لمحة من مونيه

على الرغم من شعره الكث الأحمر اللامع، والشارب واللحية اللذين أطلقهما على طريقة الرسام فان دايك، وجسده المائل قليلًا إلى البدانة؛ عمد البروفيسور روبرت فلاورز، صاحب الواحد والستين عامًا الذي يبلغ طوله خمس أقدام وعشر بوصات، إلى العزلة وعدم لفت الانتباه لنفسه. فمنذ إلقاء القبض على آلان نان ماي، الجاسوس السيئ السمعة خلال الحرب العالمية الثانية؛ لم يحظَ أستاذ أكاديمي بجامعة الملك في لندن بما حظي به فلاورز من شهرة واهتمام صحفي، لكن بوصفه مستشارًا لدى نيو سكوتلانديارد، رأى فلاورز أن الحكمة تقتضي أن تظل تحركاته سرية ومجهولة إلى حد ما ليتجنب الاتصالات الكثيرة من إدارات البحث الجنائي في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من وجود هاتف في حجرة مكتبه، فقد تعمد أن يخرج الهاتف من مختبره؛ إذ كانت شرطة سكوتلانديارد تدفع له أجرًا بوصفه مستشارًا لديها، وكانوا يعرفون كيف يصلون إليه عبر سكرتارية قسم الفيزياء. كان لإخفاء شخصيته الحقيقية مزاياه، وهي حقيقة أدركها بعد عيد ميلاده الخامس والخمسين حين أصبح الوقت أهم من المال، وكان ذلك واضحًا بجلاء بعد زواج ابنتيه. فقد صار يمتلك حجرتي نوم وهاتفًا ورصيدًا كبيرًا في البنك.

قطع فلاورز ممر كيو، وعلى رأسه قبعة ليبعد الانتباه عن شعره الأحمر الكث، ودخل المبنى الرئيسي للكلية حيث استقل المصعد ليحمله طابقين لأعلى إلى مستوى الشارع. تقدم فلاورز في شارع ستراند، الذي تقطعه كنيسة سانت ماري، ثم انعطف يسارًا تجاه تشيرينج كروس، وكانت الرطوبة تلفح وجهه في يوم بارد وملبد بالغيوم من أيام شهر نوفمبر المعتادة. قاده منحنى بسيط إلى كوفينت جاردن، حيث توقف قليلًا ليستمتع بالمغنين الذين كانوا يعزفون في الساحة الرئيسية. ومن حسن الحظ أنه لم يضطر إلى الإعلان عن هويته في مثل هذه الأحوال الجوية! وفي تشيرينج كروس، تجاوز شارع كرافين نحو نهر التايمز، ومر بمقر إقامة بنجامين فرانكلين، أول عالم فيزياء أمريكي، ثم قطع زقاقًا قصيرًا خلف حانة شيرلوك هولمز، وعبر شارع نورثمبرلاند ليصل إلى وجهته في سكوتلانديارد. هناك أبرز شارته ليُسمح له بالدخول، وأخذ المصعد إلى الطابق الثالث وتوقف لحظة لتحية رئيسه فرانك هارني قبل أن يتقدم نحو مكتب مايكل لاندون.

دعاه هارني إلى الدخول، فارتمى روبرت على المقعد الجلدي القديم بجوار النافذة. كان الرئيس يفوق روبرت طولًا بعدة بوصات، ويوحي شعره الأبيض وبشرته الضاربة إلى الحمرة بأنه من أصول جبلية اسكتلندية قارب على سن التقاعد. كان المنظر من النافذة يوفر رؤية واضحة لساعة بيج بن الشهيرة، وقبل أن يحول اهتمامه إلى هارني، تحقق روبرت من توقيت ساعته الرقمية من طراز كاسيو حسب التوقيت الذي تشير إليه ساعة بيج بن.

– «لن أعطلك كثيرًا يا روبرت، لكنني كنت أراجع ملف قضية أوزبورن؛ لقد حان الوقت لإغلاق هذا الملف.»

– «خمس سنوات، وشهران، وثلاثة أيام.»

رد هارني: «أنت محق بلا شك. لكن الشيء الذي يحيرني هو تقريرك الأخير في الأسبوع الماضي الذي أشار إلى التحقيق السري الذي أجرته وزارة الخارجية قبل أربعة أعوام.»

– «هل به شيء غير واضح؟»

– «ملف وزارة الخارجية هذا كان موجودًا في خزانتي المغلقة طوال الوقت. كيف تمكنت من اقتباس سبع فقرات منه حرفيًّا، وفي ذلك كلمتان بهما أخطاء إملائية؟»

– «لقد أنعم الله عليَّ بذاكرة فوتوغرافية. وبخصوص الأخطاء الإملائية، فمن أكون أنا لأختلف مع وزارة الخارجية؟»

– «أليست هناك طريقة يمكنك بها أن تمحو تلك المعلومات من ذهنك؟»

هز روبرت رأسه وأشار إلى جبهته قائلًا: «حالما تصبح المعلومات جزءًا من عقلي وذاكرتي، فإنها تظل معي إلى القبر.»

– «ذكرني إذن بأن أطلق الرصاص عليك؛ سيكون ذلك قتلًا مبررًا. لن تدينني أي محكمة.»

توقف فلاورز عن متابعة الحديث قليلًا ليتابع مسار طائرة كونكورد جميلة تتجه نحو الغرب، ثم قال: «إن فمي محكم الإغلاق.»

– «لكنني ما زلت أرتعد خوفًا من الضرر الذي يمكن أن تحدثه إذا تحدثت أثناء نومك.»

ابتسم روبرت قائلًا: «إنني أنام وحدي؛ في معظم الأوقات.»

شكر هارني روبرت واصطحبه إلى الباب وهو يسأله: «كيف حال زوجتك؟»

رد روبرت: «من أي جانب؟»

دفع الرئيس الذي يبلغ طوله ست أقدام وثلاث بوصات روبرت خارج الباب على سبيل المزاح قائلًا:

«اخرج من هنا، وحاول أن تقنع مايكل بالإقلاع عن التدخين.»

تقدم روبرت في الممر تجاه حجرة مكتب المفتش مايكل لاندون. كان مايكل مسئولًا عن وحدة الليزر والتحري بالتقنيات المتطورة، وهي قسم جديد نسبيًّا في إدارة البحث الجنائي. كانت الرائحة النفاذة للتبغ البلقاني الذي يضعه في غليونه قد أحدثت عبيرًا لطيفًا انتشر في دائرة نصف قطرها خمس ياردات. وكثيرًا ما كان البروفيسور فلاورز يمازح مايكل بإخباره أن رماد التبغ الذي يدخنه سيكون مفتاح حل اللغز في جريمة مقتله هو شخصيًّا في يوم من الأيام. وبعد أن رحب مايكل بزائره، أخبره بألا يخلع قبعته لأنهما في طريقهما للخروج على الفور.

قبل الوصول إلى مكتب الرئيس، أطفأ مايكل غليونه ثم أخبر رئيسه أنهما سيذهبان إلى المعرض الوطني ويمكثان ما يقرب من ساعة. بعد ذلك، نزل الاثنان إلى الشارع وسارا تجاه ميدان ترافلجار، وأثناء ذلك لخص مايكل المعلومات القليلة التي يعرفها عن مشكلة ثارت حول أصالة إحدى اللوحات. كان مايكل في أوائل الخمسينيات من عمره وله بشرة داكنة وشعر رمادي ممشط إلى الخلف، وكان في طول روبرت تقريبًا. وكان هو المسئول عن تعيين روبرت مستشارًا لدى سكوتلانديارد بعد أن التحق بدورة في الفيزياء الجنائية في كلية الملك بلندن قبل سبع سنوات. ومنذ ذلك الحين عمل الاثنان معًا عن كثب؛ ولم يكن هناك شيء لا يعرفه أحدهما عن الآخر تقريبًا.

عبرا الباب الرئيسي للمعرض في مواجهة عمود نيلسون، واستمرا في السير حتى قسم الترميم في الطابق السفلي، حيث رحب بهما سير روجر فان زال، مدير المتحف الذي يبلغ من العمر اثنين وخمسين عامًا، الخبير المعروف في أعمال الرسامين الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كان هذا المدير البارز يفوق الاثنين طولًا، ويرتدي معطف مختبرات رمادي اللون ونظارات واقية لحماية عينيه من المحاليل العضوية التي تستخدم في تنظيف اللوحات الزيتية. اصطحب الرجل الزائرين إلى حجرة عمل كبيرة تناثرت فيها اللوحات في مراحل مختلفة من عمليات التنظيف، وإعادة البسط، والتأطير، والفحص. وكانت اللوحة المعنية تستقر على مائدة جانبية في أحد أركان الحجرة، وهي إحدى لوحات مونيه رسمها في المرحلة الوسطى من حياته، عام ١٨٧٥ تقريبًا. أومأ سير روجر برأسه إلى اللوحة الزيتية قائلًا: «هذه هي أيها السادة.»

أخبرهما فان زال بأنها صورة لأحد المناظر الطبيعية رُسمت في فرنسا، رغم أنه ليس هناك أي إشارة إلى القرية أو البلدة المقصودة. وقد «اكتشفت» اللوحة منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام في جنوب فرنسا، وعرضها في السوق أحد التجار في آرل، وهي مدينة ترتبط بطبيعة الحال باسم فان جوخ. ومع ذلك، كان من المعروف جيدًا أن مونيه ترك لوحات كثيرة له عند أصحاب الفنادق في جميع أنحاء فرنسا بدلًا من دفع الأجرة. ولذلك، كان تحديد المنشأ أمرًا صعبًا للغاية.

سأل فلاورز: «هل أُجري على اللوحة تحليل المادة الملونة وتحليل تألق الأشعة السينية؟»

أجاب سير روجر: «نعم، وقد فحص أربعة من أفضل العاملين لدينا أسلوب الرسم وضربات الفرشاة. ويبدو أن القماشة والإطار الخشبي أصيلين أيضًا.»

فسأله فلاورز مداعبًا: «لماذا جئنا إذن؟»

قال السير روجر: «ظهرت أربع لوحات أخرى لمونيه في السوق بعد أن اشترينا هذه اللوحة وكلها تنتمي إلى الفترة نفسها؛ وكلها في الواقع تصور المنظر نفسه.»

تساءل فلاورز مبتسمًا: «هل هي مسحة من الشك؟»

قال روجر: «إننا نعمل وفق ميزانية محدودة جدًّا. فإذا خُدعنا، فستقلص الوزارة الميزانية، ولست ألومهم على ذلك.»

أخرج روبرت عدسة مكبرة من جيبه وألقى نظرة فاحصة على اللوحة ثم قال: «يبدو أن هذه قد نُظِّفت.»

– «نعم، إننا لا نشترى لوحات ثمينة قبل إجراء عملية ترميم مبدئية.»

– «وهل كانت متسخة؟»

زم سير روجر شفتيه وقال: «وماذا تتوقع للوحة مكثت في مناخ متقلب لما يزيد عن مائة عام. لكن كما تعرفان، فإن الشيء المميز في المواد الملونة هو ثباتها. كما أن الورنيش الملمع يكسب اللوحة طبقة واقية.»

سأل فلاورز: «ما الأعمال الأخرى التي كنت تخطط للقيام بها؟»

– «عملية إعادة تلميع أخيرة وإطار جديد. فالقماش بحالة جيدة ولن نمسه.»

سأل مايكل: «وماذا عن مصدر اللوحات الأربعة الأخرى؟»

أجاب سير روجر: «يرفض التاجر في آرل الإفصاح عن ذلك، لكن السيد بيرو يشتهر بأنه مصدر موثوق، ولو كان لديه مصدر سري، فإنه يحق له الحفاظ على سريته.»

انتفض مايكل قائلًا: «هل تعني أننا لا يمكن أن نبحث عن مزور عن طريق مراقبة التاجر؟»

– «لا يمكن أن يتورط تاجر ذائع الصيت في عملية احتيال، لا سيما إذا كانت هناك خمس نسخ من اللوحة نفسها. أنا شخصيًّا أعرف الرجل وأعتبره فوق مستوى الشبهات.»

سأل مايكل: «هل يمكنني أن أطرح سؤالًا محرجًا قليلًا يا سير روجر؟»

– «لا داعي لذلك؛ لأنني أظن أنني أعرفه مسبقًا. كان أحد الأسباب الرئيسية لشراء المعرض الوطني للوحة هو توصيتي بذلك، وكان ذلك بناءً على معرفتي بالتاجر. وذلك يضعني في موقف حرج أيها المفتش.»

– «أمر مزعج حقًّا يا سيدي.»

– «لا أخفيك سرًّا، لقد صار منصبي في خطر. فموعد تجديد عقدي يحين في الربيع.»

سأله فلاورز: «وهل يدرك التاجر في آرل ذلك؟»

أجاب سير روجر: «بلا شك.»

وأردف: «لقد وجهت إليه هذا السؤال فتصبب عرقًا. لكن ظني أنه عندما تتأزم الأمور ويعلم الرجل بموقفي، فسيأتي لمساعدتي.»

سأله فلاورز: «وهل يحمي ذلك التاجر شخصًا ما؟»

أجاب سير روجر مؤكدًا: «بالتأكيد.»

حك لاندون رأسه وسأل: «ألا يمكننا بدء التحقيق من عند السيد بيرو؟»

– «بالطبع، إذا دعت الضرورة. لكن ربما كنا نتعامل مع لوحات وقعت في أيدي العدو أثناء الحرب، أو حتى في أيدي الروس. هنا يكون التوثيق مستحيلًا. ولك أن تعرف أن السيد بيرو كان عضوًا في اللجنة المتحدة بعد الحرب يعمل على إعادة اللوحات المصادرة إلى أصحابها الأصليين. إنه خبير بحق في هذا الشأن.»

سأله فلاورز: «كم يتوقع أن تدر هذه اللوحات من أموال؟»

– «من المرجح أن تباع الواحدة بأكثر من خمسة ملايين جنيه ما لم يُثَر أي شك في أصالتها.»

ابتسم فلاورز وقال: «لكل شخص ثمن، وربما اكتشف صديقك في آرل الثمن المناسب الذي يبيع نفسه به. ومن المدهش ما قد يفعله أستاذ جامعي مقابل الحصول على بضعة ملايين من الجنيهات.»

قال سير روجر مؤكدًا: «يمتلك السيد بيرو مجموعة خاصة من المقتنيات الفنية تساوي أكثر من عشرة ملايين جنيه.»

لاحظ فلاورز أن مايكل يتململ رغبة في إشعال غليونه، لكن لم تواتِه الجرأة لطلب الإذن بذلك. ولكي يبقى ذهن مايكل منصرفًا عن الغليون، جرب روبرت سبيلًا آخر: «لقد أشرت إلى أن أي تحقيق في آرل غير مرغوب فيه، وهذا يدعو إلى الأسف لأنني لم أزر هذا المكان من قبل وكنت أود ذلك. كيف يمكننا فحص اللوحات الأخرى؟»

أجاب سير روجر: «إنها هنا في لندن؛ في مؤسسة «سوثبيز» لمزادات الأعمال الفنية. لن يعرض أي متحف شراءها قبل أن يزول الشك الدائر حولها تمامًا. وهذا يوضح مدى أمانة التاجر. فهو يدرك تمامًا أن الجميع سيندهش كثيرًا لظهور هذا الكم الكبير من لوحات مونيه فجأة. الجميع ينتظرون تأكيدنا.»

قال فلاورز: «يعني ذلك أنه كان بإمكانه الاحتفاظ باللوحات الأربعة بضع سنوات؟»

قال سير روجر مؤكدًا: «بالضبط، إنه يعتقد أن لوحات مونيه أصلية، وإذا كانت كذلك، فيجب أن تعرض في السوق.»

سأل فلاورز: «وهل تتطابق اللوحات الأربعة الأخرى تطابقًا تامًّا مع هذه اللوحة؟»

أجاب سير روجر موضحًا: «ليس بالضبط. فإحداها رُسمت في أول النهار، واثنتان في الصباح الباكر وتعرضان الصقيع المتجمد، والأخيرة في ساعة الغروب. كان مونيه معتادًا على رسم المنظر نفسه في إضاءات مختلفة.»

– «وهل ستوافق سوثبيز على تقديم اللوحات للفحص؟»

أومأ سير روجر إيجابًا.

سأله مايكل: «عذرًا يا سير روجر، ولكن ما الذي كنت تتوقع أن يفعله سكوتلانديارد؟»

ابتسم سير روجر وقال: «معك حق، إنني لم أوضح بعد ما نتمنى أن تفعلوه.»

ابتسم فلاورز بدوره قائلًا: «خطأ إداري يا سيدي.»

قال سير روجر بتردد: «هل يمكن ابتكار طريقة جديدة تمامًا للتحقق من أصالة هذه اللوحات؟»

سعل روبرت والتفت مايكل نحو البروفيسور ذي الشعر الأحمر في انتظار رده، الذي جاء بقوله: «قبل تناول الشاي أم بعده يا سيدي؟»

كان سير روجر سريع البديهة ويستطيع الرد على أي مزحة، فقال: «إننا في عجلة من أمرنا. ماذا عن فعل هذا بدلًا من الشاي؟»

فسأله مايكل: «هل تفكر في طريقة معينة يا سيدي؟»

أشار المدير إلى منطقة معينة في اللوحة وأعطى فلاورز ولاندون إشارة من خلال نظارته المكبرة. فحص فلاورز اللوحة وأحدث صوتًا كالنخير ليدل على اتفاقه في الرأي مع المدير.

ثم قال متسائلًا: «لقد أثرت نقطة مهمة. إنني بحاجة إلى بضعة أيام للتفكير في هذا الأمر. وقبل أن نغادر يا سير روجر، هل يمكنك أن تعطيني عنوان السيد بيرو في آرل؟»

أومأ المدير برأسه إيجابًا.

قال فلاورز: «بقي شيء آخر قد يبدو غريبًا، لكن هل لديك أيضًا عنوان ذلك المزور الشهير؟»

قال سير روجر: «هل تقصد سام ييتس؟ نعم، ولكم يخجلني الاعتراف بذلك. لقد كنا نستشيره في بعض الأحيان.»

سأله فلاورز: «أيمكنه أن يقلد أعمال مونيه؟»

– «عليك أن توجه إليه هذا السؤال. فما أنا إلا مدير معرض. أما هو، فعبقري!»

افترق فلاورز عن لاندون مدخن الغليون خارج المعرض قاصدين وجهتين مختلفتين. وفي طريق العودة إلى كلية الملك، توقف في كوفنت جاردن بضع دقائق ليستمع إلى عزف لموسيقى الجاز على آلة الساكسفون، وذكره ذلك بأن مجموعته لديها حفل في ذلك المساء. وعند عودته إلى مختبره، أخذ يفكر في اقتراح سير روجر وقرر أن يمعن فيه النظر بعض الوقت.

وصل روبرت فلاورز إلى الكلية الملكية في التاسعة صباحًا في اليوم التالي، وهي ساعة مبكرة للغاية لأستاذ جامعي. بعد ذلك، أجرى مكالمة هاتفية بالسيد بيرو في آرل وعرض عليه موجزًا لخطة للتحقق من أصالة اللوحات الخمس. كان بحاجة إلى تمويل يتعذر على المعرض الوطني أو شرطة سكوتلانديارد توفيره له. وبالفعل، أبدى التاجر اهتمامًا كبيرًا وأرسل النقود إلى فلاورز في اليوم التالي.

اتصل روبرت على الفور بسام ييتس ورتب للقائه على الغداء في مطعم سيمبسونز في شارع ستراند، وهو مطعم أنيق أسعاره مرتفعة في رأي فلاورز وييتس على حد سواء، ولكن لمَ لا؟ فقد كان مصير خمسة وعشرين مليون جنيه استرليني على الأقل متعلقًا بنجاح هذه الخطة.

لم يكن لدى فلاورز أدنى فكرة عن هيئة ييتس، لكنه لم يتوقع قط أن يجد كتلة كثيفة من شعر أينشتاين الأبيض تكسو رأس رجل أيرلندي ذي بشرة حمراء، ووجه باسم، وجسم ممتلئ طوله خمس أقدام وخمس بوصات. تصافح الاثنان وسرعان ما جلسا إلى منضدة في أحد الأركان.

قال ييتس: «هل تصدق أنني لم أطأ هذا المكان منذ ما بعد الحرب بقليل.»

فقال فلاورز: «حسب ما أذكر، لم يعد بالروعة نفسها التي كان عليها حينئذٍ.»

قال ييتس: «إن مظهرك لا يعبر عن سنك. كيف غاب الشعر الرمادي عن رأسك؟»

ابتسم فلاورز قائلًا: «إنني أذهب إلى حلاق جيد.»

بعد أن طلب الاثنان لحم البقر المشوي، شرع فلاورز يمطر ييتس بالأسئلة:

– «هل تمارس الرسم كثيرًا؟»

– «أعمل بالتدريس في معظم الأحوال.»

– «لقد رأيت مؤخرًا لوحة لمونيه اشتراها المعرض الوطني منذ عهد قريب.»

تبسم ييتس قائلًا: «هل لا يزال سير روجر قلقًا بشأنها إلى الآن؟»

سأله روبرت: «هل يجب أن يقلق؟»

فأجاب الرجل: «تمتلك سوثبيز أربع لوحات أخرى.»

سأله روبرت: «كيف عرفت ذلك؟»

– «لا يمكنك الاحتفاظ بهذا الأمر سرًّا. لديَّ صديق في مؤسسة سوثبيز، المدير شخصيًّا.»

ضحك فلاورز ثم انتقل فورًا إلى الموضوع قائلًا: «كم تريد مقابل أن ترسم لوحة لمونيه؟»

– «أنا بعيد عن هذا العمل الآن. ما حجم اللوحة والأسلوب المستخدم؟»

– «٢٤ في ٣٦؛ منظر طبيعي، معظمها أشجار.»

وصل الطعام في تلك اللحظة. وسأل ييتس: «ماذا وراء كل هذا؟»

أجاب فلاورز: «أنا أعمل مع شرطة سكوتلانديارد؛ ونحن نحاول ابتكار طريقة جديدة تساعد على التحقق من أصالة اللوحات. ذلك كله أمر قانوني ومعلن.»

– «يقول الجميع مثل قولك. ٤٠٠٠ جنيه استرليني إن كان الأمر قانونيًّا، و٨٠٠٠ جنيه استرليني إن كان غير ذلك.»

– «ما رأيك في ثلاثة آلاف على أن تستخدم مقدارًا أقل من الألوان؟»

– «حسنًا، إذا كنت سأبدأ في تناول الطعام في أماكن فاخرة كهذا المكان، فسأحتاج إلى المال.»

– «إليك المهمة الموكلة إليك. ألقِ نظرة على اللوحات الأربع الموجودة في سوثبيز وارسم لي لوحة خامسة. يجب أن تخدع الخبراء، وبعد ذلك سأخبرك بالموضع الذي أخطأت فيه. يمكنك بعد ذلك أن تحسِّن من محاولتك، وسأحاول أن أكشف التزوير مرة أخرى. وسنستمر أنا وأنت في القيام بذلك حتى يستسلم أحدنا. إنه تحدٍّ بيننا.»

سأله ييتس: «وهل ستستخدم جهاز الليزر الخاص بك لكشف التزوير؟»

– «شيء من هذا القبيل. وإذا تغلبت عليَّ في النهاية، فستحصل على الألف جنيه الأخرى.»

– «وإذا كانت لك الغلبة؟»

قال فلاورز: «ستكون قد أنقذت وظيفة سير روجر.»

– «إنني لا أجيد الأعمال الخيرية، لكنه يبدو تحديًا جيدًا.»

أثناء تناول الطبق الرئيسي، كشف ييتس عن تفاصيل سنواته الأولى في رسم لوحات مزوَّرة «صادقة»، حيث كانت تحتوي دائمًا على خطأ واضح يمكن لكل ذي عينين أن يراه.

– «مثل ماذا؟»

– «خطأ إملائي في التوقيع، كلمة بذيئة في مكان ما على قماش اللوحة، وما أشبه ذلك.»

– «ولماذا تفعل ذلك؟»

– «لأنني أحب التحدي.»

– «هل يمكنك أن ترسم لوحة لمونيه بقدر كبير من الإتقان.»

– «بلا شك!» ثم ألقى سام ييتس بالشوكة على الطبق الفارغ وأضاف: «وقد كنتُ محقًّا؛ لقد قلت جودة الطعام.»

– «كم سيستغرق الأمر؟»

– «شهرين إذا دفعت مقدمًا، وأسبوعين إن لم تفعل.»

– «حسنًا، لديك أسبوعان إذن. هل تريد بعض الحلوى؟»

– رد ييتس: «فراولة طازجة وقشدة.»

– «ليس ذلك موسمها.»

ابتسم ييتس قائلًا: «لا مانع لديَّ من الانتظار.»

سأله فلاورز: «هل ستحتاج لأي شيء؟»

– «بالطبع، أنا بحاجة إلى خطاب منك تطلب مني فيه أن أصنع نسخة؛ لن نسميها لوحة مزورة. فإذا حدث أي خطب، أريد أن أحمي نفسي. وسأحتاج أيضًا إلى صورة ملونة لكل لوحة من لوحات سوثبيز، وبعض المال لشراء قماش قديم.»

أعطى فلاورز ييتس خمسين جنيهًا استرلينيًّا، وأكد له أنه سيحصل على باقي الأشياء.

طلب ييتس حلوى تسمى نابليون، لكن فلاورز تجاوز عربة الحلوى وطلب كأسًا من خمر الكوينترو الفرنسية المحلاة بنكهة البرتقال. «بقي شيء آخر. هذا الأمر سر بيننا؛ وسأتخلص من اللوحات التي تنتهي منها.»

ابتسم ييتس وقال: «أتمنى أن تكون بارعًا في استخدام أشعة الليزر بقدر ما يبدو عليك.»

– «سأحاول قدر استطاعتي، لكن إذا كنت محقًّا، فإنني أعتقد أن كل لوحة تحتوي على بعض المعلومات التي لا يمكن لأحد أن يقلدها، حتى أنت.»

– «هل ستخبرني ما هي؟»

– «نعم، لكنني لن أخبرك كيف تفعلها.»

قال ييتس: «لم أتجاوز بعد سن التعلم.»

فرد فلاورز: «وأنا لم أتجاوز سن التعليم.»

بعد مرور ثلاثة أيام، سافر البروفيسور فلاورز إلى مارسيليا وركب القطار إلى آرل. وقد عرف من خلال دليل ميشلين أن المدينة غنية بآثار الاحتلال الروماني، مثل المسرح المكشوف والجسر الروماني القديم المجاور له. وقد ضم الدليل تحذيرًا من صعوبة التنقل في أرجاء المدينة بسبب شبكة الطرق القديمة المتعرجة، على الرغم من أن ذلك يضيف إليها مزيدًا من الجاذبية. ولدى وصوله إلى المحطة حظي بالاستقبال واستقل سيارة أخذته إلى أحد القصور المثيرة حيث رحب به آل بيرو. كان الزوجان الكريمان قد تجاوزا سن الستين، ولديهما عدد كبير من الخدم الذين أضفوا جوًّا من الرسمية، إلا أن الزوجين بذلا ما في وسعهما لكي يشعرا فلاورز بالراحة.

أكدت جولة داخل المكان الفخم أن سير روجر كان محقًّا في تقييم مكانة تاجر المقتنيات الفنية في المجتمع. وبعد عشاء أنيق اعتذر فيه فلاورز عن عدم ارتدائه ربطة العنق السوداء كما يليق، اصطحب بيرو إلى مكتبه لتناول البراندي. وفي هذا الوقت كان الاثنان يشعران بالارتياح بقدر كافٍ لمناقشة أمر لوحات مونيه بصدق وصراحة. هزَّ بيرو رأسه وزمَّ شفتيه ثم قال: «أخشى أن قصة مونيه لا توضح الصورة كاملة، إن جاز التعبير.»

ردَّ روبرت يحثه على المتابعة: «من فضلك يا سيدي، كن صريحًا.»

– «لقد تعمدت إخفاء جزءٍ من القصة عن سير روجر، حتى لا أسبب له الحرج. تعود الحكاية إلى وقت الحرب عندما كان النازيون يصادرون الفن من أجل مجد الرايخ الثالث. كان هتلر وجورينج عازمَين على بناء مجموعاتهما الفنية في مقاطعة جورينج في كارينهول والمتحف الوطني بمدينة لينز مسقط رأس هتلر. وكانت اللوحات التي تُؤخذ من اليهود ولا تلقى إعجاب هتلر أو جورينج، تباع في مزاد علني لجمع الأموال للحرب. ولما كان هتلر يؤمن بأن الرسامين الانطباعيين منحطون، فقد عُرضت لوحات مونيه جميعًا للبيع. ومع الأسف، نجح أحد الموظفين الرسميين الفرنسيين المعدومي الشرف في شراء اللوحات الست.»

تساءل فلاورز: «الست؟»

– «نعم. ما زلت أحتفظ بواحدة. عندما مات هذا الخائن المنعدم الضمير عام ١٩٥٠، آلت ممتلكاته إلى زوجته، وعندما توفيت منذ بضعة أعوام، طلب مني الأبناء أن أخلصهم من اللوحات. أثبت عقد البيع بالمزاد العلني الذي عُقد عام ١٩٤٢ أن اللوحات قد اشتُريت بطريقة قانونية، على الرغم من انخفاض سعرها انخفاضًا هزليًّا. فلم يرغب أحد من النازيين في أن يظهر وهو يدخل في مزاد من أجل نوع من الفن المنحط. أما الملَّاك اليهود الأصليون فلم يمكن العثور عليهم، وحتى إن أمكن ذلك، كانت المحاكم مضطرة إلى النظر إلى عملية البيع على أنها قانونية حيث تقاضى الملَّاك الأصليون أموالًا ووقعوا إيصالات بذلك. وكانت رغبة الملَّاك الحاليين أن تظل أسماؤهم بعيدة عن الصحف، وأنا وافقت على ذلك لأنهم يخططون للتبرع بالعائدات كلها لنصرة قضية يهودية مهمة.»

قال فلاورز: «أشكرك على توضيح الأمر.»

– «من الأفضل أن تظل هذه القصة طي الكتمان؛ لأنها قد تسبب الحرج لسير روجر والمعرض الوطني. فجرائم الحرب النازية لا يزال بها قدر من الحساسية.»

– «إذن فأنت تؤدي دور الوسيط التجاري لهذه الأسرة؟»

قاطعه بيرو: «إنني لا أتقاضى أي مقابل؛ يذهب كل المقابل إلى الأعمال الخيرية.»

– «وهل مُست اللوحات بأي طريقة؛ تنظيف، أو فرد، أو تغيير الإطار، أو ما أشبه ذلك؟»

رد بيرو: «كلا، على الإطلاق. فاللوحات الأربع التي أرسلتها إلى سوثبيز موجودة في إطاراتها الأصلية بألوانها الأصلية.»

– «سيفيدنا هذا. هل لديك استعداد لإعطائي خطابًا إلى سوثبيز تخبرهم فيه بأنك تفوضني ممثلًا لك في لندن؟ يمكنك أن تؤكد لهم أن هذه الوصية لن تمس بدورهم بصفتهم بائعين بالمزاد العلني.»

قال بيرو: «اتفقنا.»

قال فلاورز: «حسنًا، كل ما أحتاج إليه الآن هو بعض أوراق الأشجار المحلية، ويفضل أن تكون شبيهة بتلك الموجودة في اللوحات.»

قال بيرو بنبرة تأكيد: «تعالَ؛ سنذهب في نزهة على الأقدام. ويمكنك أن تجمع ما تريد. فليس لدينا نقص في أوراق الشجر في فرنسا.»

كان السير على الأقدام داخل الغابات أثناء الغسق في أوائل شهر نوفمبر مبهجًا، وتحدث الاثنان عن الحرب، على الرغم من أنهما كانا صغيرين للغاية على المشاركة في القتال. وأثار بيرو احتمالًا مزعجًا عندما قال: «هب أن الخبراء في سوثبيز اكتشفوا وجود النسخة التي سيرسمها ييتس، ألن يدفعهم ذلك إلى رفض التعامل مع اللوحات الكائنة بحوزتهم في الوقت الحالي؟»

فسأله فلاورز: «هل قابلت ييتس؟»

هز بيرو رأسه نفيًا وقال: «كلا، إنني أعرفه من خلال سمعته فقط.»

فقال فلاورز: «إنه يستطيع في رأيه أن يخدع خبراء سوثبيز وأنا أصدقه. كما أنهم لن يشكوا في لوحة أخرى تبعث أنت بها إليهم.»

فرد بيرو: «آمل أن تكون محقًّا.»

– «إن ازدادت الأمور سوءًا، فسأبرئ أنا وسكوتلانديارد ساحتك.»

– «لكنَّ سوثبيز ستظل غاضبة.»

فسأله فلاورز: «هل تفضل أن نعيد النظر في تلك الخطوة؟»

– «كلا، لا داعي للتردد. فلنمضِ في الخطة؛ فكم تروقني فكرتك.»

عندما جاء سام ييتس ومعه اللوحة المنتهية بعد أسبوعين من ذلك، كان فلاورز في مختبره مع طالب الدراسات العليا الذي يشرف عليه. قال فلاورز لسام شارحًا أعمال الأبحاث المختبرية: «إننا نفحص امتصاص الماء المغلي في درجات عالية للموجات القصيرة. فعند وضع فنجان زجاجي نظيف به ماء مغطى بطبقة رقيقة من زيت السيليكون في فرن موجات قصيرة، يمكن تسخين الماء فوق نقطة الغليان بكثير قبل أن يتدفق من الفنجان، بقوة تشبه الانفجار، على هيئة بخار. فالماء يغلي عند ١٠٠ درجة فقط عندما يكون السطح حرًّا بحيث يسمح له بالخروج.»

وحالما انتهى فلاورز من شرحه، انطلق الماء منفجرًا.

قال سام متعجبًا: «يا له من مشهد. هل تعمل لحساب الجيش؟»

اصطحب فلاورز ييتس إلى حجرة مكتبه حيث اتصل هاتفيًّا بسير روجر ليعلمه أنهما في طريقهما إليه.

سأل روبرت: «إنك لا تمانع في السير، أليس كذلك؟»

أجاب سام: «إنني أستقل سيارة أجرة دائمًا عندما أكون منشغلًا بعمل مهم.»

وبعد عشر دقائق، كان سير روجر يفحص لوحة مونيه المزيفة التي يبلغ عمرها أسبوعين ويهز رأسه في عجب.

سأله سام: «هل هي سيئة؟»

فأجاب سير روجر الذي قارن بين لوحة ييتس ولوحة مونيه الموجودة لديه: «لست أدري كيف تصنع ذلك. لا يمكنني أن أجد أي خطأ بها.»

أخرج فلاورز أداة صغيرة كان قد أحضرها معه وهو يقول: «أراهن أنني أستطيع أن أجد اختلافًا بينهما.» وبعد أن أظلم الغرفة وتكيفت عيناه مع الظلام، أضاء جهاز الليزر الذي يعمل بالبطاريات، ووجهه أولًا إلى لوحة مونيه ثم إلى لوحة ييتس. وباستخدام نظارة مكبرة قوية فحص فلاورز اللوحتين عن كثب ثم قال: «كما توقعت تمامًا.»

فسأله ييتس: «توقعت ماذا؟»

– «وريقات شاي صغيرة جدًّا.»

بعد بضع دقائق من التوجيه، أدرك سير روجر وسام ما يجب أن يبحثا عنه في اللوحة.

قال فلاورز: «تشع أوراق الشجر عند تعريضها لأشعة الليزر؛ إنها تطلق ضوءًا خاصًّا بها عند إمدادها بالطاقة عن طريق أشعة الليزر ذات الطاقة الأعلى. ولذلك، ثمة نقاط ضوئية صغيرة على لوحة مونيه وليست على لوحتك.»

اعترض سام قائلًا: «مهلًا أيها البروفيسور. لا بد أنني لا أفهم مقصدك. ما وجه الاختلاف بين اللوحتين؟»

ابتسم فلاورز قائلًا: «يوجد أجزاء صغيرة من أوراق شجر حقيقية في لوحة مونيه ليست في لوحتك.»

فاعترض سام قائلًا: «لا بد أنني جننت. لا تخبرني أن مونيه لم يستخدم الألوان كما فعلت أنا؛ لقد عانيت الأمرَّين لخلط هذه الألوان والأصباغ.»

أوضح فلاورز كيف تشع الأوراق بعد أن أخرج بضع ورقات جمعها عندما كان في فرنسا. وفجأة بدأ كل من ييتس وسير روجر في فهم الأمر. لقد رسم مونيه مشاهده خارج البيت في الخريف. وكانت هناك أجزاء صغيرة للغاية من أوراق الشجر في الهواء وسقطت على قماشة اللوحة والتصقت بالزيوت. أما ييتس فقد رسم لوحته داخل المنزل.

هتف سام قائلًا: «أيها البروفيسور، إن تفكيرك معقد للغاية.»

قال روبرت ساخرًا: «الأساتذة الجامعيون ليسوا دائمًا بقدر الغباء الذي يبدو عليهم.»

قال سام: «هل لي بمحاولة ثانية؟»

ناول فلاورز سام بضع ورقات قائلًا: «هذه من فرنسا مباشرة. جرب أن تسحقها وانظر هل ستحصل على التوزيع نفسه الموجود في لوحة مونيه أم لا.»

فحص سام بعناية نمط الاستشعاع تحت ضوء الليزر وقال:

«هذا سهل.»

قال سير روجر: «هذه معرفة توسِّع المدارك.»

وقال سام: «هل أفوز إن تمكنت من القيام بذلك على الوجه الصحيح؟»

فابتسم فلاورز وقال: «إنها ليست إلا بداية.»

أعاد ييتس طي لوحته وانصرف مطلقًا صفيرًا وهو يقول: «أراكما الأسبوع القادم.»

بدا سير روجر منزعجًا وهو يقول: «أيصح أن تكشف أسرار مهنتك لمزور؟»

أجاب فلاورز: «لقد توقف عن التزوير، وأنا أصدقه.»

قال سير روجر: «ربما كانت أحواله متعثرة ويغريه ذلك بالعودة مجددًا.»

– «لا تزال في جعبتي بعض الأوراق الرابحة.»

– «أتمنى ذلك؛ فنجاحنا يعتمد عليك.»

لم يتعجب البروفيسور فلاورز كثيرًا عندما استغرق سام ييتس أكثر من شهر للظهور مرة ثانية ومعه لوحته. لقد كان ييتس يحاول أن يضيف كميات صغيرة من أوراق الشجر الممزقة إلى نموذج للوحة طولها ست بوصات ومعدة إعدادًا خاصًّا، ولم يكن يرغب في إتلاف عمله. وكان في كل محاولة يرجع ويقارن عمله مع لوحة مونيه تحت ضوء الليزر في ورشة عمل المعرض الوطني. كانت تبدو عليه ملامح الإحباط بوضوح. فقد كانت أجزاء الورق كبيرة جدًّا في بادئ الأمر ثم استُخدمت بعد ذلك بإفراط. وكان فلاورز صبورًا مع سام على الرغم من أن اصطحابه إلى المعرض الوطني كان يثير بعض المتاعب في كل مرة؛ فلم يكن سير روجر يسمح بدخول سام إلى ورشة عمل المعرض دون أن يصحبه أحد، وقد تطلب ذلك أن يقلل فلاورز من أنشطته البحثية ليؤدي دور الحارس.

وفي صباح أحد الأيام، ظهر سام ييتس وقد بدت عليه ملامح الحرج والاتساخ داخل كلية الملك. جلس في مكتب فلاورز أشعث الشعر غير حليق الذقن.

قال: «من الممكن أن تهزمني أيها البروفيسور.»

رد فلاورز: «لك الحرية دائمًا في أن تنهي التحدي في أي وقت.»

– «أعلم ذلك، لكن إن كان لديَّ الإصرار للاستمرار، فهل تعتقد أنني سأكون الأفضل في هذا العمل؟»

– «كنت أتمنى أن تكون أحد طلبة الدراسات العليا لدي. إنهم لا يدركون أن الإصرار واحد من أهم سمات أي جهد بحثي.»

سأل ييتس: «هل يمكنك مساعدتي في طريقة تقطيع ورق الشجر على النحو الصحيح؟»

هز فلاورز رأسه نفيًّا وذكَّر سام باتفاقهما. فقد اتفقا على أن فلاورز لن يوضح له طريقة عمل ذلك.

قال سام: «نعم، نعم، لكنك لم تقل إنك ستتركني في هذه المعاناة.»

– «المعاناة شيء جيد للروح.»

– «هذه نصيحة جيدة للشباب، لكنَّ سيئي السمعة من أمثالي نالوا نصيبهم كاملًا من المعاناة.»

– «لِمَ لا تنسحب وتلقي اللوم على الليزر؟ لقد كنت لا تُقهر قبل أن يظهر.»

– «لقد تغلبت على الأشعة السينية، والتحاليل الكيميائية، والتأريخ الكربوني؛ ولسوف أتغلب على الليزر.»

– «أحسنت. سأنتظر محاولتك القادمة، لكننا بحاجة إلى تحديد موعد للانتهاء.»

– «عندما أُدفَن في قبري، عندئذٍ فقط يمكنك أن تقول إنك قد تغلبت عليَّ.»

– «إذا ابتعدت عن الأطعمة الدسمة، فيمكنك العيش ثلاثين عامًا أخرى.»

– «هذا غير ممكن مع الطريقة التي تعاملني بها. لا بأس، الاتفاق هو الاتفاق. لكن عندي مطلبًا آخر، هل لي بمزيد من تلك الورقات الفرنسية؟ لقد نفد ما لديَّ منها.»

أعطى فلاورز لسام أربع ورقات أخرى وتمنى له حظًّا موفقًا. كان ييتس قد نحل على نحو ملحوظ منذ أن تناولا الطعام معًا في مطعم سيمبسونز، وكان فلاورز قد فكر في استضافته مرة أخرى، لكنه قرر أن الودَّ والتآخي غير محبذين بين الخصوم. كان ذلك صدامًا بين عمالقة، وكان فلاورز يستمتع به.

كان فريق بيوريا جاز الرباعي يتكون من عازف بيانو، وعازف باص، وعازف جيتار كهربي، وعازف ترومبيت. وكانت هذه المجموعة تخدم المجتمع في أدوارها فيه، حيث كان من بينهم المحامي، وطبيب النساء، والموظف الحكومي، والأستاذ الجامعي. ونادرًا ما كانت هذه المجموعة تنال أي مقابل إلا في شكل بدلات بسيطة وهتاف وتشجيع، لكنهم تمكنوا من كسب بعض الاحترام بين نظرائهم. وكان العرض المجاني الذي يقدمونه في وقت الغداء من الساعة ١٢:٣٠ إلى الساعة ٢:٠٠ في رَدهة قاعة الاحتفالات الملكية يتكون من موسيقى الجاز الأمريكية في الفترة من ١٩٢٠ إلى ١٩٤٠؛ فهي خفيفة وغير صاخبة. وقد عزفوا في آخر مجموعة مقطوعات «غرفة الورود»، و«كآبة شارع بيسن»، بالإضافة إلى ثلاثة ألحان لجيرشوين، ولحن «عندما يأتي القديسون». وقد أحسن استقبالهم الجمهور الذي كان الجزء الأكبر منه الناضجين العاملين في الأحياء المجاورة، الذين كانوا يتناولون وجبة خفيفة ومشروبًا أثناء استمتاعهم بالعزف. لم يكن لاسم بيوريا أي دلالة مهمة غير أن قائد المجموعة أعجبه هذا الاسم ذي الجرس الأمريكي.

ومع الجولة الأخيرة من الهتاف والتصفيق، حزم فلاورز آلة الترومبيت الخاصة به، وودَّع زملاءه الموسيقيين وعاد إلى كلية الملك عبر جسر ووترلو. وما إن دخل حجرة مكتبه حتى سمع جرس الهاتف يرن، وكان سام على الهاتف في حالة من الفرح الشديد: «لا شك أنكم أيها الأساتذة الجامعون تأخذون ساعة غداء طويلة جدًّا.»

أجابه فلاورز: «لم أتناول طعام الغداء اليوم، فأنا لا آكل قبل العزف.»

قال سام: «أظن أنني أنجزت المهمة أخيرًا. هل لديك وقت؟»

قال فلاورز: «سأقابلك بالمعرض الوطني الساعة ٣:٣٠. هل يناسبك ذلك؟»

– «أراك حينها.»

اتصل فلاورز بالمعرض وتأكد من أن سير روجر سيكون موجودًا، وإن كان يعرب دائمًا لفلاورز عن قلقه تجاه وجود سام داخل جنبات المتحف.

وكان فلاورز يرد عليه بقوله: «يمكنني أن أرتب لبقائه في الأصفاد إن شئت.»

ويقول سير روجر: «سأظل لا أثق به رغم ذلك.»

قابل روبرت فلاورز سام ييتس في الرَّدهة، ورحب بهما سير روجر الذي اقتادهما إلى غرفة العمل حيث أزال سام النقاب عن آخر لوحاته. وقد اتفق كل من فلاورز ومدير المتحف أنه لا يمكن التمييز بين اللوحتين تحت ضوء الليزر فيما يتعلق باستشعاع أوراق الشجر.

قال ييتس: «كانت التجربة التي أجريتَها أنت على الموجات القصيرة هي ما أوحى لي بالفكرة. كنت قد وصلت إلى ورقة الشجر الأخيرة عندما اقترضت فرن أحد أصدقائي وبخرت ما بالورقة من رطوبة في تأنٍ. وقد أدى ذلك إلى جفاف الورقة وهشاشتها، فطحنتها باستخدام الهاون والمدقة. وبعد ذلك، أزلت ورنيش التلميع، ونثرت بعض الورق على اللوحة باستخدام مطحنة التوابل. ما رأيك؟»

فحص فلاورز اللوحة بقدر أكبر من العناية تحت المجهر، وأقر بأن سام حقق النجاح هذه المرة.

قال فلاورز وهو يربت على ظهر سام: «عمل رائع يا سام، إني فخور بإصرارك.» ثم أخرج جهاز الليزر الآخر الخاص به مردفًا: «سنفحص الآن شيئًا ما اقترحه سير روجر.» وبعد أن وجَّه فلاورز ضوء أشعة الليزر إلى ذلك الجزء من لوحة مونيه الذي كان أول من لاحظه سير روجر، أشار إلى شعرة قصيرة بنية اللون. وقال: «أغلب الظن يا سادة أن هذه شعرة صغيرة من لحية مونيه.»

تعاقب سام وسير روجر على فحص تلك الشعرة عبر العدسة المكبرة. ثم نظر سام إلى فلاورز مذهولًا في غير تصديق وهو يقول: «لا تقل لي إنك استعدت عينة من لحية مونيه؟»

قال فلاورز: «أثق أن موينه سيرقد في سلام، ولن أضطر إلى اللجوء إلى نبش جثته. غير أن جهاز الليزر هذه المرة هو ذو طاقة أعلى من سابقه، وهو أفضل فيما يتعلق باستشعاع الشعر.»

قال سام متعجبًا: «اللعنة، إنني أستسلم. ما الذي يفترض أن أفعله الآن، أبحث عن رسام فرنسي له لحية مثل مونيه؟»

قال فلاورز موبخًا: «يمكنك أن تحاول.»

رد سام متذمرًا: «هذا ليس عدلًا. من الواضح أنك كنت تضللني.»

قال فلاورز: «لدينا في الوقت الحالي خمس لوحات لمونيه مع أجزاء صغيرة من شعره أشك أننا قد نراها في لوحتك. وحتى إن كانت بضع شعيرات من شعرك الرمادي قد سقطت على اللوحة، فقد فقدت لونها ولن تشع الضوء على النحو نفسه. ولو أن مونيه رسم هذه اللوحة وهو أكبر سنًّا وكان لونه كلون شعرك، فلربما كنت أسعد حظًّا.»

– «إنني أستسلم! فكل ما أعرفه أنه لا يزال في جَعبتك المزيد من الحيل.»

قال فلاورز: «فكر في الأمر جيدًا.»

لم يكن من الممكن تهدئة سام. وما كان منه إلا أن ألقى نظرة سريعة على لوحته باستخدام جهاز الليزر الأعلى طاقة، ثم هز رأسه، وأعاد طي لوحته، وترك المكان دون أن يودِّع الحاضرين.

كان سير روجر سعيدًا بما حدث لكن كان يخالجه بعض القلق. وأخبر فلاورز أنه سعادته ستزداد إذا عرف أن هناك شيئًا لا يستطيع ييتس تقليده، وقال: «أشعر بالقلق. فييتس مدفوع بغرور كبير.»

بعد أسبوع من ذلك، عاد سام ييتس مفعمًا بالثقة إلى كلية الملك ليعرض إضافة ألياف صغيرة من شعر بني تحت ضوء الليزر. فحص فلاورز المحاولة وأقر بأن سام نجح هذه المرة.

– «كيف فعلتها؟»

أخبر سام فلاورز أنه جمع كتبًا عديدة عن مونيه بحثًا عن أي إشارة فيها إلى لون لحيته عام ١٨٧٥ تقريبًا. وعلى الرغم من أن جميع صور مونيه الفوتوغرافية كانت بالأبيض والأسود، فقد عثر على صورة ملونة في أحد الكتب. كما جمع سام بعض خصلات الشعر من أصدقائه إلى أن عثر في النهاية على التطابق الأمثل. وأخبر فلاورز أنه لم يتبقَّ له أي أصدقاء.

قال فلاورز: «لنتناول الغداء في سيمبسونز ونحتفل.»

رد ييتس: «لقد أكلنا هناك من قبل. ألا يمكننا أن نجرب فندق سافوي؟»

قال فلاورز: «لقد اكتسبت ميلًا إلى البذخ.»

– «أنا أميل دومًا إلى البذخ عندما يتولى غيري الدفع.»

وافق فلاورز على تغيير المكان وتمشَّى الاثنان على مهل في شارع ستراند متجهَين إلى الفندق. ونسي سام أن الشارع القصير المؤدي إلى الفندق هو الشارع الوحيد في لندن الذي يقود فيه سائقو سيارات الأجرة ناحية اليمين. وقد طبقت هذه القاعدة بوصفها نوعًا من التيسير على سائقي سيارات الأجرة حتى يمكنهم فتح باب الركاب دون مغادرة مقاعدهم. وكاد سام يلقى حتفه أثناء النظر في الاتجاه الخاطئ المعاكس. ولكي يهدئ من روعه طلب كافيار الحيتان البيضاء، وسرطان البحر، وأفضل أنواع الشمبانيا التي يقدمها الفندق. شعر فلاورز أن سام يحاول عن تعمُّد إثارة غضبه.

قال سام: «من الرائع أن أعرف أنني تمكنت من هزيمة الخبراء مرة ثانية؛ وليس ذلك لأنني مهتم بالعودة إلى لعبتي القديمة. فأنا لا أرغب في أن تكون لي أي صلة بالتزوير.» وراح سام يتناول الطعام في استمتاع بالغ وتلذذ باحتساء الشمبانيا ثم قال: «أود أن أصبح خبيرًا في الخمور. والأمر يستلزم بالطبع رأس مال قليل لاكتساب حاسة تذوق قوية.»

رد فلاورز: «آمل ألا تضيع الألف جنيه على الخمر.»

ابتسم سام قائلًا: «يمكنني بما أعرفه الآن أن أصنع لوحة جديدة لمونيه كاملة بالورقات والشعر في نحو عشرة أيام. فتعلم الطريقة هو ما يستغرق وقتًا طويلًا، لكن ما إن تتجاوز مرحلة المعرفة حتى يصبح الأمر سهلًا.»

قال فلاورز مؤكدًا: «لا يختلف الأمر في البحث العملي.»

– «في الحقيقة، يمكنني أن أمرن طالب رسم شاب على تقليد لوحة من لوحات مونيه في سرعة كبيرة؛ كاملة بالأوراق والشعر.»

حدَّق فلاورز النظر في سام وظن أن الشمبانيا ربما أحدثت بعض التأثير؛ وإلا فلماذا يعيد تكرار ما يقوله؟

وقال سام: «لنرَ أي أصناف الحلوى يبدو جيدًا في هذا المكان؟»

– «لقد كنت غاية في الكرم فيما يخص عملنا. هل لي أن أعرف تكلفة ذلك؟»

– «أظنني غير مضطر الآن لاستفسار كهذا، ولكن شكرًا لك أن فكرت في.»

استقر سام على طلب خوخ ميلبا مع كأس من الخمر الخضراء المحلاة. وعندما وصلته الحلوى، ذكَّر سام البروفيسور فلاورز أن هذا النوع من الخمور يصنع في جنوب فرنسا، أي مسقط رأس مونيه. وقال: «ربما نثر مونيه بعضًا منه على لوحته.»

– «لقد ذاق مونيه الفقر المدقع أعوامًا حتى لم يكن في وسعه أن يحظى بمثل هذا الترف.»

قال سام: «أتمنى ألا أعود أبدًا إلى الفقر الشديد مرة أخرى.»

قال فلاورز: «إذا تركت اللوحة معي، فسأرسل لك شيكًا قيمته ألف جنيه استرليني غدًا.»

– «كان العمل معك ممتعًا، على الرغم من أنني أضعت الكثير من الوقت على تلك الأوراق. ومع ذلك، فقد كانت تجربة مثمرة للغاية.»

عاد الاثنان إلى كلية الملك، وودَّع سام فلاورز بعد أن وضع في يده ورقة صغيرة.

سأله فلاورز: «ما هذه؟»

أجاب سام: «إنها مفاجأة. لقد علمتني الكثير؛ وأريد أن أعلمك شيئًا الآن.»

– «أشكرك. وفي حال لم يتسنَّ لي رؤيتك مجددًا، فلتقضِ وقتًا سعيدًا.»

– «أنوي ذلك يا بروفيسور.»

وعندما اختفى سام عن النظر، فتح فلاورز الورقة وبدأ في قراءتها. وبعد أن قرأ السطر الأول، رنَّ جرس الهاتف.

– «دكتور فلاورز، هذا روجر فان زال. هناك اجتماع لمجلس الإدارة الأسبوع القادم، وسيرغبون في الاطلاع على موجز عن قضية مونيه. هم بالطبع لا يعلمون شيئًا عن تجربتك والشخص المستخدم فيها، وأرجو الله ألا يعرفوا. كم سيستغرق الأمر حتى ينتهي؟»

– «لقد رحل توًّا وسأرسل إليه شيكًا أخيرًا. أتمنى أن تكون راضيًا لأننا تمكنا من العثور على اثنين من الأدلة التي تثبت أصالة اللوحة. لقد كنت بحاجة إلى تحدي المقارنة الذي قمنا به لإظهار الفروق الصغيرة بواسطة أوراق الشجر والشعر.»

– «نعم، أوافق على أن تقنية الليزر الخاصة بك قد منحتنا مزيدًا من الثقة، وأنك قد أنجزت المطلب الرئيسي. إلا أنني غير راضٍ عن وجود هذه النسخة المزورة المتقنة. هل ستمحوها؟»

قال له فلاورز قبل أن يضع سماعة الهاتف مؤكدًا: «كنت أخطط لتعليقها على جدار حجرة مكتبي. لكن سيُتخذ إجراء ما لضمان عدم الخلط بينها وبين لوحة مونيه الحقيقية.»

كان خط يد سام شنيعًا رغم أن الرسالة أصبحت واضحة:

عزيزي البروفيسور فلاورز،

لقد شعرت بسعادة بالغة بسبب التحدي الذي وضعته أمامي، لا سيما سعادة التغلُّب على الخبراء مرة أخرى. وعلى الرغم من أنني أقسمت أن أتوقف عن أداء عمليات التزوير، فإنني أعتقد أن خدماتي بوصفي مستشارًا لم تكافأ كما ينبغي. ومن ثَم، أقترح ضرورة الاستعانة بي بصفتي مرجعًا مستقلًّا في لوحات مونيه المحتوية على الورقات والشَّعر في المستقبل. سأتقاضى أتعابًا زهيدة لقاء ذلك؛ واحد بالمائة فقط من سعر المزاد.

تفضل بقبول فائق الاحترام من خادمك المتواضع،

سام ييتس

احمرَّ وجه فلاورز لهذه الإشارة المقنَّعة إلى الابتزاز. فواحد بالمائة من خمسة وعشرين مليونًا يساوي مائتين وخمسين ألف جنيه استرليني! بات واضحًا أن سام يمكنه أن يحدث ضررًا بالغًا عن طريق إخبار سوثبيز أو الوزارة بإمكانية إنتاج نسخة مزورة. وفي الواقع، كانت النسخة الموجودة بالفعل كافية لإحداث هذا الضرر. وعلى أي حال، فإن لدى سام خطابًا يطالبه بأداء هذه الخدمة.

لقد عرف عن احمرار الوجه أنه علامة على حدة المزاج. وكان البروفيسور فلاورز قد تمكن طوال خمسة وثلاثين عامًا من الاحتفاظ برباطة جأشه في التعامل مع الطلاب، لكنه اكتشف في هذه المرحلة من حياته المهنية ذلك الغضب الكامن بداخله. حاول الاتصال بسام هاتفيًّا، لكن كان من الواضح أنه لم يصل إلى منزله بعد. ولذا، فقد وضع سماعة الهاتف بعنف وبدأ يقطع الممر كيو جيئة وذهابًا. أخذ يفكر في بشاعة الموقف وأثارَ تعقدُ الأمور حنقَه. ترك فلاورز الكلية عبر مخرج الجسر، وسار على ضفة نهر التايمز لكي يهدأ ويفكر فيما سيفعله بعد ذلك. أخذ يلعن سذاجته، واستبدت به الحيرة تجاه الطريقة التي سينقل بها تلك الأخبار المشئومة إلى سير روجر. وبعد أن قطع جسر الرهبان الكاثوليك وعاد، كان قد تخلص من بعض من حنقه، وعاد إلى مكتبه حيث تمكن من مكالمة سام عبر الهاتف.

قال له: «أشكرك على رسالتك الجميلة، لكنني أظن أنك أخطأت الحساب قليلًا. الأرجح أنك تقصد واحد بالمائة من واحد بالمائة؛ أي ٢٥٠٠ جنيه استرليني لا ٢٥٠ ألفًا.»

رد سام بنبرة شيطانية: «قد أكون غبيًّا في بعض الأوقات، لكنني لا أخطئ الحساب مطلقًا.»

قال فلاورز: «ذلك ابتزاز صريح ولن نلجأ إليه.»

وضع فلاورز سماعة الهاتف بقوة وأخرج آلة الترومبيت الخاصة به، وبعد أن أغلق باب حجرة المكتب، عزف موسيقى «رحلة النحلة الطنانة»، وهو إجراء تسبب في بروز أوردته وإزالة ما به من توتر.

ظل فلاورز معزولًا عن الناس بعض الوقت، كان يبدل فيه بين المشي والعزف على الترومبيت. وفي نهاية اليوم الثاني، لمعت في رأسه فكرة فرجع لإعادة فحص لوحة مونيه في المعرض الوطني. وبعد التقاط العديد من الصور الثلاثية الأبعاد — وهي صور فوتوغرافية تُلتقط تحت ضوء أشعة الليزر — أعاد الكرَّة مع لوحة ييتس، وتحدث مع رئيس مجموعة معالجة الصور وأخبره بمشكلته. أجرت مجموعة المعالجة التي يرأسها البروفيسور بادج تحليلًا للصور الثلاثية الأبعاد باستخدام جهاز الكمبيوتر لإظهار بعض التفاصيل التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

تمكنت المجموعة من تحقيق نتائج سريعة للغاية عن طريق مفتاح الحل الذي منحهم إياه فلاورز. ومن ناحية أخرى، هاتف فلاورز إدارة متحف سوثبيز وحصل منهم على إذن بالتقاط صور ثلاثية الأبعاد للوحات مونيه الأربع الموجودة عندهم، بعد أن طلب إليهم تنظيفها لإزالة بصمات الأصابع العالقة على أسطحها.

تمخض أسبوع من التحليل المفصل عن المعلومات التي احتاجها فلاورز لتأكيد صحة نظريته. لكن كانت هناك حاجة إلى مجموعة أخرى من الصور الثلاثية الأبعاد للتركيز على مناطق محددة من اللوحات، وكرر فلاورز هذا القياس على ثلاث من لوحات مونيه الشهيرة الموجودة بالمعرض الوطني قبل أن يصل إلى دليل مقنع.

لم يكشف فلاورز عن طبيعة الأزمة لسير روجر، كما لم يرد على أي مكالمات هاتفية من سام الذي كان يلح عليه للاستجابة لمطلبه. فقد لزم أن يكون على يقين تام من صحة اعتقاده قبل أن يخبر سير روجر بالتفاصيل وقبل أن يخبر سام أن يذهب إلى الجحيم.

بدأ فلاورز يتلذذ بنشوة الانتقام واتصل بسام في السادسة من صباح يوم الأحد ليوقظه بوقاحة شديدة.

قال سام: «بروفيسور فلاورز، كنت أحاول الاتصال بك طوال الأسبوع. آمل ألَّا تكون غاضبًا مني.»

رد فلاورز: «ولماذا أغضب منك؟ لقد اتصلت بك يوم أحد لكي أذكرك بالذهاب إلى الكنيسة والصلاة. إنني في غاية السعادة اليوم؛ لأنني تغلبت عليك مرة أخرى. وهذه المرة أقول إنك خسرت كل شيء، وفي ذلك الألف جنيه.»

ظل سام صامتًا لعشر ثوانٍ كاملة، ما أشار إلى أنه لم يزل في حالة من النعاس ويحاول أن يقيِّم سريعًا هذا التحول في الأمور.

– «لا بد أن هذه خدعة، أليس كذلك؟»

أجاب فلاورز: «إذا اتبعت هذا الأسلوب، فسننهي المناقشة وسأقحم سكوتلانديارد في الموضوع. أي محاولة أخرى للابتزاز، مهما كانت مستترة، ستنتهي بك خلف القضبان. أؤكد لك أنه من الأفضل أن تكون متعاونًا.»

– «ما زلت أظن أنك تحاول خداعي، لكني سأحسن الظن بك يا بروفيسور.»

سأله فلاورز: «أي ظن؟ إذا جئت إلى مكتبي غدًا في الثالثة عصرًا، فستدرك ما أتحدث عنه.»

قال ييتس: «إنني أخشى أشياءً مثل أجهزة التسجيل.»

رد فلاورز: «لن تكون مضطرًّا إلى قول كلمة واحدة؛ فقط شاهِد وأنصت.»

قال ييتس: «إنك لا تمتلك جهاز ليزر جديدًا لقراءة أفكار الناس، أليس كذلك؟»

أجابه فلاورز: «لست بحاجة إلى جهاز ليزر لقراءة أفكارك.»

قال سام: «أدرك مقصدك.»

قال فلاورز: «ولا تنسَ الذهاب إلى الكنيسة.»

وضع فلاورز سماعة الهاتف بلطف ونطق ببعض كلمات الحمد على التوجيه الإلهي الذي حظي به خلال هذا الأسبوع.

وصل سير روجر وسام معًا في اليوم التالي وقادتهما السكرتيرة إلى مكتب البروفيسور فلاورز. قدم إليهما الشاي وتطرق روبرت إلى الموضوع مباشرة:

«بصراحة، أشعر بالسعادة لأن سام أعلن التحدي لنتوصل إلى شيء أكثر إقناعًا من استشعاع الشعر وأوراق الشجر. ولعلكما تدركان أن أجهزة الليزر قد أثبتت جدارة في الكشف عن بصمات الأصابع، حيث تظهر بصمات الأصابع من خلال بقايا الزيت الملتصق بالأصابع بوضوح في الاستشعاع بأشعة الليزر وتجنبنا الحاجة إلى الطريقة المملة والأقل كفاءة التي تُستخدَم فيها فرشاة ومسحوق ناعم لاكتشاف البصمات. ذلك أن طريقة المسحوق أقل فعالية من طريقة الليزر التي لا تتطلب اللمس.»

ظهرت علامات توتر شديد على وجه سام. ولم يكن واردًا أن ينعت فلاورز بالمخادع مرة ثانية، بل أولاه كل اهتمامه.

تابع فلاورز حديثه: «لقد حددت الآن، عن طريق فحوصات الليزر والصور الفوتوغرافية لسبع من لوحات مونيه ولوحة واحدة لسام ييتس، بصمة إبهام كلود مونيه بالإضافة إلى مجموعة كاملة من بصمات سام ييتس التي قارنتها بالمجموعة الموجودة في ملفه بسكوتلانديارد.»

سعل سام قائلًا: «أيلزم أن نخوض في ذلك يا سيدي؟ هذا عهد مضى، أليس كذلك؟»

قال فلاورز ساخرًا: «إلى حد ما تمثل هذه اللوحات عهدًا مضى.»

قال سام: «فهمت ما ترمي إليه يا بروفيسور.»

أردف فلاورز: «لقد وضعنا بصمة إبهام مونيه في ملفاتنا السرية، لكنني مستعد لإعطاء سام فرصة أخرى للعمل على هذه النقطة؛ بمفرده.»

فكر سام في ذلك التحدي المستحيل بضع ثوانٍ ثم توجه إلى الباب.

استوقفه فلاورز قائلًا: «على رسلك يا سام. أتقبل دعوتي على الغداء؟ ثمة مطعم رائع من مطاعم ماكدونالدز في شارع ستراند؛ عشرة طوابير وفترة انتظار قصيرة جدًّا.»

حدق سام في فلاورز لحظة قصيرة ثم اندفع خارجًا من المكتب في غضب.

نظر سير روجر إلى إعادة بناء تحليل الصورة الخاص ببصمة إبهام مونيه قائلًا: «رائع! يمكن أن تكون هذه أداة قاطعة للتحقق من الأصالة.»

قال فلاورز: «في الواقع، ذهب ظني إلى الهزيمة عندما اكتشفت أن اثنتين من لوحات مونيه لا تحملان أي بصمات.»

فسأله سير روجر: «أي اثنتين كانتا؟»

– «لوحتا الصباح الباكر اللتان تصوران الصقيع المتجمد. لقد قضيت ليلة كاملة بلا نوم أفكر في هذا.»

أومأ سير روجر برأسه قائلًا: «لا شك أن هناك تفسيرًا بسيطًا يتعلق بدرجة الحرارة وما إلى ذلك. لعل الزيوت التي تفرزها الأصابع لا تلتصق باللوحات؟»

قال فلاورز: «لا تلتصق عندما يرتدي الفنان قفازات.»

وعلا صوت روجر وفلاورز بالضحك. وعندما انتهت نوبة الضحك، أشار روجر إلى لوحة ييتس المعلقة على حائط روبرت متسائلًا: «ماذا ستفعل بهذه؟»

أجاب فلاورز: «لقد طلبت من سام أن يزور لي خطابًا ألصقته على ظهر قماشة اللوحة.»

أنزل فلاورز اللوحة وقلبها لكي يفحصها سير روجر. كان على اللوحة خطاب ملصق يقول:

رسم هذه اللوحة أحد تلامذتي بالأسلوب الخاص بي. اسم هذا الفنان هو سام ييتس وأنا أشهد بتميزه أمام فناني العالم.

كلود مونيه،
١٤ ديسمبر ١٩٩١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤