ووترتاون ٣: ١٩٦١

في عام ١٩٥٩، كان ريتشارد يزداد شغفًا بمجموعة من الأسئلة المتعددة الاختصاصات، وقرَّر تبعًا لذلك أن يجري تجربة. فكر في أن يلتقي الخبراء في عدة مجالات على العشاء مرة واحدة في الشهر ليستعرضوا الاهتمامات المتداخلة. ولم تكن لديه أدنى فكرة عما قد يترتب عليه ذلك؛ لأنه لم يكن يعلم بأمر أي محاولة مشابهة لمحاولته، لكنه كان على يقين من أن ذلك سيكون شيئًا ممتعًا. فمعظم الناس يجربون كل الأشياء ولو مرة واحدة في حياتهم.

تطلب العثور على النوع المناسب من الخبراء جهدًا كبيرًا، فالنوع المطلوب هو الخبراء الذين أظهروا الصداقة، والثقة، وأعجبتهم الفكرة. وبحضور عشر ضحايا أغرتهم الفكرة، عُقد اللقاء الأول داخل غرفة طعام خاصة في نادي بوسطن، حيث اجتمع طبيب نفسي، وطبيب، وكاتب مسرحي، ومؤرخ، وعالم فيزياء؛ لتناول الطعام وتجاذب أطراف الحديث. لكن ما الذي سيتحدثون عنه؟ لا أحد منهم يعرف. اقترح ريتشارد الذي كان قد أعد بعض الملاحظات قائلًا: «حسنًا، لنجرب بضعة موضوعات هذه المرة ونركز الحديث على أحدها في المرة القادمة، وهذه الموضوعات هي تحديدًا»:
  • (١)

    هل تقدير المرء لإخوانه البشر هو القوة الدافعة الوحيدة لقدرته الابتكارية أم أن هناك شيئًا فطريًّا؟

    قد يشغل ذلك التساؤل مجموعة من الأفراد وقتًا طويلًا للغاية.

  • (٢)

    هل ينأى العلم بجانبه عن غيره من المجالات؛ أي هل يتعالى العلماء على غير العلماء؟

    يتضمن ذلك التساؤل إشارة إلى تكبر العلماء، خصوصًا أن رواتبهم أعلى في الجامعات.

  • (٣)

    هل يجب تنظيم عملية توجيه الإنجازات في مجالات متعددة لتقليل المخاطر المحتملة؟

    يشبه ذلك شخصية «الأخ الأكبر»، لكن هذا الأخ هنا له ضمير حي.

  • (٤)

    كيف تتأثر القيم الثقافية بالتقدم في مختلف المجالات؟

    يحتاج ذلك إلى تعريف للثقافة.

  • (٥)

    ما الذي يتسبب في ظهور الصيحات الجديدة في مختلف المجالات؟

    كيف يتعرف المرء على الصيحة الجديدة؟ يصبح ذلك سهلًا فقط عندما يباع مليون طوق من أطواق الهولاهوب.

اتفاق المجموعة على تكرار اللقاء دلَّ على قدر من النجاح. وأشار ذلك إلى أن العديد من المجالات يمكنها التواصل دون حدوث أي اضطراب. وكان من الإنصاف أيضًا القول إن أسئلة ريتشارد الخمسة شملت كل المجالات تقريبًا.

كان في انتظار حضور الاجتماعات التالية بترقب وشغف بروفيسور في مقارنة الأديان، وبروفيسور في الموسيقى، وبروفيسور في العلوم السياسية، وعالم في الفيزياء الحيوية، ومستشار استثمار، وعالم اجتماع.

ضمت الجلسة التالية الطبيب، وأستاذ مقارنة الأديان، والكاتب الدرامي، والمؤرخ، والطبيب النفساني، وعالم الاجتماع، وريتشارد الذي انشغل بتدوين الملاحظات وتسجيل وقائع الجلسة على شريط. ركَّزت المجموعة في هذا الاجتماع على موضوع معين سيشغلها الأعوام القليلة القادمة حتى يرحل ريتشارد إلى إنجلترا، وآلان ليفيت إلى هوليوود. وكان هذا الموضوع هو التواصل.

اتفق أفراد المجموعة على أن التواصل يتطلَّب مرسلًا ومستقبلًا تنتقل بينهما فكرة أو شعور. ولما لم تكن المجموعة تضم لاعب ملاكمة محترفًا في تسديد اللكمات القوية، فلم يكن للألم مكان وسط المشاعر المنقولة؛ إنما أفكار فقط. لكن إن افترضنا صفاء الفكرة أو الشعور، فإن التواصل لا يزال يقتضي وجوب استقبال تلك الفكرة أو ذلك الشعور دون تشويه. أكدت المجموعة أن وضوح العلاقات بين المرسل والمستقبل ضروري للغاية حتى يكون التواصل فعَّالًا، يعني ذلك:
  • (أ)

    لا بد من وجود احتياج لهذا النوع من التواصل.

  • (ب)

    لا بد من توفر قدر معين من الثقة بين الطرفين.

  • (جـ)

    لا بد أن يكون المستقبل قد تلقَّى تدريبًا مسبقًا على التعرف على الفكرة أو الشعور.

  • (د)

    لا بد أن يكون المرسل والمستقبل مستعدين لبذل قصارى جهدهما لكي تصبح العملية فعَّالة.

  • (هـ)

    رفض المستقبل لفكرة جديدة أو مبتكرة قد يكون راجعًا إلى أن تلك الفكرة تمثل تهديدًا لشخصيته أو أمنه.

بعد الانهماك في حوار بين المرسل والمستقبل، من المهم ملاحظة مدى التغير الذي طرأ على كل منهما نتيجة للتواصل الفعَّال، وماذا كانت العوائق التي تقف أمام هذا التواصل، وماذا كان الغرض من هذا التواصل.

عند هذه المرحلة، ازداد اهتمام الحضور بفكرة التواصل عن طريق التركيز على التواصل داخل المجالات المختلفة وفيما بينها.

في الاجتماع الذي تلا ذلك، اتفق أفراد المجموعة على تساؤلات معينة يتناولها كل عضو في المجموعة على حدة في الاجتماعات القادمة.

  • (١)

    ما الأفكار أو المشاعر المعينة التي تحاول إيصالها إلى الآخرين؟

  • (٢)

    كيف تميز التواصل الناجح وكيف تتغير أنت ومستقبل كلامك نتيجة لذلك التواصل؟

  • (٣)

    ما العقبات المحددة التي تقف أمام التواصل الناجح في مجال عملك؟

لوحظ أيضًا أن إحدى عقبات التواصل العامة هي قلة الوعي من جانب المرسل بالتغير المطلوب في المستقبل. ففي بعض الأحيان، تكون حاجة اللاوعي إلى ضمان شعور المرسل بالأمان هي ما يحفز محاولات المرسل للتواصل، ويعني ذلك أن المستقبل استُخدم فقط كمرآة لأفكار المرسل.

في فبراير عام ١٩٦٠، تقدم ريتشارد ليكون أول من يتناول تلك النقاط في المجموعة، وأعطى الإجابات الثلاث التالية عن الأسئلة السابقة:
  • (١)

    يتواصل العالم على نحو يكاد يكون حصريًّا مع زملائه العلماء عن طريق المقالات التي تنشر في الدوريات، والمحاضرات، والأبحاث التي تُعرض في المؤتمرات العلمية، والكتب، والمناقشات غير الرسمية. فإما أن ينقل العالم الملاحظات التجريبية، أو يحاول وضع ترتيب رياضي من نتائج التجارب. فالدرجة التي إليها تفسر إحدى الصيغ أو المعادلات أو تتنبأ بالملاحظات التجريبية هي درجة فهم ذلك العالم لها. وإن كانت إحدى الصيغ أو إحدى المعادلات قادرة على التنبؤ بجميع الملاحظات التجريبية الموجودة في الطبيعة، فسيصبح العالم — كما هو معروف لنا — بلا أي فائدة.

  • (٢)

    إذا فهم زملاء العالم أفكاره، يصير التواصل ناجحًا. فعلى الرغم من أن العلماء ينتمون إلى بني البشر ويحملون مثلهم ميلًا إلى رفض الأفكار الجديدة، فإنهم قلما يتأثرون بتلك المشكلة. فمن الممكن اختبار الأفكار الجديدة من أجل الوقوف على مدى مصداقيتها ويكتسب العالم ومستقبلو رسائله المزيد من المعرفة بالعالم المادي.

  • (٣)

    تنشأ العقبة الرئيسية في محاولة نشر فكرة غير صحيحة، حيث سيجبر الخبراء العالم على الدفاع عن موقفه. فكلما زادت مصداقية الملاحظة، زادت سهولة نشرها ونقلها. وبالإضافة إلى نقل الحقيقة، يتطلب التواصل الناجح عرضًا واضحًا للحقائق بوساطة العالم، على الرغم من أن ذلك يأتي في مرتبة ثانية من الصحة. فلحسن الحظ، دائمًا ما تكون الطبيعة قريبة وموجودة لتضطلع بدور الحكم النهائي في أي خلاف علمي.

جاء تقرير ريتشارد مباشرًا للغاية، ولم تكن هذه مفاجأة لغير العلماء. ومع ذلك، فلم يكن إلا بداية.

بعد شهر من ذلك، جاء دور الطبيب النفساني الذي كانت إجاباته عن الأسئلة الثلاثة كالتالي:
  • (١)

    أما الطبيب المعالج، فيجب أن يرسخ في مريضه شعورًا بالأمان كي يشجعه على التواصل. فالطبيب المعالج يدفع المريض إلى إعادة التعامل مع المواقف الصعبة القديمة داخل بيئة جديدة، ويشجعه على اكتشاف طرق قهر مشكلته.

    ويتواصل ذلك الطبيب مع زملائه، فيروي تجاربه مع المرضى من خلال الدوريات، والكتب، والاجتماعات التقنية … إلخ.

  • (٢)

    يؤدي التحسُّن في حالة المريض إلى تواصله مع الطبيب (الجانب التشخيصي)، أو مع نفسه (الجانب العلاجي)، مما يمكِّن المريض من التغلب على العقبات السابقة وتحسين سلوكه. ويقاس التحسن بأثر رجعي عن طريق تحليل الإنجازات التي تحققت أو الإخفاقات.

  • (٣)

    تتضمن العقبات:

    • (أ)

      صبغ الطبيب لتعامله مع المريض بالصبغة الشخصية وإثارة عواطفه الشخصية. ثم ميله إلى البعد عن المريض عند شعوره بعدم الارتياح لذلك.

    • (ب)

      مبالغة الطبيب في تشخيص المشكلة وإفراطه في تفسيرها إفراطًا يتجاوز حدود الضرورة.

    • (جـ)

      احتمال إصابة الطبيب بالقلق خوفًا من أن يخبر المريض غيره من الأفراد أن حالته تزداد «سوءًا»، وما في ذلك من مخاطرة باسمه وشهرته.

    • (د)

      حاجة المرضى الذين يخضعون للعلاج النفسي بالإكراه — كالمساجين والأطفال — إلى أن يهيئ لهم الطبيب المعالج مناخًا يساعدهم على تقبل العلاج.

أُشير قبل ذلك إلى أن الغالبية العظمى من الأطباء المعالجين يخضعون بدورهم للتحليل النفسي، وأن هؤلاء الأطباء ينقسمون إلى: عضويين لعلاج الاضطرابات الفسيولوجية، وديناميكيين لعلاج الاضطرابات البيئية.

شعر ريتشارد بأن كل شيء في عالم الطب النفسي الغامض بات جليًّا أمام ناظرَيه. وقد أكد له ذلك مدى السهولة والبساطة التي يمتاز بها التعامل مع الإلكترونات مقارنة بالتعامل مع الأفراد. بعد ذلك، انتقلت المجموعة إلى مجال الاستثمار، خاصة صناديق الاستثمار. كان خبير المجموعة قد صنَّف كتبًا عديدة عن المبيعات لتشجيع المستثمرين على أن يدركوا أن:
  • (١)

    (أ) الأسهم العادية تعد استثمارات جيدة طويلة الأجل.

    (ب) تلك الأسهم تتأثر بالتضخم.

    (ﺟ) صناديق الاستثمار تعد طريقة سهلة لامتلاك الأسهم العادية.

    (د) التنوع يقلل المخاطرة.

    (ﻫ) الصناديق يديرها محترفون.

  • (٢)

    يقاس النجاح بزيادة المبيعات، والتعليقات الإيجابية على الكتيبات التسويقية. يتغير الجمهور عن طريق زيادة الأمان في صناديق الاستثمار (ما دام الدخل مضمونًا).

  • (٣)

    عقبات التواصل هي:

    • (أ)

      جهل الجمهور بعملية شراء الأسهم.

    • (ب)

      نقص الخيال عند الجمهور.

    • (جـ)

      القبضة الحديدية للجنة الأوراق المالية والبورصات على صياغة الكتيبات والمواد الترويجية للمبيعات.

لم تشتمل هذه الإجابات على أي مفاجآت. فلم تكن سوق الأسهم في رأي ريتشارد إلا جزءًا من مقامرة «مصقولة». وبعد ثلاثين عامًا من ذلك التاريخ، نمت تجارة صناديق الاستثمار بقدر هائل على الرغم من استمرار ثقل النشرات الترويجية بقدر ثقل بوليصات التأمين. لقد أصبحت المقامرة من خلال أوراق اليانصيب واستثمارات وول ستريت أسلوب حياة للبعض؛ حيث صارت الأمل الذي يعيش عليه بعض الناس.

بعد ذلك حان دور مجال أكثر دقة، وهو طب الأشعة، وتضمن ذلك بعض المفاجآت:
  • (١)

    يتواصل خبير الأشعة بصفة مبدئية مع الطبيب الذي يحيل إليه الحالات المرضية. وعلى هذا الخبير أن يصف بالكلمات محتوى صورة كثيرًا ما تكشف عن جزء ضئيل للغاية من المشكلة. ويشبه ذلك محاولة التعرف على اللون الأخضر في تل بعيد داخل صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود التُقطت في نهار غائم. فعلى خبير الأشعة أن يقدر — وفقًا لخبرته — وجود أو غياب حالة مرضية مشكوك في وجودها عن طريق الاستعانة بالأشعة السينية. وتعتمد اللغة المستخدمة في التشخيص على دراية طبيب الأشعة بمراعاة الطبيب المعالج لصعوبات طب الأشعة ومعرفته بها.

  • (٢)

    يحدث التواصل الناجح عندما لا يبالغ الطبيب المعالج في الأخذ بتقرير خبير الأشعة أو في إهماله، دون النظر في الأعراض كافة.

وقد استخدم ريتشارد نفسه الأشعة السينية عن طريق تشتيتها عن المواد، في حين يبثها خبير الأشعة في المريض ويحدد مدى امتصاص الجسد لها. فالأشعة السينية واحدة، لكن الطريقة مختلفة.

تضمنت العقبات:
  • (أ)

    احتمال حجب الطبيب المعالج لمعلومات حيوية قد تساعد خبير الأشعة في تشخيصه.

  • (ب)

    احتمال إصرار الطبيب المعالج على الحصول على تحديد إيجابي، نادرًا ما يتوفر لدى خبير الأشعة.

  • (جـ)

    ألا يوفر المريض أو الطبيب الأشعة السينية السابقة للمقارنة. فمن السهل التمييز بين الاختلافات في صور الأشعة السينية.

  • (د)

    احتمال أن تكون لدى الأطباء أفكار مفهومة سلفًا عن حالة المريض، واحتمال أن «يتنافسوا على المكانة» مع خبير الأشعة.

أخبر خبير الأشعة المجموعة أنها كانت فكرة جيدة للغاية أن يحتفظ بصور الأشعة السينية القديمة على الرغم من أن بنجامين فرانكلين قال ذات مرة: «الله يشفي والطبيب يتقاضى الأجر!»

في النهاية، نجح ريتشارد في تحديد أبعاد مشكلة التواصل. فمعلومات خبير الأشعة متناثرة، وربما تصرف الطبيب المعالج وفقًا لتلك النتيجة، وربما كان على خبير الأشعة أن يخمن مدى قدرة الطبيب المعالج على تشخيص الحالة. في وقت ذلك الاجتماع (يونيو ١٩٦٠)، كان الليزر قد اكتُشف للتو. وبعد ثلاثين عامًا من ذلك، شهدت جراحات المناظير والليزر وغيرها من الأشكال الأخرى من الأدوات التشخيصية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي، والتصوير بالموجات فوق الصوتية تطورًا كبيرًا، بحيث إنها قطعت شوطًا كبيرًا في توضيح موقف أطباء الأشعة. لكن عام ١٩٦٠، كان ذلك الخبير يعاني من أعباء ثقيلة ومشكلة تواصل!

في الاجتماع التالي، جاء دور البروفيسور بلاك، المؤرخ، الذي قدَّم الإجابات التالية:
  • (١)

    يعرَّف التاريخ بأنه دراسة كل شيء وقع للكائنات الحية. وعلى الرغم من أنه يجب أن يكرس المؤرخ جهودًا عظيمة لسبر أغوار الأحداث الماضية وتوثيقها، فإن الفجوات الموجودة في معرفتنا تدفع المؤرخين إلى التأويل. ويتضمن ذلك:

    • (أ)

      توضيح الطريقة التي بها أثرت الأحداث التاريخية في مجرى التاريخ اللاحق.

    • (ب)

      وضع مجموعات معاصرة من القيم وأنماط السلوك بالاستناد إلى الماضي. وهذا هو السبب الرئيسي للخلاف، وهو يرسخ اتجاهًا علميًّا لدراسة التاريخ. فالمؤرخ — كما قال أحدهم ذات مرة — هو شخص لم يشهد الحدث بعينيه.

  • (٢)

    يتحقق التواصل الناجح عندما يتبع المستقبل/المستمع أحد الأنماط السلوكية التي تتسق مع تلك القيم. وبذلك، يصير المؤرخ ذو التأثير الواسع مبتكرًا للعادات والتقاليد داخل مجتمعه، وحارسًا لها ومجددًا.

  • (٣)

    العقبات الرئيسية هي الخرافات، والتحيز، والهوى، والكتَّاب التاريخيين الجهلاء.

وأكدوا على عدد من النقاط الإضافية فيما يتعلق بطريقة المؤرخين في تناول الموضوعات:
  • (أ)

    يختلف المؤرخون حول أسباب قيام الحضارات وانهيارها على نحو مستمر ومتكرر.

  • (ب)

    يحاولون إرساء قواعد للتغير التاريخي المنهجي.

  • (جـ)

    يكشفون عن عوامل مهملة في التأويل التاريخي ويؤكدون على أهميتها.

  • (د)

    يؤكدون أن التأويل غير ضروري؛ الحقائق فحسب هي المهمة.

  • (هـ)

    ينكرون إمكانية تحقق الموضوعية. ويقولون إن التاريخ يخضع لإعادة تأويل مستمرة في ظل التأثيرات المعاصرة.

  • (و)

    يعترفون بالقيود المفروضة على الموضوعية، ولكنهم لا يتفقون مع الافتراضات العامة.

ظل التاريخ نظامًا أكاديميًّا مائتي عام، ويستغرق الكشف التاريخي عشرين عامًا كي يدون في الكتب المدرسية. ومع ذلك، حتى لو باتت الحقائق كلها معروفة للمؤرخين، لظلوا على اختلافهم.

لا تفضل الغالبية العظمى من الطلاب مادة التاريخ؛ لأنها تركز على حفظ التواريخ عن ظهر قلب؛ فالتواريخ على الأرجح هي أكثر جوانب التاريخ صدقًا ويقينًا. لكن شكل التاريخ في ذهن ريتشارد كان قد بدأ يتغير. وكان ولع ريتشارد في الفترة التالية من حياته بترميم إحدى الحانات التاريخية وإدارتها قائمًا على إعادة إحياء تاريخ حي.

عبَّر الفنان عن الدور الذي تلعبه إبداعاته الفنية في المجتمع:
  • (١)

    يحاول الفنان أن ينمي في جمهوره تبصرًا بتوجهاته الذهنية العقلية والعاطفية تجاه بيئته.

  • (٢)

    فكر الفنان وأداؤه لا يوجهان إلى الجمهور في المقام الأول، على الرغم من أن رسم اللوحات في القرن الثامن عشر لزم أن يبعث السعادة في نفس الشخص الذي تُرسم صورة له، وأن فناني عصر ما قبل النهضة كانوا يخضعون لسلطة الكنيسة. فعلى الفنان أن يسعى لمعرفة رد فعل الجمهور فقط بعد أن ينتهي من عمله تمامًا. والنجاح في المرحلة الأولى (إتمام العمل) فيما يتعلق باختيار الأسلوب (الخط، الشكل، اللون … إلخ) يعبر إلى حد بعيد عن توجه الفنان العاطفي تجاه بيئته. وحينما يستشعر الفنان بنفسه قوة في التعبير عن جميع توجهاته العاطفية من خلال عمله، يصبح فردًا جديدًا تمامًا. وفي المرحلة الثانية (رد فعل الجمهور)، يظهر التواصل الناجح في أقوال غير الفنانين ونبرة أصواتهم، وفي تعليق زملائه الفنانين عليه. ومن ثَم، يرى الجمهور حقائق جديدة، أو إعادة تأكيد للحقائق القديمة، أو ببساطة وسيلة جديدة للتعبير عن الحقيقة.

  • (٣)

    تتضمن العقبات: افتقاد الفنان للأسلوب، أو الحساسية، أو الفهم، أو الذكاء، ورفض فكرة ما لأنها تمثل تهديدًا لأمن المشاهد، وافتقاد الجمهور للتعليم، والثقافة، والخلفية التاريخية … إلخ.

ملاحظات

  • (أ)

    تترجم العين والعقل الأسلوب (الخط، اللون، الشكل، التركيب) إلى عاطفة معينة؛ فالفنان يتفاعل مع العالم بصريًّا.

  • (ب)

    عندما يجتمع الفنانون يناقشون الأسلوب، وتُفهم ردود الأفعال العاطفية ضمنًا.

  • (جـ)

    كان ريمبرانت نموذجًا للفنان الناجح في كل شيء.

انتهى ريتشارد إلى أن العلماء يميلون إلى تفضيل الموسيقى أكثر من الفن لأسباب تتعلق بالحافز الثقافي؛ إذ ترتبط موضوعيتهم العلمية بالنظامية المرتبة للسلم الموسيقي ارتباطًا أكثر قوة. وأثناء تلك الفترة، تعرف ريتشارد إلى عدد من فناني نيو إنجلاند البارزين، لكن الغالبية العظمى منهم توخوا الحذر في تعاملهم معه. وقد ولَّد تعرض ريتشارد الدائم لعشرات الآلاف من لوحات العصر الحديث بداخله ألفة للرسم التجريدي وفهمًا شعوريًّا له. وقد ذاعت في ذلك الفن ثقافة أعلنت تحديها للوصف الشفوي على الرغم من شروع العديد من النقاد في محاولة القيام بذلك. ولمبتدئ مثل ريتشارد، أعاقت الرغبة الشديدة في الربط بين الفن التجريدي والعالم الحقيقي القابل للإدراك؛ طريق الولوج إلى مكنونات صدور الفنانين.

كان التعليق الوحيد الذي نطق به ريتشارد عن الفن التجريدي هو أنه يمكن للمرء أن يتعرف على الأسلوب الجيد، أما المحتوى العاطفي فيعتمد على رد الفعل الفردي. فعلى عكس العالم الذي يربط موضوعه بقوانين الطبيعة، لا يواجه الفنان أيًّا من تلك القيود.

ومع المبالغ الضخمة التي تنفق داخل المزادات العلنية لفنانين معينين، أدى ذلك إلى دخول المستشار الاقتصادي إلى المجال، صارفًا انتباه الأفراد بعيدًا عن الجانب الثقافي في الأعمال. وقد انتقد بيكاسو هذا الجانب من سوق الفن بالعبارات التالية:

«لست متشائمًا. ولست أبغض الفن أو أزدريه؛ لأنني لم أستطع العيش دون تكريس كل وقتي للفن. إنني أحب الفن بوصفه الغاية الوحيدة من حياتي. فكل شيء أفعله ويرتبط بالفن يغمرني بسعادة بالغة. لكنني مع ذلك لا أجد سببًا واحدًا يوجب أن ينشغل العالم كله بالفن ويطلق العِنان لجهله وغبائه. فليست المتاحف إلا كذبات كثيرة، وما الأفراد الذين يتخذون الفن عملًا لهم إلا كذابين غشاشين في المقام الأول.»

بعد ذلك عرض آلان ليفيت على المجموعة أفكاره بشأن الدراما:
  • (١)

    نبعت الدراما من علمنة الطقوس الدينية، وكانت عبر السنين إعادة عرض مرئية للدورة الأبدية: الحياة، والمعاناة، والموت، والبعث، والحساب. وتحاول الدراما نقل الصراعات العاطفية والعقلية إلى المشاهدين أثناء هذه الدورة، وتسمح للجمهور بمشاركة بطل الرواية تجاربه دون أن يعاني، في الواقع، المصير نفسه.

  • (٢)

    يمكن ملاحظة التواصل الناجح أثناء التمثيل عن طريق نظرة متأنية للسلوك الجمعي للمشاهدين (معدل التنفس، وضع الجسم … إلخ) في وقت توافقه مع التجربة العاطفية التي يمر بها البطل. وعقب انتهاء العرض الدرامي، حري أن يغمر المشاهدين شعور بالراحة الممتزجة بإحساس بالغاية والصفاء من خلال التجارب التي شاركوا بطل الرواية فيها.

    ثمة وعي جمعي ينشأ بين الممثلين والمشاهدين المتشاركين في التجربة نفسها أثناء لحظات التواصل الناجح للعرض الدرامي. ذلك يثري الشعور بالغاية المتولد في تلك اللحظات عند الممثل والمشاهد على حد السواء. ويمكن تمييز التواصل الناجح من خلال مقارنة سلوكيات المشاهدين ومشاعرهم مع السلوكيات والمشاعر التي قصد المؤلف إثارتها.

  • (٣)

    تتمثل العقبات في:

    • (أ)

      سوء الكتابة: تؤدي إلى صعوبة إيجاد فعل يقوم به الممثل ينسجم مع الكلمات الواردة في نص السيناريو.

    • (ب)

      ضعف الأداء: يصبح من الصعب جذب الجمهور.

    • (جـ)

      افتقاد الجمهور للخلفية التاريخية، والثقافية، والعاطفية، التي تمكنه من فهم التوجهات الذهنية والاستجابات العاطفية، التي تبديها الشخصيات تجاه البيئة التي يحيون فيها. ويتجلى ذلك بوضوح في مفهوم الدراما بين جماعات عرقية مختلفة وفي فترات تاريخية مختلفة.

ملاحظات: يمكن استشعار الحضور الجمعي لجمهور المشاهدين أثناء الأداء التمثيلي. وتشعر المجموعة بهذا الوعي في شكل إحساس ﺑ «التوحد».

وقد استخدم إبسن وبرنارد شو وبريخت الدورة التقليدية للحياة والمعاناة … إلخ في أعمالهم للدعاية الاجتماعية.

حظي آخر اجتماع للمجموعة بشرف حضور البروفيسور أمييا شاكرافارتي الذي تحدث عن مشكلات التواصل في الدين. وكانت أجوبته على النحو التالي:
  • (١)

    يُعدُّ الدين مرشدًا حيًّا في الحياة بجميع جوانبها الدنيوية. والخير الذي يصنعه هو جعل حياة الإنسان تجربة مرضية، وجعله يتقبل الآخرين على ما هم عليه كما خلقهم الله، وغرس شعور بالتعاطف مع محنة البشر في ضميره.

    يجب أن يكون الفرد المتدين على دراية بمجالات الفسيولوجيا، والتاريخ، وعلم النفس، والقانون، التي طورها البشر، بدلًا من قصر رؤيته على جوانب العادة والأعراف غير الحية. والدين الحي هو الدين الذي لا يفرض عقائد وتقاليد غير منطقية عبر الالتزام الصارم بالعادات التي لا معنى لها، ولا سيما إذا كانت الأسباب العملية الداعية لنشوء هذه العادات لم تعد موجودة في الأساس. مثل هذا الدين يكون خاليًا من الظواهر الخارقة. وتتخذ فيه الطقوس الدينية منحًى شاعريًّا يلجه المرء متى شاء، ويرحل عنه متى شاء.

  • (٢)

    يتحقق التواصل الناجح من خلال القبول التام للمرء من جانب الآخرين دون رغبة واعية أو غير واعية في تغيير معتقداته. ونتيجة لذلك، يسود شعور بالأمن والإيمان بين الأفراد.

  • (٣)

    تتضمن العقبات العادات الراسخة، والتشدد، والشعائر المتوطدة، والعوائق الوهمية أمام الأفكار الجديدة.

ملاحظات:

  • (أ)

    طبق المسيح هذه المبادئ بعناية.

  • (ب)

    جعل الاحتفال بقيامة المسيح في عيد الفصح كي يتزامن مع الاعتدال الربيعي.

  • (جـ)

    يمكن استشعار فكرة «الكيان الأسمى» في مفهوم «حس التصميم» داخل الكون لأينشتاين.

بعد ضم مجموعة متنوعة وكافية من المجالات بحثًا عن عامل مشترك بينها، حاول ريتشارد التوصل إلى بعض الحقائق العامة. بعد ثلاثين عامًا من ذلك، وفي العقد الأخير من القرن العشرين، كان عنصر السيليكون العادي، الذي اعتبره ريتشارد عديم الفائدة عند وصوله إلى ووترتاون للمرة الأولى، قد أحدث ثورة كبيرة في مجال الاتصالات بما له من قدرة كبيرة على تخزين المعلومات ومعالجتها في مساحة صغيرة الحجم بطريقة هائلة. فقد وضع جهاز الفاكس، والمودم، وشريط الفيديو معارف العالم وفهمه طوع بنان البشر. كانت المجالات التي قابلها ريتشارد عام ١٩٦٠ وناقش مشكلات التواصل فيما بينها لا تزال قائمة في الوقت الذي كان فيه العالم يتهادى نحو دخول القرن الجديد. وشهد متوسط عمر الفرد زيادة مستمرة بسبب السيطرة على الأمراض سيطرة أفضل، على الرغم من أن الكوارث الطبيعية والأوبئة مثل مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) أوضحت مدى ضعف البشر وسهولة تعرضهم لأوضاع تهدد حياتهم. لقد انقرضت الديناصورات؛ ويمكن أن يحدث ذلك للإنسان. وربما بعثر مثل هذا الانقراض الجائح قصائد ويليام شكسبير، ونظريات أينشتاين، وموسيقى باخ وموتسارت، وتعاليم المسيح — في الفضاء الخارجي، ويؤدي إلى زيادة طفيفة في إنتروبيا الكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤