ووترتاون ٤: ١٩٦٤–١٩٧٢

في الوقت الذي عاد فيه ريتشارد إلى ووترتاون، كان تشيبمان وجينينجز قد أنهيا قياساتهما على الغازات الخاملة: النيون، والأرجون، والكريبتون، والزينون، عند ضغط جوي يساوي وحدة واحدة. عند هذا الضغط، تكون الذرات متباعدة جدًّا بعضها عن بعض في المعتاد، ويمكن بأمان تام اعتبارها ذرات معزولة. وقد قيست عمليات توزيع الإلكترونات لتلك الذرات، ووجد أنها تقع في حدود ١٪ من أفضل حسابات هارتري. ولم تكن مفاجأة أن تتمكن معادلة شرودينجر التي وضعها عام ١٩٢٦ من تقديم أجوبة موثوق بها عن طريقة دوران الإلكترونات حول نواة ذرة معزولة. لذلك كانت أي اختلافات كبيرة يكتشفها تشيبمان وجينينجر كافية لإثارة شك الباحثين النظريين تجاه مدى مصداقية النتائج التي تصدر عن ووترتاون.

لكن بعد اجتياز عقبة قياس الذرات المعزولة، يجب الاهتمام بمشكلة عمليات توزيع الإلكترونات في المواد الصلبة من الناحية النظرية والتجريبية على حد سواء. فالبشرية تعيش في عالم مادي صلب في الأساس، ووُجد فضول لدراسة الخصائص المتباينة لهذه المواد. وبصفة عامة، احتسب الباحثون فقط طاقات الإلكترونات في البلورات، وهي كمية يصعب قياسها مع ما تقوم به الأشعة السينية من إزاحة الإلكترونات من الذرة إلى طاقة شبه نهائية كان من الصعب حسابها. وكانت ميزة قياس توزيع الإلكترونات بواسطة التشتت المرن للأشعة السينية هي بقاء الإلكترونات وثباتها أثناء العملية.

أمكن توقع إحراز بعض التقدم عندما استطاع جينينجز الحصول على بلورة تامة من النحاس جهزها إف دبليو يونج الابن، من أوك ريدج. كانت هذه البلورات النحاسية شديدة الحساسية حتى إن جينينجز اضطر إلى الذهاب بنفسه إلى أوك ريدج كي يحمل الطرد الذي يحتوي على النحاس بين ذراعَيه. كان جينينجز عالمًا تجريبيًّا رائعًا يهتم إلى أبعد الحدود بقياساته.

تميزت البلورات النقية عن غيرها بخاصية غير عادية. فقد كان من الممكن العثور على اتجاهات في البلورات النقية، التي كانت شفافة للغاية أمام الأشعة السينية. كانت موجات الأشعة السنية تتجنب الإلكترونات التي تمتص هذه الأشعة بطبيعة الحال. كان ذلك ممكنًا فقط إن كانت الذرات الموجودة في البلورة مصفوفة بإتقان على العكس من الغالبية العظمى من المواد الخام التي تحتوي على عيوب مثل الشوائب الموجودة في ترتيبها الذري. ولسوء الحظ، لم يكن هناك إلا عدد قليل من العناصر، مثل: السيليكون، والجرمانيوم، وأرسنيد الجاليوم، والنحاس؛ التي أمكن تحضيرها في حالة البلورات النقية، ولم يكن الحديد من بينها.

شرع جينينجز في العمل ونشر النتائج عام ١٩٦٤. وقد أعطت قياساته نسبة اختلاف مقدارها ٣٪ عن أفضل حسابات هارتري للذرة المعزولة والمعدن. وافق العلماء أيضًا على القياس العشري المشفر ثنائيًّا في بودرة النحاس. فما الذي يمكن استنتاجه إذن من جهود البحث في ووترتاون في تلك المرحلة؟

  • (١)

    تطور أساليب القياس ووصولها إلى نسبة شك قدرها ١٪ فقط.

  • (٢)

    تحديد العديد من صعوبات التجارب.

  • (٣)

    خطأ عمليات هارتري الحسابية للذرات المعزولة بنسبة ١٪ فقط، كما كان متوقعًا.

  • (٤)

    كان الباحثون على وشك إجراء حساب توزيع الإلكترونات في المواد الصلبة وصولًا إلى نسبة خطأ قدرها ١٪.

  • (٥)

    أي من هذه النتائج لم يساعد الجيش في صناعة أسلحة أفضل، على الرغم من أن بعض الجنرالات كانوا لا يزالون ينتظرون.

نجاح تجربة جينينجز مع بلورة من النحاس النقي بث مزيدًا من الحماس في نفس ريتشارد. تمكن ريتشارد من الحصول على بلورات نقية من السيليكون والجرمانيوم، وبضع بلورات نقية أخرى من زرنيخ الجاليوم، وبدأ في إجراء القياسات مع جون ديماركو. وفي ربيع عام ١٩٦٤ تلقى ريتشارد مكالمة هاتفية من فولكر وايس، البروفيسور بجامعة سيراكيوس، شغلته عن غايته.

– «ديك! أنا فولكر وايس من جامعة سيراكيوس. لقد علمنا بشأن الأبحاث الرائعة التي تجري في ووترتاون فيما يخص عمليات توزيع الإلكترونات. ما رأيك في عقد مؤتمر حول هذا الموضوع في الصيف القادم؟»

– «فكرة مثيرة. سأفكر في الأمر.»

– «موعد المؤتمر من ١٧ إلى ٢١ أغسطس.»

– «وما سبب اهتمام سيراكيوس بهذا الموضوع؟»

رد فولكر: «في الواقع، لسنا مهتمين بهذا الأمر، لكنَّ الجيش وقع عقدًا مع الجامعة. الجامعة لديها مركز مؤتمرات يقع على بحيرة راكيت، وهو الموقع الذي خطط الجيش لعقد مؤتمر فيه عن قوة الحديد الصلب. وقد اضطروا إلى إلغائه.»

سأل ريتشارد: «ومَن سيتحمل التكاليف؟»

– «سيتحمل الجيش جميع التكاليف.»

كان ريتشارد يرى أن إنفاق أموال الغير متعة كبرى؛ فوافق على عقد المؤتمر. لقد كان مسئولًا بالفعل عن مفاعل تزيد تكلفته عن مليون دولار، هذا فضلًا على بضعة مسرعات «فان دي جراف» تصل تكلفتها إلى نصف مليون دولار أخرى؛ فلِمَ لا يتحمل مسئولية خمسين ألف دولار تافهة لعقد حفلة على شرف الإلكترون؟ أكد له فولكر وايس أن لديه صلاحية مطلقة في استخدام هذا الشيك لدعوة علماء أوروبا، وتحمل نفقات طعامهم وشرابهم وجعل الجميع في حالة رضا وسعادة أثناء إقامتهم في ساجامور لودج.

بنى تلك المنشأة بارون السكك الحديدية كورنيليوس فاندربلت. ويُروى أنه راهن على قدرته على إقامة مأدبة الكريسماس في وقت ما من سبعينيات القرن التاسع عشر في منطقة أعلى ولاية نيويورك، تتراكم فيها الثلوج وتبعد مئات الأميال عن مدينة نيويورك وعن المدنية والتحضر. كان فاندربلت يدير خط سكك حديدية خاص يمتد من خط السكك الحديدية الرئيسي إلى بحيرة راكيت حيث شيد نزلًا يتسع لمائة فرد من الضيوف وطاقم العمال. وعندما حلت فترة الكساد الكبير بعد خمسين عامًا من ذلك، كان موقع ساجامور مهددًا بنزع الملكية لعجز مالكيه عن دفع الضرائب، ومن ثَم مُنح هبة لجامعة سيراكيوس؛ وهي مؤسسة تعليمية معفاة من الضرائب وافقت على استخدامه في عقد المؤتمرات.

اختار المنظمون اسم المؤتمر ليكون: «مؤتمر ساجامور حول كثافة الشحنة وكثافة الدوران». تشير كثافة الشحنة ضمنيًّا إلى الإلكترونات التي تحمل شحنة سالبة، وتشير كثافة الدوران إلى الإلكترونات ذات العزم المغناطيسي الذي يمكن اكتشافه بواسطة النيوترونات. اضطلع باترمان، وفريمان، ونيثانز، وشول، وريتشارد بواجبات في اللجنة المنظمة للمؤتمر، وراحوا يدعون أصدقاءهم في المجال. حضر المؤتمر ستون فردًا. صار كل شيء على ما يرام باستثناء عمليات توزيع الغرف العشوائية التي وضعت فريمان مع نيثانز في غرفة واحدة واقتضت إعادة توزيع سريعة. كانت الجلسات العلمية تعقد في الفترات الصباحية والفترات المسائية من أيام المؤتمر، وكانت أوقات الظهيرة في تلك الأيام تخصص للسباحة، وتناول المشروبات، والتجديف وأي شيء كان يبدو مناسبًا لتكريم الإلكترون.

كُلل المؤتمر بنجاح كبير بفضل المأدبة الكبيرة، والاستماع إلى بعض العزف على رباعية من الآلات الموسيقية، ولقاء ما بعد العشاء مع المتحدث البارز البروفيسور آر بريل. كان المشاركون «في حالة مزاجية رائعة» حالت دون دخولهم في أي اختلافات عملية. وعام ١٩٦٤ تولى بريل إدارة معهد فريتز هابر ببرلين، الذي عرف فيما سبق بمعهد كايزر فيلهلم الذي تولى هايزنبيرج رئاسته أثناء الحرب العالمية الثانية. ترأس هايزنبيرج الجهود الأولى التي ترمي إلى إنشاء مفاعل نووي هناك، لكن الإمداد المحدود بالمياه الثقيلة قضى على فرصه في النجاح. علاوة على ذلك، اضطرت السلطات الألمانية بسبب قصف الحلفاء لمدينة برلين إلى نقل مشروع تخصيب اليورانيوم إلى منطقة نائية بجنوب ألمانيا. عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، تغير اسم ذلك المكان الموجود ببرلين إلى معهد فريتز هابر تكريمًا لمديره اليهودي السابق الذي حاز جائزة نوبل عام ١٩١٨ لتقديمه النشادر الاصطناعية. وكان قد أُجبر على الرحيل عن ألمانيا في ظل الحكم النازي ثم مات بعد ذلك بفترة قصيرة.

عقب المؤتمر وُزِّع استطلاع للرأي، اقتنع من خلاله المنظمون بضرورة تنظيم ذلك الحدث مرة ثانية بعد ثلاثة أعوام. وهكذا استمرت مؤتمرات ساجامور في الانعقاد كل ثلاث سنوات بلا انقطاع إلى يومنا هذا؛ لمناقشة انحراف سلوك الإلكترون، على الرغم من تغير أماكن انعقادها بين دول أوروبا وكندا واليابان.

ثارت بعض الجلبة حول ريتشارد عقب صدور كتابه: «فيزياء الحالة الصلبة لعلماء المعادن». وكان ريتشارد قد أهدى نسخة إلى القائد، ونسخة إلى كل زميل من زملائه، وواحدة إلى أمه التي أُعجبت بغلاف الكتاب. أقام ريتشارد بالقرب من جون ديماركو في مدينة آفون، التي تبعد عن ووترتاون مسافة ٤٠ دقيقة. كانت آفون تقريبًا أصغر مدينة في ماساتشوستس (مساحتها: مِيلان × مِيلين) وكانت قد احتفلت منذ وقت قريب بالعيد الخامس والسبعين لانفصالها عن مدينة ستوتون، بعد نزاع طويل على حقوق الانتفاع بالمياه. كانت المدينة بحاجة إلى اسم جديد بعد الانفصال واختار لها السكان المحليون اسم آفون تكريمًا لاسم شاعر آفون الشهير ويليام شكسبير، الكاتب المسرحي والشاعر البارز الذي ولِد في الأساس في ستراتفورد على نهر آفون ولُقب بهذا الاسم في صغره. وقد اختير وجه شكسبير ليكون شعارًا على خاتم المدينة. وأطلق أعضاء مجلس المدينة المنتخبون على الجدول الصغير الذي يشق المدينة اسم ستراتفورد. لقد بدا اسم مدينة آفون على نهر ستراتفورد جذابًا للغاية ومن شأنه أن يميِّز المدينة ويجذب الانتباه إليها.

لم تكن آفون بحجمها الصغير ذات أهمية تاريخية تذكر، ويكاد التاريخ يتجاهلها تمامًا. وقد سأل ريتشارد لدى وصوله إليها عما إذا كانت هذه القرية الصغيرة الهادئة قد شهدت أي أحداث عظيمة في تاريخها، لكن أحدًا لم يعرف شيئًا عن ذلك، ولم يبالِ أحد بالتذكُّر. كان نظام الحكم بها يعطي الحق لكل ناخب في حضور الاجتماع السنوي للمدينة، والحرية الكاملة في السؤال عن كل بنس خُصِّص للإنفاق على المدينة. وفي أحد هذه الاجتماعات، طلب رئيس الشرطة جمع مبلغ ٢٠٠ دولار لشراء مجموعة من كتب القانون.

وسأل أحد الحاضرين من دافعي الضرائب: «هل لنا أن نعرف مِن رئيس الشرطة لماذا يحتاج إلى شراء مجموعة من كتب القانون متطابقة تمامًا لتلك التي لدى أعضاء مجلس المدينة المنتخبين في مكتب المدينة؟»

فرد رئيس الشرطة: «لأننا نقبض أحيانًا على بعض الأفراد في الثانية أو الثالثة صباحًا ويجب أن نعلم بأي تهمة نحتجزهم.»

– «ولماذا لا تستخدم الكتب الموجودة في مكتب المدينة؟»

– «لأنه يكون مغلقًا ليلًا.»

– «سيدي رئيس الجلسة، أقترح تعديل طلب اعتماد ٢٠٠ دولار إلى ٢٥ سنتًا فقط لصنع مفتاح إضافي لمكتب أعضاء مجلس المدينة.»

صُوِّت على ذلك التعديل والموافقة عليه بالإجماع.

أشاعت قضية ساكو وفانزيتي التي ذاع صيتها في أنحاء الولايات المتحدة التعصب في المدينة. وترجع القضية إلى عام ١٩٢٠ عندما قتل أحد أتباع الكنيسة المعمدانية الذي كان يعمل حارسًا في وكالة برينك للسيارات المدرعة. أشارت أصابع الاتهام إلى ساكو وفانزيتي، مهاجرين إيطاليين، وقبض عليهما. وكان أهل المدينة على ثقة من أن المسئولين قد وجدوا المجرمين الحقيقيين، غير أن عمليات التحايل على القانون وطلبات الاستئناف أرجأت تنفيذ الحكم لما يقرب من عقد من الزمان. أغضب ذلك ابن الحارس المقتول، فارتكب جريمة سرقة انتقامًا لأبيه. ومؤخرًا أصدر المحافظ مايكل دوكاكيس قرارًا بالعفو عنهما مدعيًا أنهما لم ينالا محاكمة عادلة. ومن هنا، ظلت أحداث ١٩٢٠ التي شهدتها آفون ذات أهمية إخبارية طوال سبعين عامًا.

مع ذلك، كان ريتشارد معجبًا بحجم المدينة الصغير. زودت حكومة الولايات المتحدة مكتب بريد المدينة بصندوقَي بريد كُتب على أحدهما: «داخل آفون فقط»، وعلى الآخر «إلى خارج المدينة». فكان أهالي المدينة المنضبطون يعمدون إلى تصنيف رسائلهم قبل إيداعها في أي من الصندوقين. وفي أحد الأيام مر ريتشارد بموظف البريد وهو يفرغ محتويات الصندوقين في حقيبة بريد واحدة.

سأله ريتشارد: «لماذا إذن يوجد صندوقان منفصلان؟»

فرد عليه موظف البريد وهو يسرع إلى داخل المكتب: «زيادة في الكفاءة!»

في أوائل الستينيات من القرن العشرين، حازت قياسات الضغط العالي الاهتمام من جديد. وكان قطب هذا المجال هو البروفيسور برسي بريدجمان من جامعة هارفارد الذي منح جائزة نوبل عام ١٩٤٦ لأبحاثه الرائدة التي يرجع تاريخها إلى عشرينيات القرن العشرين. ولِد بريدجمان في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس وتلقَّى تعليمه بها وقضى حياته المهنية كلها في هارفارد. وأثناء الحرب العالمية الثانية، أجرى قياسًا على قابلية اليورانيوم والبلوتونيوم للانضغاط، وهو أمر بالغ الأهمية في تكنولوجيا القنبلة الذرية، ويعنى بضغط المادة الخام تحت مستويات ضغط هائلة للوصول إلى الكتلة الحرجة.

كان الضغط والحرارة مفهومين أساسيين في مجال الديناميكا الحرارية. وكان التحكم في درجات الحرارة داخل المختبرات أسهل كثيرًا، وبذلك تتراجع قياسات الضغط إلى المرتبة الثانية في الأهمية. ويتطلب إحداث أي تغيير في جميع الفلزات تقريبًا ضغطًا عاليًا يصل إلى ١٠٠٠٠ ضغط جوي (تساوي وحدة الضغط الجوي ١٥ رطلًا/بوصة مربعة). وأخيرًا، صار ممكنًا في ظل توفير الظروف المناسبة في المختبر الوصول إلى مستويات ضغط تعادل عدة ملايين من وحدات الضغط الجوي، وهي بذلك تساوي مستويات الضغط في مركز الأرض، على عينات يقترب حجم الواحدة منها من حجم رأس الدبوس.

وفي الخمسينيات من القرن العشرين، بعد مضي فترة قصيرة من إعلان شركة «جنرال إلكتريك» عن تصنيع الماس الاصطناعي تحت الضغط، تحدث ريتشارد مع جون هولومان الذي كان رئيسًا لذلك المشروع. كان هولومان قد نال شرف العمل في مختبر ووترتاون أثناء الحرب العالمية الثانية في الوقت نفسه الذي عمل فيه كلارنس زينر هناك. وقد أكد هولومان لريتشارد أن جنرال إلكتريك ستتمكن خلال عشرة أعوام من تصنيع ماس بحجم قبضة اليد. لكن حتى يومنا هذا يبدو أن الرجل كان مفرطًا في التفاؤل. ففي الوقت الذي أمكن فيه استخدام الماس الاصطناعي في تصنيع عجلات الجلخ، جاء الاكتشاف التالي لأنابيب الماس (عروق المعادن) في روسيا وأستراليا ليكفي حاجة السوق من أحجار الماس. وقد ثبت أن الشائعات حول تخزين شركة «دي بيرز» الجنوب أفريقية للماس بهدف الحفاظ على سعره مرتفعًا غير صحيحة، على الرغم من أن الروس والأستراليين كانوا يبيعون إنتاجهم من الماس من خلال شركة «دي بيرز» لأنها كانت تمتلك مؤسسة تسويقية عريقة راسخة.

التقت مجموعة صغيرة من العلماء التجريبيين والباحثين النظريين في ستينيات القرن العشرين؛ لعرض أبحاث عن النتائج التي توصلوا إليها بخصوص الضغط العالي. انضم إليهم بريدجمان بصفته فردًا من الجمهور. وحينما اقترح ريتشارد أن تحاول المجموعة تحديد معيار للضغط، كما هو الحال مع نقطة ذوبان الماء ونقطة غليانه اللتين تمثلان معيارًا للحرارة، رد بريدجمان بأن هذا يبدو شبيهًا بالرقابة الحكومية. لاذ ريتشارد بالصمت مصدومًا لما سمعه. (الرتبة لها ميزاتها.)

كانت القياسات قد بدأت بالفعل في فحص المواد تحت الضغط من خلال الأشعة السينية، عن طريق ضغط العينة بين قطع الماس الذي هو أكثر العناصر المعروفة صلابة على ظهر الأرض. وقد أمكن لهذه التجارب التعرف فقط على التغييرات التي تطرأ على البنية البلورية وليس على توزيع الإلكترونات. بعد ذلك، بدأ اهتمام ريتشارد بموضوع الضغط في الزوال بعد أن أعلمه بريدجمان أن وجود الحكومة كحليف أمرٌ غير مرغوب فيه؛ وهو ما يحمل ظلالًا من موقف فون هيبل.

كان جون ليك يحاول جاهدًا منذ عام ١٩٦٢ فما بعده قياس كمية تشتت الكومبتون في زوايا تشتت منخفضة للغاية. كان من المعروف آنذاك أن دوموند تمكَّن في الثلاثينيات من القرن العشرين داخل مختبر «كال تِك» في باسادينا من إجراء قياس بالغ الدقة على تشتت الكومبتون في البريليوم عن طريق فحص طاقات الأشعة السينية التي شهدت تشتت الكومبتون. وفكَّر ريتشارد في أنه في ظل الظروف المخبرية المناسبة، يمكن ربط هذه المجموعة من الطاقات بعمليات التوزيع الإلكتروني التي حسبها فريمان وواطسون، أو على الأقل بالتقريب.

كان الهدف من العمليات الحسابية لهارتري وما جاء بعدها تحديد توزيع الإلكترونات في الذرات المعزولة. إلا أن تلك الحلول نفسها يمكن أن تحدد أيضًا توزيع كمية الحركة. فأيًّا كان ما تفعله الإلكترونات لتتحرك من نقطة إلى أخرى حول نواتها، فإن سرعتها، ومن ثَم كمية حركتها، ستظل في حالة تغير مستمر. ومع الأسف، لم تتنبأ معادلة شرودينجر بسرعات الإلكترونات من نقطة إلى نقطة، لكنها فقط تنبأت بقيم عديدة لكمية التحرك من الصفر إلى أعلى. وقد ينتاب القارئ بعض الحيرة تجاه التنبؤات الخاصة بميكانيكا الكم، لكن إذا فكر المرء في هذا المفهوم فترة، فسيتقبله في نهاية الأمر. ففي ميكانيكا الكم، يمكن التعبير عن مواقع الإلكترونات وكمية حركتها في شكل احتمالات فقط. ولعل أينشتاين لم يقبل قط بهذا الجانب غير المؤكد من ميكانيكا الكم، وله مقولة شهيرة في هذا: «إن الله لا يلعب النرد.»

لكن منذ وقت شرودينجر، لم يستطِعْ أحد أن يكسر هذا القيد المتعلق بميكانيكا الكم. لقد كان قيدًا لا مهرب منه. ومن الممكن اعتباره تجسيدًا لمبدأ الشك الذي وضعه هايزنبيرج، والذي يقول إنك إذا حددت موقع الإلكترون بدقة، فستواجه مشكلة الشك في كمية تحركه. وتذكَّر جيدًا أن الإلكترون نفسه يعرف على الأرجح مكانه ومدى سرعته، ولكنه يأبى البوح بأسراره. فإذا ابتكرت قياسًا للأشعة السينية لتحديد الموقع بدقة من خلال تشتيت شعاع من الأشعة السينية، فسوف تتسبب في تغيير كمية حركته، ويستتبع ذلك وقوع الشك، والعكس بالعكس. وقد اختلف أينشتاين وبوهر حول هذا سنوات، ولكن بوهر ومبدأ الشك كانا ينتصران دائمًا في النهاية.

في ذلك الوقت تقريبًا، ألحَّ باسكين على ريتشارد لكي يعيد تجربة قياس دوموند، لكن ريتشارد لم يكن متفائلًا تجاه إمكانية إعادة التجرِبة، وربط الأجوبة بحلول معادلة شرودينجر. ففي ظاهرة كومبتون، كانت الإلكترونات تُزاح من مواقعها على الذرات، وهذا من شأنه أن يعقد العمليات الحسابية من نوع هارتري. لم يشكِّل ذلك عقبة في قياسات توزيع الإلكترونات، حيث إنه في تلك الحالة تظل الإلكترونات ثابتة.

بدأ ديماركو ووايس قياساتهما على مواقع الإلكترونات في السيليكون، والجيرمانيوم، وأرسنيد الجاليوم في أوائل عام ١٩٦٤، بعد نشر بحث لريتشارد عن الماس. فبلورات هذه العناصر تشترك جميعًا في نفس البنية البلورية للماس. تلك البنية تكون «غير متماثلة مركزيًّا»، وهو تعبير في علم البلورات يشير إلى أن البنية البلورية يختلف ترتيبها عند النظر إليها من الخلف إلى الأمام. ففي البنية الماسية، هناك نتوءات تشتت الأشعة السينية، وهي لا تكون موجودة إلا إذا كان ترتيب الإلكترونات غير كروي الشكل. وهذا بالضبط ما يمكن أن يتوقعه المرء، حيث يكون لكل ذرة جار قريب في اتجاه معين لكن ليس في الاتجاه المقابل. وهذا الترتيب للإلكترونات في الفراغ بين الجيران القريبة هو الذي يكسب الماس، والسيليكون، والجرمانيوم، وأرسنيد الجاليوم؛ الخصائص الفريدة المتمثلة في الهشاشة وكونها أشباه موصلات.

أجرى ريتشارد مقارنة بين قيم تشتت الأشعة السينية كما حسبها كلينمان وفيليبس للماس البلوري، وكما قاسها جيتليشر وويلفيل للعنصر نفسه نحو عام ١٩٦٠، في محاولة منه لفحص الأبحاث النظرية والتجريبية الحديثة المجراة على عمليات توزيع الإلكترونات. وانتهى إلى أنه يمكن تحسين النظرية. وضع ريتشارد تخمينًا تجريبيًّا فيما يخص شكل توزيع الإلكترونات في الماس واستطاع نيل قبول حسن على نتائج التجربة.

نُشرت النتائج التجريبية التي توصل إليها ديماركو ووايس من خلال عملهما على السيليكون، والجيرمانيوم، وأرسنيد الجاليوم عام ١٩٦٤-١٩٦٥، لكن أمكن فقط مقارنة تلك النتائج بعمليات هارتري الحسابية على الذرات المعزولة باستثناء الانحراف المقيس عن المجال الدائري، الأمر الذي يعد إشارة واضحة إلى التغييرات المتوقعة في المادة الصلبة. وقد تبين أيضًا كيف يمكن قياس هذا الانحراف عن المجال الدائري في فلز الفاناديوم.

لكن بالنظر إلى كل شيء، فإن الموضوع برمته كان باعثًا على الملل. فحتى يأتي وقت قياس عمليات توزيع الإلكترونات بدرجة عالية من الدقة الجديرة بالثقة؛ سيظل العلماء النظريون غير مهتمين بالأمر. وكان المجال كله بحاجة إلى دفعة قوية إلى الأمام. وما الذي يمكن لعالم أن يفعله حين يعجز عن العثور على أجوبة أو عن مخرج من غابة الألغاز التي تحيط به؟ يؤلف كتابًا في ذلك الموضوع! كان صديق ريتشارد بيتر فولفارت في الكلية الملكية قد عُين رئيسًا لتحرير سلسلة جديدة من الكتب لمؤسسة «نورث هولاند»، ووقع ريتشارد عقدًا لتأليف كتاب عن توزيع الإلكترونات. وكانت هذه فرصة لكي يطلع ريتشارد المجتمع العلمي على ما لا يعرفه، على الرغم من أنه جرت العادة أن المؤلفين يحرصون على إظهار أنفسهم بمظهر مَن يعرف ويفهم كل شيء عن الموضوعات التي يتناولونها.

وما بين كتابة فصول الكتاب، ومزيد من إلحاح باسكين المستمر، مرة أخرى أتيحت لريتشارد فرصة زيارة إنجلترا لحضور أحد المؤتمرات، فأعد نفسه للمرور على جامعة شيفيلد؛ إذ أثارت أبحاثه على الحديد والبنية المغناطيسية غير العادية لحديد جاما اهتمامًا كبيرًا هناك. كان ريتشارد قد سبق له زيارة البروفيسور جون كرانجل في جامعة شيفيلد عام ١٩٥٦، وهي زيارة جديرة بأن يذكرها دومًا. كان ذلك في نوفمبر الذي كان شهرًا باردًا رطبًا على هذه المدينة في المنطقة الوسطى من إنجلترا. آنذاك حجز ريتشارد غرفة في فندق يقدم خدمة المبيت والإفطار فقط، ولا يقدم خدمة التدفئة إلا عن طريق إسقاط الشلنات كل ١٥ دقيقة في مدفأة الغاز. كان هذا الأسلوب في توفير التدفئة غير مناسب على الإطلاق من وجهة نظر ريتشارد. ثم من ذا الذي قد يرغب في النهوض من الفراش لتغذية المدفأة بالشلنات؟ كان الوضع مزريًا بحق، وكان ريتشارد يرتعش بين الملاءات الرطبة طوال الوقت ولا يستطيع أن يوقف أسنانه عن الاصطكاك بعضها ببعض. لكن في هذه المرة حجز له مضيفه البروفيسور نورمان مارش في فندق جراند أوتيل، وأقام ريتشارد هناك دون استرجاع ذكريات الارتجاف من البرد.

ولا يزال ريتشارد يتذكَّر قضاء بضع ساعات من وقت فراغه في السير حول مبنى الفيزياء، ثم التوجه إلى أحد محلات التحف القديمة على الجانب الآخر من الطريق. وجد ريتشارد هناك لوحة زيتية لم تُرسم بأفضل الطرق، ومع ذلك كان واضحًا أنها ترجع إلى العصر الكلاسيكي عام ١٨٤٠، وكانت تصوِّر قلعة كونواي في ويلز. تعرف ريتشارد على الصرح الضخم الذي زاره عام ١٩٦٢، وعلى جسر ستيفنسون الأنبوبي الشهير الذي يضم خط سكة حديد، وجسر طريق تلفورد الذي يعبر النهر. وكانت القطارات التي تخرج من الجسر الأنبوبي الشكل في اللوحة ترجع إلى عام ١٨٤٠ تقريبًا. كان إنشاء خط سكة حديد يعبر نهر كونواي عن طريق إنشاء أنبوب طويل من الصلب ذي قطاع عرضي مربع وتعويمه إلى المكان المرغوب عملًا هندسيًّا فذًّا. مثل ذلك البناء الأنبوبي كان الأول من نوعه، وقد وفر قوة عظيمة فيما يتعلق بتحمُّل الوزن. سأل ريتشارد سؤالًا عابرًا عن سعر اللوحة وهو يتوقع أن يطالبه البائع بمائتَي جنيه استرليني أو أكثر.

– «ثلاثة جنيهات.»

– «وهل يشمل السعر إطار اللوحة الجديد؟»

أومأ البائع برأسه إيجابًا، وما زالت هذه اللوحة تزيِّن منزل ريتشارد منذ ذلك الحين. كان من الواضح أن صاحب المحل يجهل موضوع اللوحة. وفكَّر ريتشارد أنه على الأرجح درس الفيزياء في الجامعة.

كان نورمان مارش باحثًا نظريًّا من الدرجة الأولى، وواعظًا غير متخصص، وقد تمكن بطريقة ما من وضع هذين الجانبين في منظورهما الصحيح. كان موضوع قياسات كومبتون الدقيقة على البيرليوم للعالم دوموند قد تطرَّق إليه آخرون من قبل. لكن ما كان يثير القلق حقًّا هو أن قياسًا مشابهًا أُجري على الليثيوم عام ١٩٣٦، ونتج عنه توزيع لكميات حركة الإلكترونات أوسع من التوزيع الذي حسبه مارش بمرتين ونصف. فكَّر ريتشارد قائلًا لنفسه إن الباحثين قد لا يحققون أعلى مستويات الدقة في حساب عمليات توزيع الإلكترونات في المواد الصلبة، ويمكنه أن يقبل بوجود فارق يصل إلى ٢٠٪، ولكن ليس ٢٥٠٪! وهنا يكمن اللغز الذي كان من شأنه أن يعيد الجدوى إلى حياة ريتشارد بفرصة مجددة للوفاء بالوعد القديم الذي قطعه لسلاتر. فعندما عاد إلى ووترتاون، سارع بالبدء في تجاربه، تدفعه في ذلك قناعة بأنه يمكن تحديد الطرف المصيب والطرف المخطئ بين الباحث النظري نورمان مارش والتجربة التي أُجريت عام ١٩٣٦. وفكَّر ريتشارد أن اشتغال نورمان مارش بالوعظ العامي ربما يكون قد أكسبه بصيرة أنفذ إلى طبيعة الأشياء.

كان مارش رجلًا حذرًا. فقد كتب في خطاب سابق إلى ريتشارد بتاريخ ٢٨ يناير ١٩٦٥ يقول:

«لكَمْ كانت سعادتي بالغة عندما عرفت أنك تمكنت من الوصول إلى حل لمشكلة مخطط الكومبتون الجانبي لليثيوم، حيث إن ذلك الأمر، كما تعلم، قد أصابني بالقلق المستمر لما يزيد عن عشر سنوات. من ناحية أخرى، يجب ألَّا يقول باحث تنظيري بخطأ تجارب معينة أبدًا على الرغم من أنه يبدو أن قياسات عام ١٩٣٦ خاطئة بالفعل. وفي واقع الأمر، أخبرني جيه إيه ليك بعد يوم واحد من تلقي الرسالة التي بعثت بها إليَّ أن نتائجه الأولية تشير إلى أن نتائج الليثيوم التي توصل إليها كابيلر عامة أكثر مما ينبغي.»

أكد ريتشارد في تقرير داخلي قصير من تقارير الجيش الأمريكي أن قياسات دونوفان ومارش عام ١٩٥٦ توافقت مع التجربة التي أجراها. فلا شك أن التجربة السابقة التي أجراها كابيلر قد فشلت فشلًا ذريعًا لسبب غير معلوم. تأمَّل ريتشارد في هذا التطور الجديد في ضوء قياساته القديمة على الحديد والكروم. لكنه في هذه المرة لن يدع مجالًا للفرض أو الشك. كتب ريتشارد إلى دبليو إتش تيلور، وتلميذيه، جون ليك، ومالكولم كوبر يشرح لهم النتائج التي توصل إليها بشيءٍ من التفصيل. وقال في خطابه لهم: «لماذا لا تكررون هذه القياسات في كامبريدج ثم ننشر النتائج معًا.» وهذا ما اتُّفِق عليه في خطاب الرد الذي تلقاه! كان ريتشارد يحاول بذلك تأمين نفسه وضمان قدر من التأييد.

ومع استمرار القياسات على كلا الجانبين، كانوا يتبادلون الخطابات لمقارنة النتائج التي يتوصلون إليها. وقد احتاج الأمر إلى ستة أشهر حتى تستقر الأمور ويصل المختبران إلى اتفاق كامل. وقد أكد جون ليك في خطاب بتاريخ ٢١ يونيو ١٩٥٦ تطابق النتائج في كامبريدج وووترتاون إلى درجة كبيرة للغاية، وبدأ الحديث عن آلية النشر المشترك لتلك النتائج.

وبالفعل نشرت مجلة «فيلوسوفيكال ماجازين» في عددها الصادر في أكتوبر ١٩٦٥ مقالة مشتركة بين كل من كوبر وليك من كامبريدج، وريتشارد وايس من ووترتاون، تشير إلى أنهم تمكَّنوا من قياس مخطط الكومبتون لعنصر الليثيوم، وتوصلوا جميعًا إلى النتائج نفسها التي تطابقت بدورها مع العمليات الحسابية لدونوفان ومارش عام ١٩٥٦. كان النجاح حلو المذاق، لكن ريتشارد لم يدرك تمام الإدراك كم الجوائز التي كانت في انتظاره بسبب هذه المغامرة الجديدة في توزيع كمية حركة الإلكترونات.

كان ريتشارد قد انتهى من تصنيف كتابه الخاص بتوزيع الإلكترونات. وكانت لا تزال هناك بضعة أعوام قبل أن تثبت توزيعات كمية حركة الإلكترونات مدى أهميتها وتفوقها على أهمية توزيع مواقع الإلكترونات. من هنا، ظهر كتاب «تحديد الأشعة السينية لتوزيعات الإلكترونات» عام ١٩٦٦ قبل بضع سنوات من إمكانية احتوائه على تفاصيل عن عمليات توزيع كميات الحركة.

نُشر لريتشارد كتابَين في ثلاث سنوات، وقد بعث الناشرون إليه بنسخ من المقالات النقدية التي تناولت الكتابين وتضمنت مقالة باللغة الروسية كانت ترجمة لمقالة بالإنجليزية، ومقالة أخرى بالإنجليزية أعادت ترجمة المقالة الروسية. بينما كانت المقالات النقدية التي كتبت في كتاب ريتشارد الأول الخاص بفيزياء الحالة الصلبة إيجابية بصفة عامة، وأبدت تعاطفًا مع منهجه التعليمي الجديد؛ كانت هناك نقطة واحدة اتفق النقاد عليها حول الكتاب الثاني، وهي أن ثمن الكتاب كان مرتفعًا أكثر مما ينبغي.

نادرًا ما قرأ ريتشارد مقالة نقدية أقنعته بأن يشتري كتابًا إلا إن كان الكتاب شيئًا قيمًا يستحق شراءه بأي حال. فقد كانت أجور نقاد الكتب منخفضة للغاية وكل ما كانوا يحصلون عليه هو نسخة واحدة من الكتاب على سبيل الإهداء. وكان القراء يقبلون على قراءة مقالات نقد الكتب التجارية، مثلها في ذلك مثل مقالات نقد الأفلام والمسرحيات، بسبب أسلوبها الأدبي، وما تتضمنه من سخرية وهجوم لاذع على المؤلف، وأي شيء آخر من شأنه أن يبرز التفوق الكبير للناقد على المؤلف. وإن كان ذلك الأمر منطبقًا على الكتب العلمية بدرجة أقل، فإنه متبع بكثرة إلى الآن. ويندر العثور على مقالة نقدية خالية من الإشارة إلى خطأ تافه أو تصريح خاطئ أو ما إلى ذلك.

ظهر وجه جديد على الساحة، هو والتر فيليبس، وكان رجلًا هادئًا ومتواضعًا حصل على وظيفة في وكالة ناسا بكامبريدج قبل الانتهاء من إعادة تجديد مبناهم الجديد. وكان قد حصل على تصريح بالعمل في أي مكان آخر إلى حين تجهيز حجرة المكتب الخاصة به، فتوجه إلى ريتشارد وعرض عليه خدماته. وقد كان على دراية بالأبحاث الجديدة على مخططات الكومبتون ووافق على التعاون مع ريتشارد. وأشار عليهما ريتشارد أن عليهما البدء من الصفر، وأن مسألة حل المشكلات التجريبية والنظرية ستستغرق بضع سنوات على الأرجح. فكثافات الأشعة السينية ستكون ضعيفة، وستحتاج إلى أوقات طويلة لإحصائها آليًّا. ومن ناحية أخرى، ثمة احتمال لوجود صعوبات غير متوقعة لا يمكن القطع بإمكانية التغلب عليها. ومع ذلك، فقد قبل فيليبس هذه الاحتمالات وبدأ العمل الصعب.

في الوقت الذي استمرت فيه تلك الجهود التجريبية، بدأ ريتشارد التفكير في تنظيم مؤتمر ساجامور لعام ١٩٦٧. اختير أعضاء اللجنة المنظمة وفقًا لاعتبارات جغرافية وعلمية؛ فضمت كلًّا من باري دوسون من ميلبورن، وجورج هول من نوتينجهام، وجيه آيبرز من نورثويسترن، وآر واطسون من بروكهيفين، وكليف شول من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا رئيسًا للجنة المنظمة. وأسند إلى ريتشارد منصب السكرتير، ويعني ذلك أن عليه أن يتحمَّل مسئولية المراسلات، وجمع الأموال، والاتفاق مع المتحدثين، والتعامل مع إدارة جامعة سيراكيوس. وفي الوقت الذي كان فيه ريتشارد ووالتر فيليبس يحاولان قياس كمية حركة الإلكترونات في المختبر المجاور، كانت كمية حركة ريتشارد داخل حجرة مكتبه وخارجها مستمرة بلا انقطاع، ولا تنخفض مطلقًا إلى حالة الهدوء والسكون. ومن ثَم، كان حضور فيليبس إلى جانبه بمنزلة هدية من السماء.

تلقى ريتشارد عام ١٩٦٦ رسالة من برينستون تخطره أن مؤسسة جوائز روكفلر للخدمة العامة كانت على وشك الاحتفال بعامها الخامس عشر، وأن القائمين على المؤسسة كانوا يطلبون تعليقات مكتوبة من التسعة والسبعين فائزًا الذين نالوا الجائزة، وذلك لتقديمها إلى جون دي الثالث. فبعث ريتشارد بالرد التالي في أكتوبر من العام نفسه:
السيد/جون دي روكفلر الثالث
مؤسسة جوائز روكفلر للخدمة العامة
برينستون، نيو جيرسي

عزيزي السيد روكفلر،

لكَمْ أسعد في هذه المناسبة الخاصة أن أبعث بهذا الخطاب اعترافًا وتقديرًا لما تتمتعون به من بُعد نظر وإسهام كبير في خدمة الحكومة. فمؤسسة جوائز روكفلر للخدمة العامة التي شيدت بأرفع درجات حب الإنسانية لها قيمة خاصة عند العاملين في الخدمة العامة، تمامًا كما لجوائز نوبل قيمة كبيرة لدى الجميع.

لقد تلقيت المنحة الخاصة بي، والتي ساعدتني على قضاء سنة كاملة بجامعة كامبريدج منذ عشر سنوات، وبدلًا من أن يطويها «النسيان» بوصفها حدثًا وقع في الماضي، فإن قيمتها كانت في زيادة مستمرة مع مر الزمن. وبالإضافة إلى كل فوائد الدراسة بالخارج، فإن معرفتي بأني واحد من هذه النخبة المختارة التي تفانت في خدمة حكومة بلادها بإخلاص قد أوجد بداخلي توجُّهًا خاصًّا تجاه خدمة الحكومة. وقد وهبت ذاتي لخدمة قضية تحسين الخدمة العامة، بحيث تقدر على منافسة أفضل الخدمات المشابهة في المؤسسات الجامعية والأكاديمية. ويمكنني أن أشير بكل فخر إلى تميز هذا المختبر في مجال الفيزياء على مستوى العالم بأسره.

ومع مرور السنين، سيستمر الاحترام المرتبط بهذه الجوائز في الازدياد. وبصفتي مؤرخًا هاويًا، أستطيع أن أتنبأ بأن اسم روكفلر في النهاية لن يرتبط في المقام الأول بالبترول أو السياسة، وإنما بتلك الجوائز.

المخلص،
ريتشارد جيه وايس

من الصعب على ريتشارد أن يصدق أنه سطر مثل هذا الهراء الكاذب، إلا محاولة لنظم بعض الكلمات المنمقة، في وقت كانت فيه كلمة الامتنان المعتادة «شكرًا لك!» تغنيه عن ذلك كله. وفي ١٢ أبريل عام ١٩٦٧، حضر ريتشارد حفل عشاء في فندق شورهام بواشنطن حيث قُدمت الخطابات إلى جون دي الثالث.

عُقد مؤتمر ساجامور الثاني لعام ١٩٦٧ من ٥ إلى ٨ سبتمبر في المكان نفسه الذي احتضن المؤتمر الأول، وقبل أسبوع من عقد المؤتمر الدولي للمغناطيسية بمدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس. وتقرر أن تضاف «كثافة كمية حركة الإلكترونات» إلى قائمة موضوعات المناقشة على الرغم من أن الوقت كان مبكرًا للغاية على عرض الكثير من المعلومات الموثوق بها في هذا الموضوع.

أمضى الجميع وقتًا طيبًا ولا سيما مع عدم حاجة أي منهم إلى إعداد الكلمة التي سيلقيها؛ إذ لم تكن سياسة المؤتمر تقتضي ذلك آنذاك. أفرط الجميع في شرب الخمر، وتناثرت قطرات المياه من البحيرة بفعل السابحين والزوارق الكثيرة التي تملؤها، وكانت المفاجأة الكبرى عندما قام كليف شول صاحب الهيبة متحدثًا في الحضور بحديث مازح صاخب بعد العشاء. وكان ريتشارد قد اغتبط كثيرًا للقائه بول إيوالد أحد رواد علم البلورات المشاهير. ولِد بول، الذي جمع طول القامة والهيبة ونبل الخلق، في برلين عام ١٨٨٨، أي قبل سبع سنوات من اكتشاف الأشعة السينية. وقد سرد حكايات عديدة عن العصر الذهبي لعلم البلورات، وقد تركت أبحاثه النظرية الأولى بصمة في علم البلورات، ودلت على ذلك الإشارة إلى انعكاسات الأشعة السينية التي تصبح مؤثرة في ظل ظروف تجريبية معينة باسم «مجال إيوالد الدائري». وكما همس أحد الحاضرين في أذن ريتشارد قائلًا:

«لقد أُطلق اسم إيوالد على أكثر الأشكال الهندسية تمامًا وانتظامًا، فأي شرف أكبر من ذلك؟»

بعد بضع سنوات من ذلك، التقى ريتشارد بالسيد إيوالد وزوجته مصادفة بمطار هيثرو الشديد الازدحام، وكان إيوالد قد جاوز الثمانين من عمره. وقد ذهل ريتشارد عندما وجد إيوالد جالسًا على كرسي متحرك تدفعه زوجته:

– «مرحبًا بول. هل كل شيء على يرام؟»

– «إنني بخير يا ريتشارد. تبين لي أن استخدام الكرسي المتحرك مجاني، وهو طريقة سهلة للتجول في المطار حين يصعب العثور على مقعد.»

غادر بول ألمانيا بمحض اختياره خلال فترة حكم النازية. وكانت ابنته قد تزوَّجت من عالم الذرة المعروف هانز بيث. تتلمذ هانز بيث على يد العالم الكبير أرنولد سمرفيلد في ميونخ وعاصر فون لاوي. وقد ساعد بول في إصدار دورية علم البلورات الواسعة الانتشار «أكتا كريستالوجرافيكا».

وفي نهاية المؤتمر، تحدث إروين بيرتو من فرنسا وعرض أن تستضيف فرنسا مؤتمر ساجامور الثالث عام ١٩٧٠، على أن يتحمَّل المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي تمويل تنظيم المؤتمر. وقد لقي هذا العرض موافقة حماسية بالغة من المنظمين.

بعد عودة الثنائي فيليبس وريتشارد إلى ووترتاون، انغمس الاثنان حتى النخاع في قياس مخطط الكومبتون. والنتائج الأولى الخاصة بعنصرَي الليثيوم والبريليوم، التي تحسَّنت كثيرًا عن النتائج السابقة الخاصة بالليثيوم؛ وضعت ريتشارد في مأزِق محير يتعلق بتفسيرها. وأمعن ريتشارد التفكير طويلًا وهو يقطع الممر جيئة وذهابًا بحثًا عن مخرج.

عند قياس توزيع الإلكترونات ترتد الأشعة السينية عن العينة في جميع الاتجاهات دون أن تتغير طاقاتها. ولكن في حالة أثر الكومبتون، فإن الاصطدام الشبيه باصطدام كرات البلياردو يقذف الإلكترون بعيدًا ويكسبه طاقة، وكذلك الأشعة السينية، ويفقدها طاقة (يظل إجمالي الطاقة ثابتًا). فإذا كان الإلكترون في الأساس في حالة سكون (طاقة صفرية)، ترتد الأشعة السينية بعيدًا بعد أن تفقد جزءًا من طاقتها يتحدد حسب زاوية الاصطدام. ولكن إذا كان لدى الإلكترون بعض كمية الحركة قبل الاصطدام، فإن الأشعة المشتتة تعرض نطاقًا متعددًا من الطاقات، التي يؤمل أن يصير ممكنًا ربطها بكمية حركتها الأولية، وبالحلول التي توصلت إليها معادلة شرودينجر. حاول ريتشارد أن يخمن ما حدث للإلكترون بعد الاصطدام، ولكنه اكتشف أن التصادم بين الأشعة السينية والإلكترون كان سريعًا للغاية (سرعة الضوء)، بحيث لم يكن هناك داعٍ للتفكير في كل هذه الاحتمالات. كان الإلكترون وكأنه لا يهتم البتة بما حدث له إلا بعد أن اختفت الأشعة السينية في الفراغ. وقد أطلق على ذلك اسم «تقريب الحافز» الذي كان حجر الزاوية في تحليل أثر الكومبتون. وقد كان ذلك نعمة ذات فائدة بالغة الأهمية، حيث سهل تفسير القياس وربطه مباشرة بالحلول الرياضية لمعادلة شرودينجر. السنوات العسيرة التي قضاها ريتشارد في قياس توزيع الإلكترونات حول النواة كشفت النقابَ عن جبال من الصعوبات، وفي الوقت نفسه أثبتت توزيعات كمية حركة الإلكترونات جدوى كبيرة. وما أبت الطبيعة إلا أن تخفيه بشأن مواقع الإلكترونات، صرحت به بوضوح فيما يخص كميات حركتها.

أظهرت أجهزة الأشعة السينية المطورة على نحو مفصل في الستينيات ما وضعه جيسي دوموند في أوائل الثلاثينيات على نحو «تقريبي». وقد كتب دوموند وهو في السابعة والسبعين من عمره إلى ريتشارد:

«كنت أنا وأفضل طلبتي إتش إيه كيركباتريك أول مَن درس بنية خط الكومبتون وتوزيعات كمية الحركة الخطية للإلكترونات. وكان هذا البحث هو «حبي الأول»، كما اعتدنا أن نسميه. ولن أنسى أبدًا «الإثارة» التي شعرت بها عندما كنت في أحد أيام الآحاد متشوِّقًا لمعرفة نتائج إحدى تجارب التعرض الطويلة بالمطياف البلوري، حتى إنني لم أستطع الانتظار إلى يوم الاثنين. وعلى الفور حمضت الفيلم وأشعلت الضوء الأحمر الداكن، وكما توقعت تمامًا، وكما تنبأت استنتاجاتي النظرية، كان عرض خط الكومبتون أضيق بكثير من ٩٠ درجة. «للمرة الأولى في حياتي، أصبحت أعرف يقينًا شيئًا لا يوجد في العالم مَن هو على يقين منه أو حتى يصدقه.» ولعل البهجة التي تصاحب مثل تلك اللحظة يعجز الكلام عن وصفها! ومنذ ذلك الوقت، كان عليَّ أن أكون مستعدًّا لمجابهة مشاعر خيبة الأمل تجاه الفيزيائيين وغيرهم من الناس الذين يرفضون التسليم بتفسيرات يضعها شخص آخر، والذين يمنعهم كسلهم الشديد من قراءة الأدلة التي يسوقها لهم، لكن «نشوة» هذه التجربة الفريدة وحدها في أحد أيام الآحاد تمنح المرء الثبات والقدرة على تحمل الكثير من «حقائق الحياة» المحبطة.»

لا شك كان على دوموند المسكين أن يتعامل مع مجموعة من المشككين! وقد لاقى اكتشاف ريتشارد «تقريب الحافز» الاستجابة نفسها. فقد كشفت الطبيعة عن أسرارها لعدد قليل فقط من البشر.

في رده على دوموند، كتب ريتشارد يقول: «للمرة الأولى أصبح لدينا الآن اختبارًا حساسًا للدوال الموجية للحالة الصلبة، وتلك خطوة «هائلة» يتقدم بها العلماء التجريبيون على المنظِّرين.»

وقد تزامن هذا كله مع الخطوة «الهائلة» الأخرى التي خطاها الإنسان على سطح القمر.

احتوت المقالة التي نشرتها مجلة «فيزيكال ريفيو» العلمية في يوليو عام ١٩٦٨ على تفاصيل جهود فيليبس ووايس في مجال إعادة إحياء بحث دوموند الذي أجراه قبل ٣٥ عامًا تقريبًا من ذلك التاريخ. وقد أثمرت هذه الجهود عن وضع واحد من أكثر الاختبارات حساسية لمعادلة شرودينجر، وسرعان ما أصبح عدد هائل من التجريبيين والباحثين النظريين يستمتعون بالذهاب في هذه الرحلة القصيرة في عالم ميكانيكا الكم.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أظهرت مخططات الكومبتون بوضوح أن النموذج النظري للفلزات كان متطابقًا مع مفهوم كمية الحركة لفيرمي؛ أي إن الإلكترونات الحاملة للتيار تمتلك مجموعة من الطاقات تسمى طاقة فيرمي، عندما تصل إلى الحد الأقصى لها. وكانت طاقة فيرمي فكرة نظرية مبهمة حتى جاء الوقت الذي تمكَّن فيه فيليبس وريتشارد من قياسها. لكن أن يراها المرء فعلًا للمرة الأولى، كما قال دوموند في خطابه عن اكتشاف كمية حركة الإلكترونات في البيريليوم، فتلك مفاجأة سارة. ومن المؤسف حقًّا أن فيرمي قد مات عام ١٩٥٤، ولا شك أنه كان سيسعد كثيرًا بسماع ذلك.

كان أحد الذين أسعدتهم النجاحات التي تحققت في قياسات مخطط الكومبتون هو سي إيه كولسون، البروفيسور بجامعة أكسفورد. أجرى كولسون بعض العلميات الحسابية على كثافات كميات التحرك للجزيئات قبل الحرب العالمية الثانية. بعث إليه ريتشارد خطابًا يخبره أنه أجرى قياسات على بعض هذه الجزيئات، ورد عليه كولسون في ١٦ أبريل ١٩٦٩:

عزيزي الدكتور وايس،

«شكرًا جزيلًا على إرسال نسخة ما قبل الطباعة من بحثك على مخططات كومبتون للبنزين وبعض جزيئات الهيدروكربونات الأخرى. أسعدني كثيرًا أن أعلم أن العلماء عاودوا الاهتمام بهذه المخططات وبالمعلومات التي تقدمها عن توزيع كمية الحركة. لقد أجريت أنا ودونكانسون البحث الذي أشرت إليه منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، وما زلنا إلى الآن غير متيقنين من الماهية الحقيقية لتوزيع كمية الحركة. ومن ثَم، سوف أقرأ بحثك باهتمام كبير.»

المخلص،
سي إيه كولسون

أضاف مؤتمر ساجامور الثالث في أوسوا، بالقرب من جرينوبل، كثافة كمية الحركة إلى اسمه فسمي منذ ذلك الحين «مؤتمر الشحنة، والدوران، وكثافة كمية الحركة». وقد نظم بيرتو المؤتمر على أفضل ما يكون. فالنبيذ الفرنسي أعطى المرء «شحنة» حقيقية، وجعل رأسه لا يكف عن «الدوران»، ومنحه «كمية حركة» كبيرة تدفعه للوصول إلى البار قبل أن تنفد كأسه. وفيما عدا لحم بقر بورجينيون الذي أصاب بعض الأمريكيين بالإعياء بسبب إفراطهم في تناوله، فقد حقق المؤتمر نجاحًا عظيمًا. يتذكر ريتشارد بيرتو وهو منغمس في سرد ذكرياته عن الصيف في مؤتمري ساجامور الأول والثاني، والمناظر الجميلة بمنطقة أديرونداك، بلغة هي خليط من الإنجليزية والفرنسية حيث يقول مثلًا: «لكن كان على المرء أن يكون حذرًا أثناء التجول في الغابات؛ فقد يصادفك دبٌّ (نطقها بيرتو بلكنته الفرنسية، فكانت أشبه بكلمة بيرة).»

وعندها قال ريتشارد: «في يوم شديد الحر، قد يتمنى المرء أن يصادف علبة بيرة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤