ووترتاون ١: ١٩٥٣–١٩٥٦

انتقل ريتشارد إلى مختبر ووترتاون يحدوه شعور عظيم بالتفاؤل وسعادة بالغة بالعودة إلى الحضارة. كانت ترسانة ووترتاون على بُعد مسافة قصيرة بالسيارة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد، وكانت واقعة على نهر تشارلز على بُعد بضعة أميال تجاه أعلى النهر من المركز الثقافي أمريكا-بوسطن. وكما قالت سيدة نبيلة من مؤسسة «براهمين» لم تغادر منزلها في بيكون هيل قط: «لماذا أسافر وأنا حيث أريد أن أكون؟»

كان الحماس الوطني لأبحاث الفيزياء في فترة الخمسينيات نابعًا من خوف قادة الجيش وأعضاء الكونجرس على عباقرة الفيزياء الذين صنعوا القنبلة الذرية، وهو الخوف الذي زادت حدتَه الحربُ الباردة المتصاعدة. وقد زوَّد صانعو القوانين داخل مبنى البرلمان، الجيش الأمريكي بالميزانية المناسبة لإشباع تلك الماكينات الدماغية للفكر العلمي، بالإضافة إلى المعدات الحربية المدمرة. وقد ظل زملاء ريتشارد في الجامعات في عجب تام من الطريقة التي يمكن بها تطوير المدافع والمدرعات عن طريق مجموعة من علماء الفيزياء الذين يقيسون توزيع الإلكترونات، لكنهم جنبوه حرج طرح مثل هذا السؤال. لم يكن جنرالات البنتاجون يعرفون الإجابة عن هذا السؤال (ولا حتى ريتشارد)، لكن شاع بينهم دعم مثل هذه الأبحاث العلمية، ولم يرغب أحد من قادة الجيش أن يبدو معارضًا للسياسات الوطنية وسياسة الكونجرس. فلم يحدث قط أن سأل شخص واحد في سلسلة القيادة بداية من رئيس ترسانة ووترتاون إلى قيادة الأركان العامة في رئاسة جهاز تطوير المعدات الحربية في البنتاجون أثناء الخمسينيات: كيف يمكن أن تسهم معرفة عمليات التوزيع الإلكتروني، وهي الهدف المعلن لبحث ريتشارد الذي وعد به سلاتر — في تصنيع مدفع أعلى جودة أو في زيادة درجة مقاومة المدرعات الحربية؟ لكن إن كانت هذه النخبة من العلماء يمكنهم تصنيع قنبلة ذرية، فكيف لا يمكنهم تصنيع مدفع أعلى جودة؟ وفي اليوم الذي وصل فيه ريتشارد إلى ووترتاون، التقى ريتشارد بالقائد الذي صافحه، وتبسم، وقال له مداعبًا: «لقد كنا جميعًا ننتظر قدومك.»

كان السبب واضحًا؛ فقد أصبح لدى ووترتاون الآن عالم فيزياء خاص بها، تتباهى به أمام أي سلطة أو قوة كانت. وبوصول ريتشارد، كانت الأمور في طريقها إلى التحسن.

كان ريتشارد في بعض الأحيان يتفوه ببعض الأفكار غير المعقولة، خلال المناقشات غير الرسمية التي كانت تجمعه بالقادة إلى حد أنه قال إن المعرفة الأفضل لمواقع الإلكترونات قد تؤدي إلى تصنيع معادن أفضل، لكنه كان يدرك في قرارة نفسه أن هذا دجل وخداع. ولقد كان ذلك بلا شك هو ما يريد القادة سماعه، لكنهم لا يجرءُون على الاستفسار عنه. وقد ذكَّر ذلك ريتشارد بمجموعة من الفيزيائيين في ألمانيا كانوا يسعون إلى الحصول على تمويل أثناء الحرب من أجل إنشاء جهاز طرد مركزي يفصل فقط الميكروجرامات عن النظائر. وقد برر هؤلاء العلماء عملهم بادعاء أن نظائر الحديد الأخف وزنًا من شأنها أن تقلل وزن الدبابات! وكان ذلك كذبًا بيِّنًا يمكن لأي دارس مبتدئ للفيزياء أن يفضحه.

كان الفيزيائيون في ووترتاون في تعاملهم مع رجال الجيش يتصرفون على نحو ماكر واعتداد بالنفس، بِناءً على اعتقادهم أن الجنرالات لا يفقهون شيئًا عن عملهم، بل كانوا يستهزئون بهم سرًّا. وقد انقلب ذلك عليهم في النهاية بعد عشرين عامًا عندما بدأ أعضاء الكونجرس يطرحون أسئلة محددة وواضحة. لقد قيل لأحد أعضاء البرلمان إن الفيزيائيين يحتاجون إلى مكان يجلسون فيه ويُعمِلون فكرهم.

أجاب ذلك العضو الحكيم الذي أراد أن يعرف أين تذهب أموال دافعي الضرائب متحديًا: «من السهل أن نعرف أنهم يجلسون، لكن كيف نعرف أنهم يُعمِلون فكرهم حقًّا؟»

كانت ترسانة ووترتاون في عام ١٩٥٢ مثالًا بسيطًا للغاية لعمارة ترسانة الأسلحة المشيدة على الطراز الفيكتوري، التي تشبه في كآبتها مصانع لويل وفول ريفر. ويرجع تاريخ هذه الترسانة إلى عام ١٨١٦ حين احتاج الجيش إلى موقع يسهل الوصول إليه في إقليم نيو إنجلاند من أجل تخزين الأسلحة. وكانت البقعة التي وقع الاختيار عليها، التي يضيق عندها نهر تشارلز عند أحد منحنياته، موقعًا لمستوطنات الهنود الحمر لآلاف السنين كما تكشف لنا عمليات التنقيب الأثري. ومع كل حرب جديدة وتزايد الطلبات على الدروع والأسلحة، كانت تضاف المزيد من المباني والمنشآت والأراضي إلى موقع ووترتاون الأصلي. وبحلول وقت اندلاع الحرب الأهلية، كان عدد موظفي الترسانة قد زاد إلى ما يقرب من الألف. وقد كانت أهمية علم المعادن وصناعة التعدين وصناعة الصلب المطورة تزيد مع كل كارثة عرضية لمواسير الأسلحة الفاسدة التي كانت تنفجر وتقتل أطقم تشغيل المدافع. وعقب الحرب العالمية الأولى مباشرة، كانت ترسانة ووترتاون قد ابتكرت تقنية التصوير بالأشعة السينية وغيرها من تقنيات الفحص، لتمتاز في النهاية على غيرها من المؤسسات في جودة الأسلحة التي تنتجها.

تمكنت ترسانة ووترتاون من تصنيع مواسير الأسلحة من خلال السبك بطريقة الطرد المركزي، وهي عملية لا تحتاج كثيرًا الاستعانة بالآلات إذ تُثقب فوهة الماسورة جزئيًّا أثناء التصلب. فضلًا عن ذلك، مولت الترسانة برامج الأبحاث الجامعية الكثيرة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أنتجت سبائك التيتانيوم بوصفها مادة بنائية قابلة للاستخدام. وكانت هذه السبائك أخف وزنًا من سبائك الصلب ويمكنها تحمل درجات حرارة أعلى. وقد زاد الطلب على منتجات الترسانة أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث زادت المنشأة عدد العمال بها إلى ما يزيد عن ١٠ آلاف عامل، وزادت مساحتها إلى ما يزيد عن ١٣٠ فدانًا. وقد دل على أهمية ترسانة ووترتاون زيارة الرئيس فرانكلين روزفلت شخصيًّا لها، والجنرال دوجلاس ماكآرثر أيضًا.

وفي غضون بضع سنوات من وصول ريتشارد إلى ووترتاون، سعى تلاميذ جون سلاتر وبيرت وارن، خبير الأشعة السينية المشهور بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى الحصول على وظائف هناك؛ إذ إن ذلك سيمكنهم من الاستمرار في دراسة فروع مثيرة من الفيزياء، ومن البقاء في منطقة بوسطن بعد الحصول على درجة الدكتوراه. وبالفعل أُسندت وظائف لكل من أرت فريمان، وأرت باسكين، ولي آلين، وتوني هوفمان، وديف تشيبمان، وكريس ووكر، وهومر بريست، وجريس بريست، وكين تاور، وكين مون، وبول ساجالين، وبيل كروفت — ليكونوا مجموعة «ممتازة» من الفيزيائيين. والواقع أنه على الرغم من انضمام العديد من العلماء الآخرين إلى ووترتاون أثناء هذه الفترة، فقد مُنِحَت مجموعة الأبحاث الرئيسية في النهاية حق الاستخدام الحصري للمبنى الخاص بها، وسلطة إقصاء الوافدين الجدد الذين لا تتوفر فيهم المعايير التي وضعتها مجموعة الأبحاث. وكان من الطبيعي أن يتسبب ذلك في إحداث نوع من العداء بين هذه «الفئة المدللة» من الخبراء والعلماء الذين يتنفسون الفيزياء الغامضة الصعبة، وغيرهم من العلماء الذين يشتغلون بأشياء أقل قيمة مثل إنتاج مواد أنفع للجيش. ولا يذكر ريتشارد ولو مثالًا واحدًا في فترة امتدت عشرين عامًا على تقديم هذه المجموعة من الدارسين أي شيء ذا فائدة للجيش، باستثناء كسب بعض الهيبة في عالم البحث العلمي الأساسي.

عمل ليونارد جافي، وهو عالم فلزات صاحب مقدرة كبيرة، مشرفًا مباشرًا على تلك النخبة من العلماء، لكنه كان مكلفًا أيضًا بمهمة شاقة هي اضطراره إلى رفع تقاريره إلى مشرف يجد سعادة بالغة في مد واشنطن بعدد لا نهائي من التقارير، وفي اتباع الشدة والحزم في الإدارة. وكانت معرفة هذا المشرف بالفيزياء ضئيلة للغاية، وقد بذل جافي قصارى جهده لحماية هذه المجموعة من العلماء من ذلك «النمر الورقي». وعندما انتقلت المجموعة إلى مبنًى رُمِّم حديثًا، كان فيما مضى مصنع مفروشات سيمونز، اختار جافي مكتبًا في مكان متميز من المبنى مزود بنظام اتصال داخلي، مما مكَّنه من الاتصال بالمكاتب والمختبرات الخاصة بأفراد مجموعته. لكنَّ للأسف، أعجبت تلك الحجرة أحد أصحاب السلطة والنفوذ فانتزعها من جافي. ولكي يتمكن جافي من الإبقاء على شبكة الاتصال الداخلي، قضى هو بنفسه أيامًا عدة في إعادة تركيب وتشغيل نظام الاتصال، تاركًا الأسلاك عارية ومتدلية من السقف. وفي اليوم الذي وصل فيه الجنرالات من واشنطن لتفقد أحوال المبنى الجديد، خفض «النمر الورقي» الستائر إلى منتصفها، وأضاء المصابيح الفلورية جميعها، بصرف النظر عما إن كان أحد موجودًا بالمكاتب أم لا، وفتح الأبواب على مصاريعها، وطلب من الجميع أن يلمِّع كلٌّ منهم حذاءه، وأمر بتنظيف الأرضيات والجدران، «وأزال الأسلاك التي تركها جافي عارية». استشاط جافي غضبًا، فتناول مقصًّا ودخل إلى مكتب «النمر الورقي» وقطَّع أسلاك شبكة الاتصالات جميعًا؛ «العين بالعين».

وفي حفل الافتتاح الرسمي للمبنى الجديد، أحضر ملازم ثانٍ جهاز أسطوانات لعزف النشيد الوطني، حيث لم تتوفر حينئذٍ فرقة موسيقية. وبعد أن أدى الجميع قسم الولاء، شُغِّل الجهاز، ولكنه دوى بعبارة «حفظ الله الملكة» — من النشيد الوطني الإنجليزي — وهي عبارة مألوفة ولكن من النشيد الخطأ. وبعد تخبط سريع، قلب جهاز التسجيل ليبدأ في عزف نشيد «العلم المرصع بالنجوم»؛ العلم الأمريكي. يا لها من مهزلة!

بعد وقت قصير من الخلاف الحاد الذي وقع بين جافي و«النمر الورقي»، تقدم الأول باستقالته ليلتحق بوظيفة في مختبر الدفع النفاث في كاليفورنيا على الساحل الغربي للولايات المتحدة. وقد طلب ريتشارد من جافي أن يجد له وظيفة هناك، لكنَّ ذلك المختبر لم تكن به إلا وظيفة بحثية بلا أي زيادة في المرتب. رفض ريتشارد قبولها إذ كان من الواضح أن تكاليف المعيشة في باسادينا مرتفعة للغاية. كانت هذه النقلة في حياة ريتشارد ستقذف به في برنامج الفضاء بلا أي فرصة للوفاء بوعده لسلاتر.

وقد خفف التوسع التدريجي لمجموعة الفيزياء وكثرة منشوراتها في الصحف المرموقة مثل «فيزيكال ريفيو» من وطأة ما يحمله العمل في أحد المختبرات الحكومية من إهانة. وعلى الرغم من ذلك، فقد أسرَّ آرثر فون هيبل، وهو بروفيسور شهير بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى ريتشارد ذات مرة باعتقاده بأن المختبرات الحكومية يجب أن تتوقف تمامًا عن العمل في الأبحاث العلمية وتوكل ذلك النشاط إلى الجامعات. أصيب ريتشارد بصدمة كبيرة في البداية؛ إذ كان يرى أن مجموعة الصفوة في مختبر ووترتاون تضاهي المجموعات المماثلة لها في الجامعات فيما يتعلق بنتائج الأبحاث التي يتوصلون إليها. وأدرك ريتشارد في وقت لاحق أن فون هيبل ربما كان محقًّا، لكن في تلك الأيام الرائعة في الخمسينيات كان ريتشارد وزملاؤه يجدون متعة بالغة في الأبحاث الفيزيائية التي يجرونها ولم يكن يشغل بالهم بدرجة كبيرة ما إن كانوا يؤدون واجبهم تجاه الجيش أثناء الحرب الباردة أم لا. فضلًا عن ذلك، كان قادة الجيش مستمرين في التفاخر بفريق الفيزيائيين لديهم.

لكن طبيعة الخدمة المدنية نفسها هي التي كانت مسئولة عن ذلك الخلل، حيث ضمت واشنطن مجموعة من العلماء الذين لم يتمكنوا من تقديم أداء جيد وسط الصعوبات التقنية التي تكتنف أعمالهم، مما أجبرهم على الرحيل للالتحاق بالأعمال الإدارية بالعاصمة. وللأسف، كان هؤلاء الأشخاص هم من يتخذون القرار فيما يخص أمور التمويل. وقد اعتقد ريتشارد أنه توصل إلى حل وسط عندما وافق بول ديوو، عالم الفلزات البارز بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الذي تعاون مع هيئة المعدات الحربية أثناء الحرب؛ على القدوم إلى ووترتاون ورئاسة أنشطة الأبحاث بها. ومع الأسف، تمكَّن الشخص نفسه الذي استولى على حجرة مكتب جافي من منع هذا التعيين. كان ريتشارد يرى أن المختبرات الحكومية جميعًا باستثناء مختبر الأبحاث البحرية في واشنطن ليست إلا مأوى لقليلي الموهبة من العلماء. فقد ركن العلماء واطمأنوا إلى نظام التثبيت في العمل الذي بمقتضاه يستحيل التخلص من غير الأكْفاء. ومرت أربعون سنة ولم يتغير شيء.

في الواقع، طلب ريتشارد وعدد من زملائه، مدفوعين برغبة في التخلص من شعورهم بالذنب لعدم الإسهام في الوفاء باحتياجات الجيش، من المدير في ووترتاون أن يحدد بعض المشكلات التي يعاني منها الجيش والتي يمكن لأفراد مجموعة الفيزياء أن يستخدموا مواهبهم وقدراتهم في حلها. وبعد بضعة أسابيع من ذلك، اقترح المدير أن تجد المجموعة فائدة لعنصر السيليكون.

قال لهم: «إنه عنصر رخيص، ومتوفر، وخفيف الوزن أيضًا.»

اعتبر ريتشارد ذلك الاقتراح الذي اقترحه المدير جديرًا بالاهتمام على نحو مفاجئ وغير متوقع. وشرعت المجموعة في البحث والتجريب لكنهم توصلوا في النهاية إلى أنه نظرًا لهشاشة مادة السيليكون، فليست له أي فائدة عملية في التطبيقات العسكرية. فإذا لم يتمكن العلماء من استخدامه في صنع مدفع مثلًا، ففيمَ يستخدمونه إذن؟

عاد ريتشارد إلى المدير بالنتائج التي توصلوا إليها قائلًا: «إننا نعتقد أن السيليكون لا فائدة له.»

كان السيليكون، قبل اكتشاف أشباه الموصلات، نوعًا من المواد غير المرغوب فيها. ولو ظلت آراء ونصائح ريتشارد المستقبلية خاطئة بنفس القدر الذي كان مخطئًا به بشأن السيليكون، لأصبح عديم الفائدة لمدير ووترتاون والجيش على حد سواء! وكان على ريتشارد أن يتذكَّر أنه عندما تقدم للالتحاق بوظيفة في مختبرات بيل عام ١٩٥٠، شرح له كل من شوكلي وبراتين، اللذان حصلا على جائزة نوبل في وقت لاحق، بحثهما على وصلات السيليكون، لكنه كان لم يزل صغيرًا قليل الخبرة ليدرك أهمية ذلك. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي وضع فيها المدير مجموعة الفيزياء تحت الاختبار.

بعد الاستقرار في ووترتاون، بدأ ريتشارد والمجتهد جون ديماركو في دراسة ترتيب الإلكترونات في الحديد باستخدام انكسار الأشعة السينية. وقد وقع اختيارهما على الحديد لأنه عنصر مثير في حد ذاته، فضلًا عن أنه ليس هناك جنرال سيسأل عن السبب في اختياره؛ إذ إنه المكون الرئيسي في الصلب. لكن لم تكن هناك أي أبحاث علمية تقريبًا قد قدمت أي حلول للصعوبات التي قد يواجهها الباحثون عند استخدام الأشعة السينية في حل تلك المسألة. فالأبحاث العلمية في مجال ما دائمًا ما تعتمد على تجارب السابقين في المجال نفسه. ولما كانت التجارب السابقة لريتشارد قليلة للغاية وكان مفتقدًا لمن يسدي إليه النصح المناسب بشأن الصعوبات التي قد يلقاها، فقد طلب الحصول على أحد أجهزة الأشعة السينية، وأعد بعض عينات الحديد استعدادًا لهذه الرحلة الشاقة نحو المجهول.

كانت الفكرة النظرية بسيطة للغاية. إذا شُتِّتَتْ أشعة سينية ذات طاقة مفردة من خلال ذرات معزولة، فإن الكثافة في مقابل زاوية التشتت سوف تعتمد اعتمادًا رئيسيًّا على مدى بُعد توزيع الإلكترونات عن النواة، وهي الخاصية نفسها التي حاول تلاميذ سلاتر بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وهارتري بمختبر كافينديش في إنجلترا حسابها. لكنَّ ذرات الحديد من الناحية العملية دائمًا ما تظهر في شكل قطع صلبة. (وكان من الممكن تبخير بعض الحديد، لكنَّ درجات الحرارة العالية المطلوبة لذلك صعَّبت الأمر جدًّا.) وكانت ذرات الحديد في قطعة من المعدِن على شكل مجموعة بلورية مما أضاف مزيدًا من المشكلات التي أزعجت ريتشارد على نحو مستمر. وهكذا، لم يعد ارتباط تشتت الأشعة السينية بتوزيع الإلكترونات ارتباطًا مباشرًا.

ولكن، بما أن ريتشارد قد بدأ بالفعل في هذا الطريق وكان فضوله العقلي هو الذي يوجهه ويدفعه، وهي السمة الرئيسية لفيزيائي مخلص لعمله، فقد قضى خمسة أعوام يبحث فيها عن حل لمسألة توزيع الإلكترونات والطريقة التي يمكن من خلالها لهذا الترتيب للإلكترونات أن يفسر المغناطيسية الذاتية للحديد. وكأن هذه الخاصية للحديد لم تكن على درجة كبيرة من الصعوبة بذاتها بحيث يصعب فهمها، بل ظهر أيضًا أن هناك شكلًا صلبًا آخر للحديد يصل إليه في درجات حرارة عالية جدًّا لا يكون فيه ذاتي المغناطيسية، ولكن يجب أن يضاف إليه بعض المنجنيز ليكتسب ثباتًا في درجة حرارة الغرفة. ولعل كيفية اختلاف ترتيب الإلكترونات في شكلي الحديد كانت مسألة غاية في الإثارة للأشخاص المهتمين بدراسة فيزياء الحالة الصلبة.

بدأت المصادفة تلعب دورها عندما حاول ريتشارد تركيب عينات من ذلك الحديد اللامغناطيسي لمقارنتها بعينات الحديد المغناطيسي العادي. طلب ريتشارد من المسْبك في مختبر ووترتاون إذابة الحديد النقي مع الكمية المناسبة من المنجنيز والكربون، لكنه أخُبر أن ذلك إجراء صعب للحصول على سبيكة لا تمثل خليطًا من شكلي الحديد المعروفين. وفي الواقع، كانت عملية التصنيع المناسبة تتطلب دلفنة على البارد كما اتضح قبل الحرب العالمية الأولى عندما اكتُشف ما يسمى صلب هادفيلد أو صلب المنجنيز في إنجلترا. فقد أوضح هادفيلد أن هذا الشكل اللامغناطيسي للحديد، الذي يحتوي على ١٢٪ منجنيز ونحو ١٪ كربون، كان لا مغناطيسيًّا تمامًا وصلبًا إلى درجة كبيرة جدًّا. لذلك سرعان ما باءت محاولات تقطيعه باستخدام منشار المعادن أو الشفرات الحادة بالفشل الذريع. ومن خلال تصنيع خُوَذ الجنود من هذه المادة الشديدة الصلابة، افتخر هادفيلد بإنقاذه حياة آلاف من الجنود البريطانيين في الحرب العالمية الأولى.

ولكن قبل أن يتسرع القارئ في استنتاج أن قوة صلب هادفيلد مرتبطة ﺑ (غياب) المغناطيسية، نقول إن الأمر ليس كذلك. كان ريتشارد يتوق إلى الحصول على عينة من هذا الحديد اللامغناطيسي، ودله عالم فلزات في ووترتاون على وجود صحائف معدنية مصنوعة من صلب هادفيلد (المعدن الذي صنعت منه الخُوَذْ) في أحد مخازن مختبر ووترتاون، وأنها تقبع هناك بلا أي فائدة منذ الحرب العالمية الثانية. حصل ريتشارد على العديد من تلك الصحائف وقطَّع بضع عينات باستخدام مشعل اللحام ثم أخذ العينات إلى بروكهيفين لفحصها باستخدام النيوترونات. فالنيوترونات، التي تُنتج بوفرة داخل المفاعلات الذرية، تكون شديدة الحساسية تجاه التركيب المغناطيسي للذرات، حيث يعمل النيوترون مثل مغناطيس صغير. وكم كان مثيرًا اكتشاف اكتساب صلب هادفيلد للمغناطيسية الحديدية المضادة عند وصوله إلى درجة حرارة النيتروجين السائل؛ بمعنى أن نصف ذرات الحديد كانت مغناطيسية، وبينما تشير أقطابها الشمالية إلى اتجاه، تشير أقطاب النصف الآخر من الذرات إلى الاتجاه المعاكس تمامًا. وتكون النتيجة النهائية أن يبطل كل منهما الآخر ولا ينجذب صلب هادفيلد إلى المغناطيس كالحديد العادي.

وقد كان ذلك الاكتشاف واحدًا من الاكتشافات التي أثلجت صدور العلماء، وتبين بعد ذلك أنه ليس إلا واحدًا في سلسلة طويلة من التجارب التي أوضحت أن الحديد عنصر مركب للغاية. ومن الغريب أن أكثر المعادن توافرًا ونفعًا في الطبيعة هو الذي يواجه الفيزيائيين المتخصصين في الحالة الصلبة بهذا العدد غير المحدود من التعقيدات التجريبية والنظرية.

وبعد سنوات من الجهد المضني والمناقشات الأسبوعية مع سلاتر ووارين، توصل ريتشارد وديماركو إلى أن الإلكترونات المسئولة عن المغناطيسية في معدِن الحديد العادي قد عُزلت عن الإلكترونات الأخرى. وكان لهذه النتيجة غير المتوقعة تأثير كبير وعجيب في مجتمع الفيزياء. لكن ثمة مثلًا قديمًا في العلوم يقول إنه لا شيء يثير الدهشة والريبة في الفيزياء أكثر من أحد الأخطاء! وبالفعل لم يشعر ريتشارد مطلقًا بالاطمئنان إلى النتيجة التي توصل إليها، ونال إجازة بضعة أشهر أمضاها في زيارة العديد من المختبرات؛ لكي يعرض عليهم النتائج التي توصل إليها؛ ليعرف إن كان قد غفل عن شيء ما أو تجاهل شيئًا ما. وقد استمع إليه كل من زاتشاريازن في شيكاغو، وباولينج في كاليفورنيا، لكنهما لم يبديا أي رأي؛ فلم تكن لديهما أي أفكار بالفعل.

وبعد أن عاد ريتشارد إلى ووترتاون، اعتاد أن يذهب إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ظهيرة كل أربعاء، وهناك قد يجود كل من وارين وسلاتر في عطف بالغ بالمعلومات المتعلقة بما يفعلانه في ذلك الوقت، ويتبادلان معه بالكرم نفسه الأفكار والآراء حول تجارب ووترتاون. وفي غضون ستة أشهر، بدأ الاثنان يعتقدان في صحة النتائج غير العادية، وقد أمد ذلك ريتشارد بنوع من الاطمئنان غير المبرر. وكان ريتشارد يُرى كثيرًا بصحبة وارين، حتى إن الغالبية العظمى من الأشخاص في مجتمع الأشعة السينية ظنوا أن ريتشارد هو أحد طلبة الدراسات العليا الذين يدرسون تحت إشراف وارين.

كان ريتشارد كلما واصل البحث والتنقيب في التركيب الإلكتروني والمغناطيسي للمجموعة الأولى من الفلزات الانتقالية؛ أي العناصر التي تبدأ من التيتانيوم (العدد الذري ٢٢) إلى النيكل (العدد الذري ٢٨)، زاد إدراكه لمدى تعقيد التوزيع الإلكتروني بها. فضلًا عن ذلك، تضمنت هذه الجهود البحثية خطأً استراتيجيًّا كبيرًا. كان ريتشارد في قرارة نفسه يؤمن بأنه في سعيه إلى المعرفة سيكشف في النهاية أسرار التركيبات الإلكترونية (مهما كانت تلك الأسرار)، وأنه سيكون قادرًا على صنع سبائك ومركبات جديدة ذات خواص محددة سلفًا. وبالطبع لم يكن الأمر كذلك. فكلما اكتشف ريتشارد أثرًا يهتدي به، اكتشف معه المزيد من المشكلات. وكلما وجد حلًّا لإحدى المشكلات، ظهرت العشرات من المشكلات الجديدة. كان البحث العلمي أشبه بتفاعل متسلسل يؤدي في نهاية الأمر إلى تفجر هائل للجهل.

نحو عام ١٩٥٥ نفد ما كان لدى ريتشارد من أفكار لإجراء المزيد من الفحوصات التجريبية على الترتيب «غير المتوقع» للإلكترونات في الحديد، وفضَّل أن يغير إيقاع تقدمه. ولم يكن مستعدًّا لنشر عمله في ذلك الوقت، لذلك فقد ترك الأمور تهدأ. لكنه تذكر محاضرة زينر في هارفارد، التي ربطت قياسات الحرارة النوعية للحديد بمغناطيسيته الحديدية. كان الأمر مثيرًا للاهتمام إلى حد بعيد حيث إنه قدم فحصًا مستقلًّا يوضح أن إلكترونين اثنين فقط من الإلكترونات الستة والعشرين في كل ذرة حديد بالمعدن هما المسئولان عن مغناطيسيته الحديدية، المعروفة بالفعل من خلال شدة الفيض المغناطيسي للحديد. ويمكن ربط الإنتروبيا المغناطيسية، المطروحة من الحرارة النوعية، بهذا الرقم. انضم ثلاثة آخرون من فريق الأبحاث، وهم: تاور، وباسكين، وهوفمان إلى العمل، وجرى بحث كل الأبحاث العملية عن مواد أخرى أظهرت نهاية محددة مشابهة في حرارتها النوعية.

كان من الطبيعي أن تنشأ علاقة حميمة بين ريتشارد والآخرين في مجموعة العمل أثناء عملهم على حل المشكلة. وعلى وجه التحديد، عرف ريتشارد أن توني هوفمان كان ابنًا لأحد عازفي البيانو المشهورين؛ جوزيف هوفمان، ذلك الطفل العبقري الذي جاء إلى الولايات المتحدة في الثمانينيات من القرن التاسع عشر لتقديم حفلة بقاعة كارنيجي وهو في الثامنة من عمره. أما توني فلم يبدِ أي موهبة في عزف البيانو، ولم يشجعه والده على الاستمرار في العزف بعد أن استمع إليه وهو يعزف في الرابعة من عمره. ومن المفارقات العجيبة أن أحد أفضل مكبرات الصوت كان قد بِيع وسُجِّل باسم KLH حيث يشير حرف H الموجود به إلى توني هوفمان الذي كان واحدًا من ثلاثة اخترعوا المكبر. وتقوم فكرة ذلك المكبر على الهواء الموجود داخل سماعة محكمة الإغلاق لتوفير قوة الإرجاع في الوقت الذي يتحرك فيه غشاء السماعة من خلال الموصل الملفوف (بدلًا من أن يقوم أي جهاز ميكانيكي بعملية الإرجاع).

ترك جوزيف هوفمان تأثيرًا كبيرًا عندما ظهر في أمريكا كطفل معجزة. وكان والده قد تلقى نقدًا واسعًا بسبب استغلاله للطفل والإفراط في تشغيله، على الرغم من ادعائه بأن العزف على البيانو كان مصدرًا للبهجة والسعادة لجوزيف. وذهب بعض المشككين إلى القول بأن الطفل كان صغير الحجم جدًّا على نحو غير طبيعي! وعندما طُلب من الطفل أن يعزف قطعة موسيقية جديدة لم يكن قد سمعها من قبل، قال والده إن ولده جوزيف لا يزال صغيرًا جدًّا ولذلك لا يستطيع قراءة النوتة الموسيقية.

جاء حل تلك المشكلة عندما تدخل أحد عمالقة صناعة الصلب في مدينة بيتسبيرج، دون أن يذكر اسمه، ومنح والد جوزيف الأموال التي تكفي لمنع الطفل من العزف في الحفلات حتى يبلغ سن ٢١، وجعله يتلقن مبادئ العزف على يد عازف البيانو المشهور أنتون روبنشتاين حتى بلوغ تلك السن. (في الواقع، كان توني قد سُمي عند التعميد أنتون تيمنًا بعازف البيانو الكبير أنتون، لكن الطفل فضل اسم توني الأكثر شعبية.) وهكذا عاد جوزيف إلى العزف مرة ثانية ولم يُعرَف قط اسم الرجل الذي دعمه ورعاه طوال تلك الفترة. لكن عندما مات أنتون روبنشتاين، نظم جوزيف حفلًا لإحياء ذكراه في مدينة ليفربول. وبدا أحد أفراد الجمهور في ذلك الحفل متأثرًا للغاية وذهب إلى جوزيف بعد نهاية الحفل وأخبره بأنه هو الشخص الذي دعمه طوال حياته وقد تصادف وجوده في ليفربول في ذلك الوقت. وتبين أن جوزيف هوفمان كان بالإضافة إلى ذلك مخترعًا ناجحًا، وربما نقل هذه الموهبة إلى توني بدلًا من الموسيقى.

بعد فحص الأبحاث الأكاديمية السابقة ودراستها جيدًا والاتفاق على أن عدد الإلكترونات المغناطيسية في العديد من المواد المغناطيسية يمكن تحديده من خلال الحرارة النوعية، كان هوفمان وباسكين وتاور ووايس مستعدين للنشر. وفي نهاية عام ١٩٥٥، أعلن روبرت ماكسويل إنشاء صحيفة جديدة تابعة لوكالة «برجامون بريس» في كيمياء وفيزياء الجسيمات الصلبة، وكان رئيس تحريرها هارفي بروكس من جامعة هارفارد. ومع تولي هذه الشخصية المشهورة الإشراف على تلك الجريدة، شعر وايس أن تاريخ ماكسويل المشكوك فيه قد أُسدل عليه الستار، وفي فخر تام قدم البحث الذي أجراه إلى الدورية ليُنشر في الإصدار الأول من الجريدة الدولية لفيزياء وكيمياء الجسيمات الصلبة. وبقدر ما يمكن لريتشارد أن يتذكَّر، لم تؤثر النتائج التي نُشرت تأثيرًا كبيرًا في الوسط العلمي. ولكن مثل ذلك الشعور بخيبة الأمل والإحباط يصيب الجميع؛ عالمًا كان، أم كاتبًا، أم ممثلًا بارعًا. فيمكن للمرء أن يصرخ معلنًا عن إنجازاته من فوق أسطح المباني، ولكن دون أن يلتفت إليه أحد أو يعيره أي اهتمام.

كان ذلك أمرًا يستحق التدبر فيه، فعدد فرق البحث التي تستعين بأي بحث علمي عادي كمرجع فيما تنشر بعده من أعمال في مجاله نفسه يقل عن الواحد الصحيح. ومن المفترض أن الهدف الأساسي من وجود الدوريات العلمية هو مساعدة الأشخاص الذين يبحثون في الموضوع نفسه. فإذا كان عدد العلماء الذين يستفيدون من أحد الأبحاث المنشورة قليلًا للغاية، فللمرء أن يتساءل عن جدوى ملء المكتبات بهذه الدوريات. ذلك أنها مكلفة جدًّا، وتشغل حيزًا كبيرًا، إلى جانب أنها «صعبة القراءة والفهم». وفكر ريتشارد أنه عندما تمنح جامعة ما شهادة الدكتوراه في الفيزياء، فهي لا تضمن بذلك أن يكون متلقي تلك الشهادة قادرًا على الكتابة أو التحدث بلباقة وبراعة. ولكن إذا استُعين بأقسام الدراما أو اللغة الإنجليزية بتلك الجامعات للتحقق من قدرة المرشحين على التواصل الناجح، فربما تجبر الجامعات على اتخاذ الإجراء المناسب من أجل تخريج أفراد يتسمون باللباقة والفصاحة من حملة الدكتوراه. لكن روح الغرور والتعالي السائدة بين الأقسام المختلفة جعلت ذلك التعاون — للأسف — مستبعدًا.

عندما انتقلت مكاتب النشر الخاصة بمجلة «فيزيكال ريفيو» إلى مبنى الفيزياء في مختبر بروكهيفين، غالبًا ما كان يُطلب من ريتشارد تقييم الأبحاث. وكان من المؤسف أن الفيزياء المتناولة في هذه الأبحاث معقدة للغاية؛ فغالبًا ما تكون مفصلة (ومسهبة) ولا تحتوي على أي معادلات رياضية، وإنما الكثير من الاستخدام الشديد السوء للغة الإنجليزية. فلا عجب إذن أن عددًا قليلًا للغاية من الأبحاث هو ما يقرأ. وفي أحيان أخرى، كان يُطلَب من ريتشارد «إعادة صياغة» أحد الأبحاث المكتوبة بالإنجليزية والقادمة من اليابان إلى لغة مفهومة ومقروءة. أثناء تلك الفترة، كتب ريتشارد خطابًا إلى رئيس التحرير يسأل فيه: لماذا لا تستأجرون أشخاصًا مقيمين يتولون جميع أعمال القراءة والمراجعة والتصحيح، ولماذا لا تعلنون أسماء هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بالتقييم؟ وكتب رئيس التحرير سام جودسميت ردًّا لاذعًا إلى ريتشارد قال فيه: يجب أن يظل المقيمون غير معروفين، وألَّا تلوث النقود المهام التي يقومون بها! يا لها من صدمة قاتلة!

ذكَّرت كثرة المواد المنشورة ريتشارد بأحد أساتذة الجامعة في ولاية بنسلفانيا، الذي كان تلاميذه السابقون وغيرهم من زملائه الذين جمعتهم به صداقة طوال أيام حياته المهنية؛ يرسلون إليه نسخًا لطبعات ثانية من أبحاثهم. ولم يكن ذلك الأستاذ ليتخلص من هذه الأبحاث حتى تكدست لديه هذه الأبحاث في النهاية فيما بين أرضية حجرة مكتبه وسقفها، في شكل أكوام شغلت كل المساحات الفارغة. وكان الدخول إلى مكتبه يشبه دخول الجنة لهواة إحداث الحرائق (أو دخول الجحيم إذا نجح في إضرام حريق). في إحدى المرات، لم يتمكَّن ذلك الأستاذ من العثور على هاتفه حيث أصبح مكتبه مكتظًّا عن آخره بمئات الطبعات الثانية من الأبحاث. فماذا يفعل؟ ذهب إلى مكتب السكرتيرة وطلب منها أن تتصل به حتى تمكن من العثور عليه.

بين المنظمات العديدة التي كانت تسمح للعلماء بزيارة مناطق جديدة واكتساب أصدقاء جدد، كان للاتحاد الدولي لعلم البلورات يتباهى بعدد كبير من الأعضاء. وبإعلان الاتحاد عن عقد مؤتمر له بعد الحرب العالمية الثانية في باريس عام ١٩٥٤، وهو المؤتمر العالمي الثالث لأعضاء الاتحاد، استعد نشطاء الباحثين للذهاب إلى ذلك المؤتمر. في ذلك الوقت، لم يكن سفر موظفي الحكومة خارج البلاد يمثل مشكلة، حيث كانت وزارة الدفاع تمتلك شركة خطوط جوية هي MATS. لم تكن هناك وسائل رفاهية، وكانت خدمة النقل الجوي رخيصة الثمن، وكانت الطائرة من طراز دي سي-٦ التي تطير من قاعدة «ويستوفر» الجوية في ماساتشوستس إلى فرانكفورت لا تبعث الراحة مطلقًا، وتذكر المرء دائمًا أن هذه الدرجة من التعب والإرهاق إنما تعكس التكلفة القليلة للسفر. وقد اختار ريتشارد في سعادة بالغة أن يتحمل مشاق تلك الرحلة من أجل رؤية باريس، ومن أجل التعرف على العلماء الذين حققوا شهرة واسعة.

كان من بين الحضور الذين بلغ عددهم ٨٠٠ فرد، مجموعة كبيرة من العلماء الذين تركوا علامات واضحة في علم البلورات، والذين حصل بعض منهم على جائزة نوبل. من هؤلاء العلماء بيجيولف من روسيا، وبوز من الهند، وبريل من روما، وويلسون من كارديف، ووايكوف الذي كان في لندن آنذاك، وتيلور من مختبر كافينديش، وبيروتز من كافينديش، وويلكينز من كلية الملك في لندن، ولويد من هارويل، ولونزدال من جامعة لندن، وهودجكين من أكسفورد، وروزاليند فرانكلين من كلية بيركبيك في لندن، والسير لورانس براج من لندن، وبيرنال من كلية بيركبيك، وبيكون من هارويل، ودي بروي من باريس، وجوينير من باريس، وفريدل من باريس، وكورين من باريس، ووارين وسلاتر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وآل كارليه من واشنطن، وفانكوتشن من بروكلين، وإيوالد من بروكلين، وباريت من شيكاغو، وفون لاوي من برلين. وكان السبب في مجيء ذلك العدد الكبير من علماء إنجلترا لا يكمن فقط في المسافة القصيرة بين المدينتين، بل في سعي هؤلاء العلماء إلى تناول بعض الوجبات الشهية، فقد كانت إنجلترا لا تزال تتبع سياسة ترشيد استهلاك اللحوم.

كان الأمير لوي دي بروي قد حصل على جائزة نوبل عام ١٩٢٩ عن وضع فرضية عام ١٩٢٣ تقول إن المادة، مثلها مثل الضوء، لها طول موجي، وبذلك أعطى شرودينجر وهايزنبيرج المفتاح لاكتشاف ميكانيكا الكم. وبينما كان لويس يلقي خطبته الافتتاحية، باللغة الفرنسية، تذكر ريتشارد المؤتمر الذي كان قد حضره في باريس، والذي فيه كانت سماعات الأذن متوفرة عند المدخل، وقد كتبت بجوارها عبارة تقول:
RÉCEPTEUR FOR TRANSLATION
تنبه ريتشارد إلى وجود خطأ في تلك العبارة حيث استخدمت الكلمة الفرنسية RÉCEPTEUR مكان الكلمة الإنجليزية Receiver، فما كان من ريتشارد إلا أن لفت نظر السكرتيرة إلى ذلك الخطأ مخبرًا إياها بالكلمة الإنجليزية المناسبة. شكرته السكرتيرة وبدلت اللافتة إلى:
RECEIVER POUR TRADUCTION

أمر طريف؛ لقد استخدمت السكرتيرة الكلمة الإنجليزية كما أشار عليها ريتشارد، ولكنها استبدلت بالجزء الثاني من العبارة الذي كان مكتوبًا بالإنجليزية في اللافتة الأولى كلمات فرنسية، لتكون العبارة في النهاية مزيجًا من الفرنسية والإنجليزية مرة أخرى.

وفيما يلي إعادة صياغة لجزء من حديث دي بروي الذي ألقاه في جامعة السوربون:

أشعر بالحرج لإلقاء حديث أمام جمع من المتخصصين في علم البلورات، ليست لديهم أي دراية عن الموضوع الذي سأتحدث عنه. ولهذا، سأناقش استخدام البلورات في توضيح الطبيعة الموجية للضوء.

كانت التجربة الأولى التي أجراها علماء الفيزياء والتي تكشف عن تماثل البلورات هي اكتشاف الانكسار المزدوج للضوء في كربونات الكالسيوم المتبلرة على يد بارثولين عام ١٦٦٩. في ذلك الوقت، لم يكن أحد يفهم التركيب البلوري إلى أن وضع هوجينز فرضية الطبيعة الموجية للضوء. ولكن توقف العلماء وقتًا طويلًا عن إجراء أي أبحاث فيما يخص انتشار الضوء في البلورات.

وفي القرن التاسع عشر، بدأ كل من ليزيل وهوي وبرافيه يفهم التركيب البلوري من خلال التماثل البلوري. وبعد ذلك، أثبت يونج وفرينل أن الطبيعة الموجية للضوء هي السبب في انكسار الضوء، وفي عام ١٨٠٧ افترض مالوس وجود ظاهرة الاستقطاب. وقد تمكن فرينل وهوجينز من خلال التعامل مع الضوء على أنه ذبذبة مستعرضة (متعامدة على اتجاه انتشارها) من وضع نظرية انتشار الضوء في البلورات التي لا تزال موجودة إلى الوقت الحالي. وكان لاكتشاف دوران مستوى الاستقطاب وظواهر الاستقطاب اللوني الفضل في فهم التركيب الداخلي للبلور فهمًا أكثر فعالية. وقد أكد كل من باستور كوري، وبير كوري أهمية التماثل في الفيزياء والأحياء على حد سواء.

كان بعد ذلك اكتشاف فون لاوي لانحراف الأشعة السينية، ذلك الاكتشاف الذي أكد صحته عالما الفيزياء لورانس ويليام براج ووالده السير هنري ويليام براج، الذي يبيِّن على نحو فريد الطبيعة الموجية للأشعة السينية والتركيب البلوري، كما توضحها معادلات لاوي وبراج. وهذا يوضح توضيحًا جيدًّا ترتيب الذرات عندما يكون انفصالها بالترتيب نفسه الذي يأخذه طول موجة الأشعة السينية.

على الرغم من أن دي بروي لم يقدم تقريبًا أي معلومة جديدة، كان من المثير الاستماع إلى أسطورة حية مثله ورؤيته، لا سيما إن كانت تلك الأسطورة تنحدر من طبقة النبلاء الفرنسية. تبين لريتشارد أيضًا أن علماء البلورات قد أهملوا إجراء بعض القياسات على الإلكترونات التي كانت بمنزلة المادة اللاصقة التي ربطت الذرات بعضها ببعض داخل البلورات. ومن هنا، كان من الضروري طرق أبواب جديدة في هذا العلم.

كان لدى ريتشارد الوقت الكافي للتجول في شوارع مدينة النور وزيارة المعالم السياحية التي أُصلحت ونُظمت بعد عشرة أعوام من تحرير المدينة. ولعل أهم أحداث الاتحاد الدولي لعلم البلورات أثناء انعقاد ذلك المؤتمر هو المأدبة التي أُعدت في مدينة فرساي، فقد تجمع ٨٠٠ من الضيوف تحت سقف واحد، وكانت تقدم إليهم في آن واحد وجبات الطعام الحارة، صنفًا وراء صنف، بدقة أشبه بالدقة العسكرية. فلا بد أن طاقم النُّدُل الضخم الذي يصل إلى ١٠٠ نادل على الأقل كان قد تدرب جيدًا لهذا الحدث.

وقد حضر المؤتمر إتش كورين، أحد فيزيائيي الأشعة السينية الفرنسيين. وبعد ذلك، حصل على ترقية إلى منصب يوازي منصب وزير العلوم، مع سلطة تحكم في الموارد المالية والنفقات. وكان من الواجبات التي يتضمنها ذلك المنصب أن يتعامل صاحبه مع مقترحات الأبحاث التي يتقدم بها الفيزيائيون. وعندما سأله ريتشارد عن مدى اختلاف المنصب الجديد عن إجراء الأبحاث، قال مازحًا إنه عندما يتقدم اثنان من العلماء إليه بمقترحات أبحاث لمشروعات متشابهة، لم يكن يحسب متوسط الميزانيات المتوقعة أو يجمعها لكي يصل إلى الرقم الحقيقي المطلوب، وإنما كان يضرب الميزانيات بعضها في بعض. فقد اشتهر الفيزيائيون، حسب كلامه، بفقدان الكفاءة فيما يخص العمليات الحسابية. حتى أينشتاين نفسه كان يدعي ضعفه في إجراء الحسابات الذهنية.

بعد المؤتمر، كتب جورج بيكون من هارويل، أوك ريدج البريطانية، إلى ريتشارد مخبرًا إياه بقدومه إلى الولايات المتحدة لزيارة المختبرات هناك. كان جورج آنذاك منغمسًا في دراسة انحراف النيوترونات، وفحص هو وشول في أوك ريدج معدِن الكروم في شكله المسحوقي؛ إذ لم يتوصل أي منهما إلى طريقة الحصول على البلورات الأحادية. ولاحظ كل منهما أن الكروم يتمتع بمغناطيسية حديدية مضادة؛ أي إن كل ذرة كروم تمثل مغناطيسًا ولكن الاتجاهات الشمالية والجنوبية تنعكس على نحو منتظم. ونتيجة لذلك، لم تكن هناك مغناطيسية صافية كما في المغناطيس الحديدي.

قابل ريتشارد جورج في الفندق وأخبره جورج بأنه كان في نهاية رحلة شهرية، وأن تلك الليلة هي الليلة الأولى التي ينام فيها على سرير ثابت. فقد حجز له مكتب السفر في هارويل مع نزلاء الليلة الواحدة من مدينة إلى مدينة لتوفير المال! وكانت لدى جورج قوة غير عادية على التذكر، ولا سيما بعض التفاصيل الدقيقة مثل العناوين القديمة وأرقام الهواتف القديمة … إلخ.

عندما أجرى فيرمي تجربة انحراف النيوترونات للمرة الأولى من خلال بلورات أحادية بسيطة، لاحظ أن الكثافة التي حصل عليها لم تكن التي توقع الحصول عليها عند مقارنة الترتيبات المختلفة. وقد بقي ذلك لغزًا حتى أجرى جورج بيكون وزميله راي لويد بعض العمليات الحسابية المطولة التي أوضحت أن السبب في ذلك كله هو التشتت المضاعف داخل البلورة. عُرفت تلك النتيجة باسم الفناء وكانت بالغة الضرر في رأي كل باحثي انحراف النيوترونات، وتشتت الأشعة السينية، وانحراف الإلكترونات. وقد كانت هذه النتيجة بعينها هي ما أبطل القياسات التي أجراها ريتشارد على الحديد. وقد اختلفت من بلورة حديدية إلى بلورة حديدية، وكان التنبؤ بها أو قياسها بدقة مستحيلًا. ولا تزال ظاهرة الفناء مشكلة كبرى إلى الوقت الحالي؛ وكان هذا هو التنبيه الذي وجب أن يتلقاه ريتشارد قبل الشروع في إجراء قياساته على الحديد باستخدام الأشعة السينية، لكنَّ أحدًا لم يكن يعرف أن ذلك سيحدث، ولم يشأ الله أن يكشف لريتشارد عن ذلك السر دون أن يذيقه بعض المعاناة.

في ذلك الوقت، أرسل شخص ما من مكتب الولايات المتحدة للمناجم إلى ريتشارد بلورة أحادية من الكروم، وحصل ريتشارد على إجازة بضعة أسابيع وذهب إلى بروكهيفين لفحص البلورة داخل مقياس الطيف النيوتروني كورليس-هاستنج. نتج عن البلورة الأحادية مزيد من الكثافة المشتتة عنها في حالة المساحيق، وساعدت أيضًا في تحسين قياسات المغناطيسية الحديدية المضادة الضعيفة التي أقرها شول وبيكون. وكان للقمة الخاصة (١٠٠) شكل غريب أكثر اتساعًا من القمم الأخرى. وبِناءً على اقتراح من هاستينج، استُخدم مرشح بلوتونيوم لتنقية الشعاع النيوتروني الذي كانت به نسبة أعلى من التلوث. عرف بعد ذلك أن القمة (١٠٠) كانت في الواقع قمتين منقسمتين عند الوسط. وكان ذلك يعني أن الذرات المغناطيسية تتجه في اتجاهات أعقد من الشمال والجنوب فحسب، بل يمكن ترتيبها في شكل حلزوني. وقد تبنى هذه النتيجة المدهشة العديد من المنظِّرين، بمن في ذلك العالم دي جين الذي نال جائزة نوبل بعد ذلك، والذي كان يزور الولايات المتحدة في ذلك الوقت قادمًا من فرنسا، وكان تفسير جزئي لذلك على وشك الظهور.

وكأن ذلك كله لم يكن كافيًا لمحاولة الفهم والاستيعاب، فلم تطابق الحرارة النوعية للكروم النتائج الموجزة في أعمال هوفمان، وباسكين وتاور، ووايس. وفي الواقع، ظلت هذه المشكلة ومشكلات كثيرة غيرها تخص العناصر الانتقالية بلا حل.

استمتع ريتشارد برحلته إلى باريس كثيرًا حيث زار فيها سوق البضائع المستعملة، والمدينة القديمة، والمطاعم الصغيرة، والمعالم السياحية المشهورة، وتذوق الخبز الهش. وعقب عودته إلى ماساتشوستس، وقع شيئان كان فيهما بشرى كافية لتغيير حياته في ووترتاون. الأول هو أنه طُلِبَ من جاك جولدمان، أستاذ الفيزياء في معهد كارنيجي للتكنولوجيا والمهتم كثيرًا بخواص العناصر المغناطيسية؛ أن يؤسس فريق أبحاث داخل شركة «فورد موتورز» في مدينة ديربورن بولاية شيكاغو. وقد طلب البروفيسور من ريتشارد أن ينضم إليه ويساعده في تلك المهمة، وبالفعل زار ريتشارد ديربورن. ولعل الإغراء الرئيسي في ذلك العرض هو وجود مفاعل في مدينة آن أربور (جامعة ميشيجان)، إلى جانب استمرار العمل في انحراف النيوترونات وانحراف الأشعة السينية. وفي الحقيقة، كان العرض على درجة كبيرة من الإغراء. لكنَّ الإعلان عن برنامج جوائز روكفلر للخدمة العامة الذي يمنح موظفي الحكومة الحق في قضاء عام كامل بالخارج قد استحوذ على لب ريتشارد.

كان جون دي روكفلر الثالث حفيد مليونير النفط المشهور، وكان قد سلك طريق العمل الخيري بهمة عالية. وكان جده قد جمع ثروة طائلة من إمبراطورية تكرير البترول الخاصة به بعد أن تخلص من منافسيه بلا رحمة. ورغم المعاملة الجائرة المشبوهة التي كان الجد يتبعها مع كل من يعترض طريق نجاحه، فقد مارس العمل الخيري بالثروة الطائلة التي جمعها، ليحتل بذلك المرتبة الثانية في العمل الخيري على مستوى العالم بعد المصرفي الأمريكي جيه بي مورجان. وقد انتقلت رغبة إنفاق الأموال في العمل الخيري من الجد إلى الابن جون دي روكفلر؛ فقد كان هو من ساعد في إنشاء قرية على الطراز الأمريكي إبان القرن الثامن عشر في ويليامزبيرج بولاية فرجينيا، بالإضافة إلى مركز روكفلر. وكان من الطبيعي أن يسير الحفيد جون دي روكفلر الثالث على خطى أبيه وجده نفسها. ولذلك تمثلت إحدى أفكاره في مكافأة موظفي الحكومة المجدين في عملهم، وقد تسنى له تنفيذ ذلك عن طريق منح جوائز روكفلر للخدمة العامة.

تقدم ريتشارد لنيل جائزة روكفلر مستشهدًا بسلاتر كواحد من الأشخاص الذين يمكن الرجوع إليهم. وبالفعل حدث أن تلقى ريتشارد في ٢١ يناير ١٩٥٦ خطابًا من هارولد دودز رئيس جامعة برينستون، وهو منصب شغله وودرو ويلسون في وقت من الأوقات، يخبره فيه بأنه كان واحدًا من بين ١٦ آخرين حازوا جوائز روكفلر. عقب ذلك، أرسل ريتشارد خطابًا إلى صديقه جورج بيكون في هارويل ليقدمه إلى رئيس مجموعة عمل الفلزات هناك، الذي رحب بانضمام ريتشارد إليهم عامًا كاملًا.

تلقَّى ريتشارد الكثير من خطابات التهنئة كان من بينها خطاب من الجنرال ماكسويل تيلور، وتداولت الخبر صحف عديدة. استقل ريتشارد بعد ذلك طائرة النقل العسكري متوجهًا إلى إنجلترا ليرتب مع نظرائه في هارويل شئون إقامته القادمة. وعندما وصل إلى هناك اصطُحب في جولة داخل المختبر والقرى المجاورة التي سيجد فيها اللوازم الضرورية، ووعده مسئولو مكتب الإسكان بأن يجدوا له مكانًا قريبًا من المؤسسة قبل أن يصل إلى هناك. عاد ريتشارد على قناعة تامة بأنه سيستمتع بالعمل في هارويل. وعلى الفور كتب إلى جاك جولدمان رافضًا عرضه بالانضمام إلى شركة «فورد» وأخذ يعد عدته لرحلة الخريف.

بعد بضعة أسابيع، تلقى ريتشارد خطاب اعتذار مفاجئًا. فقد عُرضت الدعوة التي من المفترض أن توجهها هارويل إلى ريتشارد لكي يقضي عامًا بها (بلا أي مقابل حيث كانت مؤسسة «جون دي روكفلر» هي مَن يتحمل النفقات جميعها) على مدير هارويل كإجراء روتيني، ولكنه رفض قائلًا: «لا نريد أي أمريكيين هنا!» أو كلمات بهذا المعنى.

ولم يتسنَّ لريتشارد قط أن يعرف ما أثار مشاعر رئيس هارويل ضده، لكنه على الفور كتب إلى دبليو إتش تيلور في مختبر كافينديش بكامبريدج يخبره بمحنته. وفي الرد الذي تلقاه ريتشارد بالبريد الجوي، أكد له تيلور عدم وجود أي صعوبة في انضمامه إلى مجموعة الأشعة السينية في كافينديش. وكان ذلك بمنزلة تعويض! وبعد أسبوع واحد من ذلك، مات مدير هارويل الذي رفض انضمام ريتشارد.

وفي أحد خطابات المتابعة التي كانت تأتي ريتشارد من جامعة برينستون، تلقى دعوة إلى مأدبة في واشنطن لتكريم الحاصلين على جائزة روكفلر. وكان جون دي روكفلر الثالث حاضرًا في تلك المأدبة لتهنئة الأفراد الستة عشر الحاصلين على الجائزة، الذين يعمل الجزء الأكبر منهم في واشنطن. وبعد الاحتفال، وجد ريتشارد نفسه بصحبة رجل الخير جون روكفلر الثالث على متن الطائرة المتجهة إلى بوسطن، فسأله كيف توصل إلى فكرة مكافأة موظفي الحكومة. أشار روكفلر إلى أن الأعمال الخيرية ليست أمرًا سهلًا. ذلك أن الأمر يستغرق وقتًا طويلًا لاتخاذ قرار التبرع بالأموال حتى يكون هناك عائد من ورائه. وأضاف روكفلر أنه عرف العديد من الموظفين المجدين في القطاع الحكومي، وأن الأمر يستحق أن يجرب منح تلك الجائزة مدة عشرة أعوام أو نحو ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤