مختبر كافينديش، كامبريدج: ١٩٥٦-١٩٥٧

قبل بضع سنوات من وصول ريتشارد إلى مختبر كافينديش، كان فرانسيس كريك والأستاذ الأمريكي الزائر جيمس واتسون قد كوَّنا فريق عمل مع النيوزيلندي موريس ويلكنز في كلية الملك في لندن ووضعوا جميعًا نظرية التركيب الحلزوني لجزيء الحمض النووي. وقد توصَّل هؤلاء العلماء إلى تلك النتيجة بِناءً على بيانات الأشعة السينية لعينات بلورات أحادية، أشارت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إلى أنهم ربما حصلوا عليها «بطريقة غير أخلاقية» من روزاليند فرانكلين في لندن. وقد ترددت شائعات كثيرة آنذاك بقرب حصول الفريق على جائزة نوبل، لكنَّ ريتشارد لم يكن اختصاصيًّا في علم البلورات، وكانت بيولوجيا الحمض النووي تتجاوز نطاق فهمه بمراحل كثيرة. كما أن ترتيبات الذرات المعقدة التي تعتبر هي بيئة اختصاصي البلورات كانت قد أصابته بملل شديد؛ فقد كان اهتمامه مقتصرًا على الإلكترونات التي توفر «المادة اللاصقة» التي تُبقي على الذرات مرتبطة بعضها ببعض. وبالتأكيد رفض ريتشارد الانجراف مع آراء علماء الفيزياء الحيوية بجامعة كامبريدج وقراراتهم. وعندما أخبروه بأن هدفهم يتمثل في التعرف على تركيب البروتينات، اعتبرهم ريتشارد حمقى طائشين. واعتاد ريتشارد إطلاع أي شخص قد يبدي رغبة في الاستماع على بحثه على الحديد، لكن مضت أشهر عدة قبل أن تلفت النتائج التي توصل إليها الانتباه المفرط لدى نيفيل موت، البروفيسور في مختبر كافينديش وواضع النظريات البارز الذي فاز بجائزة نوبل في وقت لاحق.

قبل الحرب العالمية الثانية، كان الحاصلون على جائزة نوبل من أمثال جيه جيه طومسون، مكتشف الإلكترون، وإرنست راذرفورد، مكتشف النواة، والسير لوارنس براج، مكتشف تقنيات الأشعة السينية لتحديد التركيب البلوري، وجيمس تشادويك، مكتشف النيوترون، يسلكون شارع فري سكول الضيق في رحلة ذهابهم اليومي إلى المختبر الشهير الكائن في قلب جامعة كامبريدج وإيابهم منه. وكان ريتشارد يرى في تلك الجامعة الجمع بين العلم والآداب في قالب واحد. فمنها تخرَّج نيوتن (الذي اكتشف الجاذبية من خلال السقوط)، وعدد كبير من عظام الشعراء من أمثال: ميلتون، ووردزورث، وكولريدج، ولورد بايرون، ولورد تنيسون.

وكما كتب توماس جراي عام ١٧٣٦ ساخرًا:

«لا شك أنه عن هذا المكان الذي يُعرَف الآن بكامبريدج، وسابقًا بابيلون، قال الرسول: «تربض هناك وحوش القفر، ويملأ البوم بيوتهم وتسكن هناك بنات النعام، وترقص هناك معز الوحش؛ حصونهم وأبراجهم ستظل أوكارًا للأبد، وملاذًا للحمر الوحشية».»

مباني الكليات في كامبريدج قابعة في أماكنها منذ ما يربو على سبعمائة وخمسين عامًا، والطراز القوطي في العمارة ومروج الأعشاب الخضراء المهذبة هي خير شاهد على عمرها الطويل. شيدت الكلية الأولى، كلية بيتر هاوس، عام ١٢٨٤. وكان جون هارفارد قد تخرج في كلية إيمانويل قبل التوجه إلى كامبريدج بولاية ماساتشوستس، حيث صارت الكتب التي وهبها نواة للجامعة الشهيرة التي أنشئت بعد ذلك على نهر تشارلز وتحمل اسمه. وقد تخرج جون سينجلتون كوبلي من كلية ترينيتي، وتخرَّج برادوك، الجنرال الذي خدم تحت إمرته جورج واشنطن، من كوربوس كريستي، وتخرج روجر ويليامز من بيمبروك. كان ما يزيد عن ١٣ كلية في جامعة كامبريدج لها جميعًا نائب رئيس جامعة يتولى إدارة الشئون الجامعية وحماية الكليات من أي سوء. وقد كانت كنيسة كلية الملك، هدية الملك هنري الرابع عام ١٤٤٦، التي لم يكتمل بناؤها إلا في عهد الملك هنري السابع عام ١٥١٥، تحفة معمارية فريدة. وبدا ذلك كله وكأنه حلم للشاب ريتشارد القادم من برونكس.

ذات مرة سأل سائح أمريكي أحد القائمين على رعاية حدائق الجامعة في إحدى الكليات عن طريقة عنايتهم بتلك المروج الجميلة:

«يجب أن تستعين بآلة جز الحشائش كل يوم، وألا تفوت يومًا واحدًا طوال ٧٠٠ عام!»

بالإضافة إلى تلك المروج، كانت درجات الحرارة المعتدلة، والضباب المعتاد الذي يسمى أحيانًا مطرًا، من أسباب اكتساء مقاطعة كامبريدجشاير بالخضرة الدائمة. وسيظل ريتشارد مدينًا بالفضل إلى جون دي روكفلر الثالث وإلى مختبر كافينديش بالفرصة التي حصل عليها للعمل بهذه المدينة ذات الجذور الثقافية العميقة. فقد ترعرع في برونكس، لكنه أبصر نور العلم الحقيقي في كامبريدج.

ووفقًا لشروط منحة روكفلر التي حصل عليها ريتشارد، كان على ريتشارد أن يمكث في أوروبا من أجل دراسة توزيع الإلكترونات، وبالكاد خرج سالمًا من أول لقاء له مع مطعم الأسماك ورقائق البطاطس المقلية، وجريدة «التايمز» اللندنية التي كان السمك يلف فيها. وكانت له مغامرات يومية مثيرة مع الأتوبيسات، والقطارات، ومترو الأنفاق، والحانات، والصحف، وهيئة الإذاعة البريطانية، وشاي المساء، ورجال الشرطة غير المسلحين، واللكنة الإنجليزية، والعملات القديمة، والطعام، والهواتف، والعائلة المالكة، والاهتمام بالطبقات، وأصول الملبس … إلخ. واستمرت هذه التجارب حتى ألف ريتشارد هذه الاختلافات كلها؛ فقد كان من السهل أن يخرج من برونكس، لكن لم يكن من السهل أن تخرج برونكس من قلبه في أقل من عام.

تقع جامعة كامبريدج على نهر كام، وهو موقع اكتسب اسم الجسر الذي يعبر ذلك النهر الفرعي. وكانت ممرات الجامعة مكتظة بطلاب يسعون لتحصيل العلم مثل مستعمرة من النمل تسعى لجمع السكر. وكانت العباءات زيًّا إجباريًّا وكان لأعضاء هيئة التدريس جولات متعددة داخل طرقات الجامعة لتطبيق ذلك النظام. وإذا حدث وارتدى أحد الطلاب زيًّا مخالفًا، لاحقته الشرطة الجامعية على الفور للإمساك به والتعرف عليه. وكان ذلك الزي أوشحة من الصوف يبلغ طول الواحد منها ثمانية أقدام، ولكل وشاح لون معين على حسب الدرجة الجامعية، وكان يلف حول الرقبة ليكون في أغلب الأوقات الدرع الأولى ضد البرد القارس. وكان انبساط أرض المدينة وعدم وجود التلال، وضيق الغالبية العظمى من شوارعها، وارتفاع أسعار البنزين — أسبابًا في انتشار استخدام الدراجات كوسيلة للتنقل. فمن الممكن أن يرى المرء أحد عمال تنظيف النوافذ المهرة مستقلًّا دراجته وعلى كتفه سلم طوله ١٢ قدمًا ويتدلى من إحدى نهايتي السلم دلو وممسحة مطاطية. وكان أعضاء هيئة التدريس يضطرون كثيرًا لارتداء الملابس الرسمية عند تناول الطعام داخل الجامعة، غير أنهم كانوا يعتمدون أساسًا على الدراجات في التنقل.

كان الطلاب وأعضاء هيئة التدريس يُفصَل بينهم في الوجبات، فكان أعضاء هيئة التدريس يجلسون إلى منصة مرتفعة يُطلَق عليها «المائدة الرئيسية» (وكان الطعام الذي يُقدَّم عليها فاخرًا أيضًا). وكانت قاعات تناول الطعام تحتفظ بالطراز القوطي ذي الأسقف العالية المحدبة ورسومات تجمع الأساتذة والطلبة. وكان دبليو إتش تيلور قد تحمل بكرم نفقات اشتراك ريتشارد في تلك الخدمة، بحيث يمكنه مشاركة الوجبات والأحاديث مع صفوة المائدة الرئيسية بكلية الملك في كامبريدج (التي تختلف عن كلية الملك في لندن التي يرجع تاريخها إلى عام ١٨٣٠ فقط). أشار أحدهم إلى أنه تناول الطعام مع المؤلف الشهير إي إم فورستر (مؤلف رواية «الطريق إلى الهند»). كان الأمر أشبه بخيال لا يصدق.

كان ميدان السوق في كامبريدج ميدانًا يضم ما يقرب من ١٠٠ قاعة لعرض السلع، الأمر الذي استدعى إلى ذاكرة ريتشارد أيامه الأولى في برونكس عندما كانت أمه تصحبه إلى طريق باثجيت، وكانا لا يستعينان بأيٍّ من عربات اليد المصطفة على جانبي الطريق في محاولة لتوفير بنس واحد، كان نصفه على الأرجح يذهب في إصلاح حذائه. وكانت الخضراوات والفاكهة والورود وغيرها من الأشياء تُوزَّع على المقيمين في كامبريدج. وبعد ذلك بأربعين عامًا، ذكَّر انتشار أسواق السلع المستعملة في أمريكا ريتشارد بقاعات عرض السلع في الأسواق المفتوحة في أوروبا.

لم يحظَ حضور هذا الباحث الأمريكي القادم من برونكس إلى مختبر كافينديش بترحيب جميع الموجودين داخل المختبر؛ إذ كان هو الشخص الوحيد القادر على شراء السيجار وتدخينه. وكان ريتشارد دائمًا ما يخلِّف وراءه آثار الدخان والرماد. وقد انتشرت الأقاويل بعد أن جلس ريتشارد في المكتبة الفلسفية العريقة وأخل بالقاعدة الأولى لها ودخَّن سيجارًا. وقد صُعق حين طلب منه مغادرة المكتبة في الحال!

ودون جهاز الأشعة السينية، كان ريتشارد يهيم في الشوارع، مخصِّصًا ساعات قليلة من كل يوم لقضائها داخل المختبرات والتفكير في المشكلات النظرية الخاصة بالديناميكا الحرارية. وكان قد تعرَّف على برايان بيبارد، الذي أبدى اهتمامًا ببحث ريتشارد في الديناميكا الحرارية، وقابل أوتو فريش، الذي كان أول من وضع نظرية عملية الانشطار مع عمته ليز مايتنر عام ١٩٣٨، وكثيرًا ما كان يتناقش مع موت حول الإلكترونات المغناطيسية في الحديد في محاولة لإثارة اهتمامه.

وبعد أن اكتشف ريتشارد بالفعل إمكانية إعادة ضبط التركيب المغناطيسي مع الحرارة النوعية في بحثه مع هوفمان، وباسكين، وتاور، كوَّن فريقًا مع كين تاور؛ جاره في ماساتشوستس وشريكه أحيانًا في مباريات الجولف، للكشف عن جميع تفاصيل شكلي معدِن الحديد. واستمر ذلك العمل عن طريق البريد بعد وصول ريتشارد إلى كامبريدج. وللأسف، لم يساعده المنهج الذي درسه سابقًا بكلية مدينة نيويورك على يد زيمانسكي في الديناميكا الحرارية مطلقًا من الناحية العملية. كشف كلارنس زينر لريتشارد عن تلك الحقيقة عندما أقر أن الإنتروبيا المغناطيسية للحديد قد تكون ذات صلة بعدد الإلكترونات في المستوى الفرعي 3d؛ أي: إلكترونان لكل ذرة. كان زينر موجودًا في مختبرات أبحاث وستنجهاوس في بيتسبرج في الوقت الذي أثار فيه اهتمام ريتشارد. ولكنه قرَّر، خلال الحرب العالمية الثانية، أن يسهم بجهوده في تلك الحرب، فانضم إلى فريق عمل أبحاث الفلزات في ترسانة ووترتاون. لكن لم يمضِ وقت طويل على وصوله إلى ووترتاون حتى سئم عديمي الكفاءة داخل القطاع الحكومي، وأقسم أن يرحل عن ذلك المكان حالما تضع الحرب أوزارها. وقد بر بقسمه.

كان ريتشارد يعلم أن شكلي الحديد الصافي ثابتان في درجات حرارة مختلفة، فقد كان شكل الحديد ذي المغناطيسية أو الشكل ألفا ثابتًا من درجة الصفر المطلق إلى ٩١٠ درجات مئوية، وهي درجة الحرارة التي يتخذ فيها الحديد تركيبًا بلوريًّا آخر، هو حديد جاما، ويظل في تلك الحالة حتى تصل درجة الحرارة إلى ١٤٠٠ درجة مئوية، فيعود إلى الشكل ألفا مرة ثانية لينصهر بعد ذلك في درجة حرارة ١٥٣٩ درجة مئوية. ومع تزايد درجة الحرارة في الشكل ألفا، وتحديدًا بعد تجاوز درجة ٧٧٠ مئوية، تفقد الذرات المغناطيسية مغناطيسيتها الحديدية. وقد أطلق على هذه الدرجة درجة حرارة كوري، نسبة إلى بيير كوري زوج ماري كوري.

فإذا تمكَّن المرء من تثبيت حديد جاما في جميع درجات الحرارة بطريقة ما، ربما يتمكن من التعرف على بعض أسباب اختلاف الشكلين. وكانت هذه هي النقطة التي عندها أدرك ريتشارد وكين (تاور) أن الحل يكمن في الديناميكا الحرارية، حيث إن الطاقات الحرة للشكلين كان من المفترض أن تتساوى في درجتي حرارة التحول ٩١٠ و١٤٠٠. فقد كانت الطاقة الحرة تمثل إحدى خصائص الديناميكا الحرارية التي تعتمد على قوة الروابط الإلكترونية، وعلى أي تأثيرات أخرى مغناطيسية أو إلكترونية. وعن طريق إعادة بناء خواص حديد جاما بدقة بحيث تتوافق مع حديد ألفا في درجتي حرارة التحول (٩١٠ و١٤٠٠)، توصل ريتشارد وكين إلى أن شيئًا ما غير طبيعي يحدث في حديد جاما عند درجات حرارة يمكن تثبيته في درجات أقل منها. وكان هذا الاكتشاف بمنزلة القدرة على رؤية ما يحدث خلف حائط غير مرئي من خلال النظر في كرة بلورية سحرية. وكانت هذه الطريقة تبشر بجذب انتباه المهتمين بفيزياء الحالة الصلبة إلى علم الديناميكا الحرارية والتركيز عليه. وفي غضون السنوات القليلة التي تلت ذلك، ذاع سر حديد جاما، وشاع تحليل الديناميكا الحرارية، واجتذب في النهاية عددًا من المشجعين كان كافيًا لإصدار مجلة خاصة بالديناميكا الحرارية (مجلة «كالفاد»، وكان لاري كوفمان مؤسسها ورئيس تحريرها).

تظهر الفيزياء في أغرب الأوقات. أدرك ريتشارد ذلك حين كان مستقلًّا أحد القوارب في جولة بنهر كام وأصبح عمود القارب ملوثًا بالوحل في قاع النهر مما جعل القارب يفقد توازنه. فرضت الجاذبية هيمنتها، ووقع ريتشارد واصطدم بقاع النهر الضحل، ثم ارتفع إلى سطح الماء وهو ما زال يمسك سيجاره الذي انطفأ بين أسنانه. وسرعان ما أثرت كمية الحركة والديناميكا الحرارية في طريقة تصرفه وهو يهرع إلى منزله لتبديل ملابسه. فبداية من شهر نوفمبر وما بعده من الشهور، كان ريتشارد يرتجف باستمرار في شهور من البرد القارس في مختبر لا يحتوي على أي وسائل تدفئة إلا سخانًا صغيرًا أعطي إياه في الشهور الأشد برودة. وضع ريتشارد هذا السخان تحت مقعده مباشرة لكنه لم يُفد كثيرًا في التخلص من البرودة التي يشعر بها في الجزء العلوي من جسده.

في تلك الأيام الشديدة البرودة، قرأ ريتشارد بأسنان تصطك خطابًا بعث به أحد المدرسين إلى رئيس تحرير صحيفة «الجارديان»، يصف فيه مازحًا كيفية تحفيز نزلات البرد:

«يجب أن نبدأ حملة ضد نزلات البرد في مدارسنا التي تسوء فيها التدفئة والتهوية، ففي بداية اليوم الدراسي يجب غلق نوافذ الفصول بإحكام حتى تصل درجة الحرارة إلى ٥٦ فهرنهايت. وحينها يكون المدرس مشغولًا إلى حد لا يتيح له الصراع مع النافذة لفتحها. وعندئذٍ تقضي الجراثيم المسببة للبرد وقتًا رائعًا في الفصول ولا ينجو منها إلا القليل!»

كان ريتشارد يكنُّ الإعجاب حقًّا لأي بلد يتمكن أطفاله من العيش في درجة حرارة ٥٦ فهرنهايت أو أقل.

وعندما حل الربيع بعد طول انتظار، كان ريتشارد يتجول وسط نبات الزعفران الذي كسا الحقول الموجودة خلف نهر كام، وكان لا يزال يحتسي أكواب الشاي، ثم المزيد من الشاي كي يبقى دافئًا. وكان قد اعتاد أيضًا على استقلال القطارات البخارية متجهًا إلى لندن لزيارة الكلية الملكية، والمتاحف، والسفارة الأمريكية في ميدان جروسفنر، بل إنه حاول القيام برحلة مستحيلة بالقطار إلى أكسفورد. كان مقر السفارة الأمريكية داخل مبنى قديم فخم، حل محله بعد ذلك مبنى جديد. كان ذلك المبنى يضم متجرًا لبيع الخمور المعفاة من الجمارك والضرائب (باستثناء الويسكي)، ويمكن لموظفي وزارة الدفاع الأمريكية شراؤها بثمن بخس. وكان ريتشارد إذا استضاف بعض الأصدقاء الإنجليز، يقدم لهم ويسكي بوربون بقوة ١٠٠ درجة، ثم يجلس ليشاهد رد فعلهم عندما يلسع الكحول ألسنتهم.

كان شغب الطلاب في كامبريدج لا يختلف عنه في أي مكان آخر، لكنه ربما يكون أكثر براعة وذكاءً. وقد استمتع ريتشارد بحركات القفز التي قام بها بعض الطلاب عندما نجحوا في وضع شاحنة صغيرة فوق سطح مجلس الشيوخ، في ليلة واحدة! أصيبت السلطات المحلية بالارتباك، واضطرت إلى الاستعانة بمشعل تقطيع لتفكيك الشاحنة ثم تنزيل أجزائها بالونش، مما عرقل حركة السير داخل الشوارع الضيقة ساعات كاملة. ولكن كيف تسنى لهم القيام بذلك؟ اشترى الطلاب إحدى شاحنات الخردة، وقطعوها إلى أجزاء صغيرة، ثم حملوا تلك القطع إلى السطح. وعلى السطح أُعيد تثبيت القطع بعضها مع بعض بالمسامير، وبطريقة تختفي بها المسامير عن الأنظار.

أصبحت خطوط السكة الحديدية البريطانية أسلوب حياة لريتشارد في ظل عدم وجود سيارة. وتكشف نظرة سريعة على خريطة نظام السكك الحديدية في المملكة المتحدة عن وجود شبكة دائرية من خطوط السكك الحديدية تربط جميع أطراف المملكة المتحدة ومركزها هو لندن. وبينما كان السفر من لندن وإليها سهلًا للغاية، لم يكن السفر من الخطوط الأخرى وإليها — مثل الرحلة التي تستغرق ثلاث ساعات لقطع ٥٠ ميلًا فقط من كامبريدج إلى أكسفورد — إلا نوعًا من المغامرة التي يقوم بها المتهورون فقط. وكان أكثر الجوانب إثارة في الرحلة بين المدينتين الجامعيتين هي محطة القطار التي تُنار بالغاز، والتي يطفئ فيها مدير المحطة الأنوار جميعًا في التاسعة والنصف مساءً بعد عبور آخر قطار. وبعد بضعة أعوام، كلفت الحكومة أحد الفيزيائيين، وهو ريتشارد بيتشينج، بزيادة كفاءة السكك الحديدية. أوقف ذلك الرجل ما يقرب من ٢٥٪ من خطوط السكك الحديدية الموجودة آنذاك. بعد ذلك، دخلت كلمة «بيتشينج» إلى مصطلحات اللغة الإنجليزية كي تشير إلى عملية إغلاق أحد خطوط السكك الحديدية ووقفه بلا أدنى تعاطف أو شفقة مع المسافرين. كتب ريتشارد مسرحية تلفزيونية دارت أحداثها حول محطة سكك حديدية طريفة، لكنه لم يتمكن من العثور على من ينتجها؛ لذلك حوَّل ريتشارد المسرحية إلى كتاب، لكن الوكيل الأدبي الإنجليزي لم يرَ فيه أي فكاهة. استخلص ريتشارد من ذلك أن الإنجليز يغارون على سككهم الحديدية بشدة، وكان مهندسا الطرق جورج وروبرت ستيفنسون بطلين في نظرهم.

وفي اليوم الذي أعقب وصول ريتشارد إلى لندن، أوقف إحدى سيارات الأجرة وطلب من السائق بلكنة أمريكي من برونكس أن يقله إلى محطة القطار، فشعر السائق برغبة في الضحك. ذلك أنه كان ما يقرب من ١٣ محطة والقطارات تنطلق من محطات مختلفة متجهة إلى جهات الوصول نفسها.

– «إلى أين أنت ذاهب يا سيدي؟»

– «كامبريدج.»

– «حسنًا يا سيدي.»

وبعد أن أوصله السائق إلى محطة ليفربول ستريت ومعه حقيبته، سأل ريتشارد عن شباك التذاكر، مع أنه كان يجب أن يسأل عن مكتب الحجز. وقف ريتشارد في طابور التذاكر، الذي يعد تقليدًا عريقًا راسخًا بين الإنجليز ليبرهنوا أنهم الأكثر تحضرًا بين كل شعوب العالم. طلب الحصول على تذكرة درجة ثانية إلى كامبريدج، ولكن قيل له إن التذاكر المتاحة هي تذاكر الدرجتين الأولى والثالثة. عندها لاحظ ريتشارد وجود لافتة تعلن عن وجود تذاكر ذهاب وعودة لمدينة كامبريدج بثمن أرخص ليوم واحد فقط، وذلك مقابل ثمانية شلنات وثلاثة بنسات كما كان موضحًا في الإعلان.

– «تذكرة ذهاب فقط إلى كامبريدج.» (كان عليه أن يقول تذكرة مفردة كما يقول البريطانيون).

– «سيكلفك ذلك اثني عشر شلنًا.»

– «يمكنني القيام برحلة ذهاب وعودة مقابل ثمانية شلنات وثلاثة بنسات، وتطلب مني أن أدفع اثني عشر شلنًا في تذكرة ذهاب فقط. معذرة، أقصد تذكرة مفردة؟»

همهم بائع التذاكر بتردد: «لا يسمح بحمل أي أمتعة في رحلة العودة الرخيصة الثمن.»

سأله ريتشارد: «وهل حقيبة الأوراق أمتعة؟»

وأجاب بائع التذاكر بعد تردد: «حسنًا، أعطني ثمانية شلنات وثلاثة بنسات.»

ذكَّرت تلك المحطة المليئة بالبخار ريتشارد بلوحة مونيه الشهيرة التي رسمها لمحطة قطار في باريس، وكان مونيه مفتونًا بالبخار أكثر من المحطة نفسها. وفي الوقت الذي بدأ فيه القطار يدخل إلى الرصيف، هال ريتشارد منظر المرافق البارزة من جميع أبواب القطار. كان على الراكب أن يخفض الشباك من الداخل، ثم يمد إحدى ذراعيه خارج الباب إلى أن يمسك بالمقبض؛ لم يكن فتح الباب ممكنًا إلا من الخارج. استقل ريتشارد قطارًا عاديًّا به ممر جانبي للانتقال بين عرباته كذلك الذي نراه كثيرًا في الأفلام الإنجليزية، ثم دخل مقصورة تضم بالفعل عددًا من الركاب. لم ينطق أحدهم بكلمة أو يبتسم ابتسامة؛ فقد كان ريتشارد غريبًا عنهم. وحاشا لله أن يكونوا قد حاولوا اكتشاف كونه أمريكيًّا؛ فلا بد أنه كانت هناك أشياء كثيرة في ملبسه ومظهره تدل على ذلك بوضوح. كان رد فعل هؤلاء الركاب يشبه إلى حد بعيد سلوك الأفراد في الحانات حيث ينظر الجميع إلى أحد الغرباء في شك صامت عند ولوجه من الباب. ومع ذلك، عند الرحيل، قد يودعه الجميع متمنين له قضاء ليلة طيبة.

كانت بريطانيا دولة المولعين بالسكك الحديدية، الأمر الذي قد يفسره جزئيًّا إنشاء أول خط للسكك الحديدية في العالم في شمال إنجلترا عام ١٨٢٥. وكان جورج ستيفنسون المولود بمدينة نيوكاسل هو رائد تطوير السكك الحديدية، وهو رجل لم يتلقَّ أي تدريب أكاديمي، لكنه صاحب نزعة طبيعية للتعامل مع تعقيدات الأجهزة الميكانيكية. وفي عام ١٩٥٦ كان الجزء الأكبر من المسافات المقطوعة في الأسفار داخل إنجلترا أقصر من أن تحتاج استخدام الطائرات، ومن ثَم ظلت السكك الحديدية تلعب دورًا حيويًّا للغاية في اقتصاد النقل. كان أكثر من مليون مسافر يُحملون يوميًّا من لندن وإليها على متن القطارات. كان الحجم الكبير لعربات القطارات، وصوت القاطرات المزعج، وألسنة البخار الطويلة، وحمامات الدخان الأسود المتكررة، والسرعة التي تزداد وتقل على نحو غير ثابت، وجدران المقاهي ذات اللون البيج، التي لم تدهن منذ سنوات، جميعها توحي بالرجوع بالزمن ربع قرن. ومع ذلك، رأى ريتشارد في ذلك كله رومانسية هائلة، ولعله يفسر اشتياقه الوليد لاستعادة الماضي.

كانت الحانات في كامبريدج تعج بالزائرين في أوقات الغداء عندما كان أعضاء هيئة التدريس يذهبون إلى هناك لاحتساء الجعة (تذكر ريتشارد جعة فلورز بيتر) وتناول إحدى وجبات الغداء التي تقدم في الحانات، مثل وجبة غداء بلافمان (خبز فرنسي، وقطعة زبدة، وجبن شيدر، وثمرة بصل، وصلصة)، وللثرثرة أيضًا (عليك أن تعرف مزحة). وترسخت بيئة الحانات في نفس ريتشارد، حتى إنها ستصحو بداخله بعد عشرين عامًا من ذلك التاريخ عندما يصبح صاحب حانة في ماساتشوستس.

في خريف عام ١٩٥٦، كان من المقرر إحياء ذكرى جيه جيه طومسون، أحد الأساتذة بمختبر كافينديش السابقين لإرنست راذرفورد. وفي يوم السبت الموافق ١٥ ديسمبر ١٩٥٦، حضر ريتشارد عشاء الاحتفال بالذكرى المائة لميلاد السير جيه جيه طومسون، الحائز على جائزة نوبل عام ١٩٠٦ عن اكتشاف الإلكترون، الذي نُظم داخل مختبر كافينديش. وبالطبع كان حضور ذلك العشاء بالملابس الرسمية. ولذلك، هرع ريتشارد إلى متجر موس برذرز لاستئجار بذلة سهرة. يا لها من سعادة!

بحلول وقت العشاء، كان ريتشارد قد قضى شهورًا عدة في إنجلترا، مما مكنه من إجادة استخدام الشوكة والسكين (الشوكة دائمًا في اليد اليسرى حتى عند تناول البازلاء)، لكنه أدرك أن الأمر قد يستغرق سنوات للتدرب على معرفة أنواع المشروبات التي يحتسيها. وكان عشاء الأطباق السبعة — طبق الحساء، وطبق السمك الفيليه، وطبق البط المشوي، وطبق الفاكهة، وطبق الحلو، وطبق الخبز، والقهوة — قد زاد روعة بتقديم أنواع مختلفة من النبيذ المحلي الفاخر مع طبق الحلو. وقد استدعى الحديث عن أنواع النبيذ برونكس إلى ذهن ريتشارد، وأخذ يفكر في مشروب الكوكاكولا. (في الحقيقة كانت البحرية السبب الرئيسي في تحول ريتشارد إلى شارب للويسكي). وكان في ذلك المساء ثلاثة أنخاب: أولها كان نخب الملكة الشابة، والثاني نخب السير جيه جيه طومسون ودعا إليه رئيس كلية ترينيتي، وكان الثالث نخب مختبر كافينديش ودعا إليه السير جون كوكروفت (مخترع مسرِّع الجسيمات الخطي)، والبروفيسور نيفيل موت في مختبر كافينديش.

في بداية الأنخاب الاحتفالية، ملأ منظمو الحفل كئوس النبيذ، بادئين بالكئوس الموجودة على المائدة الرئيسية. وما أن امتلأ كأس نيفيل حتى رفعه عاليًا ليبدأ شرب نخب الملكة، لكنه لم يلتفت إلى أن كئوس الموائد الأخرى كانت لا تزال فارغة. أشعره ذلك — وهو البروفيسور في مختبر كافينديش — بالحرج، فجلس على كرسيه، وأطلق ضحكة خافتة، وانتظر حتى قُدم النبيذ للجميع. وسرعان ما صار موت مشهورًا باسم البروفيسور الشارد. وكان قد تولى منصبه في مختبر كافينديش عقب فترة عمله بجامعة بريستول. وكان من عادة موت زيارة هارويل (مؤسسة أبحاث الطاقة الذرية) مستشارًا علميًّا مرة واحدة فقط كل شهر. وبعد فترة قصيرة من توليه منصبه بجامعة كامبريدج تجنب السفر بالقطار، وشرع في الذهاب إلى هارويل بالسيارة ومعه زوجته، مدام موت، التي كان يتركها في مدينة ريدنج تقضي اليوم في التسوق. وفي الخامسة من مساء ذلك اليوم، سأله أحد أعضاء السكرتارية في هارويل إن كان يريد الذهاب إلى المحطة بالطريقة المعتادة، فأجابه بالإثبات في هدوء تام. وقبل أن يتذكر طبيعة حياته الجديدة في كامبريدج، كان على متن قطار متجه إلى بريستول، وكانت زوجته في الجنوب بمدينة ريدنج تتساءل عن سبب تأخره، في الوقت الذي كانت فيه سيارته في الشرق تقف في باحة السيارات بهارويل، فيما كانت وظيفته بعد ذلك كله في الشمال بمختبر كافينديش! ولحسن حظه، لم يُثْنِ ما يعانيه من شرود الذهن أعضاء لجنة نوبل عن منحه الجائزة عام ١٩٧٧.

قابل ريتشارد، بعد بضعة أسابيع من الاستقرار بمختبر كافينديش، الأستاذ دوجلاس هارتري، ذلك الفيزيائي الذي ميز نفسه عن الآخرين عن طريق العمليات الحسابية التي أجراها لتوزيعات الإلكترونات على الذرات. وكان قد تمكن من وضع منهج للتعامل مع تلك المشكلة، أثبت صلاحيته سنوات قادمة. وكان والده — عالم رياضيات يتطلع إلى العثور على أي شيء يعمل به بعد التقاعد — قد بدأ في مساعدته في إجراء تلك العمليات الحسابية. ورغم أن منهجهما كان بسيطًا ومباشرًا، فقد كان شاقًّا ومنهكًا.

بعد أن اكتشف شرودينجر معادلة ميكانيكا الكم التي تحمل اسمه عام ١٩٢٦، استخدمها الباحثون في استنباط منهج رياضي لحساب توزيعات الإلكترونات على الذرات؛ أي معرفة المسافة التي تدور عندها الإلكترونات حول نواة الذرة. وفيما يخص أبسط الذرات، وهي ذرة الهيدروجين التي تحتوي على إلكترون واحد فقط، أمكن حل المعادلة بدقة تامة، وتطابقت حلول الطاقات تطابقًا تامًّا مع الملاحظات التي دونت من خلال التجربة. وصيغت في سهولة تامة الطريقة التي يدور بها الإلكترون حول النواة، رغم أن أحدًا لم يستطع أن يبرهن على صحة ذلك من خلال التجربة العملية، حيث إن التجربة العملية صعبة للغاية.

ظهر هارتري في الصورة عندما شرع في تحديد الحلول التقريبية للطاقات وتوزيع الإلكترونات على الذرات التي تحتوي على أكثر من إلكترون واحد. وقد برزت صعوبات كثيرة في هذه الحالات، حيث تنافرت الإلكترونات السالبة الشحنة بعضها عن بعض، ولم تعد الحلول البسيطة لمعادلة شرودينجر ممكنة. ابتكر هارتري إجراءً يمكنه عن طريقه أن يفترض توزيع الإلكترونات ثم يحسب الطاقة. وبعد ذلك، يجري تغييرًا طفيفًا في الافتراض الذي وضعه ويحاول أن يقلل الطاقة. كانت هذه العملية تستمر إلى أن يصل إلى أقل طاقة ممكنة. وحيث إن الإلكترونات تترتب في الواقع بحيث تظل طاقتها منخفضة قدر المستطاع، فإن حل هارتري التقريبي يقدم للفيزيائيين حلًّا تقديريًّا. وقد تبدو هذه الفكرة معقدة للغاية، ولكن في ظل عدم وجود ما هو أفضل، عليك أن ترضى بها.

كانت طاقات هارتري المحسوبة تقع في نطاق ٠٫٢٥٪ من الطاقات التجريبية، ولكن حيث إن أحدًا لم يقِس توزيع الإلكترونات، فلم يتمكن أحد من مقارنة حساب هارتري بالتجربة العملية. قاس ريتشارد توزيع الإلكترونات في ذرة الحديد، ولكن في صورته الفلزية. ولم يكن من المتوقع قط أن تكون الإلكترونات في الذرات المعزولة هي الإلكترونات نفسها في الحالة الصلبة للمادة. وهكذا شرع ريتشارد في محاولة التوفيق بين المتناقضات؛ أي بين ذرة الحديد المعزولة عند هارتري وقياسات ريتشارد التجريبية على ذرات الحديد في الفلز، ووفقًا للنتائج التي توصل إليها ريتشارد، كان بينهما فارق كبير.

أثناء محاولة ريتشارد اتخاذ الخطوة التالية، تحول إلى التمثيل، فقد كان العالم الحقيقي مرهقًا؛ مما دفعه إلى البحث عن مهرب. كانت كامبريدج تتباهى بوجود مسرح واحد على الأقل لعرض المسرحيات، وكان رئيس مسرح نادي كامباس قد قرر عرض مسرحية «بلدتنا» للمؤلف ثورنتون وايلدر. وكان رئيس المسرح بحاجة إلى أمريكي ليلعب الدور الرئيسي في المسرحية، وهو دور مدير مسرح، يكون مسئولًا عن سرد الأحداث التي تقع على خشبة المسرح، وعن قراءة التعليقات الإضافية أثناء الفواصل. افتتحت المسرحية في ٢٨ مارس عام ١٩٥٧، وكتبت صحيفة «كامبريدج ديلي نيوز» مقالة نقدية عنها في عدد اليوم التالي الذي تناول أيضًا حادث سرقة ٢٠ غطاءً حديديًّا للبالوعات، قيمة الواحد منها ٥ جنيهات استرلينية. وقد رأي ريتشارد في ذلك مفارقة عجيبة. وفيما يلي ملخص لما جاء في نقد تلك المسرحية:

كان مسرح نادي كامباس على قدر كبير من الجرأة عندما قدَّم مسرحية كانت محلًّا للنقاش إلى وقت قريب بين مدمني التلفزيون. وقد تمكنت مسرحية ثورنتون وايلدر دون أي ديكور أو تجهيزات من أن تحوز اهتمام المشاهدين؛ إذ إن مدتها ساعتان فقط؛ ولو زادت عن ذلك بضع دقائق، لصارت المسرحية أطول مما يجب.

وهي مسرحية ليس من السهل أداؤها على نحو مقنع على خشبة المسرح، ولذلك يجب أن نحيي نادي كامباس على هذا الاختيار الطموح.

لا شك أن غياب الديكورات وجهاز المسرح والحركات التعبيرية الناتجة عن ذلك قد تسبب في بعض الإزعاج وقتًا قصيرًا، لكنَّ القصة التي سردها مدير المسرح ممتعة جدًّا إلى درجة كافية للتخلص من أي إزعاج.

يمثل المسرح مدينة صغيرة في نيوهامبشاير، ويُقدِّم الأحداث التي تقع بها ويعلق عليها مدير المسرح الكادح، ديك وايس، الذي يُعد أفضل شخصية في هذه الأمسية بلا منافس.

ناهيك عن الأداء الطبيعي السلس لمدير المسرح … إلخ … إلخ.

كان أحد زملاء ريتشارد، في الرَّدهة المخصصة لانتظار الممثلين أوقات الفواصل، قد سمع مصادفة الناقد التابع للجريدة وهو يتحدث إلى صاحبه. ذلك حيث أخبره أن ما أعجبه حقًّا هو تلك اللهجة الأمريكية الرائعة التي تحدث بها مدير المسرح. وهكذا تركت برونكس بصمتها في إنجلترا البعيدة.

قبل أن يشد ريتشارد الرحال إلى إنجلترا عام ١٩٥٦، كان سلاتر قد أخبره أنه يخطط لعقد مؤتمر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الصيف القادم، وكان قد دعاه إلى الحضور وتقديم بحثه عن إلكترونات المستوى الفرعي 3d في الحديد (والعناصر المجاورة له في الجدول الدوري). ووُصفَت إلكترونات المستوى الفرعي 3d بأنها الإلكترونات القادرة على إنتاج مغناطيسية. وفي الوقت الذي حزن فيه ريتشارد كثيرًا لأن أحدًا لم يصدق على نتائج التجارب التي أجراها، فقد رحب بفرصة عرض نتائجه على مجموعة من المستمعين المميزين ومن ثَم تقييمهم لتلك النتائج. وكان من المفترض أن يكون عنوان ذلك المؤتمر: المشكلات الحالية في فيزياء البلورات. قبِل ريتشارد الدعوة وكتب إلى رئيسه في ووترتاون من إنجلترا يطلب منه أن يبعث إليه بأوامر تمكنه من العودة إلى بوسطن مدة أسبوع من أجل تسليم بحثه في المؤتمر المزمع عقده في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وكانت المفاجأة أن جاء الرد على الخطاب بالرفض؛ فلم يُنظر إلى طلب ريتشارد على أنه جزء من مهمته كشخص حاصل على جائزة روكفلر ومختار للدراسة بالخارج! وكان بيل كوكران، أحد خبراء الأشعة السينية بمختبر كافينديش قد تلقى — مثل ريتشارد — دعوة لحضور المؤتمر نفسه، ولم يبدِ اعتراضًا على تسليم بحث ريتشارد بالنيابة عنه. وقد ضم المؤتمر قائمة مميزة من مقدمي الأبحاث شملت دبليو إتش تيلور، ودي هارتري، وآر جيه إليوت، وآر دي لويد، وجورج بيكون، وهيلين ميجاو، وآر بيبنسكي، وإتش إيه ليفي، وبي لاكس، وديم كاثلين لونزدال، وإتش كورين، وبي بروكهاوس. بلغ إجمالي الحضور ١٥٠ فردًا. وسمع ريتشارد أن تقديم كوكران لبحثه قد أثار مناقشة مطولة بين الحضور، لكن لم يقدم أحد منهم أسبابًا مقنعة لدحض بحثه أو انتقاده بشدة!

في شهر يونيو، وفي حادثة غير مسبوقة، عقد نيفيل موت بمختبر كافينديش مؤتمرًا خاصًّا بعنوان «نظرية الإلكترونات للفلزات الانتقالية». وقد حضر هذا المؤتمر الباحثون: إتش جونز، وهارفي بروكس، وآر جيه إليوت، ولونجيه هيجينز، وإي فولفارت، وجيه فريديل، وبي كولز، وكيه دبليو ستيفنز، وإل أورجيل، ووالتر مارشال، ودبليو لومر، وجيه إس جريفثيز، وبي دي جين، وإس ألتامان، وميل جالولا، وآر وايس. وقد تطرقت هذه المجموعة إلى مناقشة النتائج التي توصل إليها ريتشارد، وبعد قدر معين من التحليل، اقتنع الباحثون بأن النتائج التي توصل إليها ريتشارد تتفق مع قواعد الطبيعة. كانت الفكرة تزحف ببطء إلى داخل ثقافة الفلزات الانتقالية من خلال مناقشة الباحثين. ومع ذلك، ولغياب خبير التجارب الذي يؤكد صحة النتائج التي توصل إليها ريتشارد أو يهدمها، لم يكن بمقدور هؤلاء العلماء إلَّا أن يتخلصوا من ريتشارد أو يحاولوا تفسير الحل. وتمنى البعض لو أنهم لجئُوا إلى الخيار الأول.

في الواقع، كان ريتشارد قد علم بوقوع حادثة غريبة مشابهة لذلك في بداية القرن العشرين بفرنسا عقب اكتشاف رونتجن للأشعة السينية، فقد أعلن عالم فيزياء فرنسي الاكتشاف اللاحق لأشعة إن، وعلى العكس من نتائج ريتشارد، أقر أكثر من مائة عالم فرنسي آخر بصحة الاكتشاف من الناحية العملية التجريبية. ولكن لم يتمكن أي عالم «غير فرنسي» من العثور على أشعة إن من خلال التجربة. وقد زار الفيزيائي الأمريكي البارز آر دبليو وود المختبر الذي اكتُشفت فيه أشعة إن، واستخدم الحيلة وخفة اليد لإزالة أحد المكونات الأساسية من التجربة. ومع ذلك استمرت ملاحظة أشعة إن، ولكن عندما أعلن وود عن «فعلته الخسيسة» في إحدى الصحف الإنجليزية، انفجرت فقاعة الكذب. أحدثت سيكولوجية الحشود بين علماء الفيزياء التجريبية الفرنسيين الأثر نفسه الذي أحدثته مع علماء الفيزياء النظرية الإنجليز الذين ناقشوا تجارب ريتشارد.

ظهرت بعض قوانين الديناميكا الحرارية عمليًّا ولكن بطريقة غير قابلة للتفسير، لم يتناولها كتاب زيمانسكي. فقد قضى ريتشارد الشتاء في منزل في كامبريدج استأجره من أستاذ فلسفة جامعي كان مسافرًا في زيارة إلى الشرق الأدنى للاستمتاع بالدفء وصقل أبحاثه العلمية. ولدى عودة ذلك الأستاذ من رحلته، أصيب بصدمة شديدة عندما اكتشف تكون غشاء من العفن الفطري على العديد من كتب الفلسفة الخاصة به. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه عندما اقترب الشتاء، فعل ريتشارد ما رآه ضروريًّا لبقائه حيًّا؛ إذ أغلق جميع النوافذ ورفع درجة حرارة المكان.

سأله أستاذ الفلسفة: «ألا تعلم أنه يجب ترك النوافذ مفتوحة من أجل التوزيع الجيد للهواء داخل المكان؟»

فرد ريتشارد: «وأنت، ألا تعلم أن التيارات الهوائية قد تضر بنية الجسم؟»

الأستاذ: «لقد تسببت في تدمير مجموعة كتبي الفلسفية.»

ريتشارد: «ولماذا لم تخبرني بما يجب أن أفعله قبل أن ترحل؟»

الأستاذ: «ما كان عليَّ أن أخبرك بشيء بديهي!»

تلقى ريتشارد إثر ذلك شكوى قدمها ضده محامي أستاذ الفلسفة يطالبه فيها بسداد ٢٠٠ جنيه استرليني، فدفعها ريتشارد حتى لا يسيء إلى سمعة الأمريكيين، بل أرفق معها خطاب اعتذار.

سافر دبليو إتش تيلور إلى الولايات المتحدة لحضور أحد المؤتمرات والقيام بجولة سياحية سريعة. كانت لهجته البريطانية الواضحة (ذات النطق الدقيق الجدير بأستاذ في كامبريدج) مصاحبة له أثناء وجوده في بوسطن، التي أخذ منها سيارة ريتشادر من طراز ستودبيكر وتجول بها في جميع أنحاء البلاد. وفي تكساس استوقفته دورية شرطة، وعندما اقترب منه ضابط الشرطة سأله تيلور بلهجة بريطانية بحتة عن طبيعة المخالفة التي ارتكبها. قطب ضابط الشرطة جبينه في ارتباك، وسار نحو مقدمة السيارة لكي يفحص لوحتها المعدنية. وبعدها عاد مخاطبًا تيلور وهو يبتسم: «إذن فأنت من ماساتشوستس.»

أخبر والتر مارشال ريتشارد بلقاء جمعه وزوجين قابلهما في تكساس، وفيه سأله الزوجان عن موطنه، فأجاب: «إنجلترا.»

فردا: «وهل قطعت كل هذه المسافة بالسيارة؟!»

اندلعت أزمة قناة السويس في منتصف إقامة ريتشارد المؤقتة في كامبريدج، وقد أغضبت هذه الأزمة الشعب الإنجليزي، حتى إن ريتشارد طُرد ذات مرة من محل خضراوات اعتاد الشراء منه. ورغم مرور ١٨٣ سنة على أحداث «حفلة شاي بوسطن»، شعر ريتشارد أنه كان من المفترض أن يتعلم الإنجليز من تلك الأحداث درسًا عن الأمريكيين؛ فالأمريكيون يجب ألَّا يستهان بهم. وقد يتطلب الأمر قضاء عام خارج البلاد ليتمكن الشخص الأمريكي من إجراء تقييم موضوعي لنفسه. ومع ذلك، فقد كان من القسوة أن يمتنع بائع الخضراوات عن بيع رأس من الكرنب بسبب أزمة قناة السويس. ذلك أنه لم يكن في منصب يسمح له بأن يعارض أوامر رئيس الولايات المتحدة أيزنهاور حيال تلك الأزمة.

ولإكمال بعثة روكفلر، أقنع ريتشارد السلطات في ووترتاون بحاجته إلى جولة أوروبية مدتها ٩٠ يومًا. فجاءته أوامر تقضي بأن يتحرك في ٢٣ من يوليو أو قرب ذلك التاريخ من كامبريدج لزيارة فرانكفورت، وكوبنهاجن، وستوكهولم، وبروكسل، وباريس، وزيورخ، وأي مكان آخر يرغب في زيارته في طريقه إلى تلك المدن. وكان ذلك كله مدفوع التكاليف. وهكذا بدأ ريتشارد رحلته من كامبريدج وهو على استعداد للحديث مع كل من يرغب أن يتعلم شيئًا عن إلكترونات المستوى الفرعي 3d في الحديد. وتذكر ريتشارد أنه تحول إلى ضابط بحري ورجل ذي مكانة اجتماعية في تسعين يومًا قضاها في أنابوليس، فهل يمكنه أن يحول بضعة فيزيائيين أوروبيين إلى الإيمان بالحديد في بضعة أيام فقط؟
قبل أن يشرع في رحلته الأوروبية، وجب عليه أن يبذل مزيدًا من الجهد. فحتى ذلك الوقت، لم تكن أبحاثه على الحديد إلا معلومات غير موثقة، ولكن أراد سلاتر في تلك الآونة أن ينشر الأبحاث التي نوقشت في المؤتمر في مجلة «ريفيوز أوف مودرن فيزيكس»، وهي إحدى الدوريات التقنية المهمة. وحالما تنشر النتائج التي توصل إليها ريتشارد، فلن تكون هناك فرصة للتراجع. فقد مضى ٣ سنوات الآن منذ أن بدأ يلفت الانتباه إلى نقص عدد إلكترونات المستوى الفرعي 3d في الحديد؛ لقد آن أوان الظهور والتميز وإحداث أثر. وبالفعل، قدم لومر ومارشال بحثًا نظريًّا إلى مجلة «فيلوسوفيكال ماجازين»، يشرحان فيه نتائج تجارب الأشعة السينية التي أجراها ريتشارد، مع توصية منهما بضرورة نشر تلك النتائج. لقد سلك ريتشارد طريقًا غريبًا لم يطَأْه أحد قبله، وكان واضحًا أن أحدًا لن يغامر بإعادة التجارب التي أجراها؛ لقد كان وحيدًا تمامًا. وبدا له أن مقولة «النشر أو الهلاك» التي كثيرًا ما تداولتها الألسنة في الأوساط الجامعية (التي تشير إلى ضرورة استمرار العالم في نشر مزيد من الأعمال كي يحظى بمكان في إحدى الجامعات) ربما تُستبدل بمقولة أخرى هي «النشر والهلاك».

في تلك الأثناء تعاطف دوجلاس هارتري كثيرًا مع ريتشارد في محنته، فقد ظلت نتائجه تفتقر إلى البراهين العملية. لكنه عندما سُئِلَ عن مدى منطقية تلك النتائج، لم يتمكن من الإجابة. فقد كان مستحيلًا أن يقر بما حدث في معدن أحيطت فيه كل ذرة حديد بثماني ذرات أخرى مجاورة لها وتشاركها الإلكترونات. لكن بصرف النظر عن النتائج التي أعقبت ذلك، فقد كان ريتشارد متيقنًا أن هارتري سيحاول مساعدته قدر استطاعته. ولكن للأسف أثناء انتظار هارتري إحدى الحافلات، سقط ميتًا إثر إصابته بأزمة قلبية.

اشترى ريتشارد سيارة مستعملة من طراز هيلمان، بعجلة قيادة في الجهة اليسرى، وانطلق في أنحاء أوروبا للقاء عدد من الأساتذة الذين اتصل بهم عبر البريد. وصل ريتشارد إلى دوفر ليجد مجموعة كبيرة من طلاب الجامعات الأمريكية الذين يسافرون معًا يستعدون لركوب المعدية إلى فنلندا. وأثناء ولوج كل واحد منهم إلى ظهر القارب، سجلت سلطات الهجرة رقم البطاقة ورقم جواز السفر الخاص به. وقد خلفت ملابسهم غير الرسمية، وحقائب الظهر التي يحملونها، تأثيرًا دائمًا في ريتشارد الذي قرأ في وقت لاحق عن الاجتماع في فنلندا. وسيلاحق هذا اللقاء غير المقصود ريتشارد بعد بضع سنوات من ذلك؛ لأن «مؤتمر السلام» العالمي كانت تنظمه مجموعة الجناح اليساري. وقد اعُتبر ريتشارد عن طريق الخطأ واحدًا منهم.

لم تؤتِ رحلة ريتشارد الهدف التقني من ورائها. فالنتائج غير العادية التي توصل إليها بخصوص توزيع الإلكترونات في الحديد تكاد تكون لم تصل إلى بلدان القارة. لقد كانت الدول لا تزال تعمل على إزالة آثار الدمار الذي خلفته الحرب، ولم يكن تعافي اقتصاد تلك الدول يسمح بدعم برامج الأبحاث. كان لا بد من إعطاء الأولوية لإعادة بناء الجامعات. ولم يبدِ أحد اهتمامًا كبيرًا بالإنصات إلى ريتشارد؛ كان العلماء أكثر اهتمامًا بالحديث عن أبحاثهم.

في مركز الأبحاث الحكومي بجنوب باريس، رأى ريتشارد أداة بحث تاريخية عجيبة. إنه المغناطيس الذي استخدمه بيير وايس في الأبحاث الأولى على قوة المغناطيسية في الحديد والنيكل والكوبالت … إلخ. كان بيير وايس، ذلك العالم القادم من ألزاس بفرنسا الذي عمل بمدينة ستراسبورج قبل الحرب العالمية الأولى، قد أسس الوحدة المغناطيسية. وقبل أن تدخل القوات الألمانية ستراسبورج، نُقل المغناطيس إلى باريس وخُبئ رغم أنه لم يكن واضحًا كيف يمكن للمغناطيس أن يساعد الألمان في الحرب. ومنذ أن بدأت عائلة كوري في إجراء أبحاث على المغناطيسية، ظهر في فرنسا اتجاه قوي إلى إجراء ذلك النوع من الأبحاث، بلغ ذروته بحصول بحث لوي نيل في المغناطيسية الحديدية المضادة على جائزة نوبل.

كانت رحلة رائعة توقف فيها ريتشارد في محطات عديدة: ببروكسل، حيث شاهد تمثال مانيكن بيس، تمثال الطفل الصغير الذي يلبي نداء الطبيعة في حوض النافورة. وبجوار التمثال خزانة ضخمة من الأزياء العسكرية التي صنعتها كتائب قوات الحلفاء العديدة التي مرت على بروكسل. وفي ماستريخت بهولندا، زار ريتشارد الكهوف الجيرية التي استُخدمت لإخفاء اللوحات الهولندية النفيسة، مثل لوحة «الحارس الليلي» لريمبرانت، حتى لا يصادرها القائد الألماني جورينج. وكان الألمان يتوجسون خيفة من تفتيش الأنفاق الجيرية الكثيرة خشية أن يضلوا الطريق. وامتدح المرشد السياحي معلبات اللحوم الأمريكية التي كان الجنود يقبلون عليها بشراهة أثناء الحرب وبعدها. لكن الجنود الأمريكيين وريتشارد أبغضوا تلك الأطعمة للغاية. وفي كوبنهاجن، زار ريتشارد مصنع جعة كارلسبيرج المعروف بدعمه للفيزياء النظرية. فقد شُيد معهد نيلز بور خلف مصنع الجعة، وتجدر الإشارة إلى أن ذلك المعهد يتلقى دعمًا من مصنع كارلسبيرج حتى الوقت الحالي. وهذه مفارقة طريفة أن «يشرب المرء الخمر من كارلسبيرج ويدعم الفيزياء النظرية في الوقت نفسه!»

وأثناء وجود ريتشارد في كوبنهاجن، لم تفُتْه زيارة حدائق تيفولي، ذلك الجمع الفريد بين المقاهي الأنيقة ومقدمي العروض الترفيهية. كانت تلك الحدائق تعبيرًا حقيقيًّا عن جوهر الثقافة الدنماركية. وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي حظي فيها ريتشارد برؤية «البراغيث المدربة». كانت هذه «البراغيث» تُشد إلى عربة متناهية الصغر، وعندما تتلقى أوامر بالتحرك تشد العربة على الفور.

استقل ريتشارد المعدية من هيلسينجور، موقع قلعة هاملت بالدنمارك، إلى السويد حيث اتجه شمالًا صوب ستوكهولم. ولم يكد يقطع ٢٠ ميلًا حتى قابل شخصًا نحيل الجسم في الخمسين من العمر تقريبًا، يسير على قدميه حاملًا حقيبتي سفر. كان الرجل يشير بإبهامه محاولًا الحصول على توصيلة، وتوقف ريتشارد، لكن الرجل تردد في قبول عرض ريتشارد أن يوصله بعد أن لاحظ لوحة السيارة المعدنية التابعة للقوات المسلحة الأمريكية.

قال له الرجل بالألمانية إنه ألماني.

ابتسم ريتشارد وأكد له أن ذلك لا يهم بالمرة. انفرجت أسارير الرجل الشديد الشحوب وأخبر ريتشارد أنه لا يمتلك سوى خمس كرونات سويدية فقط، وأنه ذاهب إلى ستوكهولم. وتوقفا عند أحد الفنادق ودفع له ريتشارد ثمن الوجبة. أحس الرجل أن هذا هو يوم حظه! وأخبر ريتشارد أنه يفر من ألمانيا الشرقية متوجهًا إلى ستوكهولم (قبل بناء جدار برلين بأربع سنوات) لزيارة عمته. وقد تمكن ريتشارد من خلال حظه الضئيل من اللغة الألمانية أن يعرف من الرجل مدى بشاعة الظروف في ألمانيا الشرقية. كان الرجل واسمه كارل قد خاض الحرب، لكن الحكومة الألمانية لم تكن تعطي الجنود الألمان القدامى معاشات، وكان الجرحى ينالون قدرًا ضئيلًا من الرعاية، واضطر المسنون منهم إلى الاعتماد على مساعدة أبنائهم.

عندما وصل الاثنان إلى عنوان العمة في ستوكهولم، تمنَّى ريتشارد للرجل حظًّا طيبًا.

– «هل تنتظر عمتك قدومك؟»

– «كلا!»

– «ومتى كانت آخر مرة رأيتها فيها؟»

– «عندما كنت في الخامسة من عمري.»

– «منذ خمسين عامًا. هل ستذكرك؟»

هز الرجل كتفَيه وسار مبتعدًا.

وفي أوبسالا، وهي مدينة شمال ستوكهولم بها جامعة شهيرة، قابل ريتشارد البروفيسور كاي سيجبان، عضو لجنة نوبل. وأكد الرجل لريتشارد أن كل المرشحين لجائزة نوبل تخضع هوياتهم وتاريخهم لفحص أمني دقيق للغاية. فإلى جانب دراسة أبحاثهم بعناية، تدرس بعض جوانب الحياة الشخصية للمرشح للجائزة. ويتحتم ألا يكون المرشح قد دشن حملة للحصول على الجائزة، وأن تكون حياته الشخصية خالية من السلوكيات المشينة.

في النرويج، اضطر ريتشارد إلى سلوك الطرق المتعرجة. وتساءل عن السبب وراء عدم وضع لافتات تحذير لسائقي السيارات من المنحنيات.

قيل له: «توضع اللافتات فقط عندما تصل درجة الانحناء إلى أكثر من ١٢٠ درجة، وإلا لزاد عدد اللافتات في الطريق عن عدد الأشجار.»

عاد ريتشارد إلى كامبريدج وحزم أمتعته استعدادًا لرحلة العودة إلى الديار. وكان يتساءل في نفسه عن رد الفعل الذي سيحدث عندما تنشر نتائج أبحاثه على الحديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤