بروكهيفين
في عام ١٩٤٨، رحل جون باستا، وأيرا بيرنشتاين، وريتشارد وايس إلى مختبر بروكهيفين الوطني، حيث كانوا أول متخرجين في جامعة نيويورك يُعيَّنون في ذلك الموقع. ولم يكن الثلاثة يعرفون ما يمكنهم توقعه هناك. فقد أتموا جميعًا الدورات والمناهج الدراسية الخاصة بدرجة الدكتوراه؛ ولم يكن باقيًا سوى أطروحة الرسالة. وقد خصص المختبر لكل واحد منهم راتبًا، وشقة جديدة، ومشرفًا من قسم الفيزياء. وكان مشرف ريتشارد هو سايمون باسترناك، الذي أصبح فيما بعد رئيس تحرير مجلة «فيزيكال ريفيو.»
من ناحية أخرى، كان البروفيسور جو بويس، رئيس قسم الفيزياء بجامعة نيويورك، هو المشرف الأكاديمي لوايس. وإن المرء ليشفق على الدكتور بويس، فقد أغرته جامعة نيويورك بالعمل بها عن طريق وعده بإنشاء مبنى جديد لقسم الفيزياء بدلًا من مبنى الفيزياء العتيق ذي الطراز الفيكتوري الموجود في الحرم الجامعي ببرونكس. وبعد عشرة أعوام من الانتظار، فقد الرجل الأمل في ما وُعد به وتقدَّم باستقالته. وبعد أسبوع من الاستقالة، احترق المبنى عن آخره، ليعطي أول مؤشرات الإغلاق النهائي للحرم الجامعي ونقل الجامعة إلى ميدان واشنطن في مانهاتن. وقد أسرَّ بويس إلى ريتشارد بأنه لو كان قد أجَّل تقديم استقالته لذلك الأسبوع فقط، لظهر بمظهر الفأر الذي يفر من السفينة عند غرقها، ولاتُّهِم بإحراق المبنى متعمدًا. انتقل بويس بسعادة تامة إلى مختبر أرجون، وهو واحد ضمن سلسلة من مختبرات الطاقة الذرية التي شهدت نموًّا سريعًا بعد الحرب العالمية الثانية.
أُنشئ مختبر بروكهيفين، الذي يبعد ٧٣ ميلًا عن مدينة نيويورك، في موقع منشأة «كامب أبتاون»، التي يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الأولى، والتي اشتهرت بالمسرحية الموسيقية الهزلية «يب ياب يابهانك» للمؤلف إيرفينج برلين، والمسماة باسم إحدى المدن القريبة. ولا تزال أغنية ذلك العرض المسرحي، التي هي بعنوان «أوه! كم أكره الاستيقاظ في الصباح» تغنى إلى الآن تذكيرًا بالحرب العالمية الأولى. فبعد هجوم بيرل هاربر، أُنشئ المزيد من الثكنات العسكرية الخشبية لاستيعاب أعداد أكبر من المجندين القادمين من معسكرات التدريب. وفي نهاية الحرب، سُلمت المنشأة بالكامل إلى لجنة الطاقة الذرية بوصفها منشأة للأبحاث الذرية، على اعتبار أن مسافة ثلاثة وسبعين ميلًا بعيدًا عن نيويورك هي مسافة آمنة في حالة وقوع أي حادثة نووية. وقد أشرفت عشر جامعات من شرق الولايات المتحدة، بداية من جامعة هارفارد إلى جامعة بنسلفانيا، على تشغيل المنشأة. وقد أشيع أن الموقع اختِير بحيث يكون غير ملائم للجامعات العشر على حد سواء. فبينما كانت الرحلة إلى الموقع تستغرق ساعتين بالسيارة على الطريق الممتد من مدينة نيويورك، تزداد صعوبتها عند استخدام القطارات اليومية على خط سكك حديد لونج آيلاند السيئ السمعة، في فترة أصبحت فيها خدمة هذا الخط تشتهر عالميًّا بعدم إمكانية الاعتماد عليها.
أكد توم جونسون، رئيس قسم الفيزياء، لوايس أن المفاعل الذري الجديد سيصل إلى المرحلة الحرجة في غضون أسابيع. لكن للأسف، صمم مجموعة الجرافيت الضخمة اللازمة لتهدئة النيوترونات (أي لتقليل سرعتها) مجموعة فيزيائيين ذوو خبرة قليلة بالهندسة المدنية. وقبل بدء التشغيل مباشرة، يشاء حسن الطالع أن يكتشف أحد المهندسين الاستشاريين الخارجيين أن الهيكل لم يكن مدعومًا على النحو المناسب. وهكذا وجب إعادة تصميم المجموعة بالكامل، وإعادة بنائها، وهي عملية تستغرق عامين كاملين. ولو أن المفاعل بدأ في العمل حينئذٍ، لزاد نشاطه الإشعاعي إلى درجة لا يمكن معها السيطرة عليه، وربما أدى ذلك إلى أبشع الحوادث وأكثرها تكلفة في تاريخ لجنة الطاقة الذرية القصير. وعلى أي حال، ترك هذا ريتشارد في حيرة شديدة لا يدري ماذا يفعل.
ولكن قبل أن يشرع في إجراء أي أبحاث داخل المفاعل، كان على وايس أن يحصل على تصريح أمني خاص، فهناك العديد من المباني، ومنها المفاعل، لا يمكن أن يدخلها إلا أشخاص حصلوا على الدرجة الملائمة من التصريح الأمني. اعتبر الباحثون ذلك الإجراء ضررًا لا بد منه، وكان يؤدي في بعض الأحيان إلى وقوع احتكاك بين العلماء وضباط الأمن؛ فالعلماء من ناحية لا يرون في الأبحاث الأولية التي يجرونها قيمة كبيرة في نظر الروس، في حين ينفذ ضباط الأمن الأوامر الموكلة إليهم ليس أكثر. ولعل مشاعر العداء بين العلماء وموظفي الأمن قد تفجرت وبلغت ذروتها مثل قنبلة ذرية عندما افتُضح أمر كلاوس فوكس وآلان نان ماي وآل روزينبرج؛ وعندما قذف عضو البرلمان جو ماكارثي الرعب في قلوب العوام بالإشارة إلى تخفِّي الجواسيس الروس والمتعاطفين مع روسيا في كل ركن وزاوية.
كانت قضية كلاوس فوكس شديدة الإزعاج، حيث إنه كان فيزيائيًّا قديرًا عمل في مشروع مانهاتن وأصبح مطلعًا على معظم التفاصيل الأساسية للمشروع، فضلًا على كونه صديقًا للعديد من العلماء المهمين، رغم ما اشتهر به من الميل إلى العزلة. بالإضافة إلى ذلك، تمكَّن فوكس من أن ينقل إلى الروس تفاصيل تركيب القنبلة الذرية والمخططات الأصلية لمفاعل هانفورد. كان فوكس قد مر بظروف قاسية للغاية خلال نشأته في ألمانيا النازية. دفعه ذلك إلى اعتناق الشيوعية بوصفها فلسفة تمخضت عنها الحرب العالمية الأولى، وذلك لأنها تعد بإحلال النظام داخل المجتمعات المضطربة، ولكنه بعد أن ذاق مرارة الاضطهاد على أيدي النازيين، فر إلى إنجلترا. وظلت الشيوعية تعيش في أعماق نفسه. وعندما وُوجه بالتجسس، تعاون بإذعان مع السلطات. كان السير مايكل بيرين، رئيس المؤسسة البريطانية للطاقة الذرية، هو مَن حصل على اعتراف فوكس. وقد أخبر سير مايكل وايس بعد سنوات أن فوكس كان يتوقع عقوبة الإعدام بلا أدنى شك، غير منتبه إلى أن روسيا كانت حليفًا في الوقت الذي ارتكب فيه جرائمه.
بعد حصول ريتشارد على التصريح الأمني الخاص به وإتمام تجميع معداته التجريبية، كان بحاجة إلى مصدر للنيوترونات. ومن حسن الحظ أنه كان بالولايات المتحدة آنذاك مفاعلان ناشطان للأبحاث، أحدهما في أوك ريدج، والآخر في أرجون. وبفضل كرم كليف شول، الذي اكتشف بعد ذلك بوقت قصير المغناطيسية المضادة، وأصبح في وقت لاحق بروفيسور أبحاث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وحصل على جائزة نوبل؛ تمكن ريتشارد من الحصول على مكان في إكس ١٠، وهو الاسم الذي كان يطلق على موقع أوك ريدج.
وهكذا، وبعد أن تعلم القيادة، حمل وايس معداته التجريبية داخل السيارة الكبيرة التابعة لهيئة الطاقة الذرية ورحل إلى أوك ريدج بصحبة أندي ماكرينولدز، وهو موظف طويل ونحيل في مختبر بروكهيفين من أبناء تكساس تخصَّص في فيزياء الحالة الصلبة. وقد كانت طريقته البطيئة في التحدث التي تميز سكان الجنوب تتناقض مع فهمه العميق للفيزياء، وبسبب هذا البطء في التحدث بخسه العديد من الأشخاص حق قدره. وكانت الأوامر التي تلقاها أندي هي الاعتناء بوايس: «احرص على ألا يقتل نفسه!»
كانت التربة في أوك ريدج، نظرًا لغناها بأكسيد الحديد الأحمر وعدم احتوائها على صخور، يمكن أن تتحول بسرعة شديدة إلى طين لزج يلتصق بأي شيء. وكانت إزالة ذلك الطين عن الأحذية والملابس تحدث فوضى حقيقية! وبخصوص وايس، الذي التقى ببعض الجنوبيين على متن السفن أثناء الحرب ووجد قضية التمييز العنصري ضد السود مقززة ومثيرة للخصومة والعداء، فقد أدرك أنه الآن أصبح في معسكر الأعداء. ولحسن حظه، كان انشغاله بالفيزياء دائمًا حتى إنه حال دون اشتراكه في أي مناقشة حول القضايا الاجتماعية.
كان موضوع أطروحة الدكتوراه الذي يحمل عنوان «تشتت النيوترونات بزوايا صغيرة» يتضمن إرسال شعاع متوازٍ جيدًا من النيوترونات البطيئة عبر عينات من جسيمات صغيرة. وتمامًا كما ينكسر الضوء عند اصطدامه بسطح زجاجي، يُتوقع أن تسلك النيوترونات سلوكًا مشابهًا، بِناءً على معامل الانكسار وحجم الجسيم. وكانت الشركات في تلك الأيام الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تسعى جاهدة لمد لجنة الطاقة الذرية بعينات صغيرة من منتجاتها، ونتيجة لذلك تمكَّن وايس من جمع أعداد كبيرة للغاية من مساحيق مختلف المواد مجانًا. وبدأ وايس العمل. وبعد أشهر عديدة من تناول أطعمة الجنوب مثل لحم الخنزير وعصيدة الذرة، وإزالة الطين الأحمر عن ملابسه، وإجراء تجارب عديدة على تشتت شعاع النيوترونات، تمكن من جمع ما يكفي من البيانات لمقارنتها بحساباته النظرية وصياغة كل ذلك في فرضية علمية. فما الذي أثبته؟ لقد تمكن من إثبات صلاحية استخدام مفهوم معامل الانكسار مع النيوترونات كما هو مع الفوتونات، ولا عجب في ذلك. ولكن، كان لا بد أن يثبته أحدهم علميًّا. وهكذا عاد ريتشارد إلى بروكهيفين حيث التمدن والتحضر لكتابة بحثه، ولم ينسَ قط كرم كليف شول وتعاونه. وبعد أعوام من ذلك، لمح وايس للبروفيسور سلاتر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بأن شول يمكن أن يكون إضافة جيدة إلى موظفي مفاعل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وبالفعل أفلحت خطة وايس. وكان لدى شول بعض الأبناء الذين قاربوا سن الالتحاق بالجامعة، وكان أعضاء هيئة التدريس بالجامعات يتمتعون ببعض المزايا الخاصة التي تُمنح لذريتهم.
كان مختبر بروكهيفين وجهة يؤمها العديد من علماء الفيزياء البارزين في أسفارهم، ومن ثَم حظي وايس بلقائهم جميعًا عدا ألبرت أينشتاين الذي لا يتذكر أنه قابله. وحتى العلماء الأقل شهرة كانوا يأتون. فقد التقى وايس بروبرت ماكسويل للمرة الأولى عام ١٩٤٩ حين كان ماكسويل يعد رسالته في بروكهيفين. وسرعان ما طلب ماكسويل من وايس تأليف كتاب لدار نشر «برجامون بريس» التي يمتلكها ماكسويل، ولكنَّ وايس تجنب الحديث في هذا الأمر؛ لأنه كان يدرك القيود العلمية المفروضة عليه في تلك المرحلة من حياته المهنية.
لم يستطع وايس الشاب أن يتمالك نفسه من الانبهار بذلك الرجل الطويل صاحب الحضور والوسامة، الذي يجمع بين السلطة والجاذبية. وكان ماكسويل آنذاك في مستهل طريقه كناشر علمي وكان يجوب أمريكا بحثًا عن مؤلِّفين. وكان رأس المال الذي يمتلكه في تجارته آنذاك هو قدرته الكبيرة على الإقناع ومجموعة من الألقاب التي نزعتها عنه دار النشر الألمانية «سبرينجر فيرلاج» بموجب قوانين الملكية الأجنبية.
يذكر وايس أن زوجة ماكسويل أخبرته أنه قبل عام واحد حذر الأطباء ماكسويل من إصابته بمرض خطير، ونصحوه بأن يعيد ترتيب أولوياته في الحياة. ولم يمكن قط التعرف على طبيعة ذلك التشخيص الخاطئ، حيث تماثل ماكسويل للشفاء سريعًا. وفي أحد لقاءات العشاء التي كانت تجمع عددًا من الشخصيات المهمة في مختبر بروكهيفين، أخبر سام جودسيمت وايس بأنه قد التقى في حياته العديد من رجال الأعمال المنعدمي الضمير من أمثال ماكسويل. وقد قبحت هذه العبارة المدهشة صورة ماكسويل، ودائمًا ما كانت عالقة بذهن وايس، وتأكدت أهميتها من خلال الأحداث التي أعقبت ذلك.
بعد عشر سنوات، استقرت دار نشر «برجامون بريس» في ميدان فيتزروي بلندن، حيث شيد ماكسويل إمبراطوريته على اكتشاف بسيط هو أن المكتبات تُقبل بتلقائية على شراء المجلدات العلمية، دون النظر إلى جودة الكتابة. وبهذه الفلسفة وتلك الطريقة، كان ماكسويل في طريقه إلى قلب أوضاع إحدى الصناعات الجادة الجيدة التي تديرها دور النشر الإنجليزية. وكان ماكسويل يجرب أيضًا استخدام العديد من الأسماء، منها: آي آر ماكسويل، وكابتن روبرت ماكسويل (حيث خدم بإخلاص وتميز في الجيش)، وإيان آر ماكسويل، وأخيرًا اسمه الصريح، السيد روبرت ماكسويل.
وعندما شغل هارفي بروكس، أحد أساتذة الفيزياء المرموقين بجامعة هارفارد، منصب رئيس تحرير إحدى الصحف الجديدة التي يمتلكها ماكسويل، استنتج وايس أن دار نشر برجامون قد أصبحت جديرة بالاحترام، وشارك بمقال في الإصدار الأول منها. كما أنه قرر قبول العرض الذي قدمه له ماكسويل منذ عشر سنوات بتأليف كتاب علمي وطرح تلك الفكرة عن طريق بروكس. وبعد ذلك بوقت قليل، وقَّع وايس عقدًا مع «برجامون بريس» لتأليف أحد الكتب عن فيزياء المواد الصلبة. وأثناء وجوده في لندن للعمل مدة عام في الكلية الملكية، ذهب لزيارة المقر الرئيسي لبرجامون بريس في ميدان فيتزروي.
فور دخوله المكتب، أراه ماكسويل نسخة من الأوراق التي يطبع عليها اسم مؤسسته وعنوانها، والتي احتوت على إعلان عن ترشحه للبرلمان تحت راية حزب العمال في باكنجهام. وكانت صورة جميلة للمرشح تزين الورقة، وقد سمى نفسه أسفلها كابتن آي آر ماكسويل، إم سي، وهذا الاختصار الأخير يشير إلى الوسام العسكري الذي حصل عليه. وقد أخبر وايس أيضًا أن إمبراطورية برجامون كانت تتوسع بما يفوق سعة مقرها الرئيسي في لندن، وأنه قرر الانتقال إلى هيدنجتون هيل هول في أكسفورد، حيث أنشأ مقرًّا فخمًا يتناسب أكثر مع أسلوبه ويمكنه من العيش في المبنى نفسه. وقبل أن ينصرف وايس، تلقى ماكسويل مكالمة هاتفية وكان رده على المتصل: «لماذا» بإحدى اللغات الأجنبية العديدة التي يجيدها. وعندما أغلق الهاتف في وجه المتصل بعد أن عنفه بقوة، تحول إلى وايس قائلًا: «تلك هي الطريقة الوحيدة التي تصلح لمخاطبة الألمان.» والأرجح أن خلفية ماكسويل اليهودية والتشيكية صبغت نظرته للأمور.
وحينما كان وايس يناقش تنسيق كتابه مع عدد من موظفي ماكسويل، كثيرًا ما كانوا يتطرقون إلى الحديث عن شخصية ماكسويل. وقد عرف وايس أن ترشح ماكسويل المعلن للبرلمان أوجد مشاعر متباينة بين الغالبية العظمى من موظفي برجامون. فإذا وُفِّق كابتن ماكسويل إلى النجاح، فسيعني ذلك أن ينشغل عنهم ويستريحوا من إزعاجه، ولكن ما الذي سيعنيه للبلاد؟ وسرعان ما انتشرت حكايات عن استغناء ماكسويل عن جميع موظفيه ظهر أحد أيام الجمعة. وكان أحد زملاء وايس ممن يتعاملون مع دار برجامون كثيرًا قد أخبره أن ماكسويل يسدد للكُتَّاب مستحقاتهم بعد خصم ٥٪ منها، وكان أصحاب الأموال يتغاضون عن ذلك الخصم المفروض عليهم. ولو أن أحدهم تذمر وكرر الشكوى، فقد يفقد الجزء المتبقي من أمواله في النهاية.
ليس هناك شك في أن ماكسويل قلب موازين صناعة نشر الكتب العلمية من خلال سياسة الإنتاج الغزير التي اتبعها، وما زال الجدل دائرًا حول ما إذا كانت النتيجة النهائية في مصلحة المجتمع التقني أم لا. لقد كان وايس — على سبيل المثال — مسرورًا بكل تأكيد بطريقة تصميم كتابه والتعامل معه.
وبعد عام من ظهور كتاب وايس، بعث إليه باحث فيزيائي يجري أبحاث ما بعد الدكتوراه خطابًا بالفرنسية من تشيكوسلوفاكيا (موطن ماكسويل الأصلي)، ذكر فيه أنه يستحيل عليه توفير العملة الصعبة اللازمة لشراء كتابه. وجه وايس ذلك الخطاب إلى ماكسويل الذي أكد له أن مخزون النسخ الاحتياطية لديه قد نفد وأنه يأسف كثيرًا لعدم تلبية مطلبه. وبعد مضي شهر تلقى وايس رسالة موجزة من ذلك الباحث في براغ يشكره فيها على النسخة التي جاءته من الكتاب! لقد كان ماكسويل متقلب المزاج ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته!
مر عقد كامل من الزمن قبل أن يرى وايس صورة ماكسويل في إحدى الصحف اللندنية. في ذلك الوقت، كان ماكسويل توسع توسعًا كبيرًا وكان في طريقه إلى توسيع دائرة منشوراته لتتجاوز مجال العلوم، وفي اتجاه يؤدي به في النهاية إلى أن يكون من الأهمية بحيث يصير حديث وسائل الإعلام. وكان قد أنهى مدة خدمته في البرلمان، واستطاعت البلاد البقاء رغم ذلك.
في ذروة الحرب الباردة، نشر ماكسويل دليل معلومات عن الاتحاد السوفييتي (فقد كانت اللغة الروسية إحدى مهاراته). كان ذلك الدليل بمنزلة محاولة لإزالة الحواجز بين الشرق والغرب. وفي العدد الصادر من مجلة «صنداي إكسبريس» اللندنية في ٨ ديسمبر ١٩٩١، ظهر ماكسويل مع جورباتشوف وهاورد بيكر وهم يضحكون. وأشارت العناوين الرئيسية إلى أن ماكسويل رتب لحصول روسيا على قرض بعدة مليارات من الجنيهات الاسترلينية، وأن بيير سالنجر (سكرتير الرئيس الأمريكي جون كيندي) كان مطلعًا على المناقشات الدائرة بشأن هذا القرض.
لعب ماكسويل أيضًا دورًا كبيرًا في حمل الروس على احترام اتفاقيات حقوق ملكية الكتَّاب والمؤلفين. وكان وايس على علم تام بهذه المشكلة. فبعد أن نشرت «برجامون بريس» كتابه، ترجمت إحدى دور النشر الروسية الكتاب دون ترخيص. وكان نصيب وايس هو نسخة هدية.
ثم جاء الفصل الأخير من قصة ماكسويل بموته الغامض غرقًا. وبصرف النظر عن عمليات التلاعب المالي المعقدة التي كان ماكسويل يمارسها، فقد ترك بصمة واضحة في مجال النشر العملي، فضلًا عن رحيله عن العالم بطريقة درامية. وكانت لماكسويل أسرة كبيرة، ولكن اثنين فقط من أبنائه أخذا على عاتقهما مسئولية الاهتمام بمكائد والدهما المالية. ونظرًا لأن وايس لم يسبق له العمل لحساب ماكسويل قط، فقد رأى فيه شخصًا لطيفًا. فعندما يكون المرء في حضرة ماكسويل، فإنه يعرف يقينًا أن أي أعمال مطلوبة سوف تُنجز.
مع انتهاء فرضية وايس العلمية وقبولها في عام ١٩٥٠، انتهت منحته الجامعية في بروكهيفين. وبات عليه الآن أن يدخل معترك الحياة الجاد ويحصل على الوظيفة الحقيقية الأولى في حياته، في ظل اقتصاد كان قد بدأ في اتباع سياسة التوفير، في الوقت الذي كانت فيه الدولة تقتصد في نفقاتها بعد الحرب. كان وايس قد افتُتن بإجراء الأبحاث وتمنى أن يظل في بروكهيفين؛ لإجراء تجارب انحراف النيوترونات في ذلك الوقت الذي أصبح فيه المفاعل جاهزًا لبدء العمل. لم تكن ميزانية مختبر بروكهيفين تستطيع تحمل عضوٍ آخر يضاف إلى فريق الأبحاث (هكذا قيل له)، ولكن توم جونسون أكد له أنه إذا تحملت أي منظمة خارجية دفع مرتبه، فسيمكنه الاستمرار في إجراء أبحاثه داخل المفاعل.
ذهب وايس بعد ذلك إلى مختبرات بيل لإجراء مقابلة للحصول على وظيفة. استقبله كل من شوكلي وبراتين بالترحاب، وشرحا له أبحاثهما التي ستنال في المستقبل جائزة نوبل، على السيليكون شبه الموصل.
سأله شوكلي: «ما الذي يمكنك عمله باستخدام النيوترونات كي تساعدنا في تطوير السيليكون؟»
لم يعرف وايس كيف يجيب عن هذا السؤال، فأعاد شوكلي صياغة السؤال قائلًا: «ما الذي «يمكنك» عمله بوساطة النيوترونات؟»
مرة أخرى هز وايس رأسه، فقد كان قليل الخبرة بحيث لم يستطع الإدلاء بأي تصريح مثير سوى أن قدم شرحًا مختصرًا لفرضية نيل درجة الدكتوراه. تقدم وايس للحصول على وظيفة في شركات مثل «جنرال إلكتريك»، و«سيلفانيا»، وربما بعض الشركات الأخرى، لكن لم تقبل أي شركة بتوظيفه، وبدأ الوقت ينفد من وايس. وأخيرًا جاءت المساعدة من توم جونسون الذي تحدث إلى الدكتور إتش إتش ليستر، أحد أصدقائه القدامى في مختبر «ووترتاون أرسنال»، وهو مركز لتطوير المعدات الحربية وأبحاثها بالقرب من بوسطن. وكان الدكتور ليونارد جافي، الذي تخرج في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هو قائد الفريق لدى ليستر، على استعداد للمخاطرة ووقع وايس عقد العمل بوصفه موظفًا حكوميًّا، وتلقى تعليمات بمواصلة أبحاث النيوترونات التي كان يجريها في مختبر بروكهيفين. وعلى الرغم من أن العمل لحساب الحكومة كان يعد إهانة في رأي باحث فيزيائي، فقد كانت بنود التعاقد تضم العديد من الميزات التي كانت كافية ليبتلع وايس كبرياءه.
كان مناخ البحث السائد في العلوم كافة يفرض على العلماء قليلًا من المتطلبات من أجل تطوير أي شيء ذي فائدة من الناحية الاجتماعية. وجد وايس نفسه يحصل على الدعم اللازم لإطلاق العنان لخياله، متحملًا مسئولية جزئية أمام مديره المباشر، ومسئولية أخرى كاملة أمام سلطة أقوى وأكبر هي قوانين الطبيعة. استمر ذلك المناخ في أمريكا مدة عشرين عامًا حتى عرف في النهاية أن ميزانيات الأبحاث ستتعدى في يوم من الأيام إجمالي الناتج المحلي. اليوم يلعب حافز الأرباح «النهائية» دورًا مهيمنًا وسائدًا، بطريقة تجعل قوانين الطبيعة «تتسع» أو «تُلوى» حتى يمكن بيع أبحاث العلماء.
أصبحت أروقة مبنى الفيزياء في بروكهيفين مكانًا مألوفًا لقدر هائل من اللغو بين العلماء أثناء مرور بعضهم على بعض عند الذهاب والإياب من دورة المياه. كانت هذه الخصلة متأصلة في سام جودسميت الذي كان مستعدًّا دائمًا للتوقف والثرثرة. وذات مرة عثر سام على إحدى المكتبات التي كان بها بعض النسخ المتبقية من كتابه «ألسوس». فاشتراها جميعًا وباعها بعد التوقيع عليها باعتباره المؤلف بتكلفة زادت سنتًا واحدًا لمن رغبَ في الشراء. كان ذلك السنت ثمنًا لتوقيعه. وقد فهم وايس محتويات الكتاب بشغف كبير؛ لأنه كان يتناول البحث عن «أوك ريدج» الألمانية، وفيه ملخص عن أكبر عشرة علماء نوويين ألمان، ومن بينهم هايزنبيرج، وهان، وفون فايتسكر، وفون لاوي، وجيرلاخ، وغيرهم، وعن سجن هذه المجموعة في معسكر «فارم هول» بالقرب من كامبريدج. وكثيرًا ما أشار جودسميت في كتابه وفي أحاديثه مع وايس إلى بعض العبارات التي أدلى بها هؤلاء العلماء الألمان أثناء سجنهم.
وسأله وايس: «وكيف عرفت ما قالوه؟» فاكتفى جودسميت بالابتسام.
ومع مرور الوقت، ألح وايس على جودسميت بالسؤال إلى أن حصل على جواب أخيرًا.
أجاب جودسميت هامسًا: «كان المكان به أجهزة تنصت.»
سأل وايس: «ألم يكن ذلك غير قانوني؟»
عاد جودسميت للابتسام مرة أخرى. فرغم مخالفة استخدام أجهزة التنصت لقواعد اتفاقية جينيف، كان آر في جونز، المستشار العلمي الشاب ذو الشعر الجميل لتشرشل، هو من وضع أجهزة التنصت. ولما يقرب من خمسين عامًا كانت نسخ هذه التسجيلات السلكية محفوظة بسرية تامة في وزارة الخارجية البريطانية. وفي أعوام تالية اكتشف وايس أن جونز يشاركه إعجابه بشخص بنجامين فرانكلين والتقيا على العشاء ذات مرة. ولكن للأسف، ما كان جونز ليذكر أي شيء عن أجهزة التنصت.
وخلال الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، ثار جدل واسع بعد إطلاق سراح العلماء الألمان المحتجزين في فارم هول. ونقلت الصحف عن هايزنبيرج إنكاره أن مجموعة اليورانيوم التي ترأسها هو وجيرلاخ كانت تهدف لصنع القنبلة الذرية، وتأكيده أنها كانت موجهة لأهداف سلمية. كان جودسميت قد فقد والديه في أحد معسكرات الاعتقال الألمانية، ومن ثَم فقد كان منزعجًا عاطفيًّا تجاه إعلان هايزنبيرج أنه بريء. هذا بالإضافة إلى أنه كان مطلعًا على التسجيلات السرية على الرغم من عدم قدرته على الإقرار بوجودها. وقبل أن يرحل وايس عن بروكهيفين، حضر محاضرة ألقاها الأستاذ الزائر هايزنبيرج وقدم لها جودسميت. وقد أشار جودسميت إلى وجود اختلافات بينه وبين هايزنبيرج، لكنهما قررا دفن الكراهية. وفي النهاية، كتب وايس رواية إذاعية عن قصة معسكر فارم هول بثتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قبل عام من الإفراج عن نسخ التسجيلات في عام ١٩٩٢. ولا يزال ذلك الموضوع مثار جدل واسع، ونوقِش بكثير من التفصيل في كتاب «حرب هايزنبيرج» للمؤلف توم باورز، دار نشر نوبف، نيويورك، ١٩٩٣.
في تلك الفترة، تولى جودسميت رئاسة تحرير مجلة «فيزيكال ريفيو» مع مساعده، سي باسترناك. وذات مرة، تلقَّى جودسميت بحثًا نظريًّا مطولًا من جون ويلر حول نظرية الانشطار. قال جودسميت معلقًا على ذلك إنه إذا تطلب شرح نظرية الانشطار ١٠٠ صفحة من المعادلات من صفحات «فيزيكال ريفيو»، فذلك معناه أن ويلر لم يفهمها. كان ذلك القول ينطوي على درجة كبيرة من الصحة تمامًا مثل قولنا إن «الرياضيات تعوق الفهم.»
تفاخر جودسميت ذات مرة بأنه يتمتع بذاكرة حديدية، فطلب منه وايس أن يثبت ذلك بالدليل. رسما على الفور مخططًا عشوائيًّا معقدًا على سبورة سوداء، وتأملها جودسميت دقيقة ثم غطى وايس المخطط. وبعد شهر كامل تمكن جودسميت ببراعة من إعادة رسم الشكل.
بعد فترة قصيرة من تولي جودسميت رئاسة تحرير «فيزيكال ريفيو»، قدم عدد من الأساتذة في قسم الرياضيات بإحدى الجامعات المشاركة ورقة بحثية. أجرى هؤلاء العلماء تجربة إدراك فائق للحس حول تخمين ورق اللعب، وحللوا البيانات وفقًا لتحليل إحصائي مقبول. ولم يجد رئيس التحرير خطأً في الأمر؛ لقد تمكنوا من الوصول إلى نتيجة صغيرة لكنها إيجابية. فما الذي يفعله رئيس التحرير؟ هل ينشر ذلك البحث؟ اجتمع المحررون معًا وتراجعوا عن النشر. فلو صدَّقوا تلك النتيجة، فسيعني ذلك ضمنيًّا أن العلماء يمكنهم التأثير في نتيجة تجربة ما من خلال رغبتهم في ذلك (القدرة على تحريك الأشياء عن بعد أو السيكوكينيزيا)، وذلك مرفوض تمامًا في عالم الفيزياء.
كانت حفلات الحدائق مألوفة للغاية في بروكهيفين، وقد أتاحت لوايس فرصة التحدث مع كثير من الشخصيات المعروفة، مثل يوجين ويجنر صاحب الحديث اللين، وأبراهام بايس الشديد الأناقة، وروبرت أوبنهايمر الساحر، وإدوارد تيلر صاحب الهيبة، وجيلين سيبورج شبيه أبراهام لينكولن، وآي رابي شبيه نابليون، وكثيرين غيرهم. ويا له من تعارف عظيم الفائدة إلى مشاهير عالم الفيزياء في ذلك الوقت لفيزيائي صغير.
وصل عالِم معهد ماساتشوستس الأسطوري، جون سي سلاتر، إلى مختبر بروكهيفين ليقضي عامًا به، وكان مكتبه مجاورًا لمكتب وايس. وقد أحضر معه أربعة من تلاميذه هم: كلاينر، وبارمينتر، وشفينلر، وكوستر. وعندما سأل وايس سلاتر عن السبب وراء اختيار تلاميذ تنتهي أسماؤهم بحرف الراء، أجابه سلاتر بأنه لم ينتبه لتلك الملحوظة مطلقًا. وقد قدر وايس إمكانية حدوث ذلك عشوائيًّا بواحد في المليون.
كان سلاتر قد ألقى سلسلة من المحاضرات في الفيزياء الذرية النظرية بأسلوب متقن لا عيب فيه ولم يسمع وايس مثله من أحد قبله. ومن وجهة نظر وايس، ليس هناك من يرقى أسلوبه إلى أسلوب سلاتر في السلاسة ووضوح الشرح والإلقاء سوى دي آلين بروملي، المستشار العلمي الحالي للرئيس الأمريكي.
وقد امتدت هذه البراعة في الإلمام التام بالإنجليزية إلى كتابات سلاتر. فقد عُرف عنه أنه يكتب على الآلة الكاتبة العديد من كتبه الدراسية في يوم واحد أو يومين. وقد علم وايس بعد ذلك أن سلاتر إنما حضر إلى بروكهيفين كي يتمكن من تدبر متطلبات الإقامة من أجل طلاقه. لكن الأهم هو أن دروس سلاتر أوجدت في وايس ولعًا عظيمًا بموضوع التركيب الذري، وأصبح يتطلع إلى الرحيل عن بروكهيفين من أجل العودة إلى ووترتاون وإجراء عمليات تحديد مواقع الإلكترونات على الذرات باستخدام الأشعة السينية. ولو كانت لدى وايس أي معرفة مسبقة بكثرة المشكلات التي يتضمنها العمل في ذلك المجال، فلربما جرب العمل في شيء آخر. لكن على أي حال، كان وايس قد تشبع من دراسة النيوترونات، وكان متلهفًا لتجربة شيء آخر مختلف.
تضم ميكانيكا الكم العديد من التكهنات عن الإلكترونات الموجودة حول الذرات، وتتناول تلك الفرضيات بصفة أساسية طاقات تلك الإلكترونات، ومواقعها، وكمية حركتها. وقد جاء الجزء الأكبر من النجاح المبكر لميكانيكا الكم نتيجة لقدرتها على حساب مستويات الطاقة الكمية القابلة للقياس المرتبطة بالخطوط الطيفية البصرية التي تنبعث عند إثارة الذرات. ويمكن أيضًا التنبؤ بالمواقع التي تمر خلالها الإلكترونات أثناء دورانها حول الذرات، لكن أحدًا لم يبذل جهدًا من قبل لقياس هذا عن طريق تشتيت الأشعة السينية عن الذرات. وعندما أخبر وايس سلاتر بعزمه إجراء هذا القياس، شجَّعه سلاتر بشدة على ذلك. ولو أن أحد أتباع منهج التجريب موجود، فلربما كان قد تمكن من إثنائه عن القيام بذلك. فدائمًا ما يكون الحمقى طائشين ومتهورين ….
كان جار وايس في مدينة بروكهيفين فيزيائيًّا شابًّا يدعى آرثر فاش، وكانا كثيرًا ما يلتقيان، ونشأت بينهما علاقة صداقة. وعندما رحل وايس عن بروكهيفين، انقطعت علاقاتهما مدة «أربعين عامًا». وفي عام ١٩٩٠، أثناء وقوف وايس بصحبة أحد معارفه في محطة قطار «باك باي» المزدحمة، وقع شيء أضحكه ضحكة مسموعة، وسرعان ما وجد شخصًا «غريبًا تمامًا» يقترب منه ويحادثه.
– «لقد اقتربت بعد أن تعرفت على تلك الضحكة. ألست ديك وايس؟»
– «نعم، أنا هو.»
– «أنا آرثر فاش.»
ونظرًا لأن فاش كان قد فقد شعر رأسه بالكامل، لم يتمكن وايس من التعرف عليه، ولم يتمكن فاش أيضًا من التعرف عليه. لكن أن يتعرف المرء على صوت ضحكة بعد أربعة عقود كان شيئًا أدهشهما كليهما، وهو شيء يؤكد صحة بعض الحقائق الفيزيائية المثيرة عن أنماط تخزين المعلومات السمعية لدى البشر. يمكن للإنسان تمييز مئات الأصوات وآلاف الوجوه في أقل من ثانية واحدة. ولكن كيف تُخزَّن المعلومات وكيف تُسترجَع؟ هذا ما لا يعرفه العلماء حقًّا.
أثناء إقامة وايس المؤقتة في بروكهيفين، هاتفه أحد كبار علماء ووترتاون في ٢٩ يونيو ١٩٥٠، قبل يوم واحد من نهاية السنة المالية في ٣٠ يونيو.
– «ديك، إنه أنا لاري فوستر. لقد تلقيت توًّا مكالمة من واشنطن تخبرنا بأن لديهم فائضًا في الميزانية بمبلغ ربع مليون دولار. فهل يمكننا أن ننفق هذا المبلغ دفعة واحدة بحلول الغد، حتى لا نفقده؟»
– «هذا مثير! هل تريدني أن أنفقها لك؟»
– «لا، لكنني كنت أفكر في شراء أحد مسرعات فان دي جراف، بقوة مليونَي فولت.»
أطرق وايس حينًا ثم قال: «يعني ذلك عشرة فولتات لكل دولار تقريبًا. لكن ماذا ستفعل به؟»
– «لست أدري، لكن يمكننا أن نعيِّن شخصًا ما لاستخدامه.»
تبسم وايس قائلًا: «إذا كان لا بد من إنفاق المبلغ كله دفعة واحدة، وكان من الإثم أن نفقده، فليس لديَّ اقتراح أفضل مما قلته.»
أنهى لاري المكالمة الهاتفية وحادث وايس بعد يومين من ذلك.
– «لقد جلست أنا والمحامون مع المسئولين في مؤسسة هندسة الجهد العالي، ووقعنا عقدًا للحصول على مسرِّع. وقد طلبت إليهم تصميم مسرِّع ذي رأسين حتى يمكننا أن نسرع حركة البروتونات أو الإلكترونات. ورغم أنهم لم يصمموا قط مسرِّعًا بهذه المواصفات، فقد وقعوا العقد.»
قال وايس: «ممتاز!»
أنهى لاري تلك المكالمة الهاتفية ثم هاتف وايس بعد شهر من ذلك.
– «حاول العاملون بهندسة الجهد العالي تصميم مسرِّع ذي رأسين، لكنهم توصلوا في النهاية إلى أن ذلك الأمر غاية في الصعوبة. ومن ثَم، قرروا أن يعطونا مسرِّعين منفصلين، أحدهما للبروتونات والآخر للإلكترونات، بالتكلفة نفسها.»
بعد أشهر قليلة، أرسلت مؤسسة هندسة الجهد العالي الجهازين، لكنَّ مسئول الشراء في ووترتاون رفض تسلمهما. وأصر على أن العقد الحكومي المبرم ينص على تسليم جهاز واحد فقط ولا بد من الالتزام بالعقد.
أرسلت المؤسسة تبعًا لذلك شاحنة التسليم الخاصة بها لجلب الجهازين الكبيرين وإعادتهما إلى المصنع وتثبيت لوحتي التحكم معًا وإعادة كتابة بوليصة الشحن ثم معاودة تسليمهما. وهكذا وافق مسئول الشراء على أن ذلك جهاز واحد. ولكن القصة لم تنتهِ هنا. فمع الأسف، لم تخصص أي أموال لحماية الجهازين الضخمين من الإشعاع العشوائي المنبعث عند تشغيلهما، وبذلك ظلت الأجهزة في مخزن ووترتاون سنوات. وفي النهاية، أُعطي أحد الجهازين لمعهد أبحاث ستانفورد.
اكتشف كليف شول خلال تلك الفترة المغناطيسية المضادة في أكسيد الماغنسيوم، وهي نسق منظم من المغناطيسية على كل ذرة ماغنسيوم، لكن مع تبادل اتجاهات القطبين الشمالي والجنوبي، بحيث لا يمكن جذب المادة من خلال قضيب مغناطيسي. ولكن النيوترونات كانت صغيرة بما يكفي لفحص التركيب الذري لكل ذرة ماغنسيوم، وتحديد اتجاهها المغناطيسي. وبعد ذلك الاكتشاف بوقت قصير، اكتشف الكثير من المواد المغناطيسية من خلال الانحراف النيوتروني، وقد استمرت الدراسة في ذلك الباب من العلوم إلى الوقت الحالي. ولم يصبح وايس مفتونًا بعملية تعيين مواقع الإلكترونات على الذرات بالأشعة السينية فحسب، ولكن صارت مواقع الإلكترونات في المواد المغناطيسية أكثر إثارة وتشويقًا.
لم يعرف أحد قط السبب وراء اقتصار المغناطيسية الحديدية على عناصر معينة فقط مثل الحديد، والنيكل، والكوبالت، والجادولينيوم؛ ٤ عناصر فقط من بين ١٠٠ عنصر أو نحو ذلك. وقد قدم المنظِّرون من أمثال سلاتر وهايزنبيرج بعض الأفكار التي تفسر ذلك، وبارك المجتمع العلمي تفسيراتهما. لكن فور أن بدأت النيوترونات في كشف المواد المغناطيسية، أدرك الجميع أن الأمر أعقد بكثير مما افترض المنظِّرون. وقال أينشتاين ذات مرة إنه: «يجب تبسيط الأشياء قدر المستطاع، لكن ليس أكثر مما ينبغي.» ويتضح الآن أن المغناطيسية — مثلها مثل الموصِّلية الفائقة — أعقد مما تصور البعض، وعمليات الاستكشاف والدراسة المستمرة تثير تساؤلات أكثر من تلك التي تجد إجابة لها. وعلى الرغم من أن نظريتي الموصِّلية الفائقة والمغناطيسية قد حصدتا جائزة نوبل، كلٌّ على حدة، فإن لجنة نوبل ليست معصومة من الخطأ، فضلًا عن أنه لا يمكن استرجاع الجوائز أو إلغاؤها.
كان والتر نايت، أحد طلبة الدراسات العليا من هارتفورد، يقطن بالشقة المجاورة لشقة وايس في بروكهيفين. وذات مساء وصل إلى المنزل مغتبطًا للغاية؛ إذ كشف قياس الرنين المغناطيسي الذي قام به عن وجود النحاس في حالته الصلبة. كان الاعتقاد الشائع هو أنه لا يمكن إجراء أي قياس على المعادن حيث إنها موصلات جيدة جدًّا للكهرباء. لكن المفاجأة هي أنك إذا أمعنت في النظر، فيمكنك العثور عليه بوضوح على الرغم من تحول الرنين المغناطيسي. وقد أُطلق على تلك الظاهرة بعد ذلك «تحول نايت». وكما أصر سيربر على أن وايس وفاولز كانا مخطئين، تأثر نايت سلبًا بأحد الخبراء الذين جانبهم التوفيق في أن يدركوا أن الطبيعة مليئة دائمًا بالمفاجآت. ولذلك، احذر الخبراء! فالخبير لا يعدو أن يكون شخصًا بغيضًا من خارج المدينة!
أما التجربة الثانية فكانت عندما ابتكر دون هيوز وهاري بيلفسكي طريقة بارعة لقياس تشتت النيوترونات (غير المشحونة) عن طريق الإلكترونات التي تحمل شحنة (سالبة). لم يُعرف هل وُجدت هذه الظاهرة من قبل أم لا، على الرغم من أن فيرمي قد افترض نموذجًا للنيوترونات كان فيه النيوترون أحيانًا بروتون وميزون. وبالطبع، كان تشتت البروتونات يتم عن طريق الإلكترونات. وقد أمكن قياس الزاوية الحرجة للانعكاس الداخلي الكلي عن طريق استخدام مرآة بوزموتية في الهواء أو مغمورة في الأكسجين السائل. وكان للإلكترونات الثلاثة والثمانين الموجودة على ذرة البزموت إسهام واضح في الزاوية الحرجة. وفي ذلك الوقت نفسه تقريبًا أوضح إل فولدي أن العزم المتحرك مزدوج القطب للنيوترون قد يتسبب في تشتت متوقع من الإلكترونات. وقد تبين أن ذلك هو حجم الأثر الذي قِيس، مما جعل فرضية فيرمي بلا قيمة، وهو الأمر الذي ما زال يشكِّل «لغزًا» حتى يومنا هذا.
كانت الجمعية الفيزيائية الأمريكية هي المنظمة الأولى المسئولة عن تنظيم الاجتماعات لأعضائها ونشر أوراقهم البحثية. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، قفزت أعداد هؤلاء الأعضاء قفزة كبيرة للغاية، تعكس مدى التقدير الوطني الذي تحظى به مجموعة من الفيزيائيين الذين خطوا مصائرهم بأيديهم. فقد أصبح من الشائع حضور اجتماعات الجمعية الفيزيائية، وتقديم تقارير بحثية قصيرة، ومطالعة مجلات الفيزياء. وكانت واشنطن العاصمة واحدة من الأماكن الشائعة التي تعقد بها هذه الاجتماعات.
وقد التقى وايس بأحد ضباط البحرية داخل أحد أروقة فندق «واردمان بارك» وسأله عما إن كان يوجد أي اتجاه داخل البحرية لإنشاء غواصات تدار بالطاقة النووية، وهو سؤال طبيعي من شخص عمل مهندسًا بحريًّا في يوم من الأيام وباتت المفاعلات النووية الآن اهتمامه الأول. فقد كانت ميزة التشغيل المستمر تحت الماء دون الحاجة إلى أكسجين للاحتراق واضحة للغاية. لكن هذا الموضوع كان سريًّا للغاية في ذلك الوقت، وعلى الفور اقتيد وايس عبر الرواق إلى قائد بحري يحمل اسمًا غريبًا بعض الغرابة، ريكوفر. وبعد التعارف، صاح ريكوفر في ريتشارد منتقدًا بقسوة شديدة.
«لماذا لا تسعون أنتم أيها الفيزيائيون إلى تصميم غواصات تعمل بالطاقة النووية؟»
لم يكن وايس يحب قادة البحرية كثيرًا، لكنه كان مع ذلك يحترم السلطة التي يتمتعون بها، رغم أنه يفضل التعامل معهم عن بُعد. استمر ريكوفر في خطابه اللاذع ولم يعرف وايس سبب ذلك. وأخيرًا استطاع الابتعاد عن ريكوفر. في ذلك الوقت، أثار مفهوم الغواصة النووية اهتمام القائد البحري لكن غاب عن إدراكه أن المرء لا يمكنه التودد إلى أستاذ جامعي من خلال فرض سلطته عليه في بادئ الأمر. استمر ريكوفر في خططه بنشاط وحماس، ولكن حتى ضباط البحرية كانوا يرونه وقحًا وفظًّا. وفي النهاية حصل ريكوفر على ترقية فأصبح عميدًا بحريًّا بعد تجاهل ترقيته ثلاث مرات، ولكنه لم يحصل عليها إلا بعد تدخُّل الكونجرس. وعلى الرغم من أنه نال الثناء على نجاح برنامج الغواصات النووية، فقد كان وايس يشعر أن اتباع طريقة أكثر لطفًا كان من شأنه أن يحقق نتائج أفضل. والواقع أن الفيزيائيين كانوا قد سئموا العمل العسكري وأرادوا العودة إلى الأبحاث العلمية الخالصة. وكان ريكوفر يشعر بالإحباط لغياب الاهتمام اللازم بالمشروع، وتعامل مع خلافه مع الفيزيائيين على أنه معركة حربية.
يذكر وايس أيضًا أحد اجتماعات الجمعية الفيزيائية الذي تحول إلى كارثة حقيقية. في ذلك الوقت، رحل وايس إلى كولومبس بولاية أوهايو، وهي المدينة التي بينما يوجد بأطرافها مباني حرم جامعة أوهايو، يوجد بوسطها أحد السجون البشعة. في تلك المدينة، استضاف فندق ديشلر-ووليك اجتماع الجمعية، لكن غاب عن إدارة الفندق أن الفيزيائيين نوع مختلف من النزلاء. وقد نتج خطأ الإدارة عن الإجراء المعتاد الذي يسمح بحجز غرف تزيد عن السعة الفعلية للفندق بمقدار ٢٠٪ وذلك لتعويض الحجوزات التي لا يأتي أصحابها. ولكن جميع الفيزيائيين جاءوا لحضور الاجتماع. وكان العثور على غرفة في مكان آخر غير الفندق أمرًا مروعًا، إلى حد تأجير الجناح المحجوز لعضو البرلمان روبرت تافت، على أمل عدم مجيئه إلى المدينة في ذلك الوقت.
بعد انتهاء الاجتماع، استقل وايس إحدى سيارات الأجرة إلى المطار، وفي الطريق سأله السائق:
– «ما خطب هؤلاء الرجال؟»
– «ماذا تقصد؟»
– «ما الذي يبيعونه؟»
– «إنهم علماء فيزياء؛ يصنعون القنابل الذرية.»
– «يا للهول!»
سأله وايس: «ما المشكلة في ذلك؟»
– «أول شيء، يقول السقاة في حانة الفندق إنهم لا يحتسون الخمر، ولا يتركون أي بقشيش.»
– «وما الشيء الثاني؟»
– «ليس لديهم أي اهتمام بالفتيات.»
تبسم وايس، فقد كان ذلك صورة مصغرة للسان حال مجتمع من الفيزيائيين أغلبه رجال لا يملكون كثيرًا من الأموال لإنفاقها على الخمور والبقشيش، وقد بلغ بهم الخجل والفقر حدًّا يحول دون انخراطهم في المزاح أو اللهو. إنهم نموذج للفضيلة البدائية النقية. يلعبون التنس وليس الجولف أو البيسبول. ويستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية، ويعزفون على بعض الآلات الموسيقية متأثرين على وجه الخصوص بالدقة الرياضية التي تميزت بها موسيقى باخ. وهم لا ينخرطون في كتابة المسرحيات أو التمثيل، لما بهما من قدر كبير من العاطفة. وقد يراهم الجميع طلابًا منكبين على المذاكرة والتحصيل. يمكنك أن تشعر تجاههم بالإعجاب، إذا اقتضى الأمر، ولكن عن بُعد.