إنجلترا: ١٩٨٠–١٩٩٠

وجدَ ريتشارد أن منطقة لندن المحيطة بكلية الملك في شارع ستراند هي أبرز المناطق الثقافية التي مر بها في دول العالم التي تتحدث الإنجليزية. ففي غضون خمس عشرة دقيقة من السير، يمكن للمرء أن يصل إلى مقاطعة المسارح، وعشرات المتاحف، ومجمع ساوث بانك الضخم، ومركز باربيكان سنتر، ومنطقة كوفنت جاردن، وغيرها. تميَّزت السنوات العشر التي قضاها ريتشارد أخيرًا في الكلية بالثراء من حيث الاكتشافات التاريخية والجمالية، ودفعته إلى تجربة عدد من الأنشطة الفرعية التي أسهمت في تطوير هذه الاهتمامات. وبالكاد كانت هناك فترة غداء في الوقت الذي لا يحضر فيه ريتشارد محاضرة بالمعرض الوطني، أو معرض اللوحات الوطني، أو متحف لندن، أو جامعة لندن، أو الجمعية الملكية … إلخ، أو يحضر إحدى الحفلات الموسيقية داخل قاعة الاحتفالات الملكية أو في أي من الكنائس العديدة التي تقدم مثل هذا النوع من التسلية. كانت الموسيقى، والتاريخ، والعلوم، والفنون، وكل ما يسمو بالنفس البشرية متوافرًا ليستمتع به مَن شاء مقابل تكلفة زهيدة أو دون تكلفة على الإطلاق.

ولم يضف تعيين ريتشارد الثاني في قسم الفلزات بجامعة ساري في جيلدفورد الكثير من البهجة، فقد كان العلم هو المسيطر. وكان ريتشارد يستفاد به في المقام الأول في تقديم النصح للطلاب المنهمكين في أبحاث أطروحاتهم. وقضى ريتشارد أول عام أو عامين في معرفة الكليتين والتعرف جيدًا على أعضاء هيئة التدريس والأبحاث التي تتداخل مع اهتماماته.

كان مايكل هارت، البروفيسور في ويتستون ورئيس أحد الأقسام في كلية الملك، هو مَن رتب لاستقدام ريتشارد أستاذًا زائرًا. وكان ذلك الرجل قد اكتسب شهرة كبيرة في فيزياء الأشعة السينية مما أدى إلى تقليده منصبًا يرغب فيه الجميع، وهو «عضو الجمعية الملكية». اقترح ريتشارد عليه ضرورة تجربة طريقة جديدة لانكسار الأشعة السينية، وهي الطريقة المشتتة للطاقة. لكن لم تصنع أي شركة وحدة تجارية مخصصة لهذه الطريقة، ومن ثم اضطُر ريتشارد إلى البحث عن وحدة أشعة سينية طبية مستعملة، وحدة تكون إحدى المستشفيات راغبة في التخلص منها. ذلك أن الوحدة الجديدة كانت باهظة التكلفة. واقتضت الحاجة وجود مولد أشعة سينية عالي الجهد، مولد يقع في النطاق من ١٥٠٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠٠ فولت. وكانت مولدات انكسار الأشعة السينية مقصورة على ٦٠٠٠٠ فولت في المعتاد.

بطبيعة الحال، يستخدم المرء شعاعًا أحادي الطاقة من الأشعة السينية، ويفحص كثافة التشتت من زوايا مختلفة. يضع أسلوب تشتيت الطاقة المِكشاف عند زاوية تشتت معينة ويفحص طاقات الأشعة السينية. وقد وفرت كلتا الطريقتين معلومات عن الترتيب البلوري للذرات، لكن الطريقة الثانية كانت لها ميزات معينة تمنَّى ريتشارد أن يستغلها. كانت فكرة برزت في ذهنه بسبب ولعه وافتتانه بالديناميكا الحرارية.

في أي مادة صلبة، تكون الذرات في حالة اهتزاز مستمر حسب درجة الحرارة والقوى الموجودة بين الذرات، التي يحكمها ترتيب الإلكترونات. وتختلف المواد جميعًا في قوة هذه القوى، وأشار الفيزيائيون إلى السلوك الغريب للاهتزازات الجماعية للذرات باسم الفونونات، وهي كلمة مأخوذة من البادئة «فونو» التي تدل على «الصوت»، واللاحقة «فوتون» التي تشير إلى طاقة الفوتون بحرف h، أو ثابت بلانك، مضروبًا في تردد الاهتزاز. وكان أبسط الأمثلة على هذه الحركة الجماعية موجة صوتية تنتقل عبر مادة. ولهذه الموجة سرعة وطول موجي. ومع زيادة درجة الحرارة، ينشأ المزيد والمزيد من الفونونات بأطوال موجية أقصر (تردد مرتفع). فإذا تمكن المرء من قياس الوفرة النسبية للفونونات عند ترددات مختلفة، يمكن حساب الحرارة النوعية ومن ذلك يمكن حساب الاستقرار الديناميكي الحراري للمراحل المختلفة مثل حديد ألفا وحديد جاما.

أثر انحراف النيوترونات على تحديد الترددات ولكن الأسلوب كان مقصورًا على قليل من المواد فقط. وقد عقد ريتشارد النية على قياس هذه الاهتزازات من الطريقة التي تؤثر بها على تشتت الأشعة السينية. وهكذا سلَّمت مستشفى كلية الملك وحدة أشعة سينية طبية مستعملة إلى مجموعة الفيزياء، ورُكِّبت في مختبر بالدور الأرضي. عملت الوحدة بضع ساعات قبل أن تحترق الأنبوبة. أعلن ذلك نهاية هذه المحاولة على الأقل حتى يمكن العثور على بديل ما. ولما لم يكن لدى ريتشارد ما يشغله، فقد سعى إلى طرق أبواب مجالات أخرى، وعاد إلى ماساتشوستس في الخريف.

وفي آفون افتتحت الحانة دون كثير من الجلبة والدعاية. وكان ريتشارد يمتلك حُلَّة تعود إلى فترة الاستعمار صنعها مؤرخ تخصَّص في أعمال حياكة ملابس تلك الفترة. تكونت هذه الحُلَّة المصنوعة من الصوف الأخضر والمخصصة لأصحاب الحانات في الفترة الاستعمارية؛ من بنطلون قصير وسترة فوقية ذات أزرار من البيوتر وازنها جوربان أبيضان طويلان يغطيان الركبة. وقد تمكن ريتشارد من الحصول على هذين الجوربين دون عناء، على الرغم من أن البائع نظر إليه شزرًا وارتيابًا. هذا بالإضافة إلى قميص أبيض من الكتان الذي يصل إلى أسفل الركبتين، ويمكن استخدامه كرداء للنوم، ويباع في واحد من متجرين للبيع بالمراسلة. وعند ارتداء هذا القميص مع البنطلون كان لا بد من ثني الأطراف السفلى وإبقائها داخل البنطلون، مما تسبَّب في أن تبدو المؤخرة كبيرة الحجم. وقد بدأ ريتشارد في هذا الوقت من حياته في ارتداء نظارة قراءة، واكتشف أن إحدى النظارات التي عُثر عليها في الطابق الأرضي أثناء عملية الترميم المبكرة كانت مثالية في تصميمها وقوة عدساتها. وأخيرًا، فكر ريتشارد في ارتداء الباروكة.

توارت شعبية الباروكة وأبغضها الأمريكيون وقت الثورة لارتباطها بطبقة النبلاء من الإنجليز. ومع ذلك، شعر ريتشارد أن مثل هذا العنصر من الملابس قد يرفع من مقام صاحب الحانة في مجتمع القرن الثامن عشر التخيلي. وقد خطرت على باله فكرة رائعة تمثلت في شراء باروكة محامٍ مستعملة في لندن، وفي زيارته التالية لإنجلترا وجد متجرًا في زقاق تشانسري لين يبيع أغراض المحامين. فتقدم ريتشارد نحو البائع في شجاعة قائلًا:

– «هل لديك أي باروكة محامٍ مستعملة؟»

– «كلا للأسف. إننا مستعدون دائمًا لشراء هذه الباروكات لأنفسنا؛ فهي مصنوعة من أفضل أنواع شعر الخيول.»

قال ريتشارد وهو يشعر بالدهشة: «حسنًا، وكم يبلغ ثمن باروكة جديدة؟»

– «٢٠٠ جنيه استرليني تقريبًا.»

عقدت الدهشة لسان ريتشارد، فعاجله البائع مفسرًا: «إنها مصنوعة من شعر خيل خالص يا سيدي.»

فرد ريتشارد: «أظن أنها خيول أصيلة إذن.»

ابتسم البائع ولم يجد ردًّا.

سأله ريتشارد: «وماذا عن باروكة المسرح؟»

أصاب هذا الهدفَ المنشود: «آه، نعم، هناك متجر لبيعها بالقرب من ميدان ترافلجار اسمه «حديقة حيوان المسرح».»

أسرع ريتشارد إلى ذلك المتجر واشترى باروكتين من النايلون تعودان إلى القرن الثامن عشر، مقابل ٩ جنيهات استرلينية للواحدة. وقد كانتا ذات نفع كبير لمدير الحانة منذ ذلك الحين، حيث دثر بهما رأسه العاري في الأمسيات الباردة.

بعد أن اكتسى ريتشارد على هذا النحو، صار مستعدًّا لاستقبال واستضافة زبائن الحانة الذين يعرجون عليها من آفون والمناطق المحيطة بها. كانت حانة بلانشارد في نظر ريتشارد بمنزلة حانة محلية، ومكان للتواصل الاجتماعي أثناء احتساء مشروب. وقد أذهبت هذه الحانة الحيرة التي كانت تعتريه تجاه المكان الذي يذهب إليه في مساء الجمعة والسبت. وعلى الرغم من أنه كان محاطًا بالزبائن المنهمكين في شرب الخمر، فإنه لم يتناول قطرة واحدة منه أثناء تأديته لدور مدير الحانة. وقد ذكَّره ذلك بإحدى وظائف الدوام الجزئي الأولى التي شغلها في متجر لبيع الآيس كريم، حيث لم يمس الآيس كريم آنذاك قط.

تقرر عقد مؤتمر ساجامور السابع في أغسطس ١٩٧٢ في اليابان. وحيث إنه ترك الخدمة في ووترتاون حيث كان المختبر يتحمل نفقاته، اضطر إلى أن يعتمد على كرم اليابانيين، وقد كانوا أسخياء في بذل الأموال. لكنه مع ذلك لم يتمكن في أعماق عقله الباطن أن يتجاهل سنوات الحرب التي خاضها ضد اليابانيين بالكلية. فلم يكن سهلًا أن تمحى تجربة مثل الحرب العالمية الثانية خاضها المرء في سنوات تكوين آرائه وتوجهاته. وكما هو معروف للجميع، فإن الأمريكيين لا يمكن أن ينسوا أبدًا هجوم اليابانيين على بيرل هاربور يوم ٧ ديسمبر ١٩٤١. وقد طبعت في ذاكرة ريتشارد صورة ضابط بحرية ياباني رآه ريتشارد أسير حرب، وظلت نظرة الغطرسة في عيني هذا الضابط عالقة بذهنه عقودًا، على الرغم من أن أعينهما لم تتلاقَ إلا بضع ثوانٍ. ومن الجائز جدًّا أن ذكريات ريتشارد قد شابت قدرته على النظر دون تحيز إلى جيل جديد من اليابانيين. ومع ذلك كله، فقد كان ريتشارد محبًّا لكاتو وتمنَّى لو أنه تمكن من أن يتفاعل مع الآخرين بنفس روح التعاون الدولي، على الرغم من أن أفكاره ربما ظلت تظهر تلك المشاعر المستترة.

لدى وصول ريتشارد إلى طوكيو، أذهله تفاوت الأسلوب في العمارة اليابانية. فلم تكن ثمة أي علاقة بين البنايات المتجاورة، الأمر الذي ربما كان نتيجة لارتفاع قيمة العقارات داخل المدينة. كانت اليابان دولة مزدحمة نظرًا لقلة المناطق الصالحة للسكن بها، مثل طوكيو وأوساكا اللتين كان عدد السكان بهما يزداد بسرعة. فالجزء الأكبر من مساحة اليابان كان شديد الوعورة ما جعله غير صالح للحياة المدنية. ومثل هذه المشاهد غير المتوافقة كإحدى ناطحات السحاب التي يعلو سطحها معبد بوذي متعدد الأدوار لفتت انتباه ريتشارد بشدة. وكان انتشار مجموعة غير مرتبة من اللوحات الإعلانية، وأسلاك الهاتف، وغير ذلك يتناقض بشدة مع أناقة مظهر الرجال ذوي القمصان البيضاء والغالبية العظمى من النساء اللواتي يرتدين أفضل تصميمات الملابس الغربية. وفي الوقت الذي ترتدي فيه شريحة ملحوظة من النساء الزي الياباني التقليدي (الكيمونو والوشاح) يطغى استخدام الملابس الغربية الأكثر عملية بين النساء في بيئة العمل. لكن على الرغم من هذا الكم غير المتوافق من الغرابة المعمارية، فقد يجد المرء حدائق يابانية صغيرة مختفية بعيدًا في أغرب الأماكن. وقد لا تضم الحديقة الواحدة في مثل هذه الحدائق أكثر من بضع صخور على قاعدة رملية، بالإضافة إلى تمثال صغير وشجرة غير مكتملة النمو. وربما يكون هذا الزحام المفرط هو ما دفع اليابانيين إلى إضفاء نوع من الجمال المثير على كل المساحات المتاحة لهم.

مع ذلك، اتبع الأفراد على نحو يثير الإعجاب مجموعة من قواعد اللباس التي تعكس عنايتهم الفائقة بالنظافة وتوافق الملابس والأناقة. علاوة على ذلك، بدا اليابانيون على قدر كبير من التنظيم في سلوكهم العام والخاص، ولأن الطعام غالي الثمن، لم يكن السكان يعانون من البدانة. وكان في أحاديثهم إلمام قليل باللغة الإنجليزية، نبع في الغالب من الإعلانات التلفزيونية التي كثيرًا ما تشير إلى المنتج الذي تعلن عنه باسمه الإنجليزي.

وقد علم ريتشارد من خلال قراءاته أن دور الإمبراطور كان أكبر بكثير مما دُفِعَ لاعتقاده عقب انتهاء الحرب. فأغلب الظن أن الإمبراطور هيروهيتو قد استشير في قرار قذف بيرل هاربور، غير أن ماكارثر قرر أن يبقي على صورة الإمبراطور الطيبة لتهدئة اليابانيين واسترضائهم. وعلى الرغم من شغفه البالغ بذلك الموضوع، فقد كان من المستحيل على ريتشارد أن يناقشه في اليابان، إذ يعلم مدى حساسية هذه القضية هناك.

تسير السيارات في اليابان ناحية اليسار وقد عُرف عن سائقي عربات الأجرة اليابانيين تهورهم الانتحاري أثناء قيادتهم السيارات بسرعة شديدة. وكان السائقون يتحكمون بأقفال أبواب الركاب؛ فحالما يطأ المرء بقدمه السيارة لا يمكنه المغادرة حتى يُطلق سراحه. أما رجال شرطة المرور، فكان زيهم غاية في النظافة وكان تلويحهم بالإشارات المرورية يحدث بطريقة عسكرية. وكان القانون قد حظر استخدام الجينريكشا عام ١٩٤٥؛ وهي عربة لنقل الأفراد يجرها رجل، وذكرها ريتشارد من زيارته للصين أثناء الحرب.

أما الطعام فقد كان له شأن آخر. فلم يكن ريتشارد معتادًا على الأطعمة اليابانية الشهية. وحينما دخل أحد المتاجر المتعددة الأقسام في أوساكا، استقبله طابور من الفتيات الباسمات في زي موحد، اللائي أضفن انحناءة إلى كلمات الترحيب. تجول ريتشارد في الطابق الأرضي حيث يقدم العديد من الباعة أطعمتهم داخل أكشاك منفصلة، عارضين سلة بها عينات من تلك الأطعمة على منضدة. وكان ريتشارد قد تلقى نصيحة تحذيرية مسبقة تقول:

«إذا كانت لا تتحرك، فجربها؛ أما إذا كانت تتحرك، فانتظر حتى تكف عن الحركة.»

لمح ريتشارد سلة مليئة بحلقات دائرية صفراء اللون، فتناول واحدة منها فقط ليكتشف أنها شريط مطاطي! أعقب ذلك أن قدم أحد البائعين لريتشارد نتفة مما أسماه peanuts butter (أي، زبدة الفول السوداني)، وهو تعبير صحيح لغويًّا في الإنجليزية، لكنه غريب جدًّا في رأي الناطقين بالإنجليزية!

استحسن ريتشارد فكرة النماذج المرسومة الشبيهة بالشمع في نوافذ العرض التي تحدد كل طبق في قائمة الطعام. ولكن في المؤتمر ظهر حرص خاص على تقديم الأطباق الغربية، على الرغم من أن الغالبية العظمى من المشاركين ظنوا بأنفسهم القدر الكافي من الشجاعة لكي يحاولوا تناول الطعام المحلي. وقد أخبر بوب نيثانز ريتشارد بقصة أول زيارة له إلى إحدى المدن الجامعية الصغيرة باليابان، حيث أكد له مضيفه عثورهم على حانة يمتلك رئيس الطهاة بها كتاب طهي أمريكي، وقد تدرب على طريقة تحضير الهامبرجر والبيض على الإفطار. وقبل ساعة من الوقت المحدد لتناول الإفطار، استعد رئيس الطهاة للعمل، وأعد الطبق الأمريكي الذي يجيد تحضيره. ووضعه بعد ذلك في الثلاجة؛ كي يكون على درجة مناسبة من البرودة عند تقديمه لبوب!

كانت ابنة كاتو الجميلة تجيد التحدث بالإنجليزية، وأخبرت ريتشارد أن نوعًا واحدًا من مرق التوابل قد أُعد لجميع الأطباق التي تقدم في المؤتمر! ولم يكن ريتشارد قد تعلم قط كيفية تناول الطعام بالعصوين، وسأل كاتو هل يقدر اليابانيون على تناول لحم الخنزير في ماكدونالدز بالعصي.

ابتسم كاتو قائلًا: «إذا دعت الحاجة، نعم.»

عُقِدَ مؤتمر ساجامور بالحديقة الوطنية في نيكو، وهي منطقة استجمام في التلال على بُعد ١٠٠ ميل شمال طوكيو، وبعيدًا عن عدم الارتياح الذي تسببه درجة الرطوبة العالية بالمدينة. ومن بين المشاركين الذين بلغ عددهم ١٠٠ أو نحو ذلك، كان نصفهم تقريبًا من أوروبا وأمريكا. وكان المسئولون قد بذلوا قصارى جهدهم كي يسود مناخ مؤتمر ساجامور المميز، وفي ذلك حرية تناول أي قدر من ويسكي سانتوري. تطلب ذلك جهدًا كبيرًا من الشركة لكي تنتج مشروبًا له مذاق الويسكي الاسكتلندي. وقد جرت محاولة في بادئ الأمر لصنع ويسكي خاص باليابانيين، لكنه كان كما قال أحد الاسكتلنديين يصف الشراب:

«كان أشبه بلمس محرك سيارة بلسانك وأنت ممسك بكابل شمعة الاحتراق في يدك.»

في النهاية، تملك اليأس شركة «سانتوري» فاستوردت كميات كبيرة من ويسكي هايلاند لمزجه لديهم. وجاءت النتيجة مُرضية.

وفي عشاء المؤتمر، جاء ريتشارد مستعدًّا بالكلمة التي سيلقيها بعد العشاء. وكان قد أقسم أن يسرد قصة طريفة تلقى إعجاب مضيفيه، لكنه قرر أنه من الأفضل أن يلاقيهم في منتصف الطريق عن طريق إعداد لافتتين باللغة اليابانية كتبتهما له مضيفة الطيران في الرحلة من لوس أنجلوس.

تقول القصة: «سمع أحد الأمريكيين عن جنون سائقي سيارات الأجرة في طوكيو، فطلب من حمَّال الفندق أن يكتب له لافتة.» ورفع ريتشارد اللافتة الأولى التي كُتب عليها: «من فضلك، تمهل أثناء القيادة.» «وعلى الرغم من أن السائق انطلق ببطء في البداية، فإنه سرعان ما عاد إلى سابق عهده، وبدأ القيادة بطيش وتهور.» توقف ريتشارد لكي يُفهَم ما قاله بالكامل. ثم أردف: «وفي رحلته التالية، كتب له الحمَّال لافتة ثانية باليابانية. وبعدها استوقف إحدى سيارات الأجرة وأطلع السائق على اللافتة الثانية.» رفع ريتشارد اللافتة الثانية التي كُتب عليها باليابانية: «إنني أعاني من ارتفاع ضغط الدم.» ثم توقف ريتشارد عن الكلام لحظة. وقال بعدها: «ألقى السائق نظرة على اللافتة، ثم قاده بأقصى سرعة إلى أقرب مستشفى.»

ضحك نصف اليابانيين تقريبًا، فاعتبر ريتشارد ذلك بداية جيدة.

كان اليابانيون قد افتتنوا بلعبة البيسبول ولكنهم لم يتخلوا عن طابعهم الخاص. وعلى الرغم من الإبقاء على بعض العبارات الأمريكية مثل: كرة، وضربة، ومخالفة، فإن اليابانيين أطلقوا على اللعبة اسم «الكرة الرباعية». وكان في كل مباراة قرع متواصل للطبول، وضجيج مزعج لم يكن يحاكي الهتاف التلقائي في الولايات المتحدة الذي يأتي تجاوبًا مع أحداث المباراة. وفي إحدى المرات التي كان فيها ريتشارد يشاهد إحدى المباريات على شاشة التلفزيون بين فريقي «نمور هانشين» و«حيتان يوكوهاما تايو»، وقعت أحداث لا يمكن وصفها عندما ضرب مدربان من فريق هانشين الحكم بلا رحمة، ملقيَين به على الأرض وموسعَيه ضربًا بأقدامهما. مكث الحكم بالمستشفى إثر ذلك ثلاثة أسابيع، وأوقف المدربان عن ممارسة التدريب مدى الحياة. وفي مجتمع مهذب للغاية معتاد على الاحترام والانحناء، أصابت هذه الواقعة ريتشارد بحالة ذهول؛ كانت أشبه بكارثة بيرل هاربور أخرى!

في نهاية المؤتمر سافر ريتشارد إلى أوساكا على متن قطار «الطلقة»، واكتشف أن التدخين كان شديد الانتشار في اليابان، حتى إن عربة واحدة فقط من العربات العشر خُصصت لغير المدخنين. وأغلب الظن أن سرعة هذا القطار ذي التصميم الرائع وصلت إلى ما يزيد عن ١٠٠ ميل في الساعة، وقد مر بجبل فوجي ياما المقدس، الذي تغطيه السحب في أغلب الأوقات.

عرض أحد العلماء في جامعة أوساكا على ريتشارد أن يصطحبه في جولة حول المدينة لرؤية بعض المعالم. كان كاكيهاشي يأتي ريتشارد في الفندق كل صباح حاملًا معه هدية صغيرة، ثم يصطحبه لرؤية معابد عديدة زُخرِف أكثرها وطُلِي بالذهب. وسرعان ما شعر ريتشارد أنه إذا رأى المرء معبدًا واحدًا، فكأنه رأى المعابد كلها. لكن مضيفه كان دمث الخلق للغاية حتى إنه في إحدى المرات سأل ريتشارد هل يرغب في استخدام «دورة المياه». أومأ ريتشارد برأسه نافيًا، وعلى الفور لاحظ الألم الذي كسا وجه صاحبه. فقال له: «لكن إذا أردت الذهاب، فاذهب.»

أشرق وجه كاكيهاشي، وانحنى، وقال لريتشارد: «أشكرك»، ثم هرع إلى دورة المياه ليعود شاعرًا بكثير من الارتياح.

كان أحد القصور، وهو مقر إقامة سابق لواحد من علية القوم، قد رتبت ألواح خشب أرضيته على نحو متشابك مثير بحيث تصدر صوت صرير متى وطئته الأقدام. كان ذلك لكي يُحدث إنذارًا إذا دخل لص القصر ليلًا. ولم يكن كاكيهاشي قد سبقت له زيارة أمريكا، وسأل ريتشارد هل ثمة قلاع في الولايات المتحدة.

فرد ريتشارد: «لا.»

– «وماذا عن البنتاجون؟»

لم يكن اليابانيون يتمتعون بحس دعابة، غير أن دعاباتهم كانت غالبًا تصدر على نحو عفوي.

في المعابد اليابانية جرت العادة أن يهب المرء المال لبوذا، ويركع على ركبتيه، ويصفق بكفيه، وأحيانًا يترك هدية من خمر الساكي الياباني. وقد دفعت هذه الطقوس ريتشارد إلى كتابة القصة التالية عن كاتو الذي قضى أعوامًا في العمل على حل مشكلة الاندثار التي لا حل لها:

روح مؤتمر ساجامور

دخلنا المعبد الكبير لتقديم قرابين الطاعة للإله القادر. ووضعنا أمامه هدايانا من الين والخمر، فقال لنا بوذا العظيم:

– «أيها البروفيسور كاتو، هل ما زلت تبحث في أمر الاندثار؟»

– «أجل، ربي القادر.»

– «إذن خذ معك الخمر؛ فأنت تحتاجها أكثر مني.»

كانت العلوم في اليابان مزدهرة، على الرغم من أن بعض الأفكار الجديدة الذكية بدت غائبة عنهم. وفي واقع الأمر لم تكن الصناعة تؤيد التفكير الإبداعي الخلَّاق؛ وكان الإذعان هو السائد في المجتمع. استنتج ريتشارد أن هناك تفسيرًا منطقيًّا لهذه الفلسفة. ففي دولة مكتظة بالسكان، يجعل الإذعان الحياة أكثر نظامًا وأقل عرضة للفوضى الناتجة عن الصراعات. كان ريتشارد يرى اليابان دولة بها سكان تعدادهم ١٠٨ وسيارات تويوتا عددها ١٠٧.

في مؤتمر سابق بإنجلترا، نهض أحد الباحثين النظريين اليابانيين ليقول إنه يشك في أحد قياسات ديماركو ووايس على غياب التماثل الدائري في توزيع شحنات الفاناديوم. حينها أومأ ريتشارد برأسه ولم يلقِ بالًا لهذا الكلام. وبعد عام كامل، كان العالم الياباني نفسه قد أعاد الحساب وشعر بوجوب أن ينهض في أحد المؤتمرات ويعتذر على الملأ، وأن يقر باعتقاده الحالي في صحة القياسات. لقد كان الشرف الياباني في الميزان. ولم يؤدِّ ذلك الاعتذار العلني إلا إلى إحراج ريتشارد.

بدا أن الهندسة البصرية — ومن ضمنها الألياف البصرية — مجال في بداياته. وصار ريتشارد مفتونًا بهذه التكنولوجيا الجديدة فاقترح على سيورين تشوميت، زميله في كلية الملك بلندن، أن إصدار دورية جديدة متخصصة في «أجهزة استشعار الألياف البصرية» قد يلقى ترحيبًا. وقد اتضح أن تشوميت رجل يحب الكلمة المنشورة. ذلك أنه عمل كاتبًا للمقالات الافتتاحية بجريدة «لندن تايمز» إلى أن شهَّر ذات مرة بشخص ما، فكانت عاقبة الدعوى القضائية الناشئة عن ذلك طرده من عمله. وقد أصبح عضوًا بهيئة التدريس بقسم الفيزياء ولم يرَ فيه ريتشارد تمسكًا بالأفكار الجامدة للإنجليز. وكانت فلسفته في الحياة تتلخص في عبارة يكررها كثيرًا:
البس كما يلبس الإنجليز، وفكِّر كما يفكر اليهود

كان ثالث العناصر الأساسية في هذه الخطة لدخول عالم النشر هو البروفيسور آلان روجرز، أستاذ هندسة الألياف الضوئية. وحالما وافق هذا الثلاثي على إصدار «الدورية العالمية لأجهزة الاستشعار البصرية»، لزم أن يكون هناك ممول للمشروع؛ إذ لم يكن أي منهم مستعدًّا لرهن بيته من أجل المشروع. كان تشوميت صديقًا لأحد الناشرين العلميين الأمريكيين الناجحين، وتمكن من إغرائه لتمويل المشروع. وشكَّل الثلاثة فريقًا متعاونًا للغاية. فكان تشوميت على دراية تامة بتفاصيل لعبة النشر، وكان لدى ريتشارد خلفية شاملة، وقضى فترة قصيرة من العام بأمريكا حيث تمكن من الترويج الجاد للدورية، وكان روجرز خبيرًا في مجال أجهزة استشعار الألياف البصرية وسيُكسب المحاولة قدرًا من الاحترام.

حاول ريتشارد كثيرًا قراءة افتتاحيات الدوريات العلمية، لكنه كان يشعر دائمًا بملل شديد. وكان يسأل نفسه: هل يستطيع إصدار دورية تحظى بعدد كبير من القراء؟ كتب في العدد الأول:

دورية جديدة؟

هناك مثل قديم يقول إنه عندما يتحد يونانيان، فإنهما يفتتحان مطعمًا. وقد أغرتني كثرة الكتابات العلمية أن أضيف إلى ذلك القول إنه عندما يتحد عالمان، فإنهما يصنفان كتابًا أو يصدران دورية جديدة.

وقد التقى محرران ذوا خبرة في البصريات وفي المواد في مطعم يوناني، وأقنع كل منهما الآخر بأن الفوتونات ستحل محل الإلكترونات في معظم التطبيقات التي يجري بها استخلاص المعلومات ومعالجتها ونقلها. وهذا الاعتقاد الراسخ هو السبب الرئيسي لظهور «الدورية العالمية لأجهزة استشعار الألياف البصرية».

كان على المحررين أن يتملقا الأفراد، ويعرضا الأموال، ويستردا كل معروف لهما عند الناس، وأي شيء آخر يمكنهما التفكير فيه لجمع المساهمات لدورية يديرها ثلاثة من المارقين. سجلت مكاتب تحرير المجلة رسميًّا على أنها في «إس تشوميت، قسم الفيزياء، كلية الملك في لندن»، في حين كان عنوان المقر التجاري في نيومان-هيمسفير، مع عنوان منزل تشوميت. ولو وجدت دورية بدأت عملها بنصف ميزانية صغيرة، لكانت هذه هي أفضل مثال على الإطلاق. ولحسن الحظ، كانت الميزانية الصغيرة تأتي من الألياف الضوئية وكان المجال يشهد نموًّا سريعًا للغاية. ومع التصميم الشديد شرع المحررون في التحرك إلى الأمام.

وقد شاء حسن طالعهم أن يتمكَّنوا من الحصول على دعم جو يافر، السكرتير التنفيذي لجمعية الهندسة البصرية القائمة في بلينجهام، واشنطن. وكان جو بصدد جعل جمعية الهندسة البصرية أكبر مؤسسة للبصريات في العالم، وبكرم بالغ أعطى ريتشارد قوائم بأسماء الأعضاء، وأشار إلى اسم الدورية في رسائله الإخبارية في مقابل تخفيض أسعار الاشتراك في الدورية لهؤلاء الأعضاء. فقد كانت الدورية غالية الثمن؛ أكثر من ٢٥ دولارًا للعدد الواحد، لكن أمكن التغلب على هذه النقطة بسهولة تامة عن طريق المؤسسات الصناعية أو المكتبات الجامعية.

جرب ريتشارد مفهومًا جديدًا في كتابة التقارير التقنية. ففي الوقت الذي كانت فيه المقابلات الشخصية تُجرى عن طريق المراسلين الصحفيين الذين أعدوا الأسئلة التي سيطرحونها على الخبير ثم تنشر بعد ذلك المقابلة بالكامل بعد إجراء بعض التنقيحات عليها؛ اعتمد ريتشارد على مكانته بوصفه باحثًا في الفيزياء وعالمًا في المواد في الدخول في إدارة محاورات حقيقية يسهم فيها ريتشارد والشخص الذي يجرى معه الحوار في الكشف عن إحدى المشكلات العلمية. كان هذا الحوار يُسجل ثم يكتبه وينقحه ريتشارد وضيفه العالم، ثم يُنشر بعنوان: «محاورات بأجهزة الاستشعار». ولم يأتِ اللقاء في شكل سؤال وجواب؛ إذ كان الحوار يتدفق بين المحاور والضيف حالما يحدد الاثنان المشكلة. وقد تبين لريتشارد أن ذلك العمل شاقٌّ للغاية. واكتشف أن ما يزيد عن نصف ما يقال خلال هذه المناقشات مكرر، ويفتقد التشويق، وليست به أي ميزة أدبية، أو غامض تمامًا. ومع ذلك، كانت تلك المقابلات تنجح في إخراج قصة ما.

حضر ريتشارد مؤتمرات عديدة، وقابل علماء منهمكين في أبحاث شيقة لكي يلتمس منهم بحثًا للدورية. وكان يتجول داخل قاعات العرض حيث تعرض الشركات المصنعة منتجاتها الجديدة ويعرض عليهم اشتراكات الدورية. وفي هذه الأثناء، كان تشوميت في مقر التحرير يصرخ بسبب التأخير عن الموعد النهائي للعدد التالي. يا لها من طريقة للاستمتاع بفترة التقاعد! وبعد بضع سنوات، باع المحررون الدورية إلى شركة النشر اللندنية لصاحبيها تايلر وفرانسيس، التي أسرعت بدمج الدورية في مشروع جديد باسم: «الدورية العالمية للإلكترونيات البصرية» الذي عمل به روجرز، وكالشو، ووايس محررين. لكن بعد بضع سنوات، تعثر الاقتصاد وقلت الاشتراكات وانتهى الأمر بالاستغناء عن المحررين وكان أولهم ريتشارد.

تحول ريتشارد، مدفوعًا باهتمامات علمية وتاريخية تحكم السيطرة على أفكاره، إلى شكل أكثر جدية من الكتابة. كانت المسرحيات، والسيناريوهات، والمونولوجات، والروايات … إلخ — جميعها تأسر خياله. وحينما التقى بأحد علماء سكوتلانديارد في أحد اجتماعات الجمعية البصرية، أثار ولعُ ريتشارد بشخصية شيرلوك هولمز فكرةً في رأسه. ابتكر ريتشارد شخصية روبرت فلاورز، أستاذ الفيزياء الشرعية في كلية الملك الذي يعمل مستشارًا مع سكوتلانديارد. وصنف اثنتي عشرة قصة قصيرة على غرار ما فعل كونان دويل، وأطلق على المجموعة اسم: «دستة أزهار جنائية». وبعد ذلك، أرسل تلك المجموعة إلى وكيل نشر في نيويورك استمتع بقراءتها واقترح بضعة اقتراحات ثم حاول توزيعها لكنه فشل فشلًا ذريعًا. ولأن شخصية ريتشارد الثانية مرتبطة على الأرجح بشخصية فلاورز، كانت القصة الأولى كما يلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤