ووترتاون ٦: ١٩٧٦–١٩٨٠
ضمت قائمة علماء ساجامور لعام ١٩٧٥ أكثر من ٤٠٠ اسم. وكان مالكوم كوبر، الذي سرعان ما سيصبح سكرتيرًا للجنة الاتحاد الدولي لعلم البلورات لكثافة الشحنة، والدوران، وكمية التحرك؛ قد أتم أطروحته عن تشتت الكومبتون، ونُقل من مختبر كافينديش إلى جامعة وارويك الجديدة بالقرب من كوفنتري. ولما كان كوبر غير قادر على الصبر حتى يحين موعد مؤتمر ساجامور الخامس في ١٩٧٦، ولما كان شديد الحماس لإظهار الجامعة الجديدة على الساحة؛ فقد أعلن عن افتتاح مدرسة صيفية لكثافة الإلكترونات، واجتذب نحو أربعين إلى جامعته في ميدلاندز التي لا تبعد كثيرًا عن ستراتفورد. وكانت زوجته قد أنجبت توءمين أشار إليهما بالثنائي الجيد التصميم، وهو مصطلح مستخدم في التحليل الطيفي لخطين مميزين تفصل بينهما مسافة قصيرة للغاية.
انبهر ريتشارد عندما رأى صورة لمجموعة من الأوجه المبتسمة في اجتماع وارويك، بينها ثمانية لها لحًى، بسبب الحس بالغاية والهدف المنتشر بين الحاضرين. كانت مجالات كثافة كمية التحرك بالأشعة السينية وكثافة الدوران المغناطيسي المقيسة بواسطة النيوترونات تنمو بسرعة كبيرة للغاية، وكان الباحثون في ذلك الوقت منغمسين بنشاط في محاولة حساب هذه الكميات. وهكذا لم يضطر الباحثون النظريون إلى الانعزال في المؤتمر وتبادل الحديث والمناقشات فيما بينهم؛ فقد كانوا هم أيضًا يشعرون بالارتياح تجاه استماعهم إلى العلماء التجريبيين وهم يصفون النتائج التي حققوها والصعوبات التي واجهوها.
كان المهندس المعماري الذي صمم الجامعة قد اختار، لسبب غامض، البلاط الأبيض المقاوم للطقس ليغطي به الجوانب الخارجية للعديد من المباني، مما أعطاها مظهرًا شبيهًا بمظهر المرحاض. لكن الجامعة كانت محظوظة للغاية؛ إذ تبرعت أرملة وفاعلة خير أمريكية دون أن تفصح عن اسمها بمبالغ كبيرة من المال لبناء مركز فنون مسرحية. وقد نافست منشآت إنشاء الديكور أفضل المنشآت في الدولة. حتى ستراتفورد كان بها بعض الديكورات المصنعة في وارويك.
بالطبع نظَّم كوبر يومًا في ستراتفورد حتى تتسنى للأجانب الموجودين في المؤتمر محاولة فك شفرة اللغة الإنجليزية الشكسبيرية. فإذا لم تعقهم معادلة شرودينجر، فلماذا يعيقهم شاعر آفون؟ وقد صارت روح الهدوء والاسترخاء والحوار العلمي غير الرسمي في مؤتمرات ساجامور أسلوبَ عمل.
انتقل ريتشارد إلى هولندا. وتناول المؤتمر الضخم للاتحاد الدولي لعلم البلورات بأمستردام عمليات توزيع الإلكترونات على استحياء بالغ، مما أتاح لريتشارد وقتًا كافيًا لاستكشاف العاصمة الهولندية. كانت أمستردام مدينة مثالية للتنقل على الأرجل أو بقارب. تأثر ريتشارد كثيرًا بكنيسة موسى وهارون التي جُرِّدت الآن من قدسيتها وباتت مأوًى لأي شخص يحتاج إلى سقف يظله. فبداخلها عاش أفراد وأقاموا المتاجر لبيع الحلي الرخيصة، أو أي سلع أخرى تجلب أموالًا، وشرعوا في إلقاء الخطب المرتجلة، وفعل أي شيء يخطر ببالهم. لقد صارت بحق ملاذًا للفقراء الذين يحاولون جني بعض الأموال، وربما كان هذا هو السبب التاريخي وراء طرد المسيح للصيارفة من الهيكل.
كان ذلك هو الانعقاد الأول للاتحاد الدولي لعلم البلورات منذ أن انطوت مؤتمرات ساجامور تحت رعايته. وبعد أن شغل ريتشارد منصب رئيس هذه المؤتمرات مدتين، فكَّر في أن يتبع نصيحة جورج واشنطن ويرسي قاعدة غير مسبوقة بالاستقالة. أصبح بيرتو الخليفة الطبيعي مع اضطلاع مالكوم كوبر بدور السكرتير للحفاظ على تنظيم الأمور، حيث إن بيرتو قد نأى بنفسه عن بعض أجهزة الاتصال الخاصة بالقرن العشرين. فقد رفض تركيب خط هاتف في شقته؛ وعند الحاجة إليه على المرء أن يبعث إليه برسول.
بعد العودة إلى ووترتاون، وجَّه ريتشارد اهتمامه إلى موضوع تجاهله الفيزيائيون على نحو شبه تام وهو البوليمرات. توجد هذه المواد في الطبيعة في الألياف الموجودة في الخشب، والشعر، والحرير، والقطن، والأظفار … إلخ، على الرغم من أن البوليمرات الصناعية غير العضوية مثل البولي إيثيلين قد اكتشفت في الثلاثينيات. يتكون البولي إيثيلين من سلسلة منشارية الشكل من ذرات الكربون مع زوج من ذرات الهيدروجين يرتبط بكل ذرة كربون. كان البولي إيثيلين أبسط البوليمرات التي يمكن رؤيتها من مسافة قصيرة، على الرغم من أنه ينحني بطريقة متعرجة من المسافات البعيدة. ترتبط كل واحدة من هذه السلاسل بسلاسل مجاورة لها عن طريق قوًى إلكترونية ضعيفة للغاية تسمى «قوى فان دير فالز». في الظروف العادية، تشبه قطعة من البولي إيثيلين طبق مكرونة اسباجيتي مطبوخة، وذلك عند عرضها على مستوى الجزيئات، على الرغم من إمكانية تمديدها وتقويم السلاسل. من ناحية أخرى، «البارافين» هو أحد أشكال البولي إيثيلين التي تكون فيها السلاسل قصيرة بدرجة كبيرة وواضحة. وفي نظر فيزيائي اعتاد على الترتيبات البلورية المنظمة للذرات والأخلاط، يبدو البولي إيثيلين والبارافين غير منظمين بالمرة، حتى إن ذلك أدى إلى صعوبة التعامل معهما، ومن ثَم كان عدم الاهتمام بهما.
جعل هذا الترتيب المعقد للذرات من المستحيل قياس مواقع الإلكترونات حول ذرتي الكربون والهيدروجين. مع ذلك لم تكن قياسات مخطط الكومبتون شديدة الصعوبة. ونتيجة لذلك، تبين أن علميات حساب توزيع كمية التحرك النظرية التي أجراها دانكانسون وكولسون في الأربعينيات من القرن العشرين كانت بسيطة للغاية، في حين كانت عمليات الحساب التي أجراها إيبشتاين في برانديز لاحقًا متوافقة معها إلى درجة كبيرة. وكانت هذه المرة الأولى التي يُجرى فيها فحص تجريبي على توزيع الإلكترونات في جزيء غير عضوي.
بعد التأكد من توزيع كمية تحرك الإلكترونات في البولي إيثيلين، ترك ريتشارد مهنة مطاردة الإلكترونات وصار مهتمًّا بالترتيب الذري للبولي إيثيلين، وهكذا ارتدى عباءة عالم البلورات للمرة الأولى. لم يجد أي شخص أي مشكلة في النموذج المتعرج لذرات الكربون الخاصة بالسلاسل الأساسية، ولا في ترتيب ذرات الهيدروجين المتصلة بكل ذرة كربون، لكن كيف تجمعت هذه السلاسل معًا؟ لم تكن «سلطانية المكرونة الاسباجيتي المطبوخة» إلا صورة بسيطة سمحت بربط السلاسل. حاول ريتشارد تبسيط الترتيب عن طريق تمديد «الاسباجيتي» إلى ترتيب منظم؛ أي: ترتيب يشبه «الاسباجيتي» غير المطبوخة. فماذا كان بالضبط ترتيب السلاسل المتعرجة بالنسبة إلى أقرب جيرانها؟
لم يكن تركيب البولي إيثيلين هو المشكلة الوحيدة التي لم تحل والتي أربكت ريتشارد في السبعينيات من القرن الماضي. فقد تطلب اصطدام كرة البلياردو الخاص بالإلكترون والأشعة السينية، الذي قاد كومبتون إلى وضع صيغة بسيطة لفقد طاقة الفوتون؛ معرفة الطول الموجي للأشعة السينية، وزاوية التشتت، وسرعة الضوء، وكتلة الإلكترون، وثابت بلانك. وكل واحد من هذه المتطلبات كان إما معروفًا بدرجة كبيرة من الدقة وإما يمكن قياسه. ومع ذلك تبين أن التأثير النهائي لهذه العملية الأساسية في الفيزياء قد جعل نتيجة ١٪ صغيرة للغاية. سُجل ذلك للمرة الأولى بواسطة دوموند وكيريكباتريك عام ١٩٣٧ لكن التقنيات التجريبية قد شهدت تطورًا كبيرًا على مدى أربعين عامًا. فقد توصل كل من ريتشارد بووترتاون وكوبر وهولت بجامعة وارويك إلى نتائج مماثلة، ونشروا بحثًا مشتركًا أطلقوا عليه «قصور الكومبتون».
تمكن هؤلاء العلماء من تقديم حجة نوعية فيما يتعلق بالسبب، لكن عندما سُلِّمت النتائج إلى الباحث المعروف روي جلوبر في جامعة هارفارد، الذي حصل على جائزة نوبل في المستقبل بعد ذلك، عجز عن إيجاد الحجج النظرية التي تدعم وجود «القصور».
وفي وقت لاحق، شكا هذا الرجل إلى ريتشارد قائلًا: «لقد بذلت جهدًا كبيرًا في هذه المشكلة وأضعت كثيرًا من الوقت.»
لكن جلوبر لم يكن لينشر مجهودًا نظريًّا بذله ولم يكلل بالنجاح. هذه هي طبيعة عقلية الفيزيائيين التي ظهرت من تفاعلاتهم العلمية الاجتماعية.
كانت نسبة ١٪ نتيجة كبيرة عندما تكون نسبة الشك التجريبي ٠٫٢٪ فقط. وربما يكون حل اللغز في انتظار شخص موهوب ينعم عليه الخالق ويكشف له السر. وكان المرء يظن أن الباحثين النظريين كانوا سيحتشدون في مثل هذه المشكلة الأساسية. لكنَّ «قصور الكومبتون» يأتي على رأس قائمة الأسئلة التي أعدها ريتشارد للقديس بيتر.
عُقد مؤتمر ساجامور الخامس (ساجافينسك) في مركز مؤتمرات يبعد نحو ١٥ ميلًا شمال هلسينكي في مكان يعج بالأشجار مما جعله مشابهًا لموقع مؤتمر ساجامور الأصلي بولاية نيويورك. اضطلع البروفيسور كارل كوركي-سوونيو الأستاذ بجامعة هلسينكي بالمهام الإدارية، ونتج عن ذلك شعور الجميع بالسعادة وفي ذلك المشاركون العشرة الروس الذين سعدوا بتذوق المناخ الغربي. اجتمع ثمانون مشتركًا يمثلون ١٥ دولة في فنلندا للحديث عن تجاربهم مع الوحدة البنائية للطبيعة وهي الإلكترون. مضى قرن من الزمان تقريبًا منذ أن اكتشف جيه جيه طومسون هذا العفريت الصغير، وأكثر من عشر سنوات منذ أن شرعت مؤتمرات ساجامور في تقديم شروح تفصيلية لماهية الإلكترون.
كانت هلسينكي بعيدة للغاية عن الطرق الرئيسية المأهولة ولا تعج بالسياح حتى في فصل الصيف. شعر ريتشارد أنها تستحق الوقت الإضافي المبذول للوصول إليها. ويستطيع الناظر من جامعة هلسينكي إلى سيلتافوربينجر ويج أن يرى الميناء، والجزر، والسوق الخارجية عند نافورة المياه. كانت إحدى جزر سومينلينا تتميز بوجود قلعة قديمة تستحق رحلة قصيرة. أما الريف فكان باعثًا على البهجة، وكان بمنزلة تحدٍّ لقدرة ريتشارد على فهم الأسباب المنطقية أن يفسر سر الظهور الدائم للتجهم الذي اشتهر به الفنلنديون. ولعل فصول الشتاء الباردة المظلمة قد فرضت وجودها داخل الجينات الفنلندية. وكان الكحول مشروبًا رئيسيًّا دائمًا لسكان هلسينكي، المدينة التي تسمى «ابنة بحر البلطيق».
كانت هناك حكاية منتشرة عن أحد الفنلنديين وأحد السويديين اللذين كانا يحتسيان الخمر في صمت داخل إحدى الحانات. ومع كل كأس كان السويدي يرفع كأسه ويدعو لنخب في صحة الفنلندي، في الوقت الذي يظل فيه الفنلندي صامتًا. وبعد الكأس الرابعة خرج الفنلندي أخيرًا عن صمته قائلًا:
«اسمع، هل جئت لتتحدث أم لتشرب الخمر؟»
ادعى تيمو باكري، الذي قضى عامًا في أمريكا، أن الأمريكيين يشربون الخمر بمعدل أكبر من الفنلنديين. الفارق الوحيد هو أن الفنلندي العادي يتجرع الخمر كله في ليلة السبت ثم يقضي اليوم التالي كله يغط في نوم عميق. وكانت عربة السجناء تجوب هلسينكي وتجمع أولئك الذين يسقطون فريسة للنوم في المتنزَّهات العامة. وكان الفنلنديون الذين وقعوا من السُّكر يذهبون مع العربة في هدوء وهم على يقين أنهم سيغرَّمون ٥ أو ١٠ ماركات فنلندية. وفي صباح أحد أيام الآحاد كان ريتشارد جالسًا على مقعد في متنزه يطل على الميناء منتظرًا المعدية. أثَّر فيه دفء الشمس، وسرعان ما راح في النوم لتوقظه فقط غلظة عصا أحد رجال الشرطة وهي تهز ركبتيه. ولم يفارق الغضب ولغة التهديد وجه الشرطي ولسانه إلا بعد أن رد عليه ريتشارد بالإنجليزية:
«إنني أنتظر المعدية ويبدو أنني غفوت قليلًا.»
سار الشرطي مبتعدًا عنه، ملوحًا له بيديه. كان القانون يحرم الجلوس على مقعد في متنزه صباح يوم الأحد إلا إذا كان الجالس أمريكيًّا.
كانت «الساونا» أحد الطقوس اليومية، لكنها أكثر من حمام بخار فحسب. وقد تعرف ريتشارد على هذه العادة من خلال كوركي-سوونيو في كوخ أسرته الذي يقع على شاطئ إحدى البحيرات. وقد أخبره كارل بأن عدد البحيرات في فنلندا كبير للغاية حتى إنه يمكن لكل فنلندي أن تكون لديه بحيرة خاصة به. حذا ريتشارد حذو كارل أثناء إعداده الساونا (التي ينطقها الفنلنديون سو-نا) مدركًا أن أي أسئلة عن العادات والتقاليد لن تكون ذات جدوى.
في وقت مبكر من اليوم، يبدأ إشعال الخشب تحت صخور كبيرة يجري تسخينها بحيث تحتفظ بالسعرات الحرارية اللازمة لفترة الظهيرة بالكامل. ومثل هذه الصخور كانت تُنتقى دون غيرها لقدرتها على الاحتفاظ بالحرارة، وهي تركيبة مثالية لما لها من حرارة نوعية مرتفعة تصل بالطاقة المختزنة إلى أعلى معدلاتها وكذلك لموصليتها الحرارية المنخفضة التي تقلل من الفقد الحراري. وقد تحتفظ الأسرة بهذه الصخور عقودًا. يلي ذلك رحلة قصيرة إلى الغابات لقطع أفرع شجر البتولا التي يصل طولها إلى أربع أقدام. وقبل الساونا مباشرة تسكب كمية معينة من الماء على الصخور حتى تمتلئ الغرفة بالبخار.
كان الأشخاص المتجردون من ملابسهم يجلسون على مقاعد ملساء من الصنوبر، يُشد بعضها إلى بعض عن طريق أوتاد خشبية. فلم يكن ممكنًا استخدام المسامير المعدنية؛ فقد تبعث بدرجات عالية من السخونة إلى مؤخرات الأشخاص فتسبب لهم الحروق. وقد تصل درجة الحرارة في الساونا إلى أكثر من ١٠٠ درجة مئوية إذا حافظوا على الهواء جافًّا. فكيف يمكن للجسم أن يتحمل درجة حرارة تساوي نقطة غليان الماء؟ هذا غير ممكن، لكن الرطوبة التي تُطرد من غدد العرق تزيل من الجسم جزءًا كافيًا من الحرارة لتترك الجلد في درجة حرارة أقل بكثير.
يمكث الشخص في الساونا لما يقرب من عشرين دقيقة، مستخدمًا أغصان البتولا ليحك بها ظهره. ولم يرَ ريتشارد في هذا التداوي أي سعادة، خاصة أن عروقه خالية من أي دماء فنلندية، ولذا لم يحق له الادعاء أن ملاحظته الشخصية ذات جدوى. من ناحية أخرى، لم يكن عجيبًا أن يلزم الفنلنديون الصمت داخل الساونا، على الرغم من أن بعض تعليقات ريتشارد لم تقابل بغضاضة. وبعد انقضاء الدقائق العشرين، يقفز المرء في البحيرة الباردة التي تصل درجة حرارتها إلى ١٠ درجات مئوية، ويظل فيها قدر ما يستطيع جسمه أن يحتمل. وقد تحمَّل ريتشارد هذه المياه أقل من دقيقتين ثم عاد إلى الساونا.
يستمر هذا التعرض الدوري لدرجات حرارة الساونا المرتفعة ثم البحيرة ثلاث دورات أو أربعًا قبل أن ينتهي المرء من هذه العملية، ثم يستحم ويرتدي ملابسه، ويحتسي بعض المشروبات غير الكحولية. وهنالك تحصل على النتيجة المبتغاة؛ فتصير منتشيًا ومتأهبًا للرحيل. فهل تجبرك هذه العادة على إدمانها؟ هل حركت شيئًا في نفس ريتشارد؟ هل عزم على تركيب ساونا عندما يعود إلى الوطن؟ كانت الإجابة هي «لا».
كلف كوركي-سوونيو سبعة متحدثين لإلقاء كلمات مراجعة للحقائق النظرية والتجريبية الخاصة بعمليات توزيع الإلكترونات. وكان ٥٦ بحثًا قصيرًا عن الإسهامات الفردية تكمل هذه المراجعات. وكان واضحًا من المستوى المرتفع للعلماء ذوي الصلة أن الموضوع يحظى باهتمام قد يوضح التفاصيل الدقيقة عن سلوك الإلكترونات.
على مأدبة المؤتمر، كرر بيرتو سرد ذكرياته عن مؤتمرات ساجامور الأولى بولاية نيويورك ولقائه المحتمل بأحد الدببة، مقترحًا هذه القطعة من الشعر الهزلي:
كان السؤال الذي لا إجابة له هو: ما الذي كان يفعله دب أمريكي في الحلم الفنلندي لرجل فرنسي؟
عقب المؤتمر، دُعي ريتشارد إلى قضاء أسبوعين في قسم الفيزياء بالجامعة على أن تدبر الجامعة مكان إقامته. ومن ناحية أخرى، خطط ريتشارد لزيارة توركو والقيام بمزيد من جولات زيارة المعالم السياحية.
في نهاية هذين الأسبوعين أقام كوركي-سوونيو حفلًا لقسم الفيزياء في منزل باكاري. كان ريتشارد قد أحضر معه بضع زجاجات من البوربون بدرجة تركيز كحول ١٠٠ اشتراها من مخزن تموين الجيش في لندن. كانت الخمور باهظة الثمن في فنلندا. وكان المضيف قد أضاف إلى هذا العرض بعض الأكوافيت المثلج وبعض الشيكولاتة، وهو مزيج وجده ريتشارد ممتعًا للغاية. ولبعض التسلية استعار ريتشارد جيتارًا وحث أحد أعضاء القسم على غناء بعض الأغاني الخارجة التي تعود إلى القرن الثامن عشر، والتي جمعها ريتشارد في بحثه عن الحانات. وقد أكد هذا الظهور لمشاعر الصداقة الشديدة أن «الإلكترونات تجمع بين الناس وتوحدهم.»
ربما كان الحدث الذي أظهر مدى تحضر الفنلنديين الشديد قد وقع عندما كان ريتشارد يمشي بطول أحد الطرق المفعمة بالحركة في وسط مدينة هلسينكي. دلت ضجة كبيرة على تصادم بين مركبتين. وعلى الفور قاد السائقان سيارتيهما إلى جانب الطريق، ثم خرجا منهما، وبسرعة شديدة مشى كل منهما صوب الآخر وكأنهما سيشتبكان في تلاكم بالأيدي. لكن، بدلًا من ذلك، تصافح الاثنان بحرارة وتبادلا بطاقات التعارف دون أن يرفعا صوتيهما.
خلفت العمارة الفنلندية انطباعًا قويًّا في ذهن ريتشارد. فقد نحتت كنيسة تمبيليوكو من صخور أسفل مستوى سطح الأرض، وغُطِّيت بسقف يشبه الصحن الطائر. وتقع «قاعة فنلندا» التي تمثل مركز المؤتمرات والحفلات بمدنية هلسينكي بجوار بحيرة صغيرة، وتوفر للمدينة مكانًا كبيرًا وباعثًا على السعادة لمثل هذه الأغراض. أما «نصب سيبليوس التذكاري»، وهو درع كاملة من الأنابيب المعدنية التي تحاكي أنابيب آلة الأرغن والتي لُحمت معًا لتذكِّر الناظر إليها بالشجرة، فقد عرض في متنزه خاص. وأما أقمشة ماريميكو والمجوهرات التي تحمل تصميمات أثرية، وكئوس الكوكتيل الفنلندية المصنوعة من الكريستال التي تمتلك مظهرًا غير مصقول كأنما قطِّعت من قطعة صلبة من الزجاج، والجبن الفنلندي الحلو المذاق؛ فقد نقشت أسماؤها جميعًا على خارطة التجارة الدولية.
أعد ريتشارد العدة لرحلة قصيرة إلى لنينجراد على ظهر بور لاين، وهي رحلة مدتها ثلاثة أيام لا تطلب الحصول على تأشيرة. وقد كان في ذلك ترتيب مناسب مكَّن الروس من الحصول على بعض العملات الصعبة، والفنلنديين من الإفراط في الشراب من الخمر المعفاة من الضرائب. انطلق القارب في أحد أيام الجمعة في فترة ما بعد الظهيرة في رحلة مدتها ليلة واحدة على أن يعود بعد يومين. وقد وجد ريتشارد قلة قليلة فقط من الركاب لا تشرب الخمر. وقد أحسن الفنلنديون جميعًا التصرف على الرغم من أنهم سكروا سكرًا شديدًا.
وعند الوصول إلى لنينجراد، طُلب من الركاب أن يستبدلوا بجوازات سفرهم عند سلم السفينة بطاقة مشابهة للتأشيرة. التقت مرشدة من إنتوريست بالمجموعة، وأخبرتهم بضرورة أن يتبعوها طوال الوقت. سارت المجموعة إلى شارع نيفسكي بروسبيكت، الذي يعد برودواي لنينجراد، وزاروا كنائس عديدة، من بينها «كاتدرائية سانت إيزاك»، و«ميدان القصر» الضخم، وأحد المتنزهات، وأخيرًا متحف الهيرميتاج، قبل أن يُطلق سراحهم لكي ينفقوا عملتهم الصعبة في أحد متاجر الهدايا المحدد سلفًا.
ولا شك أن متحف الهيرميتاج من الداخل وصالوناته المزخرفة ذات الطراز المميز لعصر الباروك التي توجد بالمئات قد جعلته أعظم متاحف الفن على الإطلاق. فقد تضاءل جمال لوحات المتحف تمامًا أمام طغيان جمال ديكوره الداخلي.
في عدد فبراير لعام ١٩٧٧ من الدورية الفيزيائية الاسكندنافية «فيزيكا سكريبتا» الصادر في ١٦٢ صفحة، تعقبت المقدمة التي كتبها كوركي-سوونيو أسلوب عمل مؤتمرات ساجامور وأسباب تخصيص ذلك العدد بالكامل من المجلة لاستعراض التقدم المحرز منذ عام ١٩٦٤. ففي سبع مقالات جيدة التنقيح لكل من: بروس فوزسايث، وأرت فريمان، وبرايان ويليامز، وبي ليندر، وبيير بيكر، وروبرتو كولا، وفيدين سميث الابن؛ راجع الخبراء جميع الموضوعات النظرية والعملية في كثافة الشحنة وكثافة الدوران وكثافة كمية التحرك. فقد عرض سميث في بحث نظري كثافة الإلكترون في الماء حسابيًّا وبدرجة عالية من الدقة.
في العام نفسه (١٩٧٧)، رصد كتاب صادر عن دار ماكجرو-هيل ألفه برايان ويليامز تاريخ وإنجازات تشتت الكومبتون في قياس كثافة كمية التحرك. ومع كل هذا الاهتمام العالمي بسلوك الإلكترونات، اتضح لريتشارد أن سلاتر كان سيسعد بهذا التقدم لو كان حيًّا. وبالطبع، كانت هذه عملية لا نهائية؛ إذ لا يمكن إجراء أيٍّ من النظرية أو التجربة دون نسبة ضئيلة من مبدأ الشك.
وعند عودة ريتشارد إلى ووترتاون، صار واضحًا أن عليه أن يركن إلى الراحة بعد خمسة وعشرين عامًا قضاها في طلب وُدِّ الإلكترون المحير المراوغ. فقد تجاوز البحث الأساسي التمويل الفيدرالي، وقرر الجيش أن أي عمل يجب أن يكون متعلقًا بالمهمة الخاصة به. كان رئيس جديد هو ألبرت جورام، قد انضم بالفعل إلى القافلة، وكان ريتشارد مؤيدًا له وسببًا جزئيًّا في انتخابه. فلما كان التيار قد تحوَّل واضطر علماء الفيزياء الموقرون إلى تحويل اهتمامهم إلى الفيزياء التطبيقية، كان شيئًا سارًّا أن يترأسهم شخص يتحدث لغتهم. وافق جورام على أن أي استمرار في التنقيب عن الإلكترون يجب أن يجري «بطريقة غير رسمية». فأولًا وقبل كل شيء، كان على الرجل أن يبين لواشنطن أن مختبرات ووترتاون يمكنها أن تساعد الجيش. وكان على ريتشارد أن يعثر على طريقة عملية للبحث يكون ناتجها النهائي ملموسًا. ومن ثَم، حول اهتمامه إلى ولعه السابق بالديناميكا الحرارية.
كان جون ميسكول، أحد علماء الرياضيات بووترتاون، يجري حسابات على تغلغل القذائف في الدروع. وكان من المفترض دائمًا أن تنتج المعادن الصلبة أفضل الدروع. ووُلِّدتْ كمية كبيرة من البيانات الباليستية عن نطاق إطلاق النار. وفي أحد الاختبارات، اختُبِر أكسيد ألومنيوم خزفي صلب جدًّا لكنه سهل الكسر (ياقوت أزرق)، وجاءت النتائج مدهشة للجميع. فعلى الرغم من أن القذيفة قد حطمت الخزف، فقد تفتتت القذيفة نفسها أيضًا (كلمة «دكت» هي الكلمة التي استخدمت لوصف هذا التحطم). فما الذي تسبب في ذلك؟ كما أوضح ميسكول، كلما زادت صلابة الدرع، زاد ضغط الموجة التصادمية التي تتولد في كل من الدرع والقذيفة. وقبل أن تصل الموجة التصادمية الموجهة للأمام إلى السطح الخلفي للدرع، تضرب الموجة التصادمية الراجعة السطح الخلفي للقذيفة وتفتتها بتوتر. ومعظم المواد تكون أقوى في تحمل الضغط من تحملها للتوتر.
لعب الحظ دورًا مهمًّا في افتراض أن تسخين مزيج من مسحوقي التيتانيوم وثنائي بوريد التيتانيوم قد ينتج عنه تفاعل يؤدي إلى مركب بوريد جديد. وقد أدى تفاعل طارد للحرارة إلى ما يلي:
كان أول بوريد التيتانيوم الناتج على نفس درجة صلابة ثاني البوريد تقريبًا، لكن أمكن آنذاك تصنيعه في درجات حرارة أقل بكثير. وقد صُنعت عينات كبيرة منه داخل شركة خاصة في كامبريدج، ودعمت تلك النتائج بالتيتانيوم لتوفير قوام ممتص للصدمات. وقد أثبتت التجارب الباليستية أن هذه الدرع الجديدة الأخف وزنًا تستحق مزيدًا من التطوير، لكن نفدت الاعتمادات المالية كما هي الحال داخل الجيش في أغلب الأحيان؛ فلم تكن الدولة في حالة حرب ولم تعد الدرع موضوعًا ذا أولوية كبرى.
لا شك أن بيير بيكر في فرنسا قد سعد كثيرًا بمدرسة مالكوم كوبر التعليمية الصيفية في جامعة ووريك؛ إذ إنه تحمس لصنع ما هو أفضل بعد فصلي صيف آخرين. اختار بيكر مدينة آرل على ساحل الريفيرا الفرنسية، وهي مدينة ترتبط عادة بفان جوخ، واستأجر أحد الفنادق ذات الأسعار المعقولة (بريموتل). أرسلت الدعوات إلى الموجودين في سجل ساجامور. عندما تلقى ريتشارد دعوته، اضطر إلى إيجاد حجة لكي يقنع الجيش بتحمل نفقاته في هذه الرحلة. من ثَم، تقدم بطلب إلى واشنطن يفيد أنه قد دعي إلى إلقاء محاضرات في مدرسة صيفية تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو). كان بيكر يعرف شخصًا داخل المقر الرئيسي لحلف شمال الأطلسي معرفة شخصية، وأعد الخطة لكي يتلقى ريتشارد دعوة على ورقة تحمل شعار منظمة الناتو. احتيال لأسباب نبيلة.
ضمت صورة المجموعة ١٢٥ مشاركًا فيهم الأطفال والنساء، وقد ظهر فيها بيكر في الصف الأول يسعى جاهدًا إلى رسم بسمة لم تُخفِ ضيقه من الشجار الذي كان قد وقع بينه وبين المدير قبل التقاط الصورة مباشرة، ويرجع الخلاف إلى أن ذلك المدير استمر في تقديم نوع واحد فقط من الحلوى على العشاء أربعة أيام متتالية. غاب عن الصورة البروفيسور دوديل، أحد المشرفين الأشداء على العمل، الذي أعد العدة لإحدى الصديقات وهي مدام دي أجاجيو لكي تعرض لوحاتها داخل الفندق. بدا أن بيير الشاب كان خائفًا من دوديل الذي كان محبًّا للعزلة. وقد فُتِن ريتشارد — الذي كان معاصرًا لدوديل — وأزال حواجز التواصل بمجهود قليل وهما يسترجعان ذكريات الحرب. كان دوديل عميلًا سريًّا يعمل شرطيًّا في أحد مراكز الشرطة بباريس. وعندما سقطت صواريخ «في-١» المعطلة في فرنسا، كان أفراد من المقاومة السرية يسلمون الأجزاء عند المدخل الخلفي لمركز الشرطة، حيث تمكن دوديل من إعادة بناء صاروخ كامل لكي يُشحن إلى إنجلترا في قارب صيد. وأي مخبأ أفضل من مقاطعة فرنسية لإخفاء هذه العملية؟! كانت لوحات مدام دي أجاجيو غاية في الدقة، وأسف ريتشارد كثيرًا لأن ميزانيته لم تسمح له بشراء إحداها.
تركزت أبحاث دوديل العلمية على حل تركيب جزيء العقاقير المؤدية للإدمان، ثم محاولة تركيب جزيء مشابه لكنه غير ضار، من شأنه أن يخدع الجسم ولكن دون المعاناة من أعراض الانسحاب. جهد نبيل حقًّا!
بذل بيير ما في وسعه لإسعاد الحاضرين أثناء رحلات التنزه التي قاموا بها إلى أرجاء المدينة، والعديد من المعالم الشيقة المجاورة في فترات ما بعد الظهيرة. وكانت المدينة بدورها لا تزال محتفظة بكثير من شوارعها الضيقة التي تعود إلى القرن السابع عشر، وقد وجد ريتشارد تسلية ممتعة عندما تحركت إحدى السيارات من طراز كاديلاك داخل أحد الشوارع الضيقة لكي تجد أنه من المستحيل أن تمر من الانحناءة الموجودة في أحد التقاطعات. وفي ذلك الوقت اصطفت سيارات أخرى خلف السيارة الكاديلاك وأخذت تطلق أبواقها. وفي الناحية المقابلة، شرعت بضع سيارات أيضًا في محاولة العبور (فلم تكن الشوارع ذات اتجاه واحد)، والتقت السيارات جميعًا عند السيارة الكاديلاك. كان ذلك الموقف طريفًا للغاية، لكن ريتشارد لم ينتظر حل المأزق؛ فقد كانت لديه أشياء أخرى سيفعلها.
ثمة مدرجان كبيران — أحدهما في آرل والآخر في نيم — محتفظان بدرجة ممتازة بحالتهما الأصيلة، وهما أفضل بكثير من المدرج الموجود في روما. ولعل قناة الماء في نيم التي تحمل الماء من التلال إلى داخل المستعمرة الرومانية في نيم لهي الشيء الأروع من ذلك كله. ولا بد أن زاوية الميل كانت مناسبة تمامًا، فلو كانت درجة الانحدار كبيرة للغاية، لما وصل الماء إلى المدينة. علاوة على ذلك، كانت هذه القناة مبطنة بالرصاص لمنع تسرب المياه، وقد قيل إن سقوط روما كان بسبب التسمم بالرصاص. ولا تزال القناة إلى هذا اليوم على حالتها الأصيلة، ولا يزال هذا الشاهد على الهندسة الرومانية موجودًا لكي يراه الجميع.
وقد وقعت إحدى الحوادث التي لا تُنسى عندما كان ريتشارد يسير مع إحدى المشاركات في المؤتمر في شوارع آرل. أبطأت إحدى السيارات المرسيدس وامتدت منها يد وانتزعت حقيبة اليد الخاصة بالسيدة. لاحق ريتشارد المتهم على قدميه لكن السيارة المرسيدس كانت سريعة للغاية. وعلى الرغم من أنه لم يرَ ذلك في جميع الأعوام التي عاشها في أمريكا التي تكثر فيها الجرائم، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها ريتشارد واقعة اعتداء «عنيفة».
من ناحية أخرى، كانت الرحلة الجانبية إلى مدينة أفينيون وقصر البابا — أحد الأبنية الرائعة التي استخدمها الباباوات من عام ١٣٠٥ إلى عام ١٣٧٦ عندما كانت روما في حالة اضطراب — أشبه بفترة استراحة مثيرة، على الرغم من أن القصر لم يكن بروعة الجسر المشهور الذي استلهمت منه الأغنية المعروفة «فوق جسر أفينيون» الذي قيل إن الناس كانوا يرقصون فوقه. كان الجسر، كما أشار المرشد، ضيقًا للغاية لممارسة الرقص، لكن هذا النشاط كان يحدث أسفل الجسر. ولذلك، كان ينبغي أن يكون اسم الأغنية «تحت جسر أفينيون». وبعد رحلة إلى كامارجو، وهي إحدى المناطق المخصصة للخيول البرية الصغيرة، ذهب المشاركون في نزهة إلى الشاطئ. انضم أحد المشاركين من الهند إلى ريتشارد أثناء سيره على شاطئ البحر الأبيض المتوسط؛ لكي يشكو إليه من السلوك غير الأخلاقي المتعلق بمظاهر التعري على الشاطئ، على الرغم من أن ذلك لم يمنعه من غمز ذلك الجمال بنظرات شهوانية.
لاقى المؤتمر نجاحًا كبيرًا على الرغم من غياب التنوع فيما يخص الحلوى داخل الفندق. وقد روجت الصحف في آرل للمؤتمر عند وصفها للأحداث، لكنها تناولت لوحات مدام دي أجاجيو بعناوين رئيسية أكبر!
في إحدى الرحلات القصيرة الأخرى، زارت جين براون، زميلة سابقة بمختبر كافينديش، واثنان آخران بعض مصانع النبيذ. كانت جين في وقت ما في الماضي متذوقة ماهرة للنبيذ في فترة الجامعة، وكانت تتسوق من أجل اقتناء نبيذ «شاتونوف دو باب». وقد اشترت العديد من الصناديق لكي تُعتَّق أعوامًا عديدة قبل أن تُفتَح. وقد تعجب ريتشارد من قدرتها على التمييز؛ إذ إنه نادرًا ما كان يستطيع أن يميز بين نوعين من الخمور عن طريق تذوقهما.
وفي كلمة لريتشارد في المؤتمر، لجأ إلى فن رسم الخرائط لعرض المشكلات التي تحول دون الربط بين كثافة كمية التحرك وكثافة الدوران وكثافة الشحنة، بوصفها حلولًا لمعادلة شرودينجر.
أطلق على الخريطة اسم «عالم الإلكترون»، وكان «بحر شرودينجر» هو مركز الخريطة الذي يجب عبوره من أجل الوصول إلى بلدان عديدة. أما في الغرب، فكانت «الدولة آر» (دولة الموقع) التي يمكن فيها للمرء أن يعثر على قاطنيها من الإلكترونات في مواقع متعددة، لكن لا يمكنه قط أن يراهم وهم ينسلون في مكر من مكان إلى آخر. عندما بدأ ريتشارد مهنته، قضى الجزء الأكبر من وقته في «الدولة آر»، لكن نجاحه كان محدودًا جدًّا فيها. فلم تتمكن أشعته السينية على نحو دائم من اختراق الأدغال الموجودة دائمًا.
لكن عندما بدأ ريتشارد في وقت لاحق في التعاون مع كوبر وليك وفيليبس، تحرك باتجاه الشرق حيث «الدولة بي» (دولة كمية التحرك) التي يتحرك فيها السكان في رحيل دائم جعل من المستحيل العثور عليهم في حالة ثبات. أما المرور الآمن من الشرق إلى الغرب ورحلة العودة، فقد اعتمد على العثور على حل معادلة الموجة الميكانيكية الكمية لمعادلة شرودينجر. وهناك «شبه جزيرة كيه إي» (شبه جزيرة الطاقة الحركية) التي يمكن تقييمها مباشرة من مخطط الكومبتون.
وفي شمال بحر شرودينجر يوجد «ميناء إي» (ميناء الطاقة الإجمالية)، وهو يمثل أحد أسهل الخصائص من حيث إمكانية الحساب. وهو مرفأ آمن مكوَّن من جزء واحد من الطاقة الحركية الموجبة وجزأين من الطاقة الكامنة السالبة. كانت هذه هي الخاصية الأولى التي قيست في الفترة التي سبقت ميكانيكا الكم. وتمثل «الطاقة الكامنة في» شبه جزيرة أخرى يمكن الوصول إليها من خلال قياسات كثافة الشحنة في «الدولة آر».
بالإضافة إلى ذلك، كانت البحار العاصفة ذات الأعاصير المستمرة معلنة عن وجودها على الخريطة، ومن ثَم استحال الانتقال من «الدولة بي» إلى «الدولة إي» دون عبور بحر شرودينجر. وأخيرًا جاءت كثافة الشحنة لكل من الموقع وكمية التحرك، مع قياس الأولى بالانحراف النيوتروني، والأخيرة بأشعة سينية مستقطبة استقطابًا دائريًّا.
كان استكشاف دول عديدة على هذه الخريطة يتم على نحو عشوائي وغير يقيني في الماضي، لكن على الأقل الخريطة موجودة الآن لكي يستخدمها الجميع عند ولوج عالم الإلكترون. فيا للمتعة! في الإطار نفسه، أعطى ريتشارد في إصدارين له عام ١٩٧٨ أول إشارة إلى الطريقة التي يمكن بها النزول إلى أرض «شبه جزيرة في» وأعقب ذلك اقتراح لإيبشتاين للطريقة التي يمكن بها عبور الخليج الضيق المؤدي إلى «شبه جزيرة كيه إي». لكن للأسف الشديد، لم تطأ قدمٌ هذين الطريقين قط.
ترك ريتشارد بهذا الاستكشاف الساخر لعالم الإلكترون مجموعة من الإرشادات من أجل المستوطنات المستقبلية. تبين أن تلك كانت بمنزلة أغنية البجع لريتشارد في عالم الإلكترون؛ إذ إنه الآن يتطلع إلى أن يصبح صاحب حانة. فليس من المتوقع أن يبحث أي شخص يدخل حانة بلانشارد عن إلكترونات. وسيترك ريتشارد العلماء الأصغر سنًّا يمسكون بالبجع المبحر في بحر شرودينجر. والأمل معقود على أن يُنشر كتاب طهي يشرح طريقة طهي بجع بحر شرودينجر.
السادة النبلاء،
نما إلى علمي أن هناك إشاعة دائرة على الألسنة عني وعن مؤسستكم في شرق ستوتون. وأود أن أخبركم أنني لم أنم في أي وقت من الأوقات داخل حانة بلانشارد. ولكنني في الخريف الماضي في رحلة لي من بوسطن إلى نيوبورت، أتذكر بوضوح أن فرسي توقفت تحت شجرة بلوط كبيرة أمام حانة بلانشارد، وبدا أنها قد استراحت جيدًا نتيجة لذلك؛ لأنها استأنفت الرحلة بعدها بنشاط كبير.
لذلك، لكم الحق في تثبيت لوحة نحاسية على هذه الشجرة (التي لا شك استفادت الكثير من جراء تلك الزيارة) تقول بأن فرس الجنرال جورج واشنطن توقفت في تلك البقعة، أو أي عبارة أخرى تشعرون أنها أبلغ تعبيرًا عن ذلك الحدث.
كان مؤتمر ساجامور السادس سيعود مرة أخرى عبر الأطلنطي إلى مونت تريمبلانت في لورنتيانز شمال مونتريال. تولى فيدين سميث بجامعة الملكة في كينجستون أعباءَ الترتيبات المحلية. من ناحية أخرى، قرر ريتشارد أن يذهب إلى هناك بالسيارة من ووترتاون، وأجرى اتصالات بالعديد من المشاركين القادمين من الخارج، الذين سيصلون إلى بوسطن لكي يعرض عليهم الانضمام إليه في رحلته. ولما كان المؤتمر قد بقيت عليه ستة أشهر، حوَّل ريتشارد اهتمامه إلى مشكلة عسكرية أرقت مصممي الطائرات والبحرية سنوات؛ مشكلة الاضطراب.
اشتهر عن هايزنبيرج قوله إن هذه المشكلة هي أصعب المشكلات التي واجهها على الإطلاق في الفيزياء. فأي جسم يتحرك في الهواء أو الماء بسرعة كبيرة يواجه قوى احتكاكية بين الجزيئات الغازية أو السائلة التي تلمس هذا الجسم أثناء حركته. وعندما ترتد هذه الجزيئات بعيدًا عن الجسم، فإنها تصطدم بجزيئات الماء أو جزيئات غازية أخرى، وتؤدي في النهاية إلى تكون دفق غير منتظم. تظهر هذه الحركة العنيفة فجأة وتؤدي إلى دفق شديد التعقيد يشبه الدوامة ويسمى الاضطراب. والطائرة أو السفينة التي تواجه الاضطراب (وجميعها يحدث لها ذلك) تستهلك من ١٠ إلى ٣٠ بالمائة وقودًا إضافيًّا كي تواصل سيرها.
حيث إن هذه المشكلة قد استعصت على الحلول النظرية، فقد بُذلت جهود عملية حسب تكهنات العلماء. وفي عام ١٩٦٤، أجرت شركة «نورثروب أفياشن» تعديلات على أجنحة إحدى الطائرات، عن طريق إحداث ثقوب بطول الأجنحة وتركيب مضخات مفرغة داخل الأجنحة. وقد نجحت هذه الفكرة بالفعل وأمكن التخلص من الاضطراب. إلا أن صراع فيتنام أنهى برنامج الأبحاث، وتوقف أي جهد إضافي في هذا الصدد. لكن آل ذلك إلى التغيير عام ١٩٧٣ مع الحرب العربية الإسرائيلية وقلة توفر الجازولين. وواجهت صناعة الطائرات فجأة احتمالية أن يحدَّ ترشيد استخدام الوقود من استخدام الطائرات.
نظرًا إلى عمل ريتشارد بمختبرات البحرية في نيوبورت، فقد ساعد في مسألة المواد الشديدة المسامية التي قد تستخدم في بناء السفن والطائرات. لكن وزارة الدفاع اختارت ألا تمول المشروع؛ إذ لم يكن لهذا النوع من المواد مهمة عسكرية واضحة. (لم يكن توفير الوقود كافيًا.)
في الوقت الذي شرع فيه مؤتمر ساجامور في منطقة لورنتيانز في عادة «طلب ود الإلكترون» وإشعار المشاركين بالسعادة، وقعت لريتشارد أكثر الذكريات متعة أثناء عودته بالسيارة إلى ووترتاون. فعند اجتيازه مونتريال تأخر كثيرًا؛ إذ كان السكان يعقدون آنذاك أول ماراثون عالمي لهم، وأغلق لذلك أحد الجسور الرئيسية أمام السيارات. وقد تنافس في هذا الماراثون ما يقرب من ٢٠٠٠٠ متسابق، وتطلب ذلك قليلًا من المراوغة غير المباشرة، على طريق متعرج لكي يعبروا إلى مدينة سانت لورانس. وقد كانت دهشة ريتشارد بالغة عندما علم أن من فاز بالسباق هو شخص معروف لديه كان يعيش في آفون، المدينة التي لا يزيد سكانها على ٥٠٠٠ نسمة فقط! كان الفائز في الواقع هو الأخ الأصغر للرجل الذي يؤدي دور المقلِّد بحانة بلانشارد!
بانتهاء برنامج البحث الحر في ووترتاون والافتتاح الوشيك للحانة، أخذ طيف فتنة التقاعد يلوح بقوة في الأفق. عُرض آنذاك على ريتشارد منصب أستاذ زائر بكلية الملك في لندن وبجامعة ساري أيضًا. ولكن ريتشارد فضَّل أن يجرب أسلوب حياة المتقاعدين والاستمتاع بإنجلترا في الصيف، وكاليفورنيا أثناء الشتاء، وآفون أثناء الربيع والخريف. وسيكون في وضع يسمح له باغتنام أي فرص تأتيه في أي من هذه الأماكن الثلاثة. فكَّر ريتشارد في الأمر مليًّا ليصل إلى أن التقاعد في سن ٥٦ عامًا هو شيء مثير حقًّا.