آفون: من ١٩٩٠

حالما تقاعد ريتشارد من كلية الملك بلندن، تركزت أنشطته الفيزيائية على البصريات، ملتمسًا لنفسه بعض المتعة من خلال زيارة المختبرات وتحويل النتاج العلمي بها إلى قصص قصيرة للغاية نشرها في دورية «ليزر آند أوبترونكس»، ومن بعدها صحيفة «سباي». ولكن عجلات الأفكار أبت إلا أن تستمر في الدوران في رأسه، فقلما كان يعد تقريرًا عن أحد الأبحاث دون أن يربطه بالمحاولات الأخرى التي كان على دراية بها. ومن هنا نبعت فكرة «المركبات الحساسة»، التي كان أول تصور لها في كلية الملك بلندن.

أصبحت ألياف الجرافيت مادة المستقبل؛ لأن معامل المرونة بها مرتفع للغاية، وذلك يعني أن عملية تمديدها تحتاج إلى قوة كبيرة للغاية. فعند طمرها في «راتينجات إيبوسكية»، يكون المركب الناتج كثيفًا وخفيف الوزن في الوقت نفسه، ليشق طريقه إلى مصانع مقابض عصا الجولف وإطارات مضارب التنس. وصنعت شركة «ماكدونيل دوجلاس» قطاع ذيل طائرة بالكامل من هذا المركب لاختبار إمكانية الاعتماد عليه أثناء الطيران. أتبعه شخص ما بفكرة طمر أحد الألياف البصرية في المركب الجرافيتي لقياس الآثار التي تحدثها التغيرات في الإشارة الضوئية المارة خلال الليف.

وذات يوم جاءته الفكرة: لماذا لا يستخدم الألياف البصرية القوية لتصنيع المركبات، ومن ثم توفير تغذية بصرية لتسجيل الآثار التي تحدث في المركب. أعد أحد المحامين لريتشارد نموذج تسجيل براءة اختراع وجاء الخبر في أحد البيانات الصحفية.

بيان صحفي، ٣١ مارس ١٩٩٠

الطائرات تفحص نفسها

أعلن البروفيسور ريتشارد جيه وايس من كلية الملك بلندن عن مفهوم جديد في هياكل الطائرات يقوم على نوع جديد من المواد الميكانيكية البصرية تسمى المركبات الحساسة.١

فمع ابتكار ألياف بصرية بقوة الصلب، يتكون مركب بنيوي عن طريق طمر حزمة من هذه الألياف في قالب، مثل الراتينجات الأيبوكسية، مع رصد الإشارات البصرية المنبعثة عند أحد طرفي المركب وقياسها في الطرف الآخر بصفة مستمرة. توفر هذه الألياف القوة والمسار الضوئي في المركبات الحساسة.

فعند استخدام هذه الألياف كأعضاء هيكلية في طائرة، يمكن على نحو مستمر رصد التواء الهيكل وانحنائه، حيث تتعقب الإشارة الضوئية هذه التغيرات. علاوة على ذلك، يتسبب وقوع أي تصدع في كسر الألياف الفردية ومنع بث الإشارة الضوئية. نتيجة لذلك، يمكن الاستغناء عن الفحص الدوري للطائرات على الأرض باستخدام الأشعة السينية والموجات فوق الصوتية حيث يجري باستمرار رصد سلامة الهيكل منذ تركيبه للمرة الأولى ومتابعة حالته على المدى الطويل مع زيادة عدد ساعات الطيران.

هكذا يُسجَّل التواء أجنحة الطائرة وجسمها وانحناؤها أثناء الطيران على نحو مستمر. وعندما تظهر على أي جزء من أجزاء الطائرة العلامات الأولى للخلل الوظيفي، يمكن استبدال هذا المكون الهيكلي على الفور. أما عملية اختبار الطائرة على الأرض، فمكلفة ومضيِّعة للوقت وتُجرى على هيكل لا يتعرض للضغط. لكن عند تصنيع الطائرة من المركبات الحساسة، تسجل استقامة الطائرة أثناء الطيران في درجات ضغط عالية للغاية؛ أي عندما يكون وزن الطائرة بالكامل محمولًا على الأجنحة.

وأحد الخيارات الأخرى التي تتيحها المركبات الحساسة هو تسجيل درجة حرارة الألياف الفردية عن طريق طمر بلورة سائلة يتغير لونها. ويفضل ذلك لقياس الظواهر المرتبطة بالضغط مثل ظاهرة الزحف، عندما يكون تشوه البلاستيك مصحوبًا بارتفاع موضعي في درجة الحرارة.

ألقت الإجراءات المتبعة مع مكتب تسجيل براءة الاختراعات بريتشارد في دوامة حقيقية. ذلك أن مكتب براءة الاختراع دائمًا ما يشير إلى براءات اختراع أخرى يظن أنها تضم بالفعل الاختراع المقدم. وفي النهاية، تؤتي المثابرة ثمارها ويحصل محامٍ جيد على أتعابه عندما يُسقط مكتب براءة الاختراعات اعتراضاته. لكن مع هذه الأخبار السعيدة، وردت إلى ريتشارد أخبار سيئة أيضًا. فقد صنفت القوات الجوية الاختراع على أنه مشروع أمني؛ فلن يطور الفكرة إلا الأمريكيون وحدهم، وفي الوقت الحالي لن يُمنح الاختراع رقمًا في مكتب براءة الاختراع. ولذلك لزم أن تبقى تفاصيل براءة هذا الاختراع طي الكتمان.

أمضى ريتشارد سنوات عدة حاول فيها دفع الفكرة إلى الأمام، لكن أحدًا لم يستجب له. فما السبب وراء هذه السرية الشديدة؟ لم تكن هذه السرية إلا وسيلة لمنع القوى الأجنبية من استغلال التكنولوجيا التي يطورها الأمريكان وأفكارهم. وإن كانت الحرب الباردة قد وضعت أوزارها آنذاك، فقد ظلت الإجراءات الروتينية المتبعة داخل أروقة الحكومة تلتصق بكل شيء تتعلق به. ودون جدوى بعث ريتشارد بخطابات إلى آل جور، نائب الرئيس آنذاك، وشيلا ويدنال، وزيرة القوات الجوية، لكنه لم يتلقَّ أي رد. وفكر ريتشارد في تلك الفترة أن موقفه كان سيصبح أفضل لو لم يتقدم قط لنيل براءة اختراع؛ إذ لم يكن أحد ليمنعه من نشر تفاصيل اكتشافه في مؤتمر علمي. وعندما أفضى ريتشارد بأزمته إلى أحد مستشاري براءات الاختراعات في شركة «آي بي إم»، نصحه الرجل بأن يرجئ العمل على نيل براءة الاختراع «الشبح» حتى تُقبل إحدى الشركات على تطوير الفكرة، ثم يبدأ في مقاضاة تلك الشركة. وتساءل ريتشارد هل هذه طريقة إدارة شركة خطوط جوية؟

بدأ المونولوج الذي كتبه ريتشارد وأذاعته «بي بي سي» بمقطع موسيقي من آلة الهارمونيكا الزجاجية. ويرجع تاريخ هذه الآلة إلى عام ١٧٦٢ عندما استمع فرانكلين لأول مرة إلى الكئوس الموسيقية بإيطاليا. تكونت هذه الكئوس الموسيقية من عدد من كئوس النبيذ الزجاجية المملوءة بالماء بمستويات مختلفة، بحيث تصدر كل منها نغمة مختلفة حين تحتك أصابع العازف المبللة بحافة الأكواب. كانت الترتيبات اللازمة لتجهيز هذه الكئوس غاية في الصعوبة؛ إذ كانت تستلزم تعديلًا متكررًا لمستويات الماء بداخلها للحفاظ على ثبات النغمات، فضلًا على صعوبة التحكم في تآلفها. وكان تشارلز تيلور البروفيسور بجامعة كارديف في ويلز هو أول من أخبر ريتشارد بهذه الحكاية في أوائل الثمانينيات. فسجل شريطًا لشبكة «بي بي سي» حلل فيه فيزياء آلات موسيقية عديدة. وكان قد عثر على آلة هارمونيكا زجاجية أصيلة في الكلية الملكية للموسيقى وأصلحها من أجل إنتاج الشريط.

كان فرانكلين قد غيَّر التصميم الأساسي للكئوس المملوءة بالماء، عن طريق نفخ أنصاف كرات زجاجية ثم صقلها لضبط نغماتها ثم تثبيتها حول عمود أفقي يدار من خلال دواسة قدم. ويمكن للعازف أن يصدر النغمات من هذه الآلة عن طريق لمس حافة الكأس المناسبة بالإصبع المبللة. كان الصوت الصادر عن هذه الآلة عذبًا ومتفردًا إلى حد بعيد، دفع موتسارت وبتهوفن وجلوك إلى تأليف بعض القطع الموسيقية خصيصى لهذه الآلة.

وحين بدأ الطبيب الدجال أنطون ميزمر في استخدام هذه الآلة بباريس مصدرًا للتأثير الموسيقي الهادئ لتنويم مرضاه مغناطيسيًّا، شاع أن هذه الآلة يمكن أن تدفع المرء إلى الجنون. ومن ثم، حُظِر استخدامها في ألمانيا على الرغم من اهتمام لافاييت بقيمتها العلاجية. وظلت هذه الآلة مجهولة تقريبًا قرابة قرنين من الزمان، باستثناء محاولة البروفيسور تيلور إعادة إحيائها. وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، ناقش ريتشارد خصائصها الموسيقية ومشكلات تصنيعها مع أحد الموسيقيين الذين قابلهم في حانة بلانشارد. ونصحه الموسيقي بالتوجه إلى أحد نافخي الزجاج بالطريقة العلمية في وولثام بماساتشوستس يدعى جيرهارد فينكينباينر، وكان موسيقيًّا هاويًا. كان جيرهارد يبلغ ارتفاع قامته ٥٫٦ قدم، وتعلو وجهه ابتسامة دائمة، ويتمتع بخفة الظل، وكان يعيش في فرنسا قبل هجرته إلى ماساتشوستس، وقد قبل التحدي على الفور. كان تشارلز تيلور قد ادَّعى أن الآلات الأصيلة تعاني من تدني جودة الزجاج المستخدم في تصنيعها. وفي حقيقة الأمر، قد لا يكون ذلك هو السبب، غير أن جيرهارد صنَّع أنصاف الكرات الزجاجية من السيليكون الخالص (وهو زجاج خالٍ من أي شوائب) لينتج آلة يمكن العزف عليها. وشرع متجره الواقع بشارع رومفورد في وولثام بماساتشوستس في تصنيع هذه الآلة وتسويقها. وأخيرًا، ذاع صيتها في أنحاء العالم وحظيت بالاعتراف والتقدير.

يمكن «تجميد» أنماط الاهتزاز المتذبذبة باستخدام جهاز ستروبوسكوب. تطور الشكل الدائري لأنصاف الكرات الزجاجية الثابتة إلى أشكال نمطية بيضاوية الشكل يسبب اهتزاز الهواء، وينتج عن ذلك أن تعلو النغمة الأساسية على النغمة المنبعثة، مما يحدث صوتًا أشبه بطنين كأس الكريستال.

مضت سنوات ودُعي ريتشارد إلى احتفال بمرور مائتَي سنة في مدينة فرانكلين بماساتشوستس، وهي مدينة سُميت باسم بنجامين فرانكلين حين كان سفير أمريكا لدى فرنسا في ثمانينيات القرن الثامن عشر. وكان قساوسة المدينة قد طلبوا من السفير الذائع الصيت المساهمة بمبلغ من المال في شراء جرس للمدينة. ورد فرانكلين بشكرهم على تسمية المدينة باسمه، لكنه اقترح أن يساهم في شراء مجموعة من الكتب لا في شراء جرس. فقال لهم: «إنني أفضل المعنى على الصوت.»

طلب فرانكلين من صديق له انتقاء ما يقرب من ١٠٠ كتاب من الأدب الإغريقي القديم. وبالفعل أُرسلت الكتب المائة إلى فرانكلين بماساتشوستس لتكون نواة أول مكتبة تعير الكتب مجانًا في الولايات المتحدة. وفي عام ١٩٠٠ جُمعت التبرعات لبناء مكتبة جديدة على الطراز اليوناني الكلاسيكي لعرض هدية فرانكلين. ودُعي أحد فناني إيطاليا المتخصصين في الجداريات ليضيف المناظر المناسبة إلى الجدران الخالية بما يناسب نمط بنائها. وللاحتفاظ بالأسلوب المعماري للمبنى رُسمت على الجدران مشاهد لإلهات عاريات من الأساطير الإغريقية يلهون في الهواء الطلق، وأُعدت العدة لحفل افتتاح المنشأة الجديدة أمام الزائرين. وعندما رأت زوجات موظفي المدينة هذا المثال من «الفن الماجن» للمرة الأولى، ألححن على أزواجهن لاستدعاء رسام آخر يواري سوءات الإلهات العاريات.

حضر ريتشارد الاحتفال بمرور مائتي عام وهو يرتدي الملابس التي يرتديها في الحانة، وقرأ على الحاضرين فقرات من «تقويم ريتشارد المسكين». وتلا ذلك عزفُ فنانة موهوبة تدعى أليسا ناكاشيان على الهارمونيكا الزجاجية، والتي غنت بعض الأغنيات المناسبة. أثار صوتها العذب النقي شجون ريتشارد، فألف لها مونولوجًا على لسان سالي فرانكلين، تحكي فيه عن حياتها مع والدها الشهير، وتغني بعض الأغنيات الاسكتلندية التي كان يحبها. ونجحت أليسا في أدائها حتى إنها دعيت إلى الغناء في ليلة افتتاح مسرح ببوسطن. ومنذ ذلك الحين، أدت فقرتها في العديد من الحفلات، ومنها حفلات في مسرح بكامبريدج، حيث أدت مونولوجًا ثانيًا من تأليف ريتشارد، بعنوان «القيصر بيل»، أضفت به مزيدًا من المتعة على الأمسية.

بدأ افتتان ريتشارد بالتاريخ الألماني في القرن الماضي باقتراح قدَّمه زميله في كلية الملك بلندن سورين تشوميت، الذي نبش بعض تفاصيل فضيحة ملكية حدثت في عام ١٨٧٥ عندما نشب خلاف بين عائلة تشرشل والأسرة المالكة بسبب نشوء علاقة سرية بين بلاندفورد تشرشل (عم تشرشل الشاب) والليدي آيلزفورد التي أعجب بها أمير ويلز أيضًا (الذي أصبح إدوارد السابع فيما بعد). وقد تطلب الأمر تدخلًا دبلوماسيًّا من جانب ديزرائيلي لتسوية هذا الخلاف بما يرضي الملكة فيكتوريا من جانب، ويحجب القصة عن أضواء الصحافة من جانب آخر. حوَّل ريتشارد هذه القصة إلى رواية، ولكن أثناء بحثه في ذلك أثارت طريقة التعامل بين أفراد الأسرة المالكة وحالات زواجهم اهتمامه. وكان في كراهية القيصر فيلهلم الثاني، حفيد الملكة فيكتوريا، لأمه ولخاله ما ساعده على كتابة رواية ممتعة.

كان ويلي — كما كان عمه الملك إدوارد يطلق عليه — قد ولِد بعجز في ذراعه اليسرى أثر في شخصيته، وكان سببًا لكراهيته أمه التي كانت تجبره على الخضوع لعلاج مؤلم لا يجد له نفعًا، وكراهيته عمه «بيرتي» الذي كان يرفض أن يناديه باسم القيصر فيلهلم. ومع ذلك، اكتسب فيلهلم شخصية ودودة ليواري عجزه، وكان دائمًا يطلب انتباه كل المحيطين به. وكثيرًا ما كان يلقي أشعار كيبلنج، ويتكلم بأحاديث طويلة، ويتغنى بأغنية آرثر سوليفان «عندما كنت صبيًّا». وقد تعجب سوليفان من أن هذه كانت المرة الأولى التي يغني فيها أدميرال حقيقي أغنيته، وغالبًا يظهر للعوام بالملابس العسكرية. ومن هنا، طرأت على بال ريتشارد فكرة أن يخرج القيصر بيل من منفاه عام ١٩٢٣، ليجعله يقدم عرضًا سريًّا في إحدى القاعات الموسيقية الإنجليزية. وذلك على أن يشمل العرض تقديم القيصر لأغنيات تلك الفترة وسرده ذكريات كراهيته أمه وعمه، واعترافه باحترامه الملكة فيكتوريا، ثم ادعاء براءته من التسبب في نشوب الحرب العالمية الأولى. وقد حقق المونولوج نجاحًا كبيرًا لينتهي به الحال إلى العرض مدة شهر في مسرح بالقرب من بوسطن.

عندما أمر هتلر بغزو هولندا في ١٠ مايو ١٩٤٠، اقترح تشرشل على الملك جورج السادس أن يبعث بطائرة من القوات الجوية الملكية إلى دورن، مكان منفى القيصر. فقد كان تشرشل على قناعة بأن الحرب العالمية الأولى لم تكن خطأ القيصر لكنها كانت قدره. وافق الملك تشرشل وأرسل مبعوثًا إلى القيصر ومعه العرض. قرر فيلهلم، الذي كان قد جاوز الثمانين آنذاك، أن يظل في هولندا، وأن يقبل بالمصير الذي يحمله له هتلر. لكن هتلر أمر قواته أن تغض الطرف عن القيصر. ومات فيلهلم عام ١٩٤١، قبل يوم واحد من غزو هتلر لروسيا.

كان ولع ريتشارد بقصة القيصر قد كشف له عن قصة أخرى تتعلق بالباخرة «لوزيتانيا»، وهي إحدى سفن الركاب التابعة لشركة «كيونارد» الملاحية. وقد أغرقت غواصة ألمانية هذه السفينة في أبريل عام ١٩١٥، فأشعل ذلك الحادث نيران الكراهية داخل الأمريكيين تجاه الألمان. وقد حول ريتشارد هذه القصة إلى رواية عن التجسس من وجهة النظر الألمانية. لكن الشيء الذي يذهل العقل حقًّا في الحرب العالمية الأولى هو تلك الكراهية الشديدة التي نشأت آنذاك، والحملات العسكرية العمياء التي أدت إلى سفك بحور من الدماء بغير سبب. وقد تسبب ذلك في فرض بنود قاسية على الألمان في معاهدة فيرساي، التي كانت السبب الرئيسي لبزوغ نجم الرايخ الثالث ونشوب الحرب العالمية الثانية.

اقترب ريتشارد في ديسمبر ١٩٩٣ من عامه السبعين. وكان قد زار خمسين مختبرًا، وصنف مقالات مبسطة عن الأعمال البحثية لعدد من الدوريات والصحف. وعلى الرغم من أن صياغة هذه الجهود البحثية في صورة مقالات سهلة مقروءة شكلت تحديًا أبقى ريتشارد متيقظًا دائمًا، فإن أكثر المهام إثارة في الجمع بين العلم والكتابة قد بدأها سانفورد، شقيق ريتشارد، عندما استعان به في التأكد من أصالة عدد من لوحات بيكاسو الزيتية. وتتلخص القصة في البيان الصحفي الذي أعده ريتشارد وانتقى كلماته خصيصى لإحداث نوع من التأثير الدرامي القوي:
تحدي لوحة شهيرة لبيكاسو
خبراء العلم والفن مستعدون للنزال

ثبت علميًّا أن أكثر لوحات بيكاسو تعرضًا للنسخ هي لوحة «دون كيشوت وسانشو بانزا» الموقعة والمؤرخة في ١٠ أغسطس ١٩٥٥، وهي نسخة من لوحة زيتية مطابقة لها تمامًا رسمها بيكاسو موقعة ومؤرخة في ١٠ مارس ١٩٤٧. وكان في هذا الاكتشاف للوحة أقدم إعلان بحرب ضروس بين خبراء العلم وخبراء الفن.

تعود بنا قصة هذا الاكتشاف المذهل إلى الحرب الأهلية الإسبانية (١٩٣٦–١٩٣٩) حين تعرَّف فينسنت بولو — وهو طيار مقاتل موالٍ للحكومة اعتاد على قيادة الطائرات من فرنسا إلى إسبانيا — إلى بيكاسو من خلال السفير الإسباني، وكان بيكاسو في تلك الفترة قد عزل نفسه في مبنى السفارة في باريس. أعطى بيكاسو بولو طردًا مغلقًا (يحتوي مالًا على الأرجح) ليسلمه إلى والدته في برشلونة. وعقب وصول الطرد إلى وجهته وجه بيكاسو دعوة إلى بولو ليزوره في أي وقت يكون فيه بفرنسا. وبعد أن ألقت قوات فرانكو القبض على بولو، وفر هاربًا إلى الولايات المتحدة وصار مواطنًا أمريكيًّا وخدم في صفوف القوات الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية.

وطوال هذه الفترة لم يتمكن بولو من لقاء بيكاسو إلا عام ١٩٤٧ عندما كان هو وزوجته وولده الحديث الولادة يتنقلون في أرجاء أوروبا قبل الاستقرار في موزمبيق. بعدها تمكن بولو من زيارة بيكاسو بمرسمه في جولف-جوان على شواطئ الريفيرا الفرنسية. أراد بيكاسو أن يشكر لبولو جميله السابق فأعد له لوحته التي ذاع صيتها في العصر الحالي (مقاس ٢٤ × ٢٨ بوصة) وترمز إلى محاربة «دون كيشوت» لطواحين الهواء؛ وقد اختار بيكاسو أن يرسم هذه القصة إحياءً للذكرى الأربعمائة لميلاد ثيربانتيس (المولود عام ١٥٤٧ ميلادية)، ولتوضيح الصعوبات الشديدة التي واجهتها القوات الجوية الحكومية في حربها مع قوات فرانكو. ولكي يخصص بيكاسو اللوحة لبولو، عمد إلى تضمين اسمي آن وفينسنت بولو في صدر اللوحة، مقلدًا التوقيعات من رسالة قصيرة كان بولو قد تركها له. كان التاريخ المكتوب على اللوحة هو ١٠ مارس ١٩٤٧. وفى عام ١٩٥٥ رسم بيكاسو اللوحة نفسها بحجم أصغر (١٤ × ١٦ بوصة) وأهداها إلى صديقه بيير داييه، وهو ناشر وناقد فني في باريس، بعد أن غير التاريخ وأخفى اسم بولو إلى حدٍّ ما. وهذه هي اللوحة التي تحفظ الآن بالمتحف في سان دوني شمال باريس، وتُنسخ في حرية تامة لكل من يرغب في ذلك من المقتنين من جميع أنحاء العالم.

عاد بولو إلى أمريكا وعمل مدة ٢٤ عامًا بأقسام الهندسة في كلية بروكلين وجامعة نيويورك. وعندما أصيب بانتفاخ الرئة عام ١٩٧٩، قصد مؤسسة مزادات «سوثبيز» لعرض مقتنياته في مزاد عام لمصلحة زوجته وابنه، لكنه لم يكن يملك عقود شراء اللوحات، ومن ثَم رفض البائعون بالمزاد عرض مقتنياته للبيع. بل أخبروه أن أعمال بيكاسو كانت هدفًا مفضلًا للمزورين.

وفى عام ١٩٨٦ كان فريد بولو يبحث في آثار والده، فإذا به يجد مجموعة من الشرائح الفيلمية لصور فوتوغرافية التُقطت له في مناسبة تعميده عام ١٩٥٤. وفي واحدة من تلك الشرائح، ظهرت لوحة «دون كيشوت» بوضوح تام معلقة على أحد حوائط غرفة المعيشة. وقد التُقطت هذه الصورة قبل أن يأخذ بيير داييه لوحة «دون كيشوت» المصغرة ليعلن عنها للعالم.

انتصار العلم

حدد الدكتور ويليام كروفت، عالم الفيزياء في مختبر أبحاث المواد بووترتاون، تاريخ الشريحة التي حمضتها شركة «كوداك» من خلال إطار الشريحة الذي تغير في أوائل عام ١٩٥٥. من هنا، أثبتت شريحة بولو الشفافة وجود اللوحة الكبرى قبل الصغرى.

وبالمثل استعانوا بمعهد «ماكرون» للأبحاث للوقوف على مدى أصالة لوحة بولو لما لهم من خبرة سابقة في تحديد عمر لوحة «تورين شرود». وقد جاءت النتائج التي توصلوا إليها، وفي ذلك التأريخ بالكربون، لتؤكد بجلاء أن لوحة بولو تعود إلى ما قبل عام ١٩٥٥.

أحد خبراء الفن يدحض النتيجة

استُعين بمعهد أبحاث الفن بنيويورك ليسهم بمجهوده في الوقوف على مدى أصالة لوحة بولو. عرض المعهد اللوحة على جون ريتشاردسون، أحد الخبراء المعروفين في أعمال بيكاسو، فأعلن أن اللوحة مزورة.

لكن كيف أُقحم ريتشارد وايس في هذا الخلاف؟ كان فريد بولو قد لجأ إلى سانفورد، شقيق ريتشارد، ليساعده في إثبات أصالة اللوحة، ولجأ سانفورد بدوره إلى ريتشارد ملتمسًا نصيحته العلمية. عثر ريتشارد على عدد من الخبراء، وأوجز البروفيسور كروفت والبروفيسور ماكرين الأدلة العلمية القاطعة بأصالة اللوحة في الخطابين التاليين:
السيد جون ريتشاردسون
١٨٦ إي، شارع ٧٥
نيويورك، إن واي ١٠٠٢١
١٠ أكتوبر ١٩٩١

عزيزي السيد ريتشاردسون،

لقد فحصت أربع شرائح شفافة خاصة بالسيد بولو، وقارنت الإطار الكرتوني لهذه الشرائح بمجموعتي الكبيرة من الشرائح التي حمضتها شركة «كوداك» في مدينة روتشستر بنيويورك.

أستطيع أن أؤكد أن تصميم إطارات الشرائح الخاصة بالسيد بولو تتوافق مع الفترة من ١٩٤٨ إلى ١٩٥٥ في مجموعتي، وهي الفترة التي تغير التصميم بعدها. وأرفق بهذا الخطاب نسخًا من الشرائح المحمضة بواسطة شركة «كوداك» حتى يمكنك الرجوع إليها.

بالإضافة إلى ذلك يبدو لي أن لوحة «دون كيشوت»، التي يمكن رؤية جزء منها في إحدى الشرائح، كانت موجودة بين مجموعة السيد بولو قبل لوحة بيكاسو الشهيرة المرسومة باستخدام الطباعة الحجرية بتاريخ ١٠ مارس ١٩٥٥.

إنني أدرك أن شركة «كوداك» تفردت باستخدام هذا النوع من الإطارات. أما إطارات الشرائح والصور المتوفرة للعاملين المستقلين، فكانت ذات تصميمات مختلفة عن ذلك كثيرًا.

المخلص،
ويليام جيه كروفت
معهد ماكرون للأبحاث
٢٨٢٠ طريق ساوث ميشيجان
شيكاغو، إلينوي ٦٠٦١٦-٣٢٩٢ الولايات المتحدة الأمريكية
فاكس: ١٠٧٨-٨٤٢ (٣١٢)
هاتف: ٧١٠٠-٨٤٢ (٣١٢)
١٥ يونيو ١٩٩٣
السيد سانفورد وايس
جولدن ستيت فاينانشيال
٤٧١٧ طريق فان نويس
شيرمان أوكس، كاليفورنيا ٩١٤٠٣

عزيزي السيد وايس،

أود أن أعرض في إيجاز الأساس الذي عليه قامت استنتاجاتي بخصوص لوحة «دون كيشوت»، وهي لوحة زيتية على قماش أبعادها ٢٣٫٨٧٥ × ٢٧٫٨٧٥ بوصة. ولعل أدلة الأصل التي توصلت إليها بعناية تقطع بأن بيكاسو رسم لوحة «دون كيشوت» عام ١٩٤٧ كهدية لفينسنت بولو.

ولا شك أن الإقرار المسجل على شريط فيديو للسيد بولو عام ١٩٨٥ صادق في تقديم تفسير معقول لكرم بيكاسو مع السيد بولو. وقد تأثرت بشدة بما فعله بيكاسو من تضمين توقيع فينسنت بولو واسم زوجته (آن) في صدر لوحة «دون كيشوت». وقد أرفقت مع الخطاب الحالي نسخة من توقيع السيد بولو لكي تقارنه بالتوقيع الموجود في صدر اللوحة؛ فبينهما تشابه واضح. وفي الواقع إنني أجد ذلك مقنعًا للغاية. إنه يطابق تمامًا ما كتبه بيكاسو: «إلى صديقي فينسنت بولو» ثم توقيعه عليها بالتاريخ.

علاوة على ذلك، يتفق التاريخ المكتوب على اللوحة (١٠ مارس ١٩٤٧) مع رواية السيد بولو عن أسفاره وترحاله في ذلك الوقت: إنجلترا، فرنسا، جنوب أفريقيا ومرسم بيكاسو ومنزله. وقد حصل بيكاسو على توقيع السيد بولو من شهادة تطعيم ضد الصفراء كان قد وقعها (بولو) يوم ٢٦ نوفمبر عام ١٩٤٧ في لندن.

ثمة دليل آخر لا يكاد يقل أهمية؛ وهو الشريحة الشفافة التي ظهرت بها لوحة «دون كيشوت» وابن السيد بولو، والتي التُقطت عام ١٩٥٤، مما يثبت وجود اللوحة في ذلك الوقت. علاوة على ذلك، فإن أسلوب طباعة الشريحة الشفافة هو الأسلوب الذي كان متبعًا قبل عام ١٩٥٥. وقد تغير هذا الأسلوب عام ١٩٥٥. وبالرجوع إلى مجموعتي الخاصة من الشرائح التي جمعتها منذ عام ١٩٤٥ وحتى الآن، تأكدت من أن صورة السيد بولو لا بد أن تكون قد حمضت بواسطة شركة «كوداك» قبل مارس ١٩٥٥. وقد قدم إليك ويليام كروفت مقارنة مشابهة ونتيجة مماثلة، لكنه أضاف تواريخ استخدام نوعي إطارات الشرائح الشفافة. وقد كانت آخر المرات التي وضعت فيها شركة «كوداك» الشرائح الشفافة في الإطارات الأقدم في أوائل شهر مارس عام ١٩٥٥. وهذا يقطع بوجود صورة تبرهن على أن لوحة «دون كيشوت» الخاصة بالسيد بولو قد رُسمت في تاريخ سابق لشهر أغسطس ١٩٥٥.

وأذكر هنا أنه ليس لدى السيد بيير داييه أي دليل دامغ يدعم ادعاءه بأن بيكاسو سلمه لوحة «دون كيشوت» في أغسطس ١٩٥٥، لكن على أي حال تأتي التواريخ الموجودة على لوحته بعد فترة كبيرة من عام ١٩٤٧ الذي تأكدت الآن صحة وجوده على لوحة «دون كيشوت».

تشمل الأدلة الدامغة الأخرى التأريخ الكربوني للقماش التي رسمت عليها لوحة «دون كيشوت» الخاصة ببولو. فقد تبين أن التاريخ يأتي قبل «إلقاء القنبلة الذرية»؛ أي قبل عام ١٩٥٥. وعلى الرغم من أن نسبة الخطأ المعتادة في الكربون تقع ما بين ٥٠ إلى ١٠٠ سنة، فتأثير التجارب النووية التي بدأت عام ١٩٥٤ على الغلاف الجوي يجعل التيقن من وجود قماشة لوحة «دون كيشوت» الخاصة بالسيد بولو قبل عام ١٩٥٥ ممكنًا.

بالإضافة إلى ذلك، تتفق بيانات الألوان مع مجموعة الألوان التي استخدمها بيكاسو عام ١٩٤٧. ففي اللوحة ذات الخلفية البيضاء مع الألوان الداكنة، تعلن الخلفية عن استخدام بيكاسو لأبيض الرصاص ومحلول تبييض (كربونات الكالسيوم)، فيما تعلن الأشكال عن استخدامه لأسود العظام مع اللون اللازوردي. ويبدو أن إضافة اللون الأزرق هي إحدى مميزات اللوحات السوداء لبيكاسو في ذلك الوقت على الأقل. ومن أمثلة ذلك لوحة «المقبرة الجماعية» التي تنتمي إلى المرحلة الفنية نفسها، والتي استخدم فيها اللونان الأزرق والأسود معًا.

لقد أمضيت قسمًا كبيرًا من حياتي المهنية خبيرًا في القانون الجنائي في مجموعة متنوعة من القضايا الجنائية والمدنية. وعلى الرغم من أن لوحة «دون كيشوت» الخاصة ببولو ليست شأنًا قضائيًّا، فإن الأسلوب العلمي والتفكير المنطقي المتبعين للإجابة عن السؤال: هل رسم بيكاسو لوحة «دون كيشوت» عام ١٩٤٧، ولذلك فهي اللوحة الأصلية التي كانت لوحة متحف سان دوني نسخة تالية لبيكاسو منها؟ لا يختلفان كثيرًا عن أسلوب القضايا الجنائية. ولسوف أشعر براحة كبيرة وثقة بالغة لو أنني كنت شاهدًا خبيرًا في المحكمة يدعم أي إجابة بالإيجاب عن السؤال السابق. فالأدلة المشار إليها في هذا الخطاب هي في الواقع أكثر قوة وإقناعًا من أي أدلة تجتمع عادة لدى خبراء القانون الجنائي لدعم استنتاجاتهم.

انتهي هنا عرض الدفاع لأدلته يا سيدي.

المخلص،
والتر سي ماكرون

في محاولة من ريتشارد لإضافة المزيد إلى المنوعات الغنائية المعتادة في الحانة من مغنين وخلافه، أعد عروضًا خاصة لممثلين يجسدون شخصيات بعض المشاهير مثل: كالفين كوليدج، ودانيال ويبستر، وثيودور روزفلت، وأميليا إيرهارت، والقيصر بيل، وسالي فرانكلين، ولويزا ماي ألكوت. ويأمل ريتشارد أن تستمر هذه المحاولة التي أسماها «المستدعون إلى الحياة» في عرض مقابلات واقعية بين شخصيات تاريخية مشهورة وجمهور العصر الحديث.

ريتشارد وايس
١٤ ديسمبر ١٩٩٣
١  المركبات الحساسة: حقوق النشر وبراءة الاختراع لريتشارد جيه وايس، ١٩٩٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤