ووترتاون ٥: ١٩٧٠–١٩٧٩

بقدر ما كانت ظاهرة الكومبتون بالغة الفائدة في الكشف عن التفاصيل الدقيقة لسلوك الإلكترونات، لزم أن تخضع لولادة قيصرية عام ١٩٢٠ بعد أن وجب تحريرها من قيود الأفكار والآراء المنحازة الراسخة. وقد جمع البروفيسور روجر ستيوير، أحد الأكاديميين البارعين في تاريخ الفيزياء، والبروفيسور مالكوم كوبر، أحد رواد إحياء هذا الموضوع؛ هذه القصة الرائعة في كتاب عن «تشتت كومبتون» نشر بعد مؤتمر ساجامور الخامس.

يقول الاثنان في مقدمة الكتاب:

«في الفترة التي سبقت اكتشاف ظاهرة الكومبتون أواخر عام ١٩٢٢ وفي الفترة التي تلتها عندما اكتشفت إمكانية استخدامها لفحص سلوك الإلكترونات في المواد الصلبة، ظهرت اختلافات عديدة، وتعارضات كثيرة، ومجموعة كبيرة من المغالطات العلمية! كانت هناك فترة من النشاط العلمي المكثف يقودها بضعة أفراد، أعقبتها فترة غير معقولة من الجمود الكامل استمرت ربع قرن. ولذلك، فإن من يعتقدون أن الابتكار والاكتشاف العلميين حري أن يتقدما على نحو هادئ ومنطقي قد يجدون قليلًا من العزاء في القصة المذكورة فيما يلي.»

تركَّزت المعضلة التي واجهت مجتمع الفيزياء في بداية القرن العشرين في نظرية الموجة الثنائية والنظرية الجسيمية للأشعة السينية؛ هل هي إحداهما أم الأخرى؟ وفقط بعد أن قبِل الفيزيائيون بالطبيعة الثنائية للأشعة السينية، أي قبلوا بالنظريتين، استطاعوا التغلب على تلك المشكلة. وحالما أدرك كومبتون هذا، وقبل بكمية تحرك شعاع من الأشعة السينية كما هي من خلال طاقته المقسومة على سرعة الضوء، جاء التصوُّر البسيط الخاص بتصادم كرات البلياردو بين الأشعة السينية والإلكترون. تحقق السبق العلمي التالي عام ١٩٣٠ تقريبًا على يد دوموند وكيريكباتريك في قياس خط الكومبتون الموسَّع بوساطة الطاقة للإشارة إلى امتلاك الإلكترون لكمية حركة قبل التصادم. وعلى الرغم من أن هذا أنبأ عن أشياء عظيمة في ذلك المجال، تراجعت القياسات إلى الصفوف الخلفية طوال الخمسة والثلاثين عامًا التالية، حيث كانت تجربة دوموند غاية في الصعوبة من ناحية وظهرت الفيزياء النووية كي تحوز على اهتمام العلماء من ناحية أخرى. وبعد هذه الفترة من التوقف، التي قطعها البحث الذي نشره كوبر وليك ووايس عن الليثيوم، أدرك ريتشارد صحة مفهوم «تقريب الحافز»، وكان من شأن ذلك أن يكسب الموضوع أساسًا نظريًّا وتجريبيًّا ثابتًا. ولم تمضِ بضعة أعوام حتى قفز إلى آفاق جديدة.

عقب مؤتمر ساجامور الثالث عام ١٩٧٠، أجرى ريتشارد تصويتًا بين الحاضرين على المكان الذي يفضلون أن يعقد فيه مؤتمر ساجامور عام ١٩٧٣. كان الفنلنديون في هلسينكي، والروس في مينسك يتشوقون لاستضافة المؤتمر، وكان على ريتشارد أن يختار بينهما. ذهبت العاطفة إلى تفضيل فنلندا، لكن المؤتمر الدولي في المغناطيسية كان سيعقد في موسكو عام ١٩٧٣ وقد تمنى كثيرون حضور المؤتمرين. صوت ريتشارد لمصلحة روسيا على أن يعقد المؤتمر في هلسينكي عام ١٩٧٦، عام الذكرى المئوية الثانية لقيام الولايات المتحدة. لم يرضَ الفنلنديون عن قرار ريتشارد، وكثيرون منهم لم يغفروا له قط هذا. فقد كانت كراهية الفنلنديين للروس تضاهي كراهية الثوار الوطنيين الأمريكيين للجنود الإنجليز في ١٧٧٦.

في أوائل السبعينيات، ظل ريتشارد على اطلاع دائم بأخبار إنجلترا عن طريق الاشتراك في صحيفة «صنداي أوبزيرفر»، التي تصدر كل أحد، ومطالعة دورية «نيو ساينتيست»، وهي مجلة مشهورة مقرها لندن، وتعنى بعرض تفاصيل الأخبار العلمية الجارية لعموم الجماهير. كان المحررون يشجعون جمهور القراء على إرسال الخطابات تعليقًا على مقالاتهم. وبالنبرة الساخرة نفسها لأول فيزيائي أمريكي وهو بنجامين فرانكلين، بعث ريتشارد بالخطاب التالي إلى المحرر:

سيدي،

تبني مقالة بيتر براون (مخمس لانديدنو) على عمليات الاختفاء الموثقة في مثلث برمودا، حيث تشجع العلماء على البحث داخل الإمبراطورية البريطانية عن مناطق أخرى تتخذ أشكالًا هندسية متناظرة، كالمربع والمسدس وما شابه. ومع ذلك، فإنني أنصح مَن يميلون إلى هذا الطرح بالبحث على وجه الخصوص عن مناطق الاختفاء الأقل تناظرًا، أي: الخط والنقطة، وأهمها على الإطلاق المنطقة الصفرية التناظر: الصفر. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الجنيه الآخذة قيمته في الانخفاض يجري استدراجه إلى منطقة الصفر على نحو لا يمكن تجنبه كما تختفي الأشياء في مثلث برمودا. فبرصد قيمة الجنيه مع مرور الوقت (من ٤٫٨ في العشرينيات إلى ١٫٧ في الوقت الحالي)، يمكن التنبؤ باختفائه عند وصول قيمته إلى الصفر بحلول عام ٢٠٠٠. وهذا يمنحنا نحو ٢٥ عامًا لحل اللغز وإنقاذ الجنيه.

ولا شك أن المحرر يعلم بوجود أحد الأشكال الخماسية المشابهة في الولايات المتحدة الذي اختفت بداخله مبالغ طائلة.

آر جيه وايس
ووترتاون، ماساتشوستس

خطرت وديعة بلانشارد ببال ريتشارد أثناء هذه الفترة. كان هنري لوتن بلانشارد قد ترك مبلغًا ضخمًا من المال وديعة، وطلب من الأوصياء عليها أن يستخدموها في زيادة اهتمام الناس بحياة أسلافهم. لكن شيئًا لم ينجز منذ بداية الوديعة عام ١٩٤٧، فاقترح ريتشارد ضرورة إنشاء قرية صغيرة، مثل قرية مادورودام بهولندا، على مقياس ٨ إلى ١ لمحاكاة آفون بداية من استيطانها للمرة الأولى حتى ذلك الوقت. كان ريتشارد مفتونًا بقرية مادورودام، لكن فكرته لم تلقَ إعجاب الأوصياء على الوديعة ونحَّوها جانبًا. على الرغم من ذلك، وبعد ٢٥ عامًا لا بد أن الأوصياء قد شعروا ببعض الالتزام تجاه تنفيذ وصية بلانشارد. قرر ريتشارد أن ينتظر بضع سنواتٍ ليعاود الإلحاح مجددًا.

في عام ١٩٧٢، بدأت المفاوضات حول مؤتمر ساجامور الرابع مع الأستاذ الأكاديمي إن سيروتا في مينسك. فعندما حضر سيروتا مؤتمر ساجامور الثاني، دُعي إلى الحديث عن أبحاث معهده، وبدأ حديثه بلهجة متلعثمة غير واضحة ولكنها مفهومة:

«يجب أن تعذروا لغتي الإنجليزية حيث إنها جميلة للغاية!»

أثار ريتشارد بعض النقاط الإدارية في مراسلاته مع سيروتا، لكنه اكتشف سريعًا أن هذا الأكاديمي من بيلاروسيا معتاد على الرئاسة. ومن ثَم، قرر ريتشارد أن يترك لسيروتا المسئولية بالكامل؛ فعلى عاتقه ستقع مسئولية نجاح مؤتمر ساجامور الرابع وسمعة الروس. فلماذا يقلق ريتشارد على شيء يقع خلف الستار الحديدي ولا يمكنه عمل شيء حياله؟

في الحقيقة، كان من الغرابة في هذه الفترة من الحرب الباردة أن يتولى موظف بالجيش الأمريكي تنظيم مؤتمر خلف الستار الحديدي. لم يخطر ريتشارد ضابط الأمن في ووترتاون بهذه التطورات؛ فقد كان مستحيلًا أن يبرر أفعاله أمامه! تذكر ريتشارد زيارة سابقة قام بها للبروفيسور رولف هوزمان في معهد فريتز هابر ببرلين حينما سأل عن زيارة برلين الشرقية. ولما كان دخول برلين الشرقية محظورًا آنذاك على أي ألماني مقيم ببرلين الغربية، فقد كلف هوزمان أحد طلابه الإسبان الذي كان يمتلك سيارة رينو كواتر شيفو، وهي سيارة صغيرة جدًّا، أن يقل ريتشارد ويعبر معه نقطة تفتيش تشارلي. وكان ريتشارد قد استبد به الشك تجاه إمكانية السماح له بدخول المدينة، ولذلك سأل الرقيب الأمريكي المسئول عن القواعد التي تحكم ذلك.

أجرى الرقيب اتصالًا هاتفيًّا بمركز القيادة الذي سأل عن رتبة ريتشارد في الخدمة المدنية ومهامه بها. وعندما أخبرهم بأنه عالم فيزياء بالخدمة العامة على الدرجة جي إس-١٥، وهي أرفع رتبة في الوظائف غير الرئاسية، جاءت الأوامر بأن يبتعد عن برلين الشرقية.

قال له الرقيب: «ربما يقبضون عليك ويعذبونك كثيرًا لمعرفة ما تحمله من أسرار.»

قرر ريتشارد أنه لا طائل من النقاش بعرض حجج واهية مثل عدم معرفته لأي أسرار، فضلًا على عدم وجود أي شيء في جواز سفره يشير إلى وضعه بالجيش الأمريكي. عاد إلى مختبر هوزمان بصحبة الطالب الإسباني حيث انخرط الجميع في الضحك. فلو كان الألمان بألمانيا الشرقية هم من رفضوا دخول ريتشارد، لكان الأمر مفهومًا للجميع، لكن أن يمنعه أمريكيون من الدخول فهو شيء عجيب للغاية حتى إنه صار الموضوع الرئيسي بعد العشاء.

أخبر الطالب الإسباني ريتشارد أنه في زيارة سابقة إلى برلين الشرقية أُوقف في طريق العودة وتعرضت سيارته الصغيرة للتفتيش الدقيق، وتضمن ذلك دس عصا في خزان الوقود.

سأل الطالب: «عمَّ تبحثون؟»

– «نبحث عن النمر.»

كان من المعروف أن جنود ألمانيا الشرقية تنقصهم روح الدعابة، ولكن ها هو أحدهم يكسر القاعدة.

رافق هوزمان ريتشارد إلى نقاط عديدة على طول سور برلين حيث شُيدت منصات عالية لمراقبة الأرض المعزولة التي تمنع المواطنين من الهرب. وفي إحدى النقاط، فصل السور نصف أحد الشوارع عن النصف الآخر. وحينما أمعن ريتشارد في النظر إلى الطريق، رأى صبيًّا في العاشرة من عمره تقريبًا يحدق فيه. لقد شاءت الأقدار أن ينشأ هذا الطفل المسكين سجينًا، وربما محرومًا من رفاق اللعب القدامى الذين عاشوا في النصف الآخر من الشارع. وكان هذا أكثر مما يستطيع ريتشارد أن يتحمله؛ فابتعد عن هذا المثال الموجع على قسوة الإنسان ووحشيته مع أخيه الإنسان.

كان على المسافر إلى مينسك أن يستقل طائرة الخطوط الجوية السوفييتية آيروفلوت من برلين الشرقية. وكان ريتشارد قد رتَّب للقاء هوزمان في برلين الغربية حتى يسافرا معًا من مطار شونفيلد في ألمانيا الشرقية. في تلك الفترة، لزم الحصول على تأشيرة لزيارة روسيا وكان ريتشارد قد أخبره عديد من الأشخاص الذين كانوا في رحلات داخل روسيا أن شركة «إنتوريست»، وكالة السفر الرسمية الخاصة بهم، هي التي تقوم بالترتيبات، ويقتضى ذلك دفع فواتير الفنادق ورسوم السفر وما شابه ذلك مقدمًا قبل الحصول على التأشيرة. تجاهل ريتشارد هذه النصيحة واكتفى فقط بإرسال جواز السفر إلى السفارة السوفييتية مرفقًا به نسخة من دعوة سيروتا. وفي الرد البريدي تسلم التأشيرة، ليبرهن على تمتع الأكاديميين بالنفوذ داخل الاتحاد السوفييتي.

في ١١ أغسطس عام ١٩٧٣، غادر ريتشارد بوسطن واستقل طائرة «ترانس وورلد أيرلاين» الليلية رقم ٧٥٤ المتجهة إلى لندن، وبعد توقف استمر ثلاث ساعات في مطار هيثرو، استقل طائرة «بان أمريكان» الصباحية المتجهة إلى برلين التي تصل في الساعة الثانية عصرًا. التقطه هوزمان من المطار واستقلا السيارة إلى منزله في دالم، وهناك قاد هوزمان ريتشارد الذي كان يشعر بسخونة شديدة إلى الحديقة، فخلع ملابسه ودخل الحمام الخارجي وأخذ دشًّا؛ وكل ذلك في عشر دقائق. بعد أن أحس ريتشارد بالانتعاش، ارتدى ملابسه ثم تعرف على زوجة هوزمان وعلى أحد أبنائه.

سأله ريتشارد: «ماذا تدرس؟»

فأجاب الابن: «أدرس الفنون.»

– «هل يعني ذلك أنك قررت الابتعاد عن العلوم؟»

– «يكفي عالم واحد في الأسرة، ما دام يجد عملًا.»

جمعت ريتشارد بهوزمان، الذي كان ضابطًا سابقًا بالبحرية الألمانية أثناء الحرب، صداقة جيدة. كان الاثنان يدخنان السيجار مما قوَّى أواصر الصداقة بينهما، على الرغم من أن رولف كانت له عادة مزعجة تمثلت في استخدام النشوق. وعلاوة على ذلك، كان يفرض على ضيوفه استنشاقه بأن يضع أمامهم مجموعة النشوق الخاصة به. وكانت مجموعة النشوق عبارة عن صندوق تبغ خشبي كبير يضم زجاجات مرقمة ومعرفة من ١ إلى ١٢ بالإضافة إلى توليفات رولف الخاصة مثل ١ و٤، أو ٢ و٧، أو ٣ و٤ و٩. ولم يدخل أي إنسان قط إلى منزل آل هوزمان دون أن يخلع حذاءه وينتعل بدلًا منه خفين يقدمهما له صاحب المنزل، ثم يشم النشوق بعد ذلك.

ذكَّر ذلك ريتشارد بقبطان بحري في القرن التاسع عشر، كان لديه صندوق أدوية طبية يحتوي على زجاجات مسماة من ١ إلى ٢٠ ومعها قائمة إرشادية للأعراض التي تعالجها كل زجاجة. وذات مرة، احتاج أحد أفراد الطاقم إلى الزجاجة رقم ٨ لكن القبطان اكتشف أنها فارغة. وعلى الفور استبدل القبطان الجرعة المطلوبة بنصف جرعة من رقم ٣ ونصف جرعة من رقم ٥. ومع ذلك، شفي الرجل!

في صباح اليوم التالي ليوم وصول ريتشارد، استوقف رولف سيارة أجرة، ومر الاثنان من خلال نقطة تفتيش حدودية عند بوابةٍ يندر استخدامها إلى برلين الشرقية، ثم تحركا إلى محطة الطيران النهائية بمطار شونفيلد. وسرعان ما تناقلت الألسن قصة العالم الأمريكي الذي دخل إلى روسيا عن طريق موسكو ونُبِّه إلى أن النسخة التي يحملها من مجلة «لايف» تعد محظورة قانونًا. وأُخبر أن عليه أن يتركها عند مغادرته روسيا. وبعد أسبوعَين غادر روسيا عن طريق لنينجراد وهناك طُلب منه أن يسلم نسخته من المجلة! فقد كانت روسيا وألمانيا الشرقية تمتلك كل منهما قوة كبيرة من رجال الشرطة؛ كل شرطي يراقب اثنين من المواطنين، في الوقت الذي يراقب فيه كلٌّ من هذين المواطنين الآخر.

أُعجب ريتشارد بالمنشآت البسيطة في ألمانيا الشرقية (مقارنة بالمطارات الأمريكية). علاوة على ذلك، بدت الطائرة قديمة وكانت الرحلة إلى مينسك باعثة على القلق؛ إذ كان الطيار يطير فوق قمم الأشجار مباشرة. لقيهم في المطار البروفيسور سيروتا وعدد من موظفيه، لكي يقلوهم إلى مينسك وفندق جوبيلينايا الجديد، وهو مقر استضافة الضيوف والمؤتمر.

كانت مينسك، وهي مدينة عمرها ألف عام يصل عدد سكانها إلى مليون نسمة تقريبًا — عاصمة روسيا البيضاء، وهي الجمهورية الأقرب إلى الغرب، وتحظى صناعة الجرارات والشاحنات فيها بمكانة كبرى. وقد لفت انتباه ريتشارد غياب لوحات الإعلانات في هذا الاقتصاد غير السوقي، على الرغم من وجود صور لينين الضخمة بكثافة. كان ذلك في رأي ريتشارد أشبه بلصق صورة لجورج واشنطن على كل لافتة إعلانية في أمريكا. بلغ عدد الطلبة في المدينة مائة ألف، وذكَّر ذلك ريتشارد ببوسطن التي يمثل الطلبة فيها شريحة كبيرة من السكان. ومثل سائر المدن الروسية كانت المساحات المفتوحة من الحدائق والميادين والشوارع الواسعة وما شابه في كل مكان بالمدينة.

بدأ المؤتمر بالجلسة الافتتاحية الرسمية المعتادة التي تحدث فيها ممثل واحد على الأقل عن الحزب الشيوعي في المؤتمر، مشيدًا بفضائل شيء ما. وعقب هذه الجلسة التمهيدية، قُدمت بعض الفقرات الترفيهية. ظهر عدد من المؤدين يرتدون الزِّي الشعبي ويحملون آلات البالالايكا والجيتار، وهيَّأ ريتشارد نفسه للاستمتاع ببعض الفن الشعبي الأصيل، لكنهم عندما انخرطوا في عزف موسيقى الروك آند رول بصوت عالٍ، كان هذا أكثر مما ينبغي. لا شك أن سيروتا أراد أن يبث السعادة في نفوس الزائرين عن طريق عزف ما تخيل أنهم قد يحبون سماعه.

وفي الجلسات العلمية الرسمية، جرت الاستعانة بعدد من المترجمين، الذين أجادوا إلى حد بعيد في ترجمة العبارات العلمية المعقدة من داخل الكبائن المنفصلة الموضوعة بعيدًا عن الجمهور. وحينما حل دور ريتشارد في التحدث، بدأ بالثناء على المترجمين. حينئذٍ اعتراهم جميعًا صمت مفاجئ لهذا الحدث غير المتوقع. فلم يحدث قط أن اهتم أحد بوجودهم وأشار إليه، وكان من الواضح أنهم يشعرون بعدم الارتياح.

سار سيروتا وفقًا لتقاليد مؤتمرات ساجامور، فكانت فترتا الصباح والمساء تخصصان للجلسات العملية، فيما خُصصت فترة ما بعد الظهيرة للاستجمام. وعند هذه النقطة، اعترض ريتشارد على زيارة في إحدى فترات ما بعد الظهيرة لنصب حرب تذكاري ضخم يطلق عليه «تل المجد»، وهو سهم طوله ١٠٠ قدم يشبه المسلة، مصنوع من الجرانيت ومحاط بحلقة من الجرانيت يبلغ قطرها ٥٠ قدمًا. قرر ريتشارد البقاء في الفندق والتحدث إلى المترجمين، وكان سيروتا قد أرسل شخصًا للبحث عن ريتشارد.

– «دكتور وايس، إن الحافلة بانتظارك لزيارة نصب الحرب التذكاري.»

– «من فضلك أبلغ البروفيسور سيروتا أن ريتشارد قد شهد بالفعل الحرب الحقيقية عينها.»

اعتبر ريتشارد هذا النبش في أحداث الماضي في ظل حضور الألمان واليابانيين في المؤتمر شيئًا غيرَ مناسب لمؤتمر علمي. ولا شك أن سيروتا كان فقط ينفذ سياسة الحزب الشيوعي الحاكم، لكن ريتشارد بصفته القائد الروحي لمؤتمرات ساجامور تصرَّف كما أملى عليه ضميره في هذا الموقف. ولم يعرف ريتشارد قط هل أغضب ذلك التصرف سيروتا أم لا، على الرغم من استمرار العلاقات الودية بينهما.

قضى كثير من المشاركين في المؤتمر صباح الأحد في البحث عن كنيسة. لم يكن سائقو سيارات الأجرة متعاونين حيال ذلك، وأخيرًا تمكن شخص ما من العثور على كنيسة في ضواحي المدينة. وكم كان حنينهم إلى الماضي عميقًا عندما شاهدوا هذا المكان المقدس يمتلئ عن آخره بالمصلين. فمن النساء العجائز اللاتي يرتدين أغطية الرأس التي تشبه الطرحة، إلى قلة من الرجال المسنين الناجين من الحرب، إلى بضعة من الأزواج الذين ضربوا بسياسة الحزب عُرض الحائط، جاء الجميع يحملون الشموع ويشاركون بحرارة بالغة في القداس. وقد ذهب آرثر فريمان إلى أبعد من ذلك بالبحث عن معبد يهودي، لكنه لم يذكر شيئًا عن نجاحه في العثور على معبد من عدمه.

وفي إحدى فترات الظهيرة الأخرى، سأل ريتشارد المترجمة المكلَّفة بمرافقته عن محل لبيع طوابع البريد، وما كاد ينتهي من طلبه حتى جاءت سيارة وأخذت ريتشارد والمترجمة إلى ميدان مفتوح صغير يغص بمائة فرد يسيرون في أنحائه، كانت أعمال تبادل طوابع البريد وما شابه تتم جميعًا داخل هذه السوق المفتوحة. اقترب ريتشارد من تاجر فتح ألبوم الطوابع الخاص به وأطلع ريتشارد على بضع صفحات من الطوابع. يصدر الروس مئات من الطوابع الجديدة كل عام، وسرعان ما أدرك ريتشارد انخفاض أسعار الطوابع الملغاة.

سأل ريتشارد التاجر: «كم يبلغ ثمن هذا الألبوم بالكامل؟»

بعد أن وجَّه ريتشارد هذا السؤال إلى التاجر، سرعان ما وجد نفسه محاطًا بما لا يقل عن خمسين تاجرًا أتوا لمشاهدة هذا الأمريكي الذي يشتري بالجملة. انتهت الصفقة وأنفق ريتشارد كل ما معه من روبلات لذلك اليوم. وفي النهاية همس التاجر في أذنه قائلًا: «هذا عنواني. أرغب في تبادل الطوابع الأمريكية معك، ولكن يجب أن ترسلها في مظروف بسيط؛ فالقانون صارم للغاية في منع المقايضات.»

لم يفكر ريتشارد مطلقًا في إجراء أي تعاملات في «السوق السوداء» لطوابع البريد.

كانت المترجمة — وهي فتاة جميلة في الثلاثين من العمر تقريبًا تدعى لوسي لودميللا — طالبة في معهد سيروتا. ولغتها الإنجليزية مقبولة.

سألها ريتشارد: «ماذا تقرئين لتحسين معرفتك باللغة الإنجليزية؟»

أجابت: «تشارلز ديكينز ومارك توين في الغالب.»

– «هل تسمحين لي بأن أهديكِ قيمة اشتراك في إحدى الصحف الإنجليزية الجيدة كصحيفة أوبزيرفر؟»

تحمست لوسي للفكرة، وأعطت ريتشارد عنوان مراسلاتها البريدية. وفي اليوم التالي اكتسى وجهها بنظرة ألم عميق، وانفردت بريتشارد جانبًا وناشدته ألا يرسل إليها الصحيفة. لقد كانت صغيرة السن، وبين عشية وضحاها علمت حقائق الحياة الروسية.

في إحدى المرات التي كان فيها ريتشارد وهوزمان يتجولان في فترة ما بعد الظهيرة وجدا سترة على مقعد في حديقة. أمسكا بها ونظرا حولهما بحثًا عن صاحبها، لكن أحدًا لم يكن موجودًا ليطالب بها. بعد بضع دقائق جاءت امرأة شابة ارتسمت على وجهها علامات اليأس، تطوي الطريق، فرفع هوزمان يده بالسترة كي تراها. تصرفت المرأة الشابة كمَن أُطلق سراحه من السجن، وأخذت قطعة الملابس وقبَّلت ريتشارد وهوزمان ثم رحلت في سعادة كبيرة. فقد كانت السترة تساوي راتب بضعة أشهر.

كان المحتوى العلمي للأبحاث داخل معهد سيروتا مخيبًا للآمال في تنقيبه المحدود في الأفكار الجديدة. لكن لم يشعر أحد من الغربيين أن الزيارة كانت مضيعة لوقته. فقد كانت هناك وسائل أخرى كثيرة للاستمتاع بأوقاتهم.

تحدَّث فريمان مع سيروتا ولامه على أنه لم يضع زيارة معهده ضمن برنامج المؤتمر، مؤكدًا له أن هذا هو ما يحدث عادة في أمريكا وإنجلترا. كان سيروتا في مأزِق حقيقي، فمثل هذه الزيارات تشرف على تنظيمها السلطات في موسكو، ومع ذلك تخلى سيروتا عن حذره وطلب على الفور بعض السيارات لنقل العلماء. وبعد مضي ساعة، كان الأشخاص الذين أمكن جمعهم من بين العلماء موجودين داخل المختبر الرئيسي بمعهد سيروتا، حيث قُدمت لهم الفودكا مع الشيكولاتة أو الكافيار. وتأهب سيروتا وفريق عمله في انتظار التطورات.

أعقب ذلك كلمات الترحيب المعتادة وشرب الأنخاب. تحدث ريتشارد نيابة عن لجنة ساجامور وترجم حديثه مترجم يمكن وصف ملامح وجهه بأنها «غير معبرة». وبعد أن ذكر ريتشارد حكايتين مضحكتين لاحظ أن المترجم لم يبتسم.

سأله ريتشارد: «هل أنت المترجم؟»

ظل وجه الرجل جامدًا وهو يومئ برأسه إيجابًا.

– «إذن عليك أن تضحك حينما أضحك!»

كشفت الجولة داخل المختبر عن تواضع أجهزة المؤسسة وانهماكها في أبحاث مملة. وعند نهاية الجولة اقترح أحد العلماء أن يُطلق على هذا المؤتمر اسم «ساجامينسك» والمؤتمر التالي المزمع عقده في هلسينكي «ساجافينسك». وفي واقع الأمر، سعد الفنلنديون عندما علموا أن المصاعد التي تعمل في الفندق بسلاسة مصنوعة في فنلندا.

ناقش ريتشارد قضية ووترجيت مع بعض المشاركين في المؤتمر من الروس، لكنهم رفضوا تصديق أنها أي شيء أكثر من تلاعب سياسي. كان نيكسون بطلًا في نظر المؤسسة الرسمية الروسية، ولم يكن هناك بد من الالتزام بسياسة الحزب الحاكم.

شكا ريتشارد إلى سيروتا أن الروس ترجموا كتابه دون موافقته ودون الحصول على أي حقوق ملكية. وبعد ظهر اليوم نفسه ذهب أحد مساعدي سيروتا إلى ريتشارد وسلمه مظروفًا؛ أخذ سيروتا روبلات بقيمة ١٥٠ دولارًا من حساب المعهد وأعطاها إلى ريتشارد.

وكانت التعليمات: «من فضلك أنفق هذا المبلغ داخل روسيا.»

في الواقع، لم يكن ممكنًا اصطحاب الروبلات إلى خارج البلاد، ولم يكن أمام ريتشارد خيار آخر. ولذلك، دعا اثني عشر عالمًا من أصدقائه إلى جلسة علمية في الفندق. والتقى العلماء في ذلك المساء في حجرة طعام خاصة، وطلب الجميع الفودكا. وحينما جاءت زجاجات الفودكا الاثنتا عشرة، ذهبت روبلات ريتشارد أدراج الرياح. بذلك تحول كتاب «فيزياء الحالة الصلبة لعلماء البلورات» إلى «فيزياء الحالة السائلة للأحزاب الروسية».

أكدت المأدبة الأخيرة وحضورها البالغ عددهم ١٥٠ فردًا كل صورة تكونت لدى ريتشارد على مدى الأعوام فيما يخص السلوك الروسي في مثل هذه المناسبات. فقد كانت أنخاب الفودكا التي أخذت لون الكهرمان وطعم البراندي تُقترَح كل ١٥ دقيقة. سارت الأمور في سلاسة تامة ولم تترك الزجاجة الكاملة التي احتساها ريتشارد أي إحساس بالصداع. وقد جرب ريتشارد سرد بعض الحكايات أثناء المأدبة، لكن سيروتا بادر بإخباره أن يأخذ حكاياته معه إلى تكساس!

كما توقع ريتشارد، حقق المؤتمر النجاح. وفي لافتة وداع، قابل سيروتا المجموعة المشاركة في المؤتمر في المطار، ليمنح كلًّا منهم هدية، ويحتسي معهم شرابًا أخيرًا. وقد بيَّن سيروتا المكانة العالية للأكاديميين عندما دخل قائد الطائرة إلى صالة المغادرة وقال لسيروتا:

– «بروفيسور سيروتا، لقد حان موعد إقلاع الطائرة.»

– «فلتنتظر، ستقلع الطائرة بعد أن أنتهي من وداع كل فرد.»

أومأ الطيار برأسه وسار إلى أحد أركان الصالة نزولًا على أوامر سيروتا. لقد وضع سيروتا معيارًا جديدًا لمؤتمرات ساجامور. ولكن ما زال أمام الفنلنديين ثلاث سنوات للاستعداد والتفوق على الروس.

هكذا انتقل ريتشارد إلى موسكو لحضور المؤتمر الدولي حول المغناطيسية. كان قد حُجز له في فندق «روسيا»، الذي ربما يكون أضخم فندق في العالم، والوجهة الأولى للأجانب. وكان يشار إليه باسم «هيلتون الرفيق» ويحتوي على مطعم ضخم على سطح المبنى، وعلى بابه يقف حارس رفض السماح لريتشارد وغيره من الأمريكيين بدخول المطعم، مخبرًا إياهم باللغة الألمانية أن المطعم «مكتمل»، مشيرًا إلى أنه محجوز بالكامل. وعندما جالَ ريتشارد بنظره داخل المطعم، بدا له أن هناك عددًا وافرًا من الموائد الفارغة. وعندما رأى ريتشارد زميله بيتر فولفارت متجهًا إلى المرحاض، سأله كيف تمكن من الدخول.

أجابه: «إنه أمر سهل، عليك أن تتحدث بالألمانية إلى الحارس.»

لم يفهم ريتشارد السبب وراء هذه السياسة، لكن مَن يستطيع فهم الروس؟

كانت أحواض الاستحمام وأحواض الوجه خالية من السدادات؛ فقد كانت شيئًا تصعب حمايته من السرقة. وكان الاقتصاد الروسي لا يطرح كمية وفيرة منها في المتاجر. وكان الصابون وورق المرحاض يُوزَّع على النزلاء عن طريق الحارس الموجود في كل طابق.

ومن الحقائق البسيطة التي لن يستطيع ريتشارد أن ينساها أبدًا من هذا الصيف عام ١٩٧٣ ظهور سولجنيتسين بوصفه شخصية عالمية بارزة في الأدب الروسي. ومن المصادفة وجود شبه كبير بين هذا الكاتب وريتشارد، وكان كثير من الناس يشيرون إلى ذلك يوميًّا تقريبًا في شوارع بوسطن. لكن أحدًا لم يذكر له ذلك مرة واحدة طوال فترة إقامته في روسيا. ولا شك أن سولجنيتسين، بوصفه شخصًا غير مرغوب فيه، قد مُنعت صورته من الظهور في الصحف الروسية. وذات مرة أوقفت سيدة من موسكو ريتشارد في الشارع لتسأله بالروسية عن الاتجاهات، لكن ريتشارد أوضح لها أنه «أمريكانيسكي».

كان وجود سيدات في منتصف العمر يمسكن بمكانس قش ويقمن على تنظيف الشوارع أحد الجوانب المسلية في الحياة الروسية. وهؤلاء الكنَّاسات كن في موضع سلطة، وقد رأى ريتشارد ذات مرة أحد المواطنين يتعرَّض «للتوبيخ» حينما أسقط ورقة في الشارع. وقد سهل مهمة هؤلاء السيدات عناية المواطنين الشديدة بالنظافة من ناحية وغياب الحيوانات الأليفة من ناحية أخرى. فلم يرَ ريتشارد قط كلبًا واحدًا أو قطة واحدة أثناء تجوله في شوارع موسكو.

أشار شخص ما إلى إمكانية القيام برحلة شيقة إلى أحد الأديرة العاملة على بعد ٤٠ ميلًا خارج موسكو في زاجورسك. وفَّر مكتب شركة «إنتوريست» حافلة لزيارة مدتها يوم كامل، وانضم ريتشارد إلى ٢٠ شخصًا آخر في هذه المغامرة. وكما جاء في كتيب الرحلة:

«زاجورسك مدينة صغيرة خارج موسكو، وليست موجودة في جميع الخرائط. ومع ذلك، فإنها فخر كل روسي وقبلة حقيقية للسياح.»

كان المرشد السياحي امرأة شابة جذابة أثار إتقانها الشديد للإنجليزية إعجاب الجميع، ولا سيما قدرتها على مواجهة الأسئلة المحرجة عن الحياة في روسيا. وقد حذَّرت الركاب من التقاط الصور الفوتوغرافية من داخل الحافلة لأنها تمر على العديد من المنشآت العسكرية.

سألها ريتشارد: «هل يمكننا التطلع خارج النافذة إذن؟»

فأجابت: «نعم، ولكن انسَ ما ستراه.»

كانت هذه الصراحة وروح الدعابة نادرة في روسيا.

كانت المدينة المحاطة بالأسوار التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر بالغة الروعة والجمال حقًّا. كانت المدينة موقعًا تاريخيًّا يحتفظ بحالته الأصيلة ويضم قبابًا عالية مطلية بالذهب على شكل حبة بصل، وبداخل الكنائس الموجودة بها عدد ضخم من اللوحات المرتبة في صفوف عديدة. فلم يخلُ مكان في الحوائط الداخلية من الرسوم الدينية. وبين الحين والآخر يمكن رؤية القساوسة في أرديتهم السوداء يتحركون بين البنايات. بل إن لينين نفسه أقر بروعة وجمال زاجورسك، وقد أعلن في ٢٠ أبريل عام ١٩٢٠ ضرورة الحفاظ عليها وحمايتها.

كيف اتفق هذا الدعم لأحد الأديرة مع السياسة الرسمية الملحدة للدولة إذن؟ الأمر بسيط، فقد أُطلق عليه اسم متحف بدلًا من دير. أكدت المرشدة أن الشيوعيين لم يستطيعوا إنكار التاريخ الماضي، فوضعوا الدير تحت حماية الدولة لكي يراه الجميع. وكان ريتشارد يستغرب كثيرًا عندما يفكر في الأشياء التي ينجذب إليها سكان موسكو. وكان أول هذه الأشياء «ضريح لينين» بصفوف الزائرين الطويلة المنظمة التي تتجول في أرجاء «الميدان الأحمر». أما ثانيها، فكانت آثار عصر القياصرة داخل الكريملين مثل العربات الملكية والجواهر. وفي الحقيقة، أُخبر ريتشارد بعد سنوات عديدة أن معدل الذهاب إلى الكنيسة في روسيا قد تجاوز حقًّا ٢٠٪، أي أعلى من أي دولة من دول غرب أوروبا.

أثناء فعاليات المؤتمر، تحدث شخص ما مع ريتشارد وأعطاه رسالة تحتوي على دعوة إلى زيارة الأستاذ الأكاديمي أجيف في معهد أبحاث المعادن. لم يفهم ريتشارد سر هذا الأمر، لكنه كان مستعدًّا لتجربة أي شيء. حضرت سيارة وأقِلَّ ريتشارد إلى مبنى متوسط الحجم واقتِيد إلى حجرة مكتب ضخمة حيث تعرَّف هناك إلى أجيف، وقدم له شراب، وبوساطة مترجم بدأ الحديث عن حديد جاما، محور اهتمام أجيف العلمي. استمرت هذه المحادثة الثلاثية الأطراف قرابة ساعة، وأعقبتها جولة سريعة في المختبر. وحينما عاد ريتشارد إلى ووترتاون، أخبره الدكتور لاري كوفمان أن أجيف يجيد كثيرًا التحدث بالإنجليزية. وما سبب الخجل؟ لم يتمكَّن ريتشارد من استنتاج تفسير لذلك غير أن النزعة القومية وسياسة الحزب الحاكم أجبرتا أجيف على اصطناع هذه التمثيلية. فلم يكن ممكنًا أن يظهر الروس الود والحميمية للغربيين.

كان الأكاديمي بيتر كابيتزا أسطورة في عالم الفيزياء، لا سيما في أبحاث درجة الحرارة المنخفضة ومجال المغناطيسية العالية. وكان ريتشارد يتطلع إلى رؤيته في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر المغناطيسية. ففي أثناء وجوده في مختبرات كافينديش عامي ١٩٥٦ و١٩٥٧، كان اسم كابيتزا يُذكر أمامه كثيرًا. كان كابيتزا قد هاجر إلى إنجلترا أثناء ثورة لينين في بيتروجراد، وتولى منصبًا تحت رئاسة راذرفورد في كامبريدج. تمكن هناك من إنتاج حقول مغناطيسية عالية جدًّا لبضعة أجزاء من الثانية عن طريق تفريغ مجموعة من المكثِّفات بواسطة ملف مغناطيسي. وفي عام ١٩٢٩، أصبح أول عالم أجنبي منذ ٢٠٠ سنة يُنتخب للانضمام إلى الجمعية الملكية.

كان من عادة كابيتزا زيارة روسيا كل صيف لرؤية أمه، لكن عام ١٩٣٤ قرر ستالين احتجازه في روسيا. وضع الإنجليز معداته التجريبية في قفص شحن وأرسلوها إليه بعد أن دفع الروس التكاليف كلها. وأثناء الحرب العالمية الثانية، رفض العمل على صنع القنبلة الذرية فاعتُقل، ولكن عقب موت ستالين، نُصب رئيسًا لمعهد أبحاث كبير له احترامه.

وبعد أن حُرِّر من «الحبس» داخل البلاد، زار الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل الثمانينيات بعد فوزه بجائزة نوبل. ويذكر ريتشارد القصة التي سردها كابيتزا في هارفارد ليوضح مزايا النظام الشيوعي. كان فني ماهر قد ترك عمله في مختبر كافينديش في إنجلترا ليدير العديد من متاجر الجزارة التي ورثها حين مات عمه.

وقال كابيتزا للمستمعين مؤكدًا: «ما كان هذا ليحدث في روسيا قط. لقد فقد المجتمع فنيًّا ممتازًا.»

توقف كابيتزا في طريقه إلى الولايات المتحدة لزيارة مأواه في مختبر كافينديش. وعلى العشاء في كليته القديمة، أدرك أنه يفتقد الرداء الجامعي الذي يرتديه الجميع أثناء تناول وجباتهم. لذلك، طلب من الحارس أن يجد له رداءً، وبعد عشر دقائق عاد الحارس ومعه رداء كابيتزا الذي كان لا يزال معلقًا على مشجب في حجرة إيداع المعاطف والقبعات، حيث تركه قبل خمسين عامًا تقريبًا!

شهد عام ١٩٧٣ جهودًا عظيمة من جانب اليهود الروس كي يهاجروا إلى إسرائيل. وقد أوضح دكتور أزبل، بوصفه أحد العلماء الذين كانوا يريدون الهجرة، الأمر لريتشارد بقوله:

«الأمر لا يتعلق مطلقًا بأي ميول دينية. فأنا لا أذهب إلى أي دار عبادة رسمية. كل ما في الأمر أن قلبي ليس في روسيا على الرغم من نشأتي هنا.»

على الجانب الآخر، ادعى الروس أنهم علَّموا هؤلاء العلماء على نفقة الدولة ولا يمكنهم أن يتركوهم يرحلون إلى معسكر العدو. وفي واقع الأمر، كان الروس قلقين من احتمال حدوث هجرة جماعية للعلماء من المختبرات الروسية. ومن ثَم، أصبحت سياسة رسمية أنه حالما يطلب يهودي تأشيرة خروج، يجري فصله من وظيفته وحرمانه من أي وظائف أخرى. فكان هؤلاء العلماء يعقدون اجتماعات في منازل بعضهم، لكي يحافظوا على علمهم. وأثناء وجود ريتشارد في موسكو، دُعي إلى حضور إحدى هذه الجلسات لكنه رفض، حيث إنه يشغل منصبًا رسميًّا بمؤتمرات ساجامور، ولم يرغب في أن يستعدي أحدًا. واستغرق الأمر بضع سنوات من الضغط الدولي لحث الروس على إطلاق سراح هؤلاء اليهود. وقد انتهى المقام بالعديد منهم — من بينهم أزبل — في الولايات المتحدة الأمريكية.

وعلى متن طائرة العودة إلى لندن التابعة إلى شركة الخطوط الجوية البريطانية الأوروبية، تنفَّس ريتشارد الصعداء. كان ذلك رد فعل طبيعيًّا للغربيين حينما يغادرون روسيا. وقد أخبرته مضيفة الطيران قصة اثنين من طياري الشركة حُذِّرا من الإفراط في الحديث داخل غرفتيهما بالفندق لأنهما قد تحتويان على أجهزة تنصت. قرر هذان الطياران البحث عن أجهزة التنصت، وسحبا السجادة ليجدا لوحًا معدنيًّا مثبتًا في الأرضية. وبعد أن تمكنا من فك المسامير، سمعا صوت تهشم الثريا بالحجرة السفلى على أرضية الغرفة.

عاد ريتشارد إلى ووترتاون لكي يستمر في أبحاثه على مخططات الكومبتون. وبحلول ذلك الوقت، كانت هناك عشر مجموعات على الأقل في أنحاء العالم منهمكة في هذه القياسات. كان الباحثون النظريون والباحثون التجريبيون على حد سواء قد انسجموا بفعالية ونشاط مع كميات حركة الإلكترونات، مما أدَّى إلى تفاعل صحي فيما بينهم حيث يتعلم بعضهم من بعض. كان قد مضى ٥٠ عامًا تقريبًا منذ أن ظهرت معادلة شرودينجر، وكانت في ذلك الوقت تتعرض لأقصى الاختبارات. لقد كانت اكتشافًا رائعًا عام ١٩٢٦، لكن بعد مراجعتها فيما يتعلق بكميات حركة الإلكترونات، أو مواقعها، أو طاقاتها، لم تقدم أي قيمة.

كانت صحيفة «بوسطن جلوب» تنظم معرض ماساتشوستس للعلوم كل عام داخل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كمسابقة نهائية للطلاب الذين حصدوا أعلى الجوائز في المعارض المحلية. شارك ريتشارد في اللجنة المنظمة ليشرف على التنظيم ويؤدي دورًا محكمًا في المعرض. كانت هذه مهمة ممتعة؛ إذ كان طلاب المدارس العليا هؤلاء غير متقيدين بالمعرفة النظرية المفرطة، وغالبًا كانت المشروعات التي يعملون عليها أكثر إبداعًا مما يمكن أن يتخيله العلماء المتخصصون. كانت هناك تجارب تستمر عامًا كاملًا لإثبات أن التحدث إلى النباتات يزيد من معدل نموها، أو أن تدخين التبغ يمكن أن يقتل النباتات، وأي شيء آخر قد يتبادر إلى مخيلتهم.

ولا يزال ريتشارد يتذكر طالب الصف التاسع الذي كان مهتمًّا بالعناكب. فقد وزن بعناية ذبابات الفاكهة التي أطعمها لها، وبيَّن أن كتلة الذبابات كلها تتحول إلى حرير عنكبوت؛ أي إن العناكب لا تترك أي مخلفات على الحوائط كما يفعل الذباب. ولم تكن العناكب تحول مخلفاتها إلى حرير فحسب، لكنها كانت تستطيع أن تتسلق الخيوط وتلتهم الحرير لإعادة تخزينه في حوصلتها لكي تعيد استخدامه في غزل شبكتها. وباختصار، فإن العناكب ابتكرت رياضة القفز من أماكن عالية بالحبال المرنة.

طرأ العديد من الأسئلة المثيرة حول الخصائص المادية لحرير العنكبوت. لقد خزنت المخلفات على شكل سائل لكن حينما غزلت سرعان ما تصلبت. فلو استطاع المرء نسج حرير العنكبوت في شكل مادة، لاتضح بذلك التحول التِّجاري المباشر لذباب الفاكهة إلى قماش. لكن للأسف، العناكب حشرات تفضل العزلة ولا يمكن إنشاء مستعمرة لها مثل دودة القز.

قرأ ريتشارد عن عالم الأحياء الذي حاول أن يحدث اضطرابًا في الإيقاع الحيوي اليومي للعناكب على أمل أن تغزل نسيجها أثناء النهار بدلًا من الليل. أعطى ذلك العالم العنكبوت عقار المسكالين لكنه أخفق في تغيير ساعات إنتاج العنكبوت نسيجها. وبدلًا من ذلك، غزل العنكبوت شبكات ذات تصميمات مجنونة.

مثل الكثير من المواد «الحية» التي تتواجد في الطبيعة لوظائف القوة؛ كالخشب، والعظم، والشعر، والحرير، والأظفار، وما إلى ذلك؛ فإن البنية الجزيئية لحرير العنكبوت قد صُنفت ضمن المواد التي تتحمل الشد والتوتر. وكلما زاد طول السلاسل الجزيئية، زادت اللزوجة. ولا شك أنه بينما تغزل العنكبوت نسيجها، تتبلمر الجزيئات ذات السلاسل الطويلة، بطريقة شبيهة لما يفعله طبيب الأسنان عندما يستخدم العلاج بالأشعة فوق البنفسجية في الحشو البلمري. ويبدو أن العنكبوت تستطيع أن تعكس هذه العملية عندما تلتهم الحرير الخاص بها، محولة الحرير العالي اللزوجة إلى سائل منخفض اللزوجة يُخزَّن في حوصلتها.

ومن المثير للاهتمام أن حرير العنكبوت أقوى من الصلب. فلو تمكن أحد من تصنيع حرير العنكبوت وتخزينه في وعاء، فيمكن أن يتكوَّن لديه منتج رخيص ذا أهمية تجارية. إلا أنه من الممكن تصنيع ألياف صناعية بلمرية مثل الكيفلار تكون بنفس قوة حرير العنكبوت لكنها أغلى ثمنًا.

كانت إحدى مشكلات معرض العلوم هي قلة عدد السيدات المشاركات في ذلك المجال. اكتشف ريتشارد وجود أستاذة للهندسة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ورتب لرؤيتها. أعجب ريتشارد بها بشدة واقترح ضرورة أن تتحدث إلى المتنافسين في المعرض عن مميزات امتهان مهنة علمية ولا سيما للسيدات. وافقت السيدة على أن تلقي كلمة رسمية على الطلاب المجتمعين وأساتذتهم. ولا شك أن ذلك كان له بعض الأثر على المجموعة. وقد أصبحت تلك الأستاذة، شيلا ويدنال، عميدة إحدى الكليات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ثم سكرتيرة القوات الجوية في إدارة الرئيس كلينتون.

في عام ١٩٧٤، حاول ريتشارد مرة أخرى حث الأوصياء على وديعة بلانشارد على تنفيذ شروط وصية هنري لوتن بلانشارد. لكنه جرب حيلة جديدة. فلماذا لا ترمم الحانة الأصلية، التي كانت تمتلكها عائلة بلانشارد فيما مضى، وتدار على غرار حانات القرن الثامن عشر؟ وهذه المرة تلاشت الصعوبات أمام ريتشارد خاصة حين تُوفي أحد الأوصياء، واضطر الأربعة الباقون إلى انتخاب بديل له. ووافقوا على فكرة ترميم الحانة، ولديهم فهم ضمني أن ريتشارد سيتولى الجزء الأكبر من المهمة. وافق ريتشارد على ذلك وانتُخب وصيًّا خامسًا.

بدأ ريتشارد في السنوات القليلة التالية في البحث الذي يفترض أن يقدم له صورة موثوقة عن حانة على الطراز الاستعماري. كانت ويليامزبيرج هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يجد فيه أمثلة على حانة عاملة بالفعل، فزار حانتي رالي وتشاونينج. وقرأ كتبًا عديدة قدمت له كمًّا ضئيلًا من المعلومات ذات الصلة بحياة الحانات من المشروبات والمأكولات ووسائل التسلية، وما إلى ذلك. كانت حانات ويليامزبيرج تحتوي على عازفي قيثارة متنقلين، لكن لا يكاد المرء يسمع أصواتهم بسبب الضجة الكبيرة التي يحدثها الأشخاص الذين ينهمكون في تناول أطعمتهم أو طلبها والعمال الذين يرفعون الأطباق المتسخة عن الموائد. قرر ريتشارد في نفسه ضرورة أن تكون الصداقة هي المكون الرئيسي في إشاعة «مناخ» الحانة الحقيقي، وأنه يجب أن يظل كل ما يصرف الانتباه في حدوده الدنيا.

واجهت الأوصياء مشكلة كبيرة. فقد كانت حانة بلانشارد القديمة قد تحولت إلى مبنًى للبلدية ومكتبة عام ١٩٣٩، ومن ثَم وجب بدء المفاوضات لشراء المبنى. وفي واقع الأمر، كانت البلدية سعيدة بتلقي هذا العرض؛ فقد شعروا بالاختناق داخل المبنى القديم. وسيكون الانتقال إلى مبنًى جديد محل ترحيب. اشترى الأوصياء المبنى التاريخي عام ١٩٧٥، وبدأ ريتشارد مهمته في ترميم حانة على الطراز الاستعماري وإدارتها في النهاية.

كانت إحدى طالبات الدراسات العليا في التاريخ منهمكة في البحث في تاريخ المبنى وتاريخ عائلة بلانشارد، وفي تقديم أي مساعدة في مقدورها لتوجيه الأوصياء في جهود الترميم التي يقومون بها. اقتفت هذه الباحثة تاريخ المبنى إلى وقت بيعه أول مرة عام ١٧٥٢ مقترحة أن يكون قد بُني في وقت ما من أربعينيات القرن الثامن عشر. وأشارت مناقشات ريتشارد مع «الخبراء» في ويليامزبيرج، وقرية ستيربريدج، وجمعية الترميم بنيوبورت، ومع أي شخص ادعى أن له معرفة بالماضي أنهم جميعًا يعرفون أدق التفاصيل عن الحانات ذات الطراز الاستعماري. لكن لم يتفق اثنان منهم على شيء واحد!

أصبح الحس السليم والحلول الوسطى هما المبادئ الموجهة خلال عملية الترميم. ومن حسن الحظ كان أحد الأوصياء رئيسًا لشركة مقاولات محلية، ومن ثَم كان بمقدوره تعيين العمال المحليين والإشراف عليهم. تضمنت المهمة الأولى إزالة كل الإضافات الحديثة غير الضرورية، مثل البلاط وأوراق الحائط التي كانت تغطي الأرضية والسقف. كانت الأرضيات الخشبية الأصلية الواسعة سليمة تحت البلاط، وكذلك كان كل من الكساء الخشبي وأعمدة الأسقف الأصلية التي ضمها المبنى سليم هيكليًّا. أُزيل عشرون طنًّا من البلاط وأغطية الحوائط. كما أُزيلت الدهانات، وأصلحت المواقد الأصلية، وأُعيد تعليق الأبواب القديمة المخزَّنة في العلية. ورُكِّبت حوامل مصابيح جدارية متماثلة من أجل الإضاءة، وصُنع مشرب على غرار مشرب أصلي وجد في حانة في ويرهام بماساتشوستس لغرفة المشروبات.

جاء دور الفيزياء في المساعدة في عمليات التخطيط. لفت انتباه ريتشارد مقالة للبروفيسور سانبورن براون عن المشروبات السائدة في الحقبة الاستعمارية. وكان بروان قد أمضى ٣٠ عامًا في البحث في طرق صنع المشروبات في الحقبة الاستعمارية واستخدم تلامذته حقولَ تجارب. ولما لم يفقد واحدًا منهم، فقد ألف كتابًا بعنوان: «أنواع الخمور والجعة في نيو إنجلاند». ونظرًا لكونه عميدًا للفيزياء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فقد تناول الموضوع بطريقة علمية وصنف بحثًا محكم الصياغة عنه. من ناحية أخرى، سافر ريتشارد إلى نيو هامبشاير لمناقشة بعض التفاصيل مع براون الذي كان قد تقاعد في ذلك الوقت، وقد ساعد هذا ريتشارد في وضع قائمة مشروبات «أصيلة».

حتى الشاي كان يمثل مشكلة تحتاج إلى بحث. فقد كان المشروب الذي ألقي به في ميناء بوسطن في ديسمبر عام ١٧٧٣ من نوع يطلق عليه «بوهي» نسبة إلى تل في الصين. ولم يعد هذا النوع متوفرًا في الوقت الحالي، ولم يكن أحد يعرف نوع شاي متوفر في الأسواق يشبه النوع القديم؛ فيما عدا السيد تونينج، وهو رئيس مؤسسة لندن الشهيرة. أخبر ذلك الرجل ريتشارد بأن الشاي الصيني «كيمون» هو أقرب أنواع الشاي الحديثة شبهًا بشاي بوهي. فعلى العكس من شاي «سيلان»، يمكن تخمير شاي كيمون ساعات والاحتفاظ به جاهزًا ليقدم للزبائن في وعاء معدني كهربي.

أما الوجبات الخفيفة مثل فطيرة الخنزير، وفطيرة اللحم، والقشدة المخفوقة مع الخمر، وكعكة التوابل … إلخ، فقد اختِيرتْ على غرار ما شاع تقديمه في هذه الفترة. وكما هي الحال في الحانات الإنجليزية، كان الزبائن يطلبون أطعمتهم ويحصلون على مشروباتهم على المشرب، مما يمكِّن العازفين من العزف دون إزعاج يذكر.

وقد مثلت قائمة الأطعمة جهدًا ناجحًا في توفير أطباق ترضي أذواق الجزء الأكبر من الزبائن.

اقترحت الضغوط القادمة من عالم الفيزياء أن مؤتمرات ساجامور في حاجة إلى راعٍ حسن السمعة بدلًا من التنظيم الارتجالي الذي شهدته المؤتمرات في العقد الأول لتنظيمها. لذلك حدث أن رفع ريتشارد وإيروين (برتو) — بصفتهما رئيسين لمؤتمرات ساجامور الأول والثاني والثالث على التوالي — طلب التماس إلى «الاتحاد الدولي لعلم البلورات» عام ١٩٧٣ لإضافة لجنة أخرى عن كثافة الشحنة، والدوران، وكمية الحركة؛ إلى لجانه الحالية. وقد قُدم الطلب عام ١٩٧٣:

طلب إلى الاتحاد الدولي لعلم البلورات

«نتقدم نحن الموقعَين أدناه بصفتنا منظمَين لمؤتمرات ساجامور في كثافة الشحنة، والدوران، وكمية الحركة؛ بهذا الطلب إلى مجلس إدارة الاتحاد الدولي لعلم البلورات لإنشاء لجنة خاصة لعمليات توزيع الإلكترونات اعتبارًا من ١ يناير عام ١٩٧٤، كي تضطلع بدور ومهام مؤتمرات ساجامور. فموضوع عمليات توزيع الإلكترونات (كثافة الشحنة، والدوران، وكمية الحركة) مهم للغاية، حتى إن الأمر يدعو إلى إنشاء لجنة خاصة به، وسوف يفعل الكثير لزيادة درجة الاتصال بين فيزيائيي الحالة الصلبة، وعلماء الفيزياء النظرية، والكيميائيين، وحتى علماء الفيزياء النووية (اندثار البوزيترون) مع علماء البلورات. يضم سجل مؤتمر ساجامور حاليًّا أكثر من ٤٠٠ عالم من جميع أنحاء العالم، وكانت قوائم العلماء في ازدياد من مؤتمر إلى آخر كل ثلاث سنوات.»

جاء بعد ذلك الطلب تاريخ موجز عن المؤتمرات، وفقرة عن الطريقة التي من خلالها ستساعد هذه اللجنة علماء البلورات، وبضع فقرات أخرى عن كثافة الشحنة، والدوران، وكمية الحركة. وقد نجح ذلك الطلب في إقناع الاتحاد الدولي لعلم البلورات، وكُللت مساعي «جماعة» ساجامور بالنجاح. ضم أعضاء اللجنة الأصليون البالغ عددهم اثني عشر فردًا ممثلين للولايات المتحدة، وفرنسا، وأستراليا، وألمانيا، وروسيا، وفنلندا، واليابان، وإنجلترا. وما بدأ داخل أحد مختبرات الجيش في ووترتاون غزا العالم كله الآن، ليوضح أن الأبحاث العلمية أقوى من السيف.

سافر ريتشارد إلى أستراليا مرة ثانية عام ١٩٧٤ بعد ١٥ عامًا من زيارته السابقة حينما اختِير المكان الذي ستنشأ به دار أوبرا سيدني. استغرق إتمام الأوبرا خمسة عشر عامًا لتكون أحد أكثر مراكز أداء العروض المسرحية إثارة للإعجاب في العالم. كانت مناسبة الزيارة مؤتمر الاتحاد الدولي لعلم البلورات في ملبورن. وقد بذل الأستراليون جهدًا عظيمًا للترحيب بالحاضرين. كانت صيغة الدعوة الرسمية كالتالي:
حكومة فيكتوريا تدعو د. آر جيه وايس لحفل في مبنى البرلمان، ملبورن يوم الثلاثاء الموافق ٢٠ أغسطس ١٩٧٤ في السادسة مساءً.

بعد يومين أقيمت مأدبة المؤتمر في «القاعة الكبرى» لمعرض فيكتوريا الوطني، وهي مكان واسع مفتوح أبعاده ١٠٠ قدم × ٥٠ قدمًا وبه سقف من الزجاج الملون على ارتفاع ٨٠ قدمًا. أما قائمة الأطعمة التي احتوت على الباتيه، والسلمون المسلوق، واللحم بالخضراوات، وفصوص البرتقال في الخمر المحلاة، والجبن الأسترالي، فقد أكملتها مجموعة من الخمور الأسترالية التي ضمت الريزلينج والموذيل، وزجاجتان من الخمور الحمراء، والماديرا.

كان ريتشارد يرى أن متحف الفنون بملبورن هو أفضل متحف من نوعه في نصف الكرة الجنوبي. وهذا الصرح قد مولته جزئيًّا إحدى شركات الأدوية، لكن ثار حوله الجدل مؤخرًا لشرائه لوحة بن بولاك الضخمة «الأقطاب الزرقاء» مقابل مليون جنيه استرليني. قضى ريتشارد نصف ساعة في استراق السمع إلى زوار المتحف الذين كانوا يشككون في مدى صحة إنفاق مثل هذه النفقة على الفن التجريدي، مهما عظم قدره. وكان رئيس المتحف قد برر شراء هذه اللوحة بأنه استثمار. وترى الغالبية العظمى من الأستراليين أن الرهان على أحد الخيول استثمار مبرر؛ إذ ليس على المرء أن ينتظر طويلًا كي يعرف النتيجة. لكن في حالة لوحة مثل هذه الصور التجريدية الغامضة، يبدو الأمر أقرب إلى الجنون منه إلى الاستثمار.

في ذلك الوقت تقريبًا عُيِّن بوب ستريت، وهو باحث نظري بريطاني معزول نشر بعض الأبحاث على المغناطيسية الحديدية المضادة في الكروم؛ عُيِّن نائبًا لرئيس إحدى الجامعات الأسترالية، وأقنع ريتشارد أحد الأشخاص في سكرتارية الأكاديمية الأسترالية للعلوم أن يرسل إلى بوب برقية تهنئة بالكلمات التالية:
الأكاديمية الأسترالية للعلوم
المغناطيسية الحديدية المضادة دائمًا

الأكاديمية الأسترالية للعلوم وديك وايس يهنئانكم بمناسبة تولي المنصب الجديد.

حفظ الله الملكة
ووترتاون

لم يعترف بوب ستريت قط بالجائزة.

استمتع ريتشارد وبيل رييد بجولة بحرية حول ميناء سيدني، إحدى مناطق الإبحار الرائعة. وتحدث ريتشارد أيضًا عن مؤسسات الأوبال. كانت هذه الجواهر التي يتغير لونها عندما يتشتت الضوء بزوايا مختلفة آخر الأحجار الكريمة التي تنتج اصطناعيًّا. فهناك مجموعة من الشوائب الدخيلة في الأوبال تشتت الضوء بزوايا معينة تمامًا مثلما تشتت الذرات في البلورة الأشعة السينية.

عاد ريتشارد من أستراليا متلهفًا على متابعة تقدم العمل في الحانة، والاستمرار في العمل على عمليات توزيع الإلكترونات. كان مؤتمر ساجامور الخامس (ساجافينسك) قد بدأ يتطلب بعضًا من اهتمامه، ولكن هذا الاهتمام تحول فترة من الوقت الذي انشغل فيه ريتشارد بتأليف أحد الكتب الدراسية.

أقنع ليونيد آزاروف، رئيس قسم علم المعادن بجامعة كونيتيكت في ستورز، وزارة الدفاع بأن تخصص أموالًا لتأليف كتاب عن انحراف الأشعة السينية، وأقنعهم بأنه لا يوجد كتاب يوفي باحتياجات السبعينيات وما بعدها. وكلف ليونيد خمسة خبراء آخرين بتأليف مجلد يشمل المجال بالكامل. انضم روي كابلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ونوراي كاتو من جامعة ناجويا، وآرثر ويلسون من جامعة بيرمينجهام بإنجلترا، وراي يونج من معهد جورجيا للتكنولوجيا إلى وايس وآزاروف في هذا المسعى. وكانت لدى ريتشارد تحفظات مفادها أن الكتاب الذي يشترك في تأليفه عدة مؤلفين لن يكون أكثر من مجموعة من الإسهامات الفردية المنفصلة. لكن ليونيد كان ذا قدرة على الإقناع، واجتمع الفريق في أماكن مثل كيب كود، وجرينوبل، وستورز؛ لحل المشكلات المتعلقة بتأليف كتاب مترابط الأجزاء.

أثبت ليونيد أنه منظم كفء وأدار الاجتماع بالقدر المناسب من التحكم والتشجيع. وبدد الناتج النهائي أي شكوك شعر بها ريتشارد فيما يخص فعالية الكتاب. كان جهدًا شاقًّا بذله الجميع، لكن الإصرار وضع الفريق في مسعًى روحي نبيل. تضمنت ذكريات ريتشارد عددًا لا نهائيًّا من المحاولات لجعل كاتو يخبرهم بقصة طريفة، وهي أحد الاختلافات الواضحة التي وجدها ريتشارد بين الثقافتين الغربية والشرقية. ادَّعى كاتو استحالة أن يحكي واحدة من تلك القصص لمستمعين غربيين، لكنه أصر على وجود ممثلين كوميديين يابانيين. فقد كان صحيحًا بكل تأكيد أن اليابانيين يشعرون بالسرور من مشاهدة البرامج التلفزيونية التي يشعر فيها الأفراد بالحرج، والخوف، والانزعاج، وهي مواقف يراها الغربيون خالية من الذوق.

نُشر الكتاب بواسطة دار «ماكجرو هيل» عام ١٩٧٤، لكنه لاقى نجاحًا محدودًا. وقد تناولت صفحاته الستمائة والخمسون — وفيها ثلاثون صفحة من المراجع — معظم جوانب تفاعل الأشعة السينية مع المادة.

تقاعد ريتشارد من ووترتاون وأقيم حفل وداعه وفق الطرق القياسية. فقد تقدم بطلب رحيل إلى الإدارة التمس فيه أن يُوظَّف مستشارًا بلا أجر. كان هذا سيعطيه تصريحًا بزيارة الترسانة في أي وقت شاء. وقد قوبل التماسه بالرفض، ولم يدرِ قط الشخصية التي أزعجها من بين أصحاب النفوذ داخل الإدارة لكي ينكروا عليه هذه الميزة. ولم يكن ذلك ذا أهمية؛ فقد شرع في الاستعداد لمهنته الجديدة. وفي الحقيقة جاء تقاعده في الوقت المناسب؛ حيث تزامن مع الأعراض المبكرة لمشاكل الذاكرة. فذات مرة قابل ريتشارد مصادفة بيل ليبسكومب من جامعة هارفارد الذي كان قد حصل على جائزة نوبل قبل بضعة أعوام فقط. قدَّم بيل ريتشارد إلى صديقه، لكن ريتشارد عجز عن رد المجاملة؛ إذ كان قد نسي اسم بيل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤