التي تحمي حاملة الطائرات من هجوم الغواصات تحديهم لطاقم حاملة الطائرات في مباراة لكرة السلة. وعلى الفور قفز فريق المدمرة على ظهر حاملة الطائرات بواسطة سراويل الإنقاذ، وفتح مقصف الجنود أبوابه لبيع المثلجات، والسجائر، والحلوى للمشاهدين المنهمكين في التشجيع. ومع ذلك ظل الملل، أو الكسل، أو الفتور؛ أو أيًّا ما كان اسمه، يخيم على المكان، وبدا أن الحل الأمثل للتخلص منه يكمن في الخمر والنساء. وكان كل ضابط من الضباط الموجودين على ظهر السفينة قد أُعطي خزانة صغيرة بأرقام سرية ليحتفظ داخلها بأوراقه المهمة. وكانت خزانة ريتشارد تحوي زجاجتي خمر غير مصرح بهما من نوع «جوني ووكر»، بالإضافة إلى مسدس الخدمة الذي كان يخشى استخدامه. تجرع ريتشارد إحدى الزجاجتين أثناء المباراة، لكن لم تكن هناك نساء، ولا حتى بعض حوريات البحر لتشجيع اللاعبين!

استيقظ شغف ريتشارد بلعبة البيسبول حين انضم جوني مايز إلى السفينة كمدير رياضي، وهو لاعب القاعدة الأولى لفريق نيويورك يانكيز وواحد من مشاهير البيسبول. وكان ريتشارد وجوني يمضيان ساعات في الحديث عن البيسبول؛ فلم يكن هناك شيء آخر يفعلانه. وفاقت سعادة ريتشارد بلقاء جوني سعادته بشغل مقعد هانك جرينبيرج من قبل.

كان في قسم ريتشارد ضابط صف قديم استُدعي للخدمة مرة ثانية بعد هجوم بيرل هاربر. اقترح ضابط الصف على ريتشارد التمرن على إطلاق النار بمسدساتهم عيار ٤٥ أثناء بعض ساعات الفراغ في سان دييجو. وعلى الفور، بعد أن أبعد السماعات الحاجبة للصوت عن أذنيه، أخذ ريتشارد، الذي لم يكن قد سبق له إطلاق النار في حياته من قبل، يطلق مئات الطلقات من الذخيرة مما أصابه بعد ذلك بالصمم التام مدة ثلاثة أيام، ثم الصمم النصفي خمسة أيام أخرى، ثم طنين خفيف في الأذنين استمر بضعة أسابيع متتالية. وذلك أحد الجوانب الممتعة في تكامل علم النفس وعلم وظائف الأعضاء تتبين من خلاله قدرة الجسم على تجاهل محفزات معينة عند التعرض لها بإفراط. ومن المعروف أن أجهزة الاستريو ذات الصوت المرتفع تضعف القدرة على السمع على نحو دائم، لكن في حالة ريتشارد أظهرت اختبارات السمع التي أُجريت له بعد أعوام من تلك الحادثة أنها لم تؤثر في سمعه مطلقًا. ومع ذلك، يمكننا القول إن هذا كان انتقام السيد فريمان، ولو لفترة قصيرة!

حين وضعت الحرب أوزارها بإسقاط القنبلة الذرية على ناجازاكي، اكتسب علم الفيزياء أهمية كبرى. وفجأة تبدلت نظرة عائلة ريتشي وأصدقائه إليه، بل بدءُوا في وضعه على قدم المساواة مع عالِمَي الفيزياء المشهورَين، أوبنهايمر ولورانس. وشرعوا يسألونه عن الفيزياء، والقنبلة، والنيوترونات … إلخ. ورغم أن معرفة ريتشارد بتلك الأشياء لم تكن واسعة، فلم يجد صعوبة في الإجابة عن جميع الأسئلة التي وجِّهت إليه بثقة تامة، مثل مدرس الفيزياء في المرحلة الثانوية الذي كانت معلوماته لا تزيد عن معلومات تلاميذه إلا بفصل واحد فقط. وسرعان ما نسي ريتشارد شغفه بالبيسبول.

في عام ١٩٤٦، ظهر قانون جي آي بيل (وهو قانون يقدم المنح التعليمية للعائدين من الحرب وللمحاربين الذين قضوا فترة كبيرة في الخدمة، بالإضافة إلى تعويض مادي عن كل سنة بلا عمل، وغير ذلك) كهدية من السماء، وعلى الفور سجل الملازم بحري وايس اسمه في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وهي جامعة تضم عددًا من الأساتذة الأفذاذ مثل أوبنهايمر، ولورانس، وماكميلان، وسيجريه، وسيربر وغيرهم. لكن أصابته صدمة شديدة عندما اكتشف فجأة جهله التام بالفيزياء بعد حضوره الدروس الأولى. وشرع ريتشارد في بذل جهد مضنٍ مستمر للحاق بركب الغالبية العظمى من زملائه، وإقناع مرشده الأكاديمي، فرانسيس جنكينز، بأنه جدير بالانتماء إلى الجامعة. وبعد عامين من العمل المضني تمكن من ترك أثر كبير على المادة، بل شرع يطرق أبوابًا جديدة للبحث. ولعل ذلك الجزء من القصة يستحق أن نتحدث عنه مرارًا.

بدأت القصة حين كوَّن ريتشارد مع جرانت فاولز، الذي عمل بعد ذلك أستاذًا لمادة الفيزياء بمدينة سولت ليك، فريق عمل لإجراء بعض تجارب التحليل الطيفي من أجل المقرر المعملي الخاص بفرانسيس جنكينز. وكان فاولز قد قرأ فقرة من كتاب ريتشماير عن الفيزياء الحديثة، استشهد فيها الكاتِب بتجربة أجراها ويليامز في جامعة الملك بلندن (التي عمل فيها ريتشارد بعد ذلك أستاذًا زائرًا مدة عشر سنوات)، ولاحظ فيها شذوذًا في طيف الهيدروجين؛ فقد بدا أحد خطوط طيف الهيدروجين منقسمًا، ولكن بنسبة ضئيلة للغاية. استنتج فاولز من ذلك، وكان محقًّا، أن انقسام الهيليوم كان ليصبح أكبر من انقسام الهيدروجين بمقدار ١٦ مرة، ومن ثَم كان ليصبح من السهل ملاحظته، لولا شيء واحد. فقد كان الخط في أقصى أشعة الطيف فوق البنفسجية، ولا بد من إجراء التجربة في فراغ جيد. ولم تكن هذه التقنية سهلة على طلبة الدراسات العليا عام ١٩٤٦، حتى فيما يخص طالبًا يجيد استخدام المفتاح الإنجليزي. توجه الطالبان إلى البروفيسور سيربر، رائد وضع النظريات في مشروع مانهاتن السابق، يسألانه رأيه فيما إذا كانت تجربة ويليامز صحيحة أم لا. فهز سيربر رأسه وأكد لهما أن ميكانيكا الكم صحيحة. لم يتراجع الاثنان وواصلا أبحاثهما. وبعد سنوات التقى ريتشارد سيربر مصادفة وسأله عن الاكتشاف، فما كان من سيربر إلا أن هز كتفَيه. الفيزياء مليئة بالمفاجآت دائمًا.

ذات مرة، زار بيركلي عالم التحليل الطيفي ذائع الصيت آر دبليو وود. كان قد اخترع أداة انكسار الأشعة التي استخدمها فاولز ووايس في تجربتهما، وقد روى لهما بعض القصص الطريفة والمفيدة. لم يعرف ريتشارد أن وود كاتب مسرحي معروف بروح الدعابة إلا بعد ذلك بسنوات. ويعد كتابه «كيف تفرِّق بين الطيور والأزهار وغير ذلك من أعمال الحفر على الخشب» أحد الأعمال الكلاسيكية.

وبينما كان ريتشارد يحاول جاهدًا فهم الفيزياء، ظل يذكر التشجيع الذي تلقَّاه قبل الحرب على امتهان التدريس. دفعه ذلك إلى التسجيل في سلسلة من المحاضرات التي تمنحها وزارة التعليم والتي تنتهي بفترة تربية عملية داخل مدرسة أوكلاند الثانوية للحصول على شهادة في التدريس. لكن ما أبداه هؤلاء المراهقون في تلك المدرسة من شغب رسَّخ في ذهنه اعتقادًا بأن التدريس لن يكون الخيار المناسب، وجعله ذلك يتخلى عن الفكرة إلى الأبد.

بعد عدد من المحاولات غير الموفقة، ظهرت نتائج التجارب التي أجراها طالبا الدراسات العليا على الهيليوم؛ لقد ثبت أن الخط الطيفي منقسم بالفعل. ويا له من نصر عظيم لطالبين في الدراسات العليا! لكن للأسف، أعلن البروفيسور ويليس لامب من جامعة كولومبيا عن ذلك الاكتشاف بعد أسبوعين فقط في مجلة «فيزيكال ريفيو» ولكن على نحو أكثر تشويقًا. لقد سبقهما إلى ذلك الإعلان! وقد استغرق منظِّرو علم الفيزياء سنوات ليوضحوا أن هذا الأثر يرجع إلى سلوك غير متوقع في العزم المغناطيسي للإلكترون. وكان ذلك الاكتشاف سببًا في حصول لامب على جائزة نوبل عام ١٩٥٥.

في تلك الأيام، كان البروفيسور أوبنهايمر بمنزلة الرجل الخارق في عالم الفيزياء. كان الرجل النحيل الشاحب قد فقد الكثير من وزنه خلال الأيام التي قضاها في لوس ألاموس، لكن طريقته السلسة في الإلقاء سحرت وايس. فقد كان في مقدور أوبنهايمر أن يقنعك بأنك تفهم جيدًا أطروحته؛ لكن متى شرعت في فهم منطق الأطروحة بنفسك وجدت الأسئلة التي لا إجابة لها تبرز لتعقِّد المسألة. وكان أوبنهايمر مدخنًا شرهًا، كثيرًا ما يبدل بين الإمساك بإصبع الطباشير والسيجارة أثناء المحاضرات. وقد كان ماهرًا للغاية في تجنب وضع الطباشير في فمه أو الكتابة بالسيجارة.

كان سيجريه على العكس من ذلك تمامًا، فقد كانت لهجته الإيطالية ونظارته وطريقته البسيطة غير المتكلفة تمنحه — في نظر الطلبة — مظهر العم أو الخال وسلوكه. وكان ريتشارد يغادر محاضرات سيجريه وقد ترسخت في ذهنه مفاهيم واضحة عن الفيزياء النووية. وبين محاضرات ماكميلان وسيبورج وبعض المحاضرين الآخرين المدعوين لإلقاء بعض المحاضرات مثل فليكس بلوخ، تكوَّنت لدى ريتشارد، من خلال هذه المجموعة الكاملة من أعلام عصر الفيزياء النووية، انطباعات عن الطريقة المناسبة للتحدث والتصرف إذا كان يرغب في أن يكون عضوًا في مجتمع الصفوة من الفيزيائيين. وكان ما يثير عجب ريتشارد هو عدم إقدام أي من المحاضرين على ذكر ما لا يعرفونه.

قرر ريتشارد في عام ١٩٤٧ أن يعود إلى نيويورك، حاملًا معه شهادة الماجستير من جامعة كاليفورنيا؛ لاستكمال دراساته العليا في مختبر بروكهيفين، وهو مختبر جديد في لونج آيلاند، مخصص لتجارب الفيزياء النووية التي برزت مع ظهور القنبلة الذرية. وفي بيركلي حضر ريتشارد المحاضرات التي كان يلقيها علماء معنيون بدراسة أحدث الأفكار العلمية ذات الصلة بالمفاعلات، والنشاط الإشعاعي، والسيكلوترونات. وفي بروكهيفين أتيحت له فرصة العمل داخل أحد المفاعلات النووية.

أصبحت الفيزياء في ذلك الوقت تعني السحر. وأضحى الفيزيائيون محط أنظار المجتمع ومثار إعجاب الجميع؛ كان من الواضح أنهم عباقرة. وكان أي شخص يكتشف أن ريتشارد فيزيائي يعتذر على الفور عن قلة معرفته بهذا الموضوع. ودائمًا ما كان ريتشارد يرد: «لا بأس، فأنا لن أختبرك فيها.»

ولتوفير بعض نقود رحلته، انضم ريتشارد إلى بعض الأشخاص الذين يتشاركون السيارات في السفر، وكان الركاب ينتظرون أن يشارك في القيادة أيضًا. لكن المرة الأخيرة التي أمسك فيها ريتشارد عجلة القيادة كانت في سيارة والده الفورد من طراز تي التي كانت واقفة على أحد التلال أمام منزله ببرونكس. وحالت أيام شبابه وتدافع الأحداث فيها دون أن يحظى بفرصة تعلم القيادة. لقد علمته البحرية تشغيل المحركات الرئيسية داخل حاملة طائرات، لكنها لم تعلمه قيادة السيارات. وعلى أي حال، فقد تعلَّم أينشتاين كيف يبحر بقارب لكنه لم يقد يومًا سيارة؛ وهكذا كانت لدى ريتشارد صحبة رائعة. لكنَّ الركاب الآخرين أصابتهم دهشة عظيمة عندما علموا أنه — وهو المشتغل بالفيزياء النووية — لا يجيد القيادة. فيا لغرابة هؤلاء الفيزيائيين!

كانت الرحلة التي تقطع ريف واشنطن المشتهر بإنتاج التفاح، وحديقة جلاسير الوطنية في مونتانا، ثم السهول الممتدة بلا نهاية في وسط أمريكا، وأخيرًا سحب الدخان في بنسلفانيا؛ تختلف إلى حد بعيد عن الأيام التي قضاها ريتشارد في لعب ستيك بول بشارع تيلر والمناظر المتكررة التي ألفها على الساحل الجنوبي من المحيط الهادي. ولم يكن ريتشارد يدخن أو يشرب الخمر قبل التحاقه بالبحرية، لكنه عرف الخمر والتدخين بسهولة بعد انضمامه إليها. ولا يزال ريتشارد يتذكر نافورة الشرب الموجودة أمام الحانة الرئيسية بمدينة كانتون بولاية نيويورك، مقر جامعة سانت لورانس، وقد نقش على حوض النافورة المصنوع من الجرانيت:
هدية من «اتحاد النساء المسيحيات للاعتدال في شرب الخمر»

قد يكون اتحاد النساء المسيحيات للاعتدال في الشرب موجودًا إلى الآن، مثل اتحاد المعمدانيين الممتنعين عن المسكرات، إلا أن العالم والسياسي الأمريكي الشهير بنجامين فرانكلين، قدَّم أدلة كافية على أن الإنسان تطور ليستطيع شرب الخمر. فمكان مرفق الذراع يهيئ تمامًا رفع الكوب إلى الشفاه. ولو كان المرفق أقرب إلى المعصم، لما تمكنت اليد من الوصول إلى الفم، في حين أنه لو كان أقرب إلى الكتف، لتجاوزت الهدف. لقد أُغري ريتشارد وايس المسكين باتباع أفكار أول فيزيائي أمريكي، ولم يكن يحلم قط أنه في يوم من الأيام قد يدير إحدى الحانات ذات الطراز الاستعماري التي ترجع إلى عام ١٧٨٠ تقريبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤