ووترتاون ٢: ١٩٥٨–١٩٦١
العنصر | الذرة المعزولة | القياس |
---|---|---|
النُّحاس | ١٠ | ٩٫٨ + ٠٫٣ |
النيكل | ٩ | ٨٫٧ + ٠٫٣ |
الكوبالت | ٨ | ٨٫٤ + ٠٫٣ |
الحديد | ٧ | ٢٫٣ + ٠٫٣ |
الكروم | ٥ | ٠٫٢ + ٠٫٤ |
قبِل العديد من الباحثين الذين التقى بهم ريتشارد النتائج التجريبية التي توصل إليها، وبقي اثنان فقط ثابتين على رفضها، واختارت مجموعة كبيرة ألا تتدخل في الأمر وتظل غير متقيدة بأي شيء. وهكذا بقي الأمر معلقًا بضعة أعوام!
أصبح ديف تشيبمان في وقت من الأوقات ركنًا أساسيًّا في هذا اللغز العلمي، وذلك بعد انضمامه إلى مجموعة العمل في ووترتاون عام ١٩٥٦. وتشيبمان تلميذ رائع لبيرت وارين، وابن أحد علماء المعادن بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقد كوَّن فريقًا مع ديماركو أثناء وجود وايس في مختبر كافينديش، وبذل الاثنان بعض الجهود لإعادة القياسات على عينة الحديد نفسها التي استُخدمت من قبل. لكنهما لم يضيفا شيئًا كثيرًا إلى القياسات السابقة.
العمل الجاد الطويل دون مرح هو الذي يجعل الفيزيائي شخصًا ذكيًّا! كان ديف مولعًا بالإبحار، وكان عدد من زملائه العلماء قد اشتركوا في جمع مبلغ من المال لتأجير قارب من أجل المشاركة في سباقات كأس أمريكا لليخوت في نيوبورت. كانت تلك السباقات قد أُجلت بسبب الحرب العالمية الثانية، لكن في سبتمبر عام ١٩٥٨ أعلنت بريطانيا التحدي بقاربها الجديد سيبتر. وفي سهولة تامة، تفوقت السفينة كولومبيا، من نادي اليخت بنيويورك على السفينة المتحدية. أُعجب ريتشارد برؤية آلاف من قوارب المشاهدين التي تجمعت على بعد عشرين ميلًا من نيوبورت في رود آيلاند. وقد ذكَّره ذلك بالأسطول الإنجليزي الذي تجمع قبل موقعة أوكيناوا حينما امتلأ الأفق بالسفن.
في نهاية السباق، حرك ديف قاربه بالقرب من القارب الإنجليزي سيبتر لإلقاء نظرة عن كثب. وبالكاد تمكن القارب من تفادي اصطدام كان وشيكًا بالقارب الآخر؛ بسبب أن العديد من العلماء كانوا يجلسون على مقدمة القارب ويحجبون الرؤية تمامًا. ولحسن الحظ، حرك طاقم القارب الإنجليزي قاربهم لتفادي الاصطدام بالأمريكيين «المجانين». ومع إنفاق ملايين الدولارات على بِناء ذلك القارب، كان مثل ذلك التصادم سيتصدر الصفحات الأولى من الجرائد، ومن ثَم يجعل من المستحيل على هذا الطاقم من الفيزيائيين نسيان الحادث.
عاد ريتشارد من كامبريدج بإنجلترا في نهاية عام ١٩٥٧ وقد زالت عنه بعض طباع حي برونكس. كان متلهفًا على العودة إلى قياسات الأشعة السينية، لكن لم تكن لديه أي أفكار بشأن الخطوة القادمة. وقد وجد في نفسه حاجة إلى نوع من التحول، وأخذ يفكر جديًّا في المسرح بوصفه هواية، ولكن ليس بوصفه هاويًا من الهواة. وكان يعرف أن الممثلين الهواة لا تنقصهم الكفاءة فحسب، بل هم غير قادرين على تقييم مدى ضعف قدراتهم التمثيلية أيضًا. وهناك قصة في ذلك تحكي عن فتاة وصديق لها كان يعمل ممثلًا ويرغب في الزواج منها، لكن والدها لم يكن ليسمح لابنته بالزواج من ممثل. تتوسل الفتاة إلى أبيها كي يشاهد ذلك الصديق وهو يؤدي أحد أدواره قبل أن يتخذ قراره في أمر زواجهما. وبالفعل، يلبي الأب مطلب ابنته، ولدى عودته من مشاهدة أحد أدواره، يقول لها: «يمكنك الزواج به؛ فهو ليس ممثلًا.»
اتصل ريتشارد بإحدى ورش التمثيل في بوسطن والتقى بمديره آلان ليفيت، وهو شخصية كان لها نفس تأثير شخصية سلاتر في ريتشارد فيما يتعلق بغرس بذور الاهتمام بموضوع ما ومحبته. تخرَّج آلان في كلية إميرسون، ودرس في فرنسا مع الممثل الفرنسي الشهير جان لوي بارو، وانطلق بعد ذلك إلى هوليوود كاتبًا ناجحًا للعرض الشهير «داخل الأسرة»، ورُشِّح لنيل جائزة إيمي عن أحد عروضه. وقد نشأت صداقة قوية بين آلان وريتشارد.
كان جميع الطلبة في ورشة التمثيل وفيهم أولمبيا دوكاكيز يدرسون التمثيل، لكن ريتشارد رغب في دراسة الإخراج. أخبره آلان أنه لا يعرف كيف يدرس الإخراج، ولكنه وافق على أن يحاول. ولما كان ريتشارد يعمل مع طالبين أو ثلاثة من طلاب التمثيل في وقت واحد، فقد كان يمرِّن نفسه على تمثيل المشاهد القصيرة مع هؤلاء الطلبة قبل تقديمها كتمرين داخل حجرة الدراسة ليعلق عليها آلان. وسرعان ما تجلَّى لريتشارد أن التمثيل والفيزياء منهجان مختلفان تمامًا فيما يتعلق بدراسة موضوعاتهما. ففي الفيزياء، يلزم التقيد بالموضوعية والحيادية عند تقييم نتائج التجارب. فإن سمح العالم لمشاعره الشخصية أن تفرض نفسها، فقد يتأثر بالبيانات أو الملحوظات غير الأساسية أو غير المهمة. ولذا، يجب أن تُسجل الحقائق الصعبة القاسية دون أي تحيز شخصي.
من الناحية الأخرى، يتمثل الهدف الأول من المسرحيات في الكشف عن المشاعر الداخلية للممثلين. ولعل محاولة تبني وجهة النظر التحليلية دائمًا تجاه أحد الأدوار يعد نوعًا من إحباط الذات. وقد يفسر ذلك الاختلاف بين الفيزياء والتمثيل في التعامل مع المادة ندرةَ عدد الفيزيائيين الذين يتخذون التمثيل أو الكتابة المسرحية هواية لهم. يمكنك مقارنة ذلك بالانتظام الرياضي في موسيقى باخ التي تدفع الفيزيائيين إلى حب الموسيقى الكلاسيكية. ولذا، توجد أعداد كبيرة منهم يعزفون الموسيقى ويستمعون إليها.
لا بد للمخرج، عند تعامله مع مسرحية ما، أن يتعرَّف أولًا على أفكار المؤلف من خلال الحوار فقط، ففي أي مشهد من مشاهد العمل، يحتاج الممثلون أشياءً من بعضهم، والمؤلف البارع وحده هو من يستطيع أن يدخل تلك الدوافع في الحوار الذي ينسجه. وإن أدرك المخرج والممثل ماهية تلك الدوافع، عندئذٍ يكون دور المخرج هو مساعدة الممثلين في إيجاد الطرق الداخلية والخارجية التي تؤدي بهم إلى تحقيق تلك الغاية.
في العلم، تعد إمكانية تكرار النتائج مكونًا مهمًّا لترسيخ الحقيقة، وتكرار النتائج هو الحصول على النتائج نفسها من يوم لآخر ومن مختبر لآخر. كان ذلك شرطًا ضروريًّا لكنه ليس كافيًا، حيث يمكن إعادة الخطأ نفسه كل يوم، ولكن يقل احتمال تكرار ذلك الخطأ إذا أُجري قياس مستقل في مختبر آخر. من هنا، كان التأكيد التجريبي حتميًّا للتصديق العلمي. على الجانب الآخر، يسمح المسرح بقدر كبير من التفاوت في التفسير، فنادرًا ما يشاهد المرء أداءً متطابقًا تمام التطابق لمسرحية واحدة.
أثناء عمل ريتشارد في مختبر بروكهيفين، عندما كان يشترك في حجرة مكتب واحدة مع سي باسترناك، مساعد رئيس تحرير دورية «فيزيكال ريفيو»، قدَّم عالما رياضيات نابغان من جامعة بنسلفانيا بحثًا للمختبر. كرر هذان الباحثان تجربة جامعة ديوك التي فيها «خمن» أحد الطلاب الورقة التالية من أوراق اللعب. توصلت تلك المجموعة إلى نتيجة إيجابية مهمة في علم الإحصاء. ولم يعثر المحكمون على أي خطأ في التجربة؛ فهل تنشر دورية الفيزياء الرائدة البحث؟ قرر المحررون عدم قبول البحث، حيث إن ذلك من شأنه أن يمنح مصداقية لظاهرة تحريك الأشياء عن بُعد، وهي القدرة على جعل «التفكير» يؤثر في نتيجة حدث ما. وهذا من شأنه أن يعيق إمكانية تكرار النتائج كشرط للقبول في العلم. على أي حال، لدى كل عالم تجريبي بعض التصورات المسبقة عن النتائج التي ستتوصل إليها التجربة، فإذا أثرت تصوراته العقلية في النتائج، أوقعنا ذلك في غياهب علم النفس. لذلك، تبنى العلم قاعدة إمكانية تكرار نتائج التجربة؛ وذلك انطلاقًا من الإيمان الراسخ بأن الطبيعة ليست متقلبة، وأنها لن تخذلهم.
بعد مرور عام واحد من التحاق ريتشارد بورشة التمثيل، قرر آلان ليفيت أن يقدِّم مسرحية «بستان الكرز» للكاتب الروسي أنطون تشيكوف، وأسند إلى ريتشارد دور مدير المسرح، وهي مهمة شاقة تتضمن الاعتناء بلوازم المسرح والتمثيل وغير ذلك، لمجموعة كبيرة من الممثلين. لم تكن مسرحية «بستان الكرز» بالمسرحية التي يسهل على الممثلين أداؤها بسبب صعوبة الحصول على ترجمة جيدة للمسرحية، بالإضافة إلى أسباب أخرى. فهناك اختلافات لغوية طفيفة في اللغة الروسية لا يمكن التعبير عنها باللغة الإنجليزية. جاء العديد من زملاء ريتشارد الأكاديميين لمشاهدة العروض، لكن لم يختلف اثنان منهم على ركاكة الترجمة. كما أن تشيكوف نفسه كان كاتبًا مرهِقًا؛ فالممثلون لا يكفون عن الشكوى من الحياة، ولكنهم لا يفعلون شيئًا حيال ذلك. كان العلماء بصفة عامة يصيبهم الملل من أعمال تشيكوف؛ إذ كانت تبدو خالية من الأحداث.
بطبيعة الحال، بعد أن زاد اهتمام ريتشارد بالمسرحيات، رشحه دوره بوصفه فيزيائيًّا وطالبًا للإخراج للتفكير في المناطق التي يتداخل فيها العالمان. ففي كل من المسرح والعلم هناك المستمعون ومقدم العرض. ولكن المسرح كان أنجح كثيرًا في الاحتفاظ بالمشاهدين متيقظين، على الرغم من أن لكل من العلم والمسرح قصة يعرضها. لم يكن العلماء مدربين على تقديم مادتهم في قالب درامي مثير، ومع ذلك ثمة تشابه بين العالم والممثل؛ فلا بد لكل منهما أن يبدأ بسيناريو يخبر عن شيء ما، ولا بد لكل منهما أن يقدم السيناريو بطريقة أخَّاذة. فضلًا على ذلك، تساءل ريتشارد في نفسه: إذا كان من الممكن أن يحظى الممثلون ببعض التدريب على كيفية التصرف على خشبة المسرح، فلِمَ لا يحظى العلماء بتلك الفرصة أيضًا؟ بالطبع وببساطة، لا يقدم الفيزيائي أنواعًا من التسلية، لكنه يحاول تقديم بعض الأفكار عن الطبيعة التي قد تساعد المستمع في أبحاثه الخاصة. بالمثل، إذا كان الكاتب المسرحي على درجة من النجاح، فسوف ينصرف المستمع من المسرح مغمورًا بشعور من النشوة وقليل من الأفكار التي ربما تؤثر في كيانه. استحوذ هذا النوع من التحليل على أفكار ريتشارد مع مرور السنوات.
تلقى معهد أبحاث ستانفورد منحًا بحثية لتمويل أبحاث مُسرِّع البروتونات الذي حصلوا عليه من ووترتاون في كارثة «زوج» مسرعات فان دي جراف. كان مختبر ووترتاون هو المسئول عن الإشراف على برنامج بحث بتكلفة ربع مليون دولار عن الشوائب العالقة في صلب مواسير المدافع. ولمَّا كانت الفيزياء النووية ذات دور بالغ الأهمية في هذا النوع من العمل، فقد طلب من ريتشارد أن يقيم التجربة. وعلى الفور أخذ ريتشارد الطائرة إلى سان فرانسيسكو حيث أقلته سيارة من هناك إلى ستانفورد. وبعد زيارة المختبر والتحدث إلى المديرين، عاد إلى ووترتاون غير راضٍ تمامًا عما وجده في ستانفورد، وقد أعرب عن خيبة الأمل التي شعر بها هناك على الملأ، فقال دون تبصر: «إن مائتين وخمسين ألف دولار تكفي لشراء مفاعل صغير!»
أثارت تلك الكلمات جنرالات المعدات الحربية التابعة للجيش، فطلبوا من ريتشارد أن يعد اقتراحًا بخصوص حاجة مختبر ووترتاون إلى مفاعل نووي. واستجاب ريتشارد؛ اعتقادًا منه أن الجامعات وطلبة الدراسات العليا في منطقة كامبريدج سيكملون البرنامج البحثي الخاص بمختبر ووترتاون. فمختبر ووترتاون وحده لا يمكنه استغلال أداة تتسع لما بين ٥٠ و١٠٠ من الباحثين.
لزم أن يسير الطلب المقدم من جهاز المعدات الحربية في سرية تامة عبر سلسلة القيادة. ففي ذلك الوقت، كان مختبر الأبحاث البحرية بواشنطن يطرح الفكرة نفسها، ووقع صدام بين جهتي الخدمة المعنيتين حول ذلك الأمر. وأيًّا كان من رتب الأولويات داخل وزارة الدفاع فقد قدَّم البحرية على الجيش، مع وعد بحصول الجيش على حصة لإنشاء مفاعل ولكن في الموازنة القادمة. ودون انتظار الحصول على أي تفويض من الكونجرس الأمريكي، صدرت أوامر لريتشارد بالشروع في تطوير هذا المشروع. وعليه، كان يزور بصفة دورية إحدى شركات تصميم المفاعلات في ديترويت للتأكد من أن المنطقة التجريبية الموجودة حول مختبر ووترتاون لن تكون مزدحمة بالآلات والمعدات وما شابه؛ إذ إنها من المفترض أن تكون أداة أبحاث مخصصة للانحراف النيوتروني، ويجب أن تكون هناك مساحات واسعة يتحرك فيها علماء التجارب.
رأى ريتشارد أن ديترويت مدينة مهملة، على الرغم من شعوره بالسعادة هناك عندما عثر على مطعم صيني يقدم طبق بط معينًا نادرًا ما يقدمه أي مطعم آخر. وفي طريق عودته من إحدى تلك الزيارات التي كانت تستغرق يومين، جاءته أوامر بأن يتوجه إلى واشنطن ومعه جميع الملحوظات التي دوَّنها عن المفاعل. ولم يخبره أحد بسبب تلك الزيارة، لكنه أدرك أن شيئًا مهمًّا يجري الإعداد له. وفي اليوم التالي، استقل ريتشارد يصحبه قائد الوحدة في ووترتاون الطائرة الصباحية المتجهة إلى مطار واشنطن الدولي، وبحلول الظهيرة التقى الاثنان باللجنة الاستشارية العامة المعروفة بصرامتها داخل مبنى البنتاجون. في ذلك الوقت، كان أوبنهايمر وفيرمي عضوين رئيسيين في تلك اللجنة، وطفق ريتشارد يستعرض في نفسه الطريقة التي سيعرض بها معلوماته بحيث يقنع هؤلاء الأعضاء بأن الجيش في حاجة إلى مفاعل لإجراء أبحاث الانحراف النيوتروني. واعترف أمام نفسه أنه لن يستطيع عرض قضيته عرضًا أفضل أو أقوى من المرة التي سأله فيها شوكلي في مختبرات بيل عما يمكنه فعله بالنيوترونات. وعلى الرغم من التدريب المسرحي الذي تلقاه، كان يعلم جيدًا أنه يعاني من ضعف السيناريو، وبدأ الذعر يسيطر عليه. تخيل ريتشارد نفسه وهو يقدِّم عرضًا غير مقنع ليُتهم بعد ذلك بأنه سبب إجهاض المشروع! فما أسهل أن يقوض أوبنهايمر المشروع برمته بواحد من تعليقاته الساخرة اللاذعة.
وقف ريتشارد والكولونيل في مؤخرة الغرفة منتظرين استدعاءهما. وحينما نودي على مشروع ووترتاون، تفوه شخص ما من جهاز تطوير المعدات الحربية بالجيش في واشنطن ببعض الكلمات. كانت ركبتا ريتشارد في تلك الأثناء تصطكان كأنه ممثل ينتظر في أحد جناحي المسرح حتى يحين دوره في الكلام. لم يكن ريتشارد يعي شيئًا من الأحداث التي تدور من حوله. وبعد ذلك بخمس دقائق، كان ريتشارد والكولونيل في طريقهما إلى خارج الغرفة بعد أن اعتُمد مفاعل ووترتاون دون أن ينبس ريتشارد ببنت شفة!
قبل رحيل ريتشارد عن مختبر كافينديش، كان أحد علماء البلورات قد تحدث معه نيابة عن روزاليند فرانكلين، التي كانت تقوم بجولة في بوسطن في ذلك الوقت. حيث إن النقود في المملكة المتحدة شحيحة للغاية، سألت روزاليند ريتشارد على لسان عالم البلورات إن كان يستطيع أن يجد لها عملًا في الولايات المتحدة كي يمكنها البقاء هناك. وبالفعل وافق ريتشارد أن تحل روزاليند محله في كافينديش، وقد تعرف إليها بعد ذلك ثم افترقا.
وصلت السيدة عالمة البلورات التي ساهمت ببيانات الأشعة السينية البالغة الأهمية في اكتشاف الحمض النووي (دي إن إيه) إلى بوسطن في الموعد المحدد، واعتنى بها ريتشارد عدة أيام. كانت روزاليند، بشعرها الداكن غير المزين وملامحها الجميلة واستخدامها المحدود للغاية لمساحيق التجميل، قد شقت طريقها بنجاح في عالم خاضع لسيطرة الرجال، بقدر من التحفُّظ وكثير من العمل الفردي. في ذلك الوقت، كان من عادة العلماء عندما يتقابلون أن يناقشوا أبحاثهم؛ لكن عندما سأل ريتشارد روزاليند سؤالًا عابرًا عن أبحاثها، لاذت بالصمت ولم تسأله قط عن أبحاثه، وكان ذلك غريبًا في نظر ريتشارد. وبعد بضعة أعوام ألَّف جيمس واطسون كتابه «اللولب المزدوج» الذي يحكي قصة اكتشاف الحمض النووي. وقد أفرط فيه واطسون في انتقاد روزاليند وأغضب علماء عديدين. وربما تكون روزاليند هي من أهدى واطسون مكانته التي يتمتع بها. وقد حرمتها وفاتها قبل منح جوائز نوبل لعام ١٩٦٢ من التأهل لنيل الجائزة، لكننا لو عدنا إلى الماضي لوجدنا أن دورها في اكتشاف الحمض النووي لا يقل أهمية عن دور واطسون وكريك وويلكينز.
عندما عرضت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) القصة في فيلم وثائقي، لعب فيه جيف جولدبلوم دور جيمس واطسون — قُدِّمت شخصية واطسون بصورة سلبية تحط من قدره كثيرًا. لقد شعروا أنه يستحق ذلك؛ هكذا أسر منتج العمل إلى ريتشارد.
قبل أن تحصل ووترتاون على عقد تشييد المفاعل بوقت قصير للغاية، أعلن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن تلقيه منحة لبناء مفاعل لأعمال البحث والتدريس. فقد شعر القائمون على إدارة معهد ماساتشوستس أن المعهد بحاجة إلى مفاعل كي يظل قبلة لاحتياجات الوسط الأكاديمي، ولا سيما مع قدوم العصر الذري والانتشار المتوقع لتكنولوجيا الطاقة الذرية. عند هذه النقطة، أعرب ريتشارد للقائد في ووترتاون عن بعض القلق الذي ينتابه؛ فلم يكن هناك داعٍ لوجود مفاعلي أبحاث في منطقة واحدة تفصل بينهما بضعة أميال فقط. اتفق القائد مع ريتشارد فيما قاله، وناقش الاثنان الأمر مع عميد كلية الهندسة بمعهد ماساتشوستس.
اقترح الكولونيل أن يشترك مختبر ووترتاون مع معهد ماساتشوستس في ترتيبات تعاونية لبناء مفاعل واحد فقط للأغراض البحثية. لكن ذلك الاقتراح قوبل بالرفض. فمعهد ماساتشوستس له خبرة كبيرة وكافية في التعامل مع الحكومة. وكان رعاة المعهد قد وفروا له التمويل الكافي؛ لم يكن المال هو القضية. ألح الكولونيل في طلبه، ومع ذلك بدا واضحًا أن إدارة المعهد مصرَّة على المضي قدمًا في تنفيذ المشروع وحدها. من ناحية أخرى، أكد المسئولون بمعهد ماساتشوستس للكولونيل أن ووترتاون سيمتلك حق دخول مفاعل المعهد واستخدامه، ومع بعض التشجيع من ريتشارد، انتهى الجميع إلى أن هذا حل مثالي. فقد كان من غير المرجح أن يجري أكثر من ٣ أو ٤ علماء من ووترتاون أبحاثًا على الانحراف النيوتروني.
في ١٧ مايو ١٩٦٠، بدأ تشغيل مفاعل «هوراس هاردي ليستر»، ليُهجر بعد عشرين عامًا فقط بتكلفة تفكيك جاوزت تكلفة إنشائه الأصلية بمرات عدة. وما الجديد في الأمر؟
في أوائل عام ١٩٥٩، طلب البروفيسور وولف، أستاذ الفلزات بمعهد ماساتشوستس، من ريتشارد أن يُدرِّس منهجه نيابةً عنه حالما يقضي هو إجازته. وافق ريتشارد وتلقى إخطارًا رسميًّا في ١٠ فبراير ١٩٥٩ بتعيينه محاضرًا في قسم الفلزات دون أي مقابل على الإطلاق. كانت المرة الأخيرة التي زاولَ فيها ريتشارد التدريس في المدرسة الثانوية بأوكلاند ضمن منهج الدراسات العليا التي يقوم بها في جامعة كاليفورنيا.
كانت هذه تجربة مريرة؛ إذ لم يجد ريتشارد اهتمامًا لدى التلاميذ بتعلم أي شيء. لكن الأمر مختلف هنا، فهذا معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وللأسف كان همُّ الطلاب الأكبر هو الحصولَ على درجات عالية بأقل الجهود الممكنة. ومن ثَم، أحاط الشك بأسلوب ريتشارد غير الرسمي الذي يعتمد على قليل جدًّا من الملاحظات المكتوبة. قضت تلك التجربة على أي اهتمام لدى ريتشارد بالعمل بالتدريس، وفي سعادة تامة عاد إلى تجاربه في ووترتاون. لم يكن للنصح قيمة عند طلاب معهد ماساتشوستس.
علماء الفيزياء — شأنهم شأن الممثلين — يصبحون نجومًا في القمة عندما يُرفَعون فوق باقي البشر، وكلما زاد الارتفاع، زادت درجة الغرور والزهو. وكما يقال في الأمثال: «اللطفاء الطيبون يأتون في مؤخرة السباق.» تظهر بعض من هذه الصفات بين الفيزيائيين، لكنها أقل حدة بين العلماء وعوام الناس. ففي بعض الأحيان، تثير «الكيمياء» الموجودة بين عموم الفيزيائيين صراعًا شخصيًّا لا يمكن السيطرة عليه. وهذا ما كان عليه الحال بين آرثر فريمان وبوب نيثانز، وكان ريتشارد هو المحفز العرضي فيه.
عزيزي ديك،
أبعث إليك مع هذا الخطاب نسخة مطبوعة من مذكرة قصيرة ستظهر قريبًا في دورية «فيلوسوفيكال ماجازين». وكما سترى فيها، لقد انتبهنا إلى حد ما للطريقة المرحة التي يصل من خلالها المنظِّرون إلى نتائج عديدة دون أن يتوقفوا، في بعض الحالات، ليتفكَّروا في الظروف التي في ظلها يمكن تعميم هذه القياسات.
كان ذلك البحث إسهامًا مشتركًا بين دبليو هيوم-روذري (قسم الفلزات، أكسفورد)، وبي جيه براون، وبي فورسيث، ودبليو إتش تيلور من مختبر كافينديش. كان هيوم-روذري عالم فلزات بارزًا مصابًا بالصمم. وكلما حاول ريتشارد مناقشته في أمر ما، كان يعطيه ورقة بيضاء وقلم رصاص، ويطلب منه أن يدون كل ما يقوله. وطالما أزعج ذلك الإجراء ريتشارد وكثيرين غيره.
فقبل كل شيء، يستغرق الحديث بهذه الطريقة وقتًا أطول قياسًا إلى الطريقة العادية، خصوصًا إذا لم تكن الكتابة واضحة، الأمر الذي يدفع هيوم-روذري إلى الحديث عن طريقة المرء في الكتابة. بالإضافة إلى ذلك، أحيانًا كان هيوم يرجع إلى الصفحة السابقة من كتابة الشخص الذي يتحدث معه ويصرخ قائلًا: «لكنَّ ذلك هو ما قلته في الصفحة رقم ٦!»
ودائمًا ما كنت تجد ذلك الشيء مسجلًا بخط يدك. وكان ريتشارد وغيره يتجنبون الدخول في مناظرة علمية ساخنة مع ذلك الصبي الكبير، فدائمًا ما تكون الخسارة من نصيبهم.
عندما تلقى ريتشارد هذه المذكرة، تشاور على الفور مع آرت فريمان، وهو أحد زملائه في ووترتاون. وكان هو وديك واطسون طالبين مخلصين لسلاتر الذي أتم عمل هارتري الخاص بمحاولة تحسين عمليات حساب توزيع الإلكترونات. وهكذا عرَّف آرت ريتشارد على التقنيات النظرية المتطورة للقيام بذلك. واشترك الاثنان في إعداد بحث لدورية «فيلوسوفيكال ماجازين» لتفنيد الاقتراح المقدم من هيوم-روذري والآخرين. وعلى الرغم من أن النتيجة التي اقترحتها مجموعة علماء أكسفورد-كامبريدج كانت ضئيلة للغاية، فقد فتحت الباب أمام الخطوة التالية في حكاية هذه المدن الثلاث: أكسفورد، وكامبريدج، وووترتاون. وقد استغرق البحث الذي أعده ريتشارد وفريمان ستة أشهر كاملة لكي يُنشر، لكنه عندما نُشر ألجم مجموعة علماء أكسفورد-كامبريدج بلجام الصمت. غير أنه كان فقط انفجارًا مبدئيًّا في حرب اتسعت بعد ذلك لتضم أشخاصًا آخرين وأماكن أخرى.
في ذلك الوقت تقريبًا، زار ريتشارد بروكهيفين حيث عُرضت عليه هناك بعض نتائج الحيود النيوتروني في الحديد التي سجلها بوب نيثانز، أحد موظفي البحرية. كان قد اكتشف بعض التغيرات في كثافة النيوترونات عندما زادت زاوية التشتت. وعلى عكس الأشعة السينية التي تشتتها جميع الإلكترونات، لا تشتت النيوترونات إلا الإلكترونات المغناطيسية.
نظرًا لأن ريتشارد كان قد هدم منذ وقت قريب للغاية ذلك الاقتراح نفسه عندما قدمه هيوم-روذري، وبراون، وفورسايث، وتيلور، فقد رفض هذا الاحتمال بثقة. أعطى نيثانز ريتشارد نسخة من نتائج النيوترونات التي توصل إليها وعاد بها ريتشارد إلى ووترتاون لدراستها.
وكانت المفاجأة! لقد كان نيثانز محقًّا. لم يكن الأثر واضحًا في زوايا التشتت الصغيرة في قياسات الأشعة السينية الخاصة بوايس وديماركو، لكن نيثانز أجرى قياسات النيوترونات على زوايا تشتت كبيرة. واستطاع وايس وفريمان تحليل النتائج باستخدام عمليات توزيع الإلكترونات الخاصة بواطسون وفريمان، وأثبتا أن الإلكترونين المغناطيسيين في الحديد قد شغلا مواقع في الفجوات الموجودة بين الذرات القريبة. دونت التقنية النظرية لإجراء مثل هذه العمليات الحسابية كي تُنشر في الدوريات العلمية، واتصل ريتشارد بشول في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث شارك نيثانز (الذي كان في إجازة مدتها عام باليابان) ليقترح عملية نشر مشتركة. وافق شول بعد تردد. فمن حق صاحب التجربة أن يكون صاحب الأولوية في صياغة العمليات الحسابية التي تفسر قياساته وتجاربه. وقُدِّم بحث وايس وفريمان، الذي يتضمن النتائج التي توصل إليها نيثانز وشول إلى دورية فيزياء وكيمياء الجسيمات الصلبة. أول شيء عرفه ريتشارد بعد ذلك هو عودة نيثانز المفاجئة من اليابان. ما الذي حدث؟ سأل ريتشارد نيثانز عن سبب رجوعه فلم يتلقَّ أي رد. لا شك أن شيئًا ما قد وقع بين نيثانز وفريمان؛ إذ أبغض كل منهما الآخر منذ ذلك اليوم، بل بدا أنهما مستمتعان بصراعهما معًا.
- (١) لأول مرة، تقوم عمليات انحراف إلكترونات المستوى الفرعي 3d عن مداراتها الكروية في المعادن على أساس نظري وتجريبي قوي وثابت.
- (٢)
ابتعدت الإلكترونات المغناطيسية في الحديد عن جيرانها القريبين، وفضلت أن تتسلل إلى أكثر الذرات قربًا منها، وتلك مفاجأة واضحة.
- (٣) قدمت حسابات الذرات المعزولة لفريمان وواطسون تفسيرات وأجوبة جيدة تتعلق بالإلكترونات المغناطيسية في المستوى الفرعي 3d في الحديد والكوبالت والنيكل.
- (٤)
كما يحدث بين الإلكترونات، وقع التنافر بين نيثانز وفريمان. وسرعان ما علم الوسط الفيزيائي بذلك الصراع الشخصي بينهما.
في نهاية عام ١٩٥٩، تلقى ريتشارد دعوة لحضور المؤتمر الأسترالي الأول لفيزياء المواد الصلبة، وانطلق إلى هناك، تاركًا الثلاثة باترمان، وتشيبمان، وديماركو يحاولون الوقوف على المشكلات المتعلقة بالوصول إلى التفسير الصحيح وحلها. وكان أحد جوانب الريبة التي تكتنف توزيع الإلكترونات في معدِن مثل الحديد هو قدرة الباحثين على حساب ذلك التوزيع من عدمها، وليس انخراطهم في نوبات من الجدال المعتمد على التلويح بالأيدي فحسب. كان فريمان وواطسون على يقين من قدرتهما على تقييم توزيع الإلكترونات لإحدى الذرات المعزولة بنسبة خطأ تقرب من ١٪ فقط، ولكن اتحاد الذرات معًا لتكوين المعدِن كان بمنزلة مشكلة نظرية ضخمة من شأنها أن تستغرق أعوامًا وأجهزة كمبيوتر عالية السرعة لتقليل نسبة الخطأ إلى ١٪.
قبل أن يشرع ريتشارد في رحلته إلى «الأراضي الأسترالية»، اتخذ قرارًا من شأنه أن يؤثر على شكله لما بقي من حياته؛ قرر أن يعفي لحيته. كانت ترتيبات الرحلة تتضمن زيارات لعدد من المختبرات التي تتلقى منحًا بحثية من مكتب الأبحاث العسكرية بفرانكفورت. يُوجد عشرون منحة تقريبًا في فيزياء المواد الصلبة.
«أجد صعوبة في العثور على أي إجابة للتساؤل عن سبب دعم الجيش الأمريكي للأبحاث في الدول الأجنبية سوى أنه يدعم الأبحاث الجيدة مهما كان المكان الذي تجرى به. وهو يفعل ذلك من خلال سياسة تدعم الاعتقاد بأن مثل هذا النشاط سيعود في النهاية بالنفع والدعم على الجيش الأمريكي، فضلًا عن الدولة بالكامل.»
أثناء زيارات ريتشارد للمختبرات الأسترالية، لاحظ ظاهرة مثيرة للغاية. وهي أن مختبرات عديدة لا تقبل أموال الجيش الأمريكي. ويرجع ذلك إلى قناعة تلك المختبرات بأن هذه الأموال ملوثة. لهذا السبب، فضل الجيش الأمريكي أن يكون الفيزيائيون البارزون هم فقط من يتواصل مع الباحثين. وعندما سأله علماء أوروبيون: «لماذا يفعل الجيش الأمريكي هذا؟»
كانت إجابته: «لا تعب هدية أُهديت إليك!»
استقل ريتشارد إحدى طائرات شركة الخطوط الجوية الأمريكية (تي دبليو إيه) المتجهة إلى سان فرانسيسكو، وتوقف في الطريق مدة يوم لزيارة بيركلي، ومقارنة حالة الحرم الجامعي بما كان عليه الأمر في الأيام التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما كان طالبًا بالدراسات العليا (لم تتغير الأحوال تغيرًا ملحوظًا). ولكنه ظل مصدومًا بالتفاوت الكبير في أساليب العمارة داخل الحرم الجامعي. وقد تجلى غياب الترابط والتناسق في المباني المتجاورة، الأمر الذي يوضح اللامبالاة الشديدة من جانب المهندسين المعماريين. ولا يزال الوضع على ذلك الحال حتى يومنا هذا.
في ذلك الوقت كان العالم الفرنسي الشاب بيير دي جين، الذي حصل على جائزة نوبل بعد ذلك التاريخ بثلاثين عامًا، في إجازة مدتها عام من قسم الفيزياء في بيركلي. وكان ذلك الشاب شديد الاهتمام بقياسات هاستينجز وكورليس ووايس على الكروم، وترتيبها الغريب للاتجاهات المغناطيسية للذرات، وقد عرض هذه العمليات الحسابية على ريتشارد. وقد أسرَّ تشارلز كيتل، أستاذ الفيزياء النظرية ببيركلي آنذاك، إلى ريتشارد بأن دي جين كان أفضل باحث درس في مجموعته حتى ذلك الوقت. وكان قوله هذا وكأنه نبوءة. فعندما كان دي جين يقضي أولى سنوات ما بعد حصوله على الدكتوراه في بروكهيفين، كان ريتشارد الأمريكي الوحيد الذي لقيه في حياته. وكان دي جين دائمًا ما يذكِّر ريتشارد بذلك في أي وقت يلتقيان فيه. ففي تلك الأيام، كان مختبر بروكهيفين معزولًا إلى حد بعيد وجمعت بين الاثنين صداقة حميمة، لكن قلما تركز حديثهما على الفيزياء. لذلك، كانت مفاجأة لريتشارد عندما وصف كيتل صديقه بهذه الكلمات الرائعة. فقد رأى ريتشارد في دي جين تشابهًا كبيرًا مع الممثل الكوميدي الفرنسي المشهور، فيرنانديل، فضلًا عما وجد في شخصيته من لطف ولياقة بالقدر نفسه. وعندما فاز دي جين بجائزة نوبل بعد أربعة عقود من ذلك، كتب إليه ريتشارد مهنئًا، وسأله هل ما زال يتذكره؟ وكان يتذكره بالفعل.
كانت رحلة شركة طيران «كوانتاس» عام ١٩٥٩ (التي تسمى في الأساس شركة خدمات الطيران لكوينزلاند والمقاطعات الشمالية) واحدة من آخر الرحلات المتجهة من الولايات المتحدة إلى سيدني التي يُستخدَم فيها نظام الدفع بالمراوح، وكانت تستغرق ضعف الوقت الذي تستغرقه الطائرات النفاثة. تذكر ريتشارد الملل الذي صاحب هذه الرحلة التي استغرقت بلا شك ما يزيد عن أربعين ساعة، ولا سيما بعد أن تعطل أحد محركاتها في الطريق. وأوشك صوت الأزيز المتواصل للمراوح — الذي يتغير بانتظام مع تداخل أصوات الذبذبات — أن يدفع ريتشارد إلى حافة الجنون. حتى عند التوقف لإعادة ملء خزانات الوقود في جزر هونولولو وكانتون (جزر جيلبرت وإيليس) وجزر فيجي، كانت الرحلة تجربة قاسية للغاية. فقد جافاه النوم تمامًا. وأضاف الوميض المنتظم لضوء تعيين الهوية الأحمر مصدرًا للإزعاج البصري بالإضافة إلى الإزعاج السمعي.
عندما وصلت الطائرة في النهاية إلى سيدني، كان بالمطار العديد من الصحفيين الذين رغبوا في سؤال هذه المجموعة من العلماء عن أسباب زيارتهم. فقد كان ذلك حدثًا غير عادي للأستراليين؛ إنها المرة الأولى التي يُعقد فيها مؤتمر عالمي في بلادهم. وكانت لهجة السكان المحليين وطريقة نطقهم لبعض الكلمات الإنجليزية مثارًا لضحك ريتشارد وبهجته.
سرعان ما أدرك ريتشارد أن أستراليا كانت أشبه بالغرب الأمريكي عندما كان مستوطنو غرب الولايات المتحدة الأمريكية الأوائل منهمكين في حروب ضارية مع الهنود الحمر، وهو مناخ كانت الفردية الصارمة طريقة أساسية ومفضلة للعيش فيه، على الرغم من أن معايير العصر الفيكتوري وقواعده فيما يتعلق بالنساء كانت لا تزال قائمة ومتبعة. وبخلاف ذلك، كانت الأنشطة الأساسية للغالبية العظمى من الرجال هي «شرب الخمر، والمراهنة، ولعب القمار، والنساء».
كانت سيدني — وقت وصول ريتشارد إليها في أحد أيام شهر يوليو — تشهد موجة حر شديد زادت درجة الحرارة خلالها عن ٨٠ درجة فهرنهايت، وكان ذلك في منتصف فصل الشتاء هناك! ومن شدة الحر كان أفراد من قوات الحرس الملكي، في زيهم الصوفي القرمزي، مثل الحراس في قصر باكينجهام، يسقطون في نوبات إغماء. وعلى الرغم من أن سيدني لم تكن تشهد أي تساقط للجليد، كانت درجات الحرارة في فصل الشتاء تقترب من ٤٥ درجة فهرنهايت في المعتاد. وكانت المدينة، مثل سان فرانسيسكو، تضم ميناءً ضخمًا تمر إليه السفن عبر فتحة ضيقة في الشريط الساحلي. وكان بهذا الميناء بقعة مختارة لبناء مركز ثقافي، وقد لفت انتباه ريتشارد إلى تلك البقعة ماكس هارجريفز، أحد العلماء المكلفين بمرافقته. إنه المكان الذي احتضن دار أوبرا سيدني، أحد المعالم الرئيسية التي استغرق بناؤها خمسة عشر عامًا، واحتاجت مشروع يانصيب قوميًّا لجمع الأموال اللازمة لإتمام البناء (إذ إنه تعدى الميزانية المخصصة له بمراحل). وتقع دار أوبرا سيدني على مقربة من جسر ميناء سيدني، ويستطيع المرء عبر رحلة قصيرة بالمعدية في المياه الوصول إلى حديقة تارونجا، والتمتع برؤية حيواناتها الرائعة وحديقة الحيوانات بها وحديقتها المائية الخلابة. لم يشهد ريتشارد في حياته قط مثل ذلك العدد المتنوع من الكائنات البحرية غير العادية. وقد بيَّن ذلك المكانة الخاصة التي تحتلها هذه القارة في تطور مختلف الحيوانات والنباتات. هذه القارة التي كانت جزءًا من قارة آسيا في عصر من العصور انفصلت عنها في أحد العصور الجيولوجية وعاشت فيها أنواع فريدة من المخلوقات على مر السنين.
أما الفاكهة الأسترالية فكانت متنوعة ورائعة، ولا سيما القشطة الهندية، ذلك النوع من التفاح الوافر العصارة الذي طالما أحب ريتشارد تناوله بالملعقة في حوض الاستحمام. فقد كان ذلك أشبه بتناول بطيخة كاملة غير مقطعة دون أن يبلل المرء أذنيه.
هكذا خلف ريتشارد وراءه أصدقاء جددًا وذكريات جميلة عندما اتجه إلى سنغافورة، ومن هناك، عبر صحراء الشرق الأوسط إلى مصر «هبة النيل». توقف ريتشارد في القاهرة واستأجر فيها سائقًا مدة يوم واحد. وعند الأهرامات لقي رجلًا أسمر البشرة رشيق القوام من أهل البلد، قال لريتشارد: «أيها السيد، الرقم القياسي لتسلق هذا الهرم هو أربع دقائق واثنان وثلاثون ثانية.»
أومأ ريتشارد برأسه وابتسم.
– «وسأكسر هذا الرقم إذا أعطيتني عشرين دولارًا أمريكيًّا!»
اصطحب المرشد ريتشارد بعد ذلك إلى بئر،
– «هذه هي أعمق آبار مصر.»
قذف المرشد ببضع حصيات في البئر واستغرقت تلك الحصيات خمس ثوانٍ على الأقل حتى سُمع صوت ارتطامها بسطح الماء.
قال ريتشارد للمرشد محذرًا: «إذا واصلت إلقاء الحصى بها على ذلك النحو، فلن تظل أعمق آبار مصر.»
بطريقة ما، ظن المرشد أن هذه مزحة وضحك بصوت مرتفع.
قال المرشد: «أعمل مرشدًا منذ عشرين عامًا، وأنت أول من يحذرني من هذا الأمر.»
ورد ريتشارد: «أنا عالم رياضيات.»
لم يدرِ الرجل بمَ يجيب، وتساءل ريتشارد إن كان ذلك الرجل قد قابل عالمًا من قبل.
تضمنت الرحلة الأوروبية زيارة ثلاثة مختبرات في إيطاليا. بحث ريتشارد في مدينة تورينو عن مطعم بيتزا، لكنه لم يتمكن من العثور إلا على بائع بيتزا متجول في محطة القطار. كانت البيتزا الإيطالية ذائعة الصيت في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي جلاسكو، عثر ريتشارد على الشارع الذي ولِدت به أمه. لكن للأسف، انهارت المنازل بذلك الشارع قبل أسبوع من وصوله، ولم يتمكن من التقاط صورة فوتوغرافية حديثة له.
عاد ريتشارد إلى ووترتاون ونزل بمنزل جون هانكوك الذي سكنه قبل ذلك والتر مارشال. كان عمل باترمان، وتشيبمان، وديماركو مستمرًّا، وتورط لاري جينينجز، وهو عالم تجريبي حريص، في الخلاف على غير رغبة منه. فلما كان الباحثون قد أجروا فقط عمليات حسابية دقيقة على الذرات المعزولة، لماذا لا يحددون التوزيع الإلكتروني بالأشعة السينية على الذرات المعزولة أيضًا؟ كان ذلك ممكنًا في درجات الحرارة العادية فقط باستخدام الغازات الخاملة، والنيون، والأرجون، والكريبتون، والزينون، التي تظل فيها الذرات بعيدة بالقدر الكافي بحيث لا يتغير ترتيب الإلكترونات. كان ذلك تساؤلًا تجريبيًّا طموحًا ومقبولًا يحتاج إلى كثير من الوقت والصبر والعناية.
شارك ريتشارد في اهتمامه بالمسرح أحد أصدقائه، وهو طبيب أشعة يعمل في القطاع الحكومي في مستشفى «فيتيران أدمينستريشن»، هذا فضلًا على اهتمام ذلك الصديق، حسبما تقتضيه مهنته، بالأشعة السينية اهتمامًا أقل. وكثيرًا ما كان داني وريتشارد يبحران بأحد القوارب الصغيرة من حوض سفن مجاور لمنزل داني على بحيرة كوتشيتويت. وفي أحد الأيام، استقبل داني ريتشارد في بيته، وبوجه تكسوه علامات الحزن أطلعه على خطاب رسمي بإقالته من منصبه بالمستشفى. ترجع أسباب الإقالة إلى فترة الكساد التي انضم فيها داني في شبابه إلى إحدى المجموعات اليسارية في نيويورك. وقد جاءت تلك الإقالة في منتصف الفترة التي انتشرت فيها المكارثية في الولايات المتحدة. فقد سعى داني — كما سعى كثيرون غيره أثناء فترة الكساد الكبير — إلى النجاة عن طريق التعلق في أحبال المنظمات المتحررة. ولأنه يوجد شك في تمويل روسيا لمثل هذه المنظمات، فإن العديد من موظفي القطاع الحكومي في الولايات المتحدة باتوا في هلع شديد خوفًا من أن تتسب سذاجتهم الماضية في إلحاق الدمار بحياتهم الحالية والمستقبلية. من هنا، أدرك ريتشارد أن استمرار ارتباطه بداني قد يشكِّل خطرًا أمنيًّا. هل يتخلى المرء عن أصدقائه؟ إذا فقد ريتشارد تصريحه الأمني، فسيفقد وظيفته.
خلفت تلك المحكمة الصورية القادمة من عالم كافكا التي تقوم على تحميل المرء وزر من يخالطهم — بوصفها إحدى الأزمات في حياة ريتشارد — شعورًا باليأس في نفسه. وقد كانت لدى داني فرصة لاستئناف حكم إقالته، لكن بدا أن أحدًا لم يقدر قط على تغيير مثل تلك القرارات. كانت التهم تلحق بأبناء نيويورك لا لسبب إلا لأنهم وُلِدوا في تلك الولاية، وكان ريتشارد من برونكس. قاسى داني شهورًا من عدم الاستقرار، فقد كانت حياته المهنية في خطر كبير. ولحسن طالعه عثر أخيرًا على وظيفة في عيادة خاصة في أوهايو، وتمكن من التغلب على وصمة العار التي لحقت به، والتي دمرت العديدين.
بعد ذلك، استُدعي ريتشارد ذات يوم لمقابلة مدير مختبر ووترتاون، ثم عهد به بعد ذلك إلى أحد المحققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي. وتوالت الأسئلة بعد المقدمات المعروفة:
– «هل تؤمن بالله؟» (فالملحدون شيوعيون دون شك.)
– «نعم.»
– «هل أنت الآن عضو في الحزب الشيوعي، أو سبق لك أن كنت كذلك؟»
– «لا.»
– «هل تؤمن بتعاليم لينين وماركس وغيرهما؟»
– «لا.»
عند تلك النقطة تحولت طريقة الاستجواب.
– «هل سبق لك زيارة فنلندا؟ وإن سبق لك زيارتها، فمتى كان ذلك؟»
فجأة، اتضح الأمر برمته. لقد كان ذلك اللقاء العرضي بمجموعة الشباب الذين استقلوا المعدية في فرنسا متجهين إلى فنلندا هو السبب في إقحام ريتشارد في ذلك الأمر. ولذلك، حكى ريتشارد تلك الحادثة بالتفصيل.
قال عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي لريتشارد قبل أن يتركه ويرحل: «يجب ألا تبوح بتفاصيل ذلك اللقاء لأي شخص لا يجوز له الاطلاع عليها.»
صافحه ريتشارد ثم مضى. وبعد بضعة أيام التقى مدير مختبر ووترتاون بريتشارد: «لقد اندهشت حقًّا لما قرأته عن حوارك مع عميل مكتب التحقيقات. يسيء هؤلاء الأفراد فهم الأمور في بعض الأحيان.»
في يناير عام ١٩٥٩، تلقى ريتشارد اتصالًا هاتفيًّا من البروفيسور هارفي بروكس، أحد المستشارين في الحرب المضادة للغواصات. ثمة وحدة حربية تدعى «هانتر كيلر» تعمل في المحيط الأطلنطي تحت قيادة الأدميرال ثاتش، وتتكون من حاملة الطائرات «فالي فورج»، والعديد من الغواصات والمدمرات، بالإضافة إلى سفينة مساعِدة، وكانت تلك الوحدة الحربية تؤدي واجبها في المحيط الأطلنطي على الساحل الشرقي للولايات المتحدة باحثة عن غواصات روسية. في تلك الأثناء، واجهت تلك الوحدة مشكلة، ظنوا أنها ذات صلة بالمغناطيسية. ولمَّا كان الملازم بحري وايس لا يزال على قوة احتياط البحرية الأمريكية، اقترح بروكس أن يقضي بضعة أسابيع مع الوحدة الحربية كي يدلي برأي في تلك المشكلة. ولم يستطع ريتشارد مغادرة الوحدة إلا بحلول شهر يونيو.
استقل ريتشارد الطائرة إلى نورفولك بولاية فرجينيا ليكتشف أن الوحدة الحربية قد انطلقت بالفعل في مهمة في عرض البحر. وأكد الجميع لريتشارد أنه لا بأس بذلك وأن هناك طائرة تحمل البريد اليومي إلى حاملة الطائرات. ومن ثَم، استقل ريتشارد تلك الطائرة وفي أقل من ساعة واحدة وصلت الطائرة إلى فالي فورج، وكان الهبوط المعتاد للطائرات على متن حاملة الطائرات؛ أي إن أنظمة الكبح الموجودة على سطح الطيران في حاملة الطائرات التقطت خطاف الكبح الخلفي الموجود في ذيل الطائرة، وتوقفت الطائرة بسرعة كبيرة. أخذ ريتشارد يفكر في طرافة الموقف، فقد قضى ثلاث سنوات كاملة داخل حاملة طائرات أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه كانت المرة الأولى في حياته التي يهبط فيها بطائرة على سطح إحدى حاملات الطائرات.
التقى ريتشارد بالأدميرال ثاتش الطويل القامة ذي الشعر الرمادي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، فكان طيارًا في موقعة ميدواي وغيرها من معارك جنوب المحيط الهادي. لاحظ ريتشارد من خلال إحدى الفتحات أن الأدميرال ينام على سرير رباعي الأعمدة؛ كان أول سرير من ذلك النوع يراه ريتشارد في البحرية. أخبر ثاتش ريتشارد بأنهم كانوا في شوق إلى زيارته. ذكره ذلك بالمرة الأولى التي وصل فيها إلى مختبر ووترتاون، حين أخبره القائد آنذاك أنهم كانوا يتوقون إلى رؤيته، إلا أن التحية التي تلقاها ريتشارد في فالي فورج جاءت وكأنه سيعالج مشكلة البحرية مهما كانت طبيعتها.
وعلى الفور، عهد الأدميرال بريتشارد إلى أحد معاونيه الذي قرر أن يعطيه كل ما لديه، وجاءت الأوامر بأن يقضي ريتشارد يومين في الغواصة وبضعة أيام في المدمرة، ثم يعود إلى حاملة الطائرات. وفي تلك الأثناء يجري إخباره بطبيعة المسألة. لقد عاد ريتشارد إلى البحرية؛ وعليه الآن اتباع الأوامر والتزام الصمت.
كانت فالي فورج أهم سفن قوة المهام ألفا التي ضمت سبع مدمرات والعديد من الطائرات المخصصة لكشف الغواصات وتدميرها، فضلًا على العديد من الغواصات. كان يوجد اعتقاد أن الروس يمتلكون ٥٠٠ غواصة، على الرغم من عدم امتلاكهم لحاملة طائرات واحدة. بعد ذلك، شرع الروس في استخدام التيتانيوم في صنع أجسام الغواصات بدلًا من الصلب، حيث إن التيتانيوم أقل وزنًا وغير مغناطيسي. ولعل إحدى المشكلات التي واجهت عملية الكشف بالسونار عن الغواصات هي الضوضاء الخلفية الكبيرة التي تحدثها الحيتان، وأصوات سمك القريدس، وأسماك الطبل، وصراخ الدلافين، وأسراب الأسماك. ولذلك، كان العثور على الغواصات الروسية أصعب من البحث عن إبرة في كومة قش.
وفي اليوم التالي لوصول ريتشارد على متن فالي فورج، توقفت سفينة مساعِدة بجوار حاملة الطائرات، ومع انطلاق السفينتين في مسارين متوازيين بسرعة عشر عُقَد، أُرسل بنطال إنقاذ إلى ريتشارد ونُقل إلى السفينة المساعدة. وبالطريقة نفسها، نُقل بعد ذلك إلى إحدى المدمرات. وفي المدمرة تلقى ريتشارد المعلومات الأولى حول طبيعة ذلك كله وماهيته عندما اصطُحب للعرض على الضابط التنفيذي. فقد كان الرادار الموجود على ظهر المدمرة يتمكن في بعض الأحيان من تحديد مكان الغواصة من خلال صدى فوق البقعة التي غطست عندها الغواصة. فما هذا يا تُرى؟ كانت المدمرة ستجرب القيام بذلك بالتعاون مع الغواصة في غضون بضعة أيام. في ذلك المساء، لم يكن ريتشارد يفكر في الفيزياء، فقد عاوده دوار البحر، وقضى ليلة قاسية في سريره. وعلى أي حال، لقد أصبح الآن يعرف السبب الذي جاء من أجله.
في اليوم التالي، ظهرت في الأفق طائرة هليكوبتر، وأسقطت حبلًا بآخره أنبوب وضع حول صدر ريتشارد وأسفل إبطيه، وسُحب ريتشارد إلى أعلى حتى استقر على متن الطائرة. وعلى بُعد ميل واحد فقط من ذلك المكان، كانت إحدى الغواصات في دورية لها على سطح الماء وأُنزل ريتشارد على ظهرها. حيَّاه الضابط التنفيذي، ثم قال له: «هل شعرت بالتوتر؟»
فرد عليه: «إنها مسألة توجه ذهني!»
تعرف ريتشارد في أيام عديدة على طبيعة الحياة داخل غواصة غير نووية مزدحمة. وعند الغطس يوجد نوع من الإبحار الهادئ. لكن سرير الطوابق الذي خُصص لريتشارد في تلك الليلة كان قريبًا للغاية من الجدار الخارجي للغواصة لدرجة أن ريتشارد لم يجد مساحة يتقلب فيها!
في اليوم التالي وجه ريتشارد سؤالًا إلى القائد: «وماذا عن عمليات المراقبة الرادارية؟»
كان رد القائد عليه بأن هز كتفيه واكتفى بالصمت. فكر ريتشارد أنهم إلى ذلك الوقت لا يحتاجون إلى وجود عالم فيزياء.
عاد ريتشارد إلى المدمرة وجلس على كرسي داخل غرفة الرادارات بالقرب من مصباح أشعة الكاثود. وطلب من الملازم الموجود بالخدمة في ذلك الوقت أن يحدد له نقطة اتصال بالغواصات على الشاشة التي يراقبها. وعندما ظهرت تلك النقطة المفترضة على الشاشة وحددها الملازم، لم يتمكن ريتشارد من رؤية أي شيء. وهنا كان السر؛ كان ذلك أشبه بأشعة إن، عندما يسلب الخيال حواس المرء جميعًا. وكان رأي ريتشارد أنهما أسبوعان لا فائدة منهما على الإطلاق. عاد ريتشارد إلى فالي فورج حيث رحب الأدميرال بعودته مرة ثانية إلى «الشاطئ».
سأله ثاتش: «ما رأيك؟»
ريتشارد: «لم أرَ شيئًا يقنعني. سأفكر في الأمر ثم أبعث إليك تقريرًا.»
رجعت فالي فورج إلى نورفولك. وعندما وصل ريتشارد إلى ووترتاون، كتب تقريره النهائي. ليست هناك طريقة معروفة يمكن من خلالها للموجات الرادارية الانتقال عبر موصل كهربي مثل المياه المالحة. وبدلًا من ذلك، اقترح ريتشارد ضرورة تركيب مقاييس مغناطيسية عالية الحساسية في طائرات الهليكوبتر وقياس الانحرافات الموجودة في المجال المغناطيسي الأرضي. بهذه الطريقة قد تظهر سفينة ضخمة مصنوعة من الصلب المغناطيسي مثل الغواصة.
أصيب ريتشارد بدهشة كبيرة عندما تلقى خطابًا من الأدميرال ثاتش الذي اتبع نصيحة ريتشارد، يخبره فيه بأنهم حققوا بعض النجاح باستخدامهم المقاييس المغناطيسية. وكان في ذلك نهاية تلك الحكاية القصيرة في حياة ريتشارد المهنية.
عندما ظهر بحث باترمان وتشيبمان وديماركو، دحض تجربة وايس وديماركو. ومع ذلك، اختلف العلماء حول النتائج الجديدة في مقارنة عمليات توزيع الإلكترونات المحتسبة للذرات المعزولة بعمليات توزيع الإلكترونات التي قيست على المعادن. لكن الأهم من ذلك أن هذه التجارب أوضحت أن مثل هذه القياسات مليئة بالصعوبات، والأرجح أن الأمر سيتطلب جهدًا أكبر بكثير من أجل تحديد التفاصيل الدقيقة الخاصة بسلوك الإلكترونات في المعادن. ومن هنا، يمكن الجزم بأن باترمان قد وصل في الوقت المناسب ليمنع الباحثين من الاستمرار في التحليق بعيدًا في فضاء افتراضاتهم الواهمة!
لكن، ما الخطأ الذي شاب تجربة وايس وديماركو؟ لقد فطن الاثنان — وحالفهما التوفيق في ذلك — إلى أن الاندثار قد يكون مشكلة، وأجريا قياساتهما على أطوال موجية عديدة لتصحيح هذا الأثر. ولذلك شرعا في البدء من جديد. وبفحص مفصل لبلورات عديدة في أطوال موجية مختلفة، توصل الاثنان إلى دراسة أوضحت أن الخطأ الرئيسي قد وقع في تصحيح الاندثار. لم يكن ذلك ممكنًا عن طريق تغيير الطول الموجي فحسب. لقد حاول وايس وديماركو تصحيح الأثر لكن القدر لم يساعدهما.
وهكذا، انطلق ريتشارد ليقضي عامًا في الكلية الملكية بلندن. كان الجيش قد بدأ في برنامج جوائز روكفلر الخاص به، وكان ريتشارد في طليعة المرشحين لها. سأل ريتشارد نفسه: «هل كان الجهد التجريبي المبذول على توزيع الإلكترونات مضيعة حقيقية للوقت؟» سيكون لديه عام كامل على الأقل للتفكير في هذا الأمر.