الكلية الملكية، لندن: ١٩٦٢-١٩٦٣
تقع الكلية الملكية في مقاطعة كينسينجتون الجنوبية في لندن على بُعد بضعة أميال غرب ميدان ترافلجار وربع ميل فقط جنوب متنزه هايد بارك. ويرجع تاريخها إلى أوائل القرن التاسع عشر عندما عاد العالم الأمريكي بنجامين طومسون، الجاسوس السابق والموالي المخلص، إلى لندن بعد جولة خدم فيها مع ملك بارفاريا. ولأنه أصبح في ذلك الوقت يحمل لقب كونت رامفورد، فقد اقترح إنشاء مؤسسة لعرض أحدث الإنجازات التكنولوجية. كانت متاحف الفنون منتشرة ومألوفة لدى الناس وليست متاحف العلوم. ومن هذه الفكرة نشأت المؤسسة الملكية في شارع ألبرمارل بلندن، التي كُرست لعرض أحدث الإنجازات العلمية على المواطنين وتعريفهم بها. وكانت المحاضرات التي تلقى بالمؤسسة يوم الجمعة تحضرها النخبة من الناس الذين كانوا يستمتعون بشروح أسرار الطبيعة. كان إقبال الجمهور على حضور البرامج التي تنظمها المؤسسة كثيفًا للغاية حتى حُوِّل شارع ألبرمارل إلى شارع ذي اتجاه واحد، ليكون أول شارع من هذا النوع في لندن كلها، الأمر الذي كان ضروريًّا للتعامل مع حركة مرور السيارات المتزايدة.
بعد عقود عديدة من ذلك، اقترح الأمير ألبرت، بدافع دعم جهود المؤسسة الملكية وتأييدها، إقامة ما يسمى المعرض الكبير. تلقى رجال الأعمال البارزون هذا الاقتراح بحماس شديد، وعام ١٨٥١ عرض ذلك المعرض أحدث الوسائل التكنولوجية في العالم في ذلك الوقت داخل قصر كريستال بالاس في هايد بارك. وفي الحقيقة، صار المعرض الكبير أول معرض في العالم. أدى ذلك أيضًا إلى تنظيم بطولة كأس أمريكا عندما احتفلت إحدى مسابقات الإبحار الدولية بالحدث بالدوران حول جزيرة وايت. وقد فازت بهذه البطولة مركبة الإبحار المسماة أمريكا، وكانت الملكة فيكتوريا هي من سلَّم الكأس الشهيرة إلى الطاقم الفائز. ومع المال الفائض من المعرض الكبير الناجح ماليًّا، اقترح الأمير ألبرت إنشاء المعهد الملكي جنوب هايد بارك لدعم الاهتمام المتزايد بالعلوم. وقد اتسع نطاق المفهوم الأصلي للمعهد ليضم متاحف عديدة ثم الكلية الملكية بعد ذلك.
وصل ريتشارد عام ١٩٦٢ وقوبل انضمامه إلى قسم الرياضيات بالترحيب من كل من بيتر فولفارت وهاري جونز، وهما اثنان من الأعمدة الرئيسية داخل الكلية في فيزياء الحالة الصلبة النظرية. كانت الرياضيات تُدرَّس في مبنى هكسلي القديم ذي الطوابق الخمسة على طريق إكسبيشن، وهو على الأرجح أحد الأبنية الأصلية الباقية من عهد الأمير ألبرت. ضم المبنى مصعدًا قديمًا متداعيًا، هذا فضلًا على سلم حجري دائري صار مقعرًا مع مرور السنين من كثرة استخدام الأشخاص الذين تخلَّوا تمامًا عن انتظار المصعد. وكما تفوح رائحة التراث القوطي من جامعة كامبريدج، يفوح عبق التراث الفيكتوري من مجمع جنوب كينسينجتون.
يقع متحف التاريخ الطبيعي، والمتحف الجيولوجي، ومتحف العلوم على الجانب الآخر من طريق إكسبيشن في مواجهة مبنى هكسلي، وفي الجنوب يوجد متحف فيكتوريا وألبرت (في آند إيه) ملاصقًا لمبنى هكسلي. ويوميًّا كانت الحافلات المدرسية تقل أعدادًا غفيرة من الأطفال في رحلات ميدانية إلى تلك المتاحف. يُوجد نفق للمشاة أسفل شارع كرومول المزدحم يؤدي إلى محطة مترو أنفاق كينسينجتون الجنوبية التي تبعد ربع ميل فقط، وإلى الشمال وعلى مسافة ربع ميل آخر كان متنزه هايد بارك، الذي ضم نصب ألبرت التذكاري بتصميماته المعمارية الغريبة، وقاعة ألبرت الملكية، وهي قاعة احتفالات كبيرة تتميز بأنظمة صوتية رائعة، صارت فيما بعد مسرحًا لسلسلة الحفلات الصيفية للعازف الإنجليزي اللامع هنري جوزيف وود. امتازت القاعة بالأناقة والثراء، وكان مرشدو الجمهور إلى مقاعدهم داخل القاعة متطوعين يُنتقون من مستويات عالية من المجتمع، وكانت هناك قوائم انتظار طويلة تنتظر أن يحل دورها.
قطن ريتشارد في حي فيكارج جيت، وهي منطقة أنيقة وجذابة في لندن تبعد مسافة قصيرة إلى الغرب من حدائق كينسينجتون وقصر كينسينجتون. كان القصر منزلًا للأميرة مارجريت ومجموعة الكلاب التي كانت تقتنيها، والتي كان الناس يرونها مرتين في اليوم أثناء نقلها بالسيارة مسافة ١٠٠ ياردة إلى مدخل المتنزه.
كان رصيف المشاة الممتد ميلًا واحدًا من مبنى هكسلي إلى المبنى رقم ١٢ في فيكارج جيت يمر بحدائق كينسينجتون التي تحظى بعناية فائقة، ويأخذ ريتشارد إلى جنوب القصر وعبر طريق بالاس جرين، وهو طريق يُنار بالغاز ويحتوي على ما يزيد عن اثنتي عشرة سفارة، ومنها السفارة الروسية ذات السمعة السيئة في المبنى رقم ١٣.
كان ريتشارد يمر كل يوم على المنزل ذي اللوحة التذكارية الزرقاء، الذي سكنه من قبل الفيزيائي البارز جيمس كليرك ماكسويل عندما كان عضوًا في هيئة التدريس بقسم الفيزياء بكلية الملك في لندن، وكان يمشي أو يستوقف عربة تقله مسافة الميلين ونصف الميل إلى عمله. لم يخطر ببال ريتشارد أنه بعد أعوام عديدة سيشغل على نحو مؤقت حجرة مكتب البروفيسور ماكسويل في كلية الملك، عندما كانت الكلية تسعى إلى إيجاد بديل لأستاذ الكرسي المتقاعد سيريل دومب.
كان الجو المحيط باعثًا على السعادة والإثارة عندما كان ريتشارد يتجول بعيدًا عن فيكارج جيت، لكنه كان يتوق إلى ممارسة بعض الفيزياء. فعندما كان في مختبر كافينديش عام ١٩٥٦، لم يكن له الحق في استخدام معدات التجارب واضطره ذلك إلى العمل على المشكلات التي يمكن حلها باستخدام ورقة وقلم رصاص.
وجد ريتشارد أنه في بعض الأحيان يكون من المفيد أن يجبر المرء على ممارسة المنطق العملي. فقد شرع ريتشارد في التعامل مع مشكلة شكلي الحديد؛ أي حديد ألفا المغناطيسي، وحديد جاما اللامغناطيسي؛ مستخدمًا تلك الطريقة. فماذا كان الناتج؟ أوضحت الحرارة النوعية للحديد أن شيئًا ما غير معتاد قد يحدث لحديد جاما إذا أمكن تثبيته في درجات حرارة منخفضة. جاب ريتشارد طرقات حدائق كينسينجتون بحثًا عن الإلهام، بل إنه قطع شارع بيكر ستريت عدة مرات بحثًا عن العقار رقم ٢٢١بي، وهو العنوان الذي أعطاه سير آرثر كونان دويل لمكان إقامة شخصية المحقق الشهير شيرلوك هولمز. ولكن لم يكن هناك عقار يحمل هذا الرقم، ولا لوحة زرقاء تشير إلى تبجيل المحقق الشهير. وقد أخطأ سياح كثيرون بالبحث في تلك البقعة التي يفترض أن يوجد بها العقار رقم ٢٢١بي، وبعد ذلك يشعرون بأنهم حمقى، ويظنون أن الجميع من حولهم يتغامزون عليهم.
تبادرت فكرة حل لغز الحديد إلى ذهن ريتشارد أثناء حواره مع عدد من الفيزيائيين الآخرين أثناء احتسائهم للجعة في إحدى الحانات. كانت الفكرة مجنونة للوهلة الأولى. فربما يختلف حديد جاما في درجات الحرارة المنخفضة عنه في درجات الحرارة المرتفعة، أي إنه يغير هويته ببطء مع تغير درجات الحرارة بالارتفاع. تأمل ريتشارد تلك الفكرة المضحكة بضعة أيام، جلس بعدها في مكتبه فيكتوري الطراز، وأجرى بعض العمليات الحسابية لاستكشاف الطريق الوعر المؤدي إلى غابة من الأفكار والافتراضات. فعندما وضع جيمس كليرك ماكسويل معادلات ماكسويل الثورية، كثيرًا ما كان عقله يجنح بعيدًا عن الواقع، وأحيانًا ما كان يركن إلى صور غير فيزيائية كي لا يتوقف عن التفكير. ولم يحدث قط أن تناول ريتشارد عملية التفكير لديه بالتحليل أو المراجعة، لكن مقولة إن الفيزيائيين الناجحين يكونون عفويين ويطلقون العنان لأفكارهم دون تحرج؛ صحيحة على الأرجح. فربما ينتاب غيرهم قلق من احتمال أن يتعرضوا لازدراء الآخرين ولومهم إذا تبنوا فكرة هشة يسهل هدمها. وكان رأي ريتشارد في هذه المسألة هو أنه مهما حدث فيجب على المرء أن يستجمع قوته ويعاود المحاولة. فالطبيعة لا تكشف عن أسرارها بسهولة.
وعلى نحو أكثر تبسيطًا، كان من المسلم به أن حديد جاما يأتي في شكلين فقط، هما: جي ١، وجي ٢. وتختلف كثافة الكتلة في كل شكل منهما. وهناك اختلاف ضئيل في الطاقة بينهما، ومع رفع درجة حرارة أحد الشكلين، يتحول تدريجيًّا إلى الشكل الآخر، ذرة وراء ذرة. استمر ريتشارد في جهوده لتفسير ما يسمى أثر إنفار، وهي سبيكة من معدني الحديد والنيكل، أو معدني الحديد والبلاتينيوم، التي تنكمش فعليًّا في مرحلة من المراحل مع زيادة درجة الحرارة بسبب اختلاف حجم ذرات جي ١ عن حجم ذرات جي ٢.
وفور أن فتح الباب أمام هذه الفكرة العجيبة، لم تؤدِّ فقط إلى تفسير الحرارة النوعية لحديد جاما؛ ولكنها كشفت أيضًا عن وجود الظاهرة نفسها في عناصر أخرى مثل المنجنيز والكروم. وهكذا أوجدت الفكرة مجالًا جديدًا للبحث في العناصر الانتقالية، وحازت بعض التأييد. والأفكار الجديدة عادة ما تكون قليلة القيمة إلى حد بعيد، لكن لا شك أن الفكرة التي تثبت جدواها طوال ثلاثين عامًا تستحق عن جدارة الصعوبات التي عاناها مبتكرها الأصلي في سبيل التوصل إليها.
لم تكن حالتا حديد جاما الاكتشاف الوحيد لريتشارد في الأيام التي قضاها في الكلية الملكية. وكان شارع بورتوبيللو، الذي يبعد خمس عشرة دقيقة من فيكارج جيت، يبث الحياة في التاريخ الإنجليزي من خلال عرض المنتجات منزلية الصنع عتيقة الطراز للبيع، خاصة في يوم السبت. وربما كان هذا الطريق هو التفسير لشغف ريتشارد المتنامي بالتاريخ. فقد أثار فحص ريتشارد المستمر للتحف القديمة فضوله نحو الأشخاص الذين صمموا تلك التحف وصنَّعوها والظروف الاجتماعية التي أحاطت بهم. فضلًا على ذلك، كان عام ١٩٦٢ وقتًا مناسبًا لشراء التحف القديمة، إذ كانت الأسعار منخفضة، وكان الأمريكان ميسوري الحال نسبيًّا مقارنة بمستويات الدخل لدى الإنجليز.
اشترى ريتشارد ثلاث ساعات بندولية من ذوات الإطار الخشبي (مصنَّعة عام ١٧٩٠ تقريبًا) مقابل مبلغ زهيد للغاية. كانت هذه الساعات رخيصة الثمن للغاية، ولا ريب أنها كانت أصلية؛ فلا أحد يستطيع تصنيعها، ولا حتى بتكلفة تزيد عن سعرها مائة مرة وقت أن اشتراها ريتشارد. وكان في هذا الموقف حضور متميز للفيزياء:
اخترع العالم الهولندي هيجنز الساعة البندولية عام ١٦٦٠ تقريبًا، عندما اكتشف أن فترة حركة البندول (الزمن الذي يستغرقه الثقل في تحركه جيئة وذهابًا) تظل ثابتة ما دامت الإزاحة بعيدًا عن الخيط الرأسي صغيرة (أقل من بضع درجات). من هنا، توافرت الدقة الثابتة اللازمة لحساب الوقت على نحو ملائم. وكانت الفترة تتغير فقط إذا تغير طول البندول، بفعل الحرارة مثلًا، لكن أمكن التعامل مع ذلك بسهولة. وقد صُمِّم الصندوق الخشبي الطويل بحيث يخفي البندول، وصارت مصطلحات ساعة العلبة الطويلة، وساعة التابوت، والساعات البندولية بمنزلة مترادفات للمعنى نفسه. لكن عام ١٨٥٠، نشر أحد كتَّاب الأغاني لحنًا أخَّاذًا يسمى أغنية الجد، في إشارة منه إلى ساعة جده. ذاع صيت هذه الأغنية، ولذلك عرفت ساعة العلبة الطويلة بساعات الجد منذ ذلك الحين.
تزايد الطلب على هذه الساعات داخل الولايات المتحدة تزايدًا كبيرًا لم تتمكن معه تكنولوجيا صناعة النحاس الأصفر اللازم لتروس الساعات من الصمود. وبدأ تصنيع تروس خشبية لكنها لم تكن جديرة بأن يعتمد عليها في حساب الوقت. وكانت ساعات الصندوق الخشبي كبيرة الحجم لا يمكن للبحارة استخدامها، إذ إنها كانت تحتاج إلى سطح مستوٍ. وحتى نهاية القرن الثامن عشر لم تكن قد صُنعت ساعة تضم زنبركًا مضغوطًا. وقد كان ذلك ضروريًّا في البحر من أجل تحديد خطوط الطول بالنسبة إلى خط جرينيتش مع ثلاث معلومات هي: الوقت والتاريخ، وارتفاع الشمس في الأفق، وجداول إبحار باوديتش.
شغف ريتشارد أيضًا بالبيوتر، وهي سبيكة من القصدير استُخدمت في حانات ما قبل القرن الثامن عشر. سأل ريتشارد نفسه: لماذا أفل نجم البيوتر إلى هذه الدرجة وكيف يمكن إبرازه مرة أخرى؟ المزيد من الفيزياء. فالقصدير في واقع الأمر فلز فضي لا يتأكسد بسهولة، لكنه إذا تأكسد يصير الأكسيد الرمادي صلبًا وتصعب إزالته بالتلميع. لاحظ ريتشارد أن لون القصدير الخالي من الأكاسيد كان قريبًا للون الفضة قربًا ملحوظًا. فضلًا على ذلك، يدل الفحص المتأني لمجموعة من الفلزات «فضية اللون» على وجود فوارق واضحة في ألوانها. ووجب تفسير ذلك في ظل الطريقة التي ينعكس بها ضوء الشمس أو يُمتص عن طريق الإلكترونات في أطوال موجية مختلفة. ولم يغب عن ريتشارد أن يتناول ذلك الموضوع عندما صنف كتابه الأول عن فيزياء الحالة الصلبة. ولذلك كله، وجب عليه أن يشكر شارع بورتوبيللو.
تساؤلات كثيرة أثارت فضول ريتشارد: لماذا تختلف ألوان الذهب، والفضة، والبلاتنيوم، والنحاس، ولماذا يفقد كل منها بريقه على نحو مختلف؟ ولماذا تتنوع أشكال الأخشاب وتختلف خصائصها الفيزيائية؟ ولماذا تختلف الجواهر مثل الأوبال، والماس، والياقوت الأزرق، والياقوت الأحمر في درجة صلابتها وألوانها؟ هذا فضلًا على تساؤلات أخرى كثيرة. والفضل في ذلك كله إنما يرجع مرة أخرى إلى شارع بورتبيللو. وقد خمَّن ريتشارد، في آخر مرة تجول فيها في شوارع هذه المنطقة من لندن، أن عدد التجار الذين يعرضون بضاعتهم للبيع على عربات اليد وداخل الأكشاك هو ١٠٠٠ على أقل تقدير. وكان تاريخ الإنسان العادي خلال القرون القليلة الماضية منقوشًا على هذه البضائع.
وعلى طول الطريق، أُعجب ريتشارد كثيرًا بقلة الغش بين تجار التحف بشارع بوتوبيللو. ذلك أن جماعة العلماء كانوا على درجة عالية من الصدق والأمانة أيضًا. وربما كان ذلك أحد الأسباب التي من أجلها أحب ريتشارد التجول في المنطقة والتحدث إلى التجار.
خلبت اللوحات لب ريتشارد، خاصة لوحات المناظر الطبيعية واللوحات البحرية التي تنتمي إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وقد غلب على هذه اللوحات رخص الثمن وجودة الصنعة. وفي إحدى المرات، عُرضت على ريتشارد لوحة رائعة تنتمي إلى عصر النهضة الكلاسيكية مقابل ٨٠ جنيهًا استرلينيًّا فقط. كانت هذه اللوحة قد رُسمت عام ١٨٢٠، رسمها شخص مدرج في أشهر الكتب التي صُنفت عن مشاهير الرسامين، وهو قاموس الفنانين المعروف باسم بينزيت، لكنها كانت تحتاج إلى تنظيف. رفض ريتشارد قبول اللوحة؛ فقد كان مقاسها ١٠ أقدام في ٨ أقدام!
مع عدم انشغال عقله بالتفكير في توزيع الإلكترونات، كان على ريتشارد أن يبحث عن الفيزياء في أي مكان تظهر فيه. وفي أحد المؤتمرات الصغيرة في لندن التقى بهارولد يوري، الحاصل على جائزة نوبل عام ١٩٣٤، الذي اكتشف المياه الثقيلة. كان يوري قد ألقى خطابًا بعد العشاء تحدث فيه عن وفرة العناصر في الكون، وفي فترة الأسئلة نهض أحد الحضور وقد بدا عليه اعتلال الصحة وقال: «بروفيسور يوري! وفقًا للأرقام التي أعلنتها فيما يخص وفرة العناصر الكيميائية في الطبيعة، لا يمكن أن يتواجد أكثر من جزيء واحد من أكسيد الحديد في النظام الشمسي.»
ضحك الجميع على تعليقه هذا، فقد كان يوري يقدم تقديرات أولية للوفرة. وفي الوقت الذي كان فيه يوري على وشك استقبال السؤال التالي، نهض الرجل نفسه قائلًا: «لحظة من فضلك! سؤالي يا بروفيسور هو: «أين يوجد ذلك الجزيء؟»»
أسرَّ يوري إلى ريتشارد وفولفارت أثناء تناولهم القهوة معًا أن البيانات الحديثة عن الزلازل توضح أن نواة الكرة الأرضية التي تتكون من الحديد والنيكل بها مركز صلب. وهنا طرح ريتشاد احتمال أن يكون ذلك المركز الصلب هو التفسير لضعف المجال المغناطيسي للأرض. فلم يكن أصل مغناطيسية الأرض محددًا في ذلك الوقت، على الرغم من أن أفضل الاحتمالات ذهب إلى أنه ناتج عن تيارات تنتشر في الجزء السائل من نواة الأرض. في اليوم التالي، جلس ريتشارد داخل مكتبه بمبنى هكسلي وأجرى بعض الحسابات البسيطة لمتابعة فكرته. وكان قد أعد حجة غامضة لدعم موقفه، نُشرت في دورية «نيتشر». وحسب ما يذكر، لم يلتفت أحد إلى ما نُشر في الصحيفة. وقد تحدث إلى بي إم إس بلاكيت، نائب رئيس الكلية الملكية، الحاصل على جائزة نوبل عام ١٩٤٨ لبحثه في الفيزياء النووية. وبعد الحرب العالمية الثانية، استمر بلاكيت في النظر في التساؤلات التي تكتنف المجال المغناطيسي للأرض والشمس والنجوم، لكنه لم يبدِ أي اهتمام بأبحاث ريتشارد. وهذا هو الحال في بيئة الفيزياء النظرية؛ ينتصر المرء مرة ويخسر مرارًا.
قرأ ريتشارد في الصحف أن الأستاذ المتقاعد وينستون تشرشل كان قاطنًا بشارع هايد بارك جيت، وهو شارع صغير يقع جنوب هايد بارك. تجول ريتشارد في ذلك الشارع بعد ظهر أحد الأيام وشعر بالقدر نفسه من الحمق الذي شعر به في المرة التي كان يبحث فيها عن عنوان شيرلوك هولمز بشارع بيكر ستريت. كانت رغبة الرجل الإنجليزي في الحفاظ على خصوصيته تحتل عقل ريتشارد. أسرع ريتشارد خطاه إلى نهاية الشارع، ووجده مسدودًا، فعاد أدراجه يبحث عن منزل تشرشل. وأخيرًا عثر عليه؛ كان تشرشل واقفًا في نافذة ناتئة، ممسكًا بيده سيجارًا، ويظهر جسده السمين ليكمل الصورة. نظر الرجل العظيم مباشرة إلى ريتشارد الذي كان واقفًا وحده، لكن ريتشارد كان يشعر بحرج شديد من أن يبادل الرجل النظر، أو حتى يلوح له بيده. وتمنى ريتشارد، مدخن السيجار، لو واتته الشجاعة الكافية لإشعال سيجار بدوره، والتلويح بيده إلى الرجل العظيم، ثم الإشارة إليه بإشارة النصر ثم المضي قدمًا. ولكن عندما تكون في لندن يجب ألا تفعل كما يفعل الأمريكيون.
في أحد الأيام، أخبر فولفارت ريتشارد أن الأمير فيليب سيزور الكلية الملكية، وأنه سيمر من الرواق الذي يقف فيه. انتظر ريتشارد في مكانه، وبالفعل انعطف دوق إدنبرة وأصبح في مواجهة ريتشارد تمامًا. وظنًّا من الأمير أن ريتشارد كان التالي في قائمة الأساتذة الذين كان سيقابلهم في الكلية، فقد مد يده ليصافح ريتشارد. لكن ريتشارد المسكين كان من الارتباك بحيث لم يدرك ما الذي يجب أن يفعله، وتسمَّر في مكانه وكأن على رأسه الطير، حتى جاء الشخص المناسب واقتاد الأمير بعيدًا. وكان ريتشارد يخبر زملاءه بهذه القصة مختتمًا بقوله:
«قد يتمكن أي شخص من مصافحة الأمير، لكن كم عدد من يمتلكون الشجاعة الكافية لرفض مصافحته؟»
في سامراء فوق جبل جرزيم، عاش «صانع معجزات» يدعى راموث جيلياد. وهناك في تلك البقعة أتاه الابن البكر للملك كورش الكبير الذي كان قد طعن سنه واعتل جسده؛ الشاب باصر، يطلب الحكمة اللانهائية ليقود شعبه.
– «ليس بمقدوري أن أهبك الحكمة اللانهائية، لكنني سأمن عليك بحكمة البشر جميعًا. اذهب وعليك بالحكمة في استخدام معارفك.»
وهكذا رجع باصر إلى شعبه، وتوج ملكًا على البلاد بعد وفاة والده الملك.
انقضت أعوام عديدة، وازدهرت أحوال الشعب، ومجدوا راموث جيليد من أجل الحكمة التي حباها ملكهم. لكن باصر، في العام الرابع عشر من ولايته، ذهب إلى جبل جرزيم مرة ثانية، ومثل أمام «صانع المعجزات» وخاطبه:
«في أيام صباي الجميلة، لم أكن أدري أي شيء عن السماوات والأرض والعلوم، ولذلك كنت أنعم بنوم عميق. لكنني الآن أفرطت في الارتواء من الحكمة التي مننتَ بها عليَّ فأصبحت أرى المجهول. وصارت التساؤلات العديدة التي أطرحها على نفسي تؤرق نومي.»
أجابه راموث جيلياد: «هذا هو الثمن الذي يجب أن تتكبَّده لقاء الحكمة.»
ففكر الملك باصر مليًّا، وقد أصبح الآن رجلًا كث اللحية، ثم سأله: «وإلى أي مدى سيطول ذلك؟»
فأجابه راموث جيلياد: «إلى أن يذهب عنك علم كل شيء.»
بعد ذلك بأعوام عديدة، تلقَّى ريتشارد كتابًا بالروسية عبر البريد. ولأنه لا يعرف الروسية، فقد ألقى نظرة على الكتاب وظن أن عينيه وقعتا على شيء مألوف له. فقد كان ذلك الكتاب في الواقع هو ترجمة روسية للكتاب الذي ألفه، وكان الجانب المألوف له فيه هو الأرقام. ولم يكن ريتشارد أو دار النشر قد أعطيا تصريحًا بمثل هذا المثال الصارخ على السرقة الأدبية الروسية. فضلًا على ذلك يوجد غياب واضح «للقصة الإنجيلية»، التي كان من المفترض أن يدرك الروس أنها من وضع المؤلف!
عندما فحصت مؤسسة «أديسون ويزلي» بروفات الكتاب، عرضوا تلك البروفات على الأستاذ الجامعي موريس كوهين، رئيس قسم علم المواد الصلبة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي حصل على «جائزة نوبل» اليابانية. أقر كوهين بالجهد الذي بذله ريتشارد في تقديم الموضوع من خلال المنهج التجريبي. وقد شعر أن تلك المحاولة من جانب ريتشارد قد ساعدت علماء المعادن على سبر أغوار فيزياء الحالة الصلبة على نحو واقعي للغاية، وتفضل بكرم بكتابة تقديم للكتاب.
فهل كان في الاتجاه الذي سلكه ريتشارد فكرة جيدة؟ لا شك أن ذلك الكتاب كان تجربة أفاد منها ريتشارد وقد حاز تقييمات جيدة، لكنه لم يلقَ استحسانًا داخل المجتمع الأكاديمي المتحفظ. ومع مضي سبعة وعشرين عامًا، أي بعد أن توقفت طباعة الكتاب وانتقلت حقوق الطبع والنشر إلى المؤلف، أعادت شركة أخرى نشر الكتاب بسعر زاد عن السعر الأصلي بمقدار خمسة أضعاف. ولم يحقق الكتاب مبيعات كثيرة أيضًا.
تُدرَّس العلوم في الجامعات بطريقة روتينية رسمية. فالملحوظات التي يلقيها المحاضر تنتهي في دفتر الطالب دون المرور داخل رءوسهم. وقد تعلَّم أينشتاين كثيرًا من الفيزياء من خلال إمعان التفكير في تطبيقات براءات الاختراعات المسجلة عندما كان موظفًا بسيطًا في مكتب براءات الاختراع السويسري. وفكر ريتشارد أنه إذا أراد أحد الفيزيائيين أن يتقرب إلى الله، فعليه أن يكون مؤيدًا قويًّا للمنهج التجريبي. وإذا أراد أن يضل ويتبع الوهم، فعليه باتباع المنهج النظري. وقد احتفى ريتشارد في كتابه بالفيزياء التجريبية.
في ذلك الوقت أدرك ريتشارد السبب في احتواء الأبحاث النظرية كافة على أشرطة أخطاء. ومتبعو المنهج التجريبي يسجلون الأخطاء المتوقعة في نتائجهم بِناءً على تقييم شخصي وصادق لمدى السوء الذي قد تصل إليه الأشياء. وقد يستخف البعض بأشرطة الأخطاء، لكنها على الأقل تدل على أن جهدًا ما قد بذل لتحديد الأخطاء التي يمكن أن تقع في التجربة.
هذا لا ينطبق على الباحث النظري الذي لا يمكنه الشروع في دراسة مشكلة ما دون تبسيطها. فإذا كان الباحث النظري مستعدًّا لقضاء بعض الوقت في سؤال نفسه عن مدى التأثير الذي ستخلفه افتراضاته البسيطة على إجابته، فربما يكون قادرًا على تقييم أشرطة أخطائه. لكنهم للأسف يرفضون القيام بذلك!
في عام ١٩٦٢، قدم عازف الجيتار الأسترالي واسع الشهرة، جون ويليامز، حفلته الأولى. كان جون ما زال صغيرًا ومغمورًا، لكن ريتشارد افتتن بعزفه. وطلب منه أن يلقنه دورسًا في العزف على الجيتار إن كان بمقدوره ذلك، لكنه رفض؛ فلم يكن يعطي دروسًا خاصة. مع ذلك، دل جون ريتشارد على مدرس جيتار في مدينة تشيلسي بلندن. وتبين لاحقًا أن ذلك المدرس ويدعى هيكتور (بيل) كواين صبور للغاية، ونما لدى ريتشارد اهتمامًا شغوفًا بالجيتار الكلاسيكي.
على مر السنين، التقى ريتشارد بالغالبية العظمى من مشاهير عازفي الجيتار في العالم مثل سيجوفيا، وبريم، وييبس، ولوينا بويد. وكان حضور الفيزياء في الجيتار قد حاز اهتمام ريتشارد، وشاركه في ذلك كواين الذي صمم بدوره بضعة جيتارات. لكن ريتشارد توصل في النهاية إلى أن الفيزياء لا يمكن أن تساعد صانعي الأوتار.
يبعث الجيتار الكلاسيكي الحديث صوتًا مميزًا تطور عبر القرون من خلال تضافر الجهود التجريبية لعوامل عديدة: صانعي الأوتار (الحرفيين)، والملحنين، والفنان وطريقته في العزف، والأخشاب، ومادة الأوتار، وأبعاد الآلة. وإذا غُيِّر أحد هذه العوامل، فلا يمكن الوصول إلى الصوت الذي اعتاد الجمهور تمييزه وتقديره. ولعل الآلية التي عن طريقها شقت ذروة الأداء في هذه الجوانب جميعًا طريقَها إلى الجهاز السمعي لدى الإنسان، وتعاونت مع العقل في خلق إحساس بالسعادة داخل السامع؛ لشيء غاية في الغموض بحيث يصعب فهمه.
ولا شك أن المخ والأذن، اللذان تمرسا على تمييز الفروق البسيطة في الأصوات الموسيقية، قد أحرزا درجات عالية من القدرة على التمييز. فبإمكانهما في أقل من ثانية واحدة تمييز صوت الجيتار الوتري عن غيره من الآلات الوترية، وبإمكانهما تخزين آلاف من النوت الموسيقية التي تتضمن الواحدة منها ما يقرب من ١٠٠٠٠ نغمة موسيقية وإعادة صياغتها بالترتيب المناسب، بإمكان المخ والأذن أيضًا التمييز بين النغمات المتعاقبة التي يفصل بينها جزء من مائة جزء من الثانية، والتمييز بين نغمتين وتريتين حتى إن استحال ذلك بتحليل توافقي يجريه أحد الفيزيائيين. باختصار، فإن دقائق وخفايا الجهاز السمعي وقدراته الخارقة تعلن تحديها للكشف العملي. ولا يعني ذلك وجود ظواهر خارقة؛ فالأذن والمخ أداتان فعالتان للغاية تضمان مليارات المكونات الوظيفية التي لا يستطيع المرء إعادة إنتاجها في المختبر.
مع ذلك، حاول الفيزيائي ريتشارد تحسين الجيتار. لكن مع الأسف يجب على المرء أن يضع تعريفًا لمعنى التحسين. كان للجيتار صوت هادئ وثمة أوقات تكون فيها زيادة كثافة الصوت شيئًا مرغوبًا فيه كما هي الحال في حفلة جيتار يعزف فيها على ثلاثين آلة أخرى. من هنا، بدأ البحث في إمكانية تغيير شيء ما في تركيب الجيتار أو طريقة العزف عليه، بحيث يمكن زيادة حجم الصوت دون تغيير جودة النغمات. اليوم، يحدث ذلك بصفة دائمة عن طريق تضخيم حجم الصوت باستخدام أنظمة إلكترونية جيدة التصميم لأجهزة الاستقبال ومكبرات الصوت التي تكون خالية من التشويش نسبيًّا.
قبل ثلاثين عامًا مضت، حضر ريتشارد مؤتمرًا علميًّا للفيزيائيين في كندا، تضمن حديثًا بعد العشاء لأستاذ في الفيزياء روى تجربته مع أجهزة الجيتار. أشار الرجل إلى أن أول تجربة فحص بها تركيب الجيتار أقنعته بأن «كل شيء لم يكن في موضعه الصحيح.» أعاد تصميم الآلة على الرغم من أنه لم يكن يعزف الجيتار، وفي المؤتمر عرض للأسباب التي جعلته يجري التغييرات. لم يستطع ريتشارد أن يفهم منطق المتكلم. على أي حال، كانت نتيجة القصة أن عزفت ليونا بويد، عازفة الجيتار الكندية ذات الموهبة غير المحدودة، على الآلة الجديدة في إحدى الحفلات. ومع الأسف لم تعزف على جيتارها الخاص حتى يتمكن الجمهور من المقارنة.
لا شك أن الجيتار الجديد بدا جميلًا لا سيما وهو بين يدي العازفة الآنسة بويد، لكن لم يستطع ريتشارد الوقوف على جودة نغمات الجيتار الجديد. لذلك تحدث بعد انتهاء الحفلة مع الآنسة بويد على انفراد.
قال ريتشارد: «ما رأيك في تصميم الجيتار الجديد؟»
وأجابته: «قد كنت أخشى أن تسألني هذا السؤال.»
هذا يوضح الأمر برمته. لقد تقاضت العازفة مبلغًا جيدًا للعزف على الجيتار الجديد، لكن ذلك لا يعني أنها يجب أن تحب تلك الآلة أو تصادق عليها. عادت بويد بعد ذلك في حفلاتها إلى جيتارها المصمم بالطريقة التقليدية.
كان المكون الوحيد في الجيتار الحديث الذي استفاد من التكنولوجيا الحديثة هو الوتر النايلون، وهو مادة من صنع الإنسان تتميز بكونها أكثر ثباتًا من أمعاء الأغنام الطبيعية، أو شرنقة الدودة (الحرير) التي استُخدمت قبل أن يظهر النايلون.
تذكر ريتشارد أنه سمع أن أحد المشاهدين صعد ذات مرة إلى خشبة المسرح في إحدى الحفلات بعد انتهاء سيجوفيا من العزف وسأله سؤالًا واحدًا:
«ما سر الجيتار الذي كنت تعزف عليه؟»
وكان رد سيجوفيا الجاف المقتضب: «إنه ليس سوى جيتار!»
كان المعنى الضمني واضحًا تمامًا. فالفروق بين الجيتارات أقل أهمية بكثير جدًّا من الفروق بين العازفين.
على الرغم من أن علماء الفيزياء يمكنهم ترويع غيرهم من غير الفيزيائيين بما يحملونه من معرفة كبيرة بالمعادلات الرياضية والمفاهيم الفيزيائية المعقدة، فعليهم أن يقروا بحقيقة أن تقدير الموسيقى أكثر تعقيدًا من السلوك الذري. ولعل الإسهام الوحيد لريتشارد في مساعدة زملائه المحبين للجيتار الكلاسيكي تتمثل في إشارته إلى الظروف المناخية التي ربما تتسبب في تشقق خشب الجيتار، وحتى هذا كان شيئًا يدركه الجميع بالبديهة ولا يحتاج إلى فيزيائي.
كان أحد الجوانب الأخرى التي حازت اهتمام ريتشارد في مسألة العزف على الجيتار، والتي لم يصل فيها إلى نتيجة مفيدة، يتمثل في المشكلات المتعلقة بالأظفار.
يعتمد عازفو الجيتار الكلاسيكي على أظفارهم في العزف على الأوتار. وترجع العلة في ذلك إلى أن ريشة العزف يمكنها أن تنقر على وتر واحد فقط لكن الحرية التي يحققها العازف من خلال استخدام أظفاره تمنحه قدرة أعظم على التنويع والتغيير. لذلك يجب أن تكون الأظفار قوية وغير هشة. فإذا تعرض ظفر العازف للكسر، لا يمكنه العزف أسابيع. وقد حدث غير مرة أن كسر ريتشارد أظفاره، فدفعه ذلك إلى البحث عن مقويات للأظفار.
كانت هناك منتجات كثيرة في السوق، تخص النساء في الأساس، ابتداءً من الأظفار المستعارة إلى أنواع الطلاء المختلفة، لكنها جميعًا لم تكن ذات جودة عالية. علم ريتشارد بوجود طبيب في بوسطن متخصص في علاج الأظفار «المريضة»، أي الأظفار الصلبة المشوهة التي تنمو بطريقة غير منتظمة. لكن أحدًا لم يكن يعرف بعد علاجًا لذلك المرض.
كان أحد زملاء ريتشارد يعاني من مثل هذه التشوهات في أظفار قدميه، لكن التشوه كان مقصورًا على الأصابع الأولى والثالثة والخامسة، في حين كانت الإصبعان الباقيتان تنموان نموًّا طبيعيًّا. فما تفسير ذلك؟
تبين، عند فحص أحد الأظفار الطبيعية، وجود تحبب في اتجاه نموه يشبه إلى حد بعيد التحبب الموجود في الخشب. بدأ ريتشارد بحثه بتسليط الأشعة السينية على عينات من الأظفار. وما إن انتشر خبر الدراسة التي يجريها حتى تلقى قلامات من أظفار كل من قابله. لقد أثبت الناس أنهم كرماء جدًّا من أجل مصلحة العلم.
اكتشف ريتشارد أن الأظفار تكون «متبلورة» ولها نتوءات حادة في أنماط انحراف الأشعة السينية، واكتشف أنه ليس هناك ظفران متماثلين على الإطلاق. وتوصل من خلال ذلك الاكتشاف إلى إمكانية استخدام الأظفار في الطب الشرعي مثل بصمات الأصابع تمامًا.
فحص ريتشارد، عقب هذه الدراسة الأولية، الأظفار الصحية والأظفار «المريضة». وللأسف، لم تُظهر الأشعة السينية أي اختلاف بينهما. فضلًا على ذلك، لم تكن مهمة ريتشارد في ووترتاون تتضمن مثل هذه الأبحاث. فلا يمكن للأمريكان محاربة الروس بأظفار الأصابع. ومن ثَم، اضطر ريتشارد إلى التخلي عن هذا البحث.
وهكذا أصبح على كل عضو في بيئة عازفي الجيتار أن يتعلم التعامل مع مشكلات الأظفار الخاصة به على نحو ما يراه. والشيء العجيب حقًّا هو إنفاق مليارات الدولارات على مستحضرات تجميل الأظفار، في مقابل عدم إنفاق أي شيء على الإطلاق على البحث في الأسباب الرئيسية للأظفار غير الصحية أو الهشة.
في أوائل عام ١٩٦٣، نشرت إحدى الصحف اللندنية رسالة إلى المحرر جاء فيها أن استخدام المقياس المئوي في إنجلترا هو السبب الواضح وراء تعرض البلاد لأسوأ شتاء منذ مائتي عام. ادعى الكاتب أنه حينما كانت إنجلترا تستخدم مقياس فهرنهايت، كان الجو أكثر دفئًا على نحو مستمر. وإن كانت هذه الرسالة ملاحظة صادقة عن الأهوال التي صاحبت الجو في شتاء ١٩٦٢-١٩٦٣، فلا شك أن صاحبها ليس فيزيائيًّا. أما إن كانت نوعًا من التهكم الساخر، فربما كان كاتبها مهندسًا أصابه الإحباط نتيجة إعادة ضبط حياته من جديد وفقًا للمقياس المئوي بدلًا من مقياس فهرنهايت.
لم تكن إنجلترا عام ١٩٦٢-١٩٦٣ مهيأة لاستقبال أربعة أشهر من طقس متجمد وما صاحبه من تساقط للثلج. فقد كانت كاسحة الثلوج في لندن تتكون من اثنين من الأيرلنديين وجاروف بيد كل منهما. وعلى الرغم من أن متوسط درجات الحرارة في إنجلترا في فصل الشتاء أعلى كثيرًا من درجة التجمد، فقد كان متوسط درجة الحرارة في الشتاء الشديد القسوة الذي شهدته البلاد عام ١٩٦٢-١٩٦٣ (−٧ فهرنهايت) مقارنة ببعض أشهر الشتاء الأكثر قسوة مثل شتاء عام ١٦٨٤ (−٩ فهرنهايت) وشتاء عام ١٧٤٠ (−٧٫٨ فهرنهايت). حتى ذلك الشتاء الموحش الذي مرت به إنجلترا بعد الحرب عام ١٩٤٦-١٩٤٧، وصل متوسط درجة الحرارة فيه إلى −٥٫١. ولم يكن غريبًا أن يسمع المرء عن اضطرار بعض الطلاب بجامعة كامبريدج إلى تكسير الثلج المتكون في الأحواض حتى يتمكنوا من غسل وجوههم.
لقد عانى ريتشارد، نعم لقد عانى كثيرًا في تلك الظروف. وحاول في منزله رقم ١٢ فيكارج جيت في حي ويست إند الراقي أن يلتمس بعض الدفء عن طريق سخان يعمل بالغاز (فردت مصلحة الغاز بتقليل ضغط الغاز)، وسخان يعمل بالكهرباء (فأضعفت هيئة الكهرباء الجهد الكهربي)، ولم يتمكن مبنى هكسلي القديم من بعث الدفء في أوصال علماء الرياضيات المحتجزين بداخله. وإذا لجأت إلى احتساء الشاي طوال اليوم، فقد تشعر ببعض الدفء بداخل جسمك ولكن ليس بأطرافك وأصابعك. فمن ذا الذي يجد الإلهام في التعامل مع الفيزياء النظرية في ظروف مناخية تجمد بنات أفكاره.
ظهرت آثار درجات الحرارة التي وصلت إلى أقل من درجات التجمد على جميع جوانب الحياة اليومية في إنجلترا. كانت مواسير الصرف الصحي في أغلب المنازل خارجية. وأيقن الجميع أنهم عاجلًا أو آجلًا متجمدون لا محالة، لكن السؤال هو متى سيحدث ذلك. في ٣١ ديسمبر ١٩٦٢، وهو وقت إجازة تمتلئ فيه الحياة بالنشاط؛ احتفالًا بالسنة الجديدة؛ كانت لندن قد كساها صمت مطبق، وقد سُدت الطرق، وتوقفت الأوتوبيسات عن السير، ودفنت السيارات تحت الثلوج. وفجأة تعرف أبناء لندن، الذين يفضلون أن يظلوا بعيدين عن جيرانهم، إلى أولئك الجيران أثناء تعاون الجميع على دفع السيارات خارج الثلوج، على الرغم من عودة الجميع كلٍّ إلى حياته المنعزلة بعد انقضاء الشتاء.
ذابت الثلوج التي غطت حدائق كينسينجتون ومتنزه هايد بارك فترة قصيرة، ثم عادت لتتحول إلى جليد بين ليلة وضحاها. وجد ريتشارد صعوبة في العثور على طريق آمن من فيكارج جيت إلى مبنى هكسلي. كما أن استقلال مترو الأنفاق صاحبته ضرورة اللجوء إلى السير وما به من مخاطر أعظم تمثلت في الاضطرار إلى عبور الطرق الشديدة الازدحام. وكان نهر التايمز قد تجمد في تلك الأثناء لكن لم تعقد على صفحته أي أسواق كالتي تظهر في لوحات القرن الثامن عشر. وكان الطقس هو موضوع الساعة عند الجميع. وعانت خطوط السكك الحديدية — التي كانت لا تزال تعتمد على القاطرات البخارية — من تأخيرات كثيرة بسبب تجمد المياه اللازمة لإنتاج البخار، والحاجة إلى إزالة طبقة الثلج التي علقت بالفحم. لقد توقفت مظاهر الحياة في الدولة كلها.
وكانت إحدى المشكلات الكبرى التي تسبَّب فيها الطقس السيئ هي إلغاء عدد كبير من مباريات كرة القدم بسبب عدم صلاحية الملاعب في أغلب الأوقات. وقد عمد أحد الأندية الكبيرة إلى تركيب أسلاك تسخين كهربية في الأرض، وهو حل منطقي لزيادة صلاحية الأرض لاستقبال المباريات، لكن كما صرح أحد المديرين:
«إذا لم يكن المشجعون قادرين على القدوم إلى المباراة، فما فائدة أسلاك التسخين إذن؟»
استطاعت مجموعة من الرجال الذين كانوا يعدون العدة للذهاب في بعثة استكشافية إلى القطب الشمالي التدرب على كيفية تصنيع البيت الجليدي. فقد كان كل ما يحتاجه المرء لإنشاء ذلك البيت بعض الثلج المضغوط ومجرفة لتشكيل لبنات البناء. دخل جار أحد هؤلاء المستكشفين دخل حديقة جاره لإلقاء نظرة على البيت الجليدي. وغرق في موجة من الضحك عندما وجد جاره الذي كان قد انتهى لتوه من إتمام البيت الجليدي يجلس بداخله مرتديًا ربطة عنق.
كانت المرة الأولى التي تساقط فيها الثلج في ذلك الشتاء يوم ١٧ نوفمبر، في حين كانت المرة الأخيرة في ٢٢ مارس. وفوق كل هذه الظروف المناخية القاسية، نظم عمال الكهرباء إضرابًا عن العمل، أو بالأحرى إضرابًا عن أي مهام إضافية. وكان معنى ذلك عدم عمل هؤلاء العمال ساعات إضافية، وانعدام القدرة على التعامل مع حالات الطوارئ، وانعدام كل شيء. فلا عجب أن قل الجهد الكهربي! وعلى الأقل، مكن ذلك ريتشارد من الاستفادة من شيء واحد فقط؛ فقد كانت لحيته التي أطلقها عازلًا جيدًا للبرودة.
مع ذوبان الجليد في الربيع، سرعان ما تحولت الكلية الملكية إلى كلية جديدة، ففيما عدا المبنى الأساسي لبرج المعهد الملكي الذي بقي على حاله لأسباب معنوية، أزيلت جميع المباني الفيكتورية باستثناء مبنى هكسلي الذي أعيد إلى متحف ألبرت وفيكتوريا (في آند إيه). وقد تقرر أن يكون قسم الرياضيات آخر الأقسام التي تنقل إلى المباني الجديدة.
هيَّأ ريتشارد نفسه للعودة إلى ووترتاون يحدوه أمل الدخول في جولات فاصلة لتحديد عمليات توزيع الإلكترونات. وضع نصب عينيه إجراء قياسات على السيليكون والجرمانيوم حيث توفر هذان العنصران بكثرة وهما من البلورات النقية. وكان من المعتقد أن البلورة التي تخلو من أي شوائب هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن يؤدي فيها قياس تشتت الأشعة السينية إلى نتائج دقيقة لتوزيع الإلكترونات. فقرر أن يتبع هذا الطريق. لكن وقعت حادثة دون أن يدري ريتشارد، خلَّفت تأثيرًا عميقًا في تحديد توزيعات الإلكترونات.
بدأت القصة قبل مجيء شتاء نوفمبر ١٩٦٢، عندما قرر أحد طلبة الدراسات العليا لدى البروفيسور دبليو إتش تيلور، ويدعى جون ليك، قياس تشتت الكومبتون في الحديد. وكان ريتشارد فيما سبق قد زار كامبريدج وتبادل النقاش مع تيلور وليك حول صعوبة هذا القياس.
حاز آرثر هولي كومبتون جائزة نوبل عام ١٩٢٧ لنجاحه في إجراء أحد أفضل القياسات في عصره. عمد آرثر إلى قذف عينة من الجرافيت بأشعة سينية أحادية الطاقة وتحليل الأشعة السينية المشتتة، فتوصل إلى أن بعضًا من هذه الأشعة قد فقد طاقته. جرب كومبتون نظريات عديدة لتفسير سبب ذلك الفقد في الطاقة، لكنه أدرك ببساطة في النهاية أن كل شعاع من الأشعة السينية قد اصطدم بإلكترون واحد فقط، وأن المرء يمكنه التعامل مع المسألة على أنها تصادم بسيط «لكرات البلياردو». وعلى المرء فقط أن يعرف طاقة الأشعة السينية وكمية الحركة لها قبل الاصطدام وبعده، والزاوية التي نُشرت الأشعة بها. لزم أيضًا أن يفترض المرء أن الأشعة السينية قد صدمت أحد الإلكترونات غير المتحركة. فيا لها من صورة بسيطة لأهم الآثار في الفيزياء.
كان ريتشارد مهتمًّا بصراع هايزنبيرج مع جودسميت القديم الذي تعلق باشتراك هايزنبيرج في صنع القنبلة الذرية أثناء الحرب أو عدم اشتراكه، وهي قصة سيحولها ريتشارد إلى عرض درامي لحساب هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). ومع الأسف، لم يكن ريتشارد في ذلك الوقت منخرطًا في كتابة المسرحيات، وإلا لكان قد أجرى حوارًا مثيرًا مع العالم الحاصل على جائزة نوبل.
مرت الآن أكثر من عشر سنوات على الوعد الذي قطعه ريتشارد لسلاتر باستخدام الأشعة السينية في فحص توزيع الإلكترونات. أثناء ذلك الوقت، كانت الجهود المبذولة في ذلك السياق قد أسفرت عن بعض النجاحات، على الرغم من أنه بدا واضحًا أن الفيزيائيين ما زالوا يجهلون طريقة إجراء القياس. إلا أنهم كشفوا الغطاء عن بعض العقبات التي تقف في طريق ذلك. فقد كشفت نتائج النيوترونات، المقصورة على الإلكترونات المغناطيسية، شكل أذني «ميكي ماوس» موضحة أن توزيعات الإلكترونات ليست كروية الشكل. ولكن ريتشارد كان لا يزال في الأربعين من عمره وكانت لديه أخطاء كثيرة. ويظل الأمل في أن يتمكن من تأكيد صحة معادلة شرودينجر قائمًا. والشيء الجميل حقًّا في الفيزياء هو أن المرء عندما يحسن فهمها، فإنه يشعر بها. كان جون ليك هو من حثَّ ريتشارد على المضي في هذا الطريق. وكان النجاح حليفه بعد أقل من عامين.