الفصل الثاني عشر
قال إيفانوف لسانين: «تعالَ عندي نحيي ذكرى الفقيد.»
فهز سانين رأسه دلالة على الموافقة واشتريا في طريقهما شيئًا من الفودكا والخضر وأدركا يوري وكان يتمشى مستمهلًا في الميدان وعلى وجهه كآبة شديدة.
«إن الأمر بسيط على كل حال. لم يكن الإنسان موجودًا قبل أن يولد وليس في هذا شيء مفزع أو غير مفهوم. والإنسان ينتهي وجوده متى مات. وهذا — كسابقه — بساطة وسهولة إدراك؛ فالموت — وهو الوقوف التام للأداة التي تخلق القوة الحيوية — فهمه ميسور على أتم وجه، وليس فيه ما يفزع الخاطر، ولقد غبر زمن كان فيه غلام اسمه «يورا» ذهب إلى الكلية وضارب زملاءه وكان يتلهى ويروح عن نفسه بأن يقطع رءوس الأشواك ويقضي حياته الخاصة الممتعة على النحو الخاص به. وقد مات «يورا» هذا وذهب في سبيل من خلا، وحل محله رجل آخر يمشي ويفكر هو الطالب «يوري»، ولو أنهما التقيا لما وسع «يورا» أن يفهم «يوري»، ولعله يمقته ويرى فيه أستاذًا مربيًّا يحمله ما لا آخر له من المتاعب. لهذا كان بينهما بون يتعاظم المجتاز. ولهذا أيضًا أرى أني أنا قد قضيت نحبي بموت الغلام «يورا» وإن كنت لم أفطن لهذا من قبل. هذا هو واقع الأمر. وإنه لطبيعي بسيط! وماذا يخسر الإنسان بأن يموت؟ إن الحياة على كل حال يرجح فيها الشقاء بالسعادة. نعم إن لها مسراتها وما أقسى أن ينفض المرء يده منها! ولكن الموت يريحنا من كثير من البلايا والشرور فنحن في نهاية الأمر نستفيد به ونربح من ورائه. ما أبسط هذا وأقل عناصر الفزع فيه! أليس كذلك؟»
قال يوري آخر جملة بصوت عال وتنفس الصعداء غير أنه فزع فجأة فقد طاف برأسه خاطر لداع.
«كلا! عالم بأسره، حافل بالحياة، معقد الأمر إلى حد يتجاوز المدارك، هذا العالم يحول فجأة إلى عدم؟ كلا! ليس هذا في شيء من تطور الغلام «يورا» وصيرورته الرجل «يوري» إن هذا سخيف مثير وهو لذلك مفزع غير مفهوم!»
وجاهد يوري بكل ما استطاع من قدرة أن يكون لنفسه فكرة عن هذه الحالة التي لا يرى أحد أن في الطوق احتمالها، والتي يحتملها كل امرئ على الرغم من ذلك كما فعل سمينوف.
وعاد يوري إلى مخاطبة نفسه وهو يبتسم لغرابة الخاطر فقال: «ولم يمت خوفًا مع ذلك! كلا! لقد كان يضحك منا جميعًا ويهزأ بقسيسنا وتراتيلنا وعبراتنا. ألا كيف وسع سمينوف أن يضحك وهو موقن أنه بعد دقائق لا يكون؟ أتراه كان بطلًا؟ كلا! ليست المسألة مسألة بطولة. إذن فالموت ليس من الهول بحيث أتوهم!»
وإنه لكذلك وإذا بإيفانوف يحييه فجأة بصوت مرتفع فسأله يوري وهو يرجف: «آه! هذا أنت! أين تراك ذاهب؟»
فقال إيفانوف بجذل وحشي: «إلى الصلاة على روح صديقنا الفقيد! والخير لك أن تمضي معنا. ما خير أن تظل دائمًا مستفردًا؟»
ولما كان يوري حزينًا مهمومًا فإنه لم يجتنب سانين وإيفانوف كالعادة وقال: «حسن جدًّا. سأمضي معكما.»
ثم ذكر فجأة بعد المدى بينه وبينهما وأنهما دونه مواهب وملكات فقال لنفسه: «أي جامعة بيني وبين مثل هذين؟ أأشاربهما الفودكا وأروح أهدر مثلهما؟»
وهم أن ينصرف عنهما ولكن إشفاقه من الوحدة بلغ منه مبلغًا دفعه إلى البقاء معهما.
ولم ينبث سانين ولا إيفانوف بشيء ووصلوا جميعًا في صمت إلى بيت إيفانوف، وكان الظلام قد أرخى سدوله وبدا لهم شبح رجل واقف عند الباب ومعه عصا غليظة معوجة اليد، فقال إيفانوف مغتبطًا: «إنه العم بيتر إيليتش.»
فأجابه الشيخ بصوت عميق رنان: «نعم هو بعينه.»
وذكر يوري أن عم إيفانوف شيخ سكير ينشد التراتيل في الكنيسة وكان شاربه أبيض فأكسبه ذلك منظر الجندي على عهد نيقولا الأول. وشم من معطفه الأسود البالي رائحة كريهة.
«بوم. بوم» هكذا كان صوته فكأنه خارج من جوف برميل.
وعرفه إيفانوف بصاحبه يوري فصافحه وهو لا يدري ماذا يقول لمثل هذا الرجل. على أنه ذكر أن الناس ينبغي أن يكونوا سواء عنده، فتأدب مع المغني الكهل وتركه يتقدمه في الدخول.
وكان بيت إيفانوف أشبه بمخزن أخشاب منه بمسكن إنسان لكثرة التراب وقلة الترتيب والنظام.
ولكن إيفانوف لم يكد يشعل المصباح حتى وجد يوري أن الجدران مغطاة بصور فامنتسوف وأن ما خاله أقذارًا ليس سوى كتب مكدسة أكوامًا على أن هذا لم يخفف من ضيقه فذهب يتأمل الصور ليخفي ما به.
وسأله إيفانوف: «أتحب فامنتسوف؟» ولم ينتظر الجواب بل غادر الغرفة طلبًا للصحاف.
ونعى سانين صديقهم سمينوف إلى بيتر فقال هذا: «رحمه الله! آه! لقد قضي أمره!»
فرماه يوري بنظرة المستطلع وأدركه العطف على هذا الشيخ الهرم.
وعاد إيفانوف بخبز وكئوس وبشيء من الخضر المملحة ووضعها على المائدة وكانت مغطاة بجريدة. ثم فتح زجاجة بسرعة لا تكاد تحس وبحذق بالغ منه مع السرعة أن لم تسل قطرة واحدة.
فقال بيتر معجبًا موافقًا: «يد صناع!»
فقال إيفانوف بلهجة الراضي عن نفسه وهو يملأ الكئوس بالشراب الأخضر. «إنك تستطيع أن تتبين في لحظة: هل المرء عارف بما يعالج أم جاهل به»
ثم رفع صوته وهو يتناول الكأس وقال: «والآن أيها السادة لنشرب على ذكر الفقيد إلخ!»
وشرعوا يأكلون وأصابوا من الفودكا كثيرًا وأقلوا من الكلام وأكثروا من الشراب، وما هي إلا برهة حتى عاد جو الغرفة حارًّا ثقيلًا.
وأشعل بيتر سيجارة فاختلط بالهواء الدخان الأزرق المتصاعد من الطباق الرديء. فدار رأس يوري من الخمر والدخان والحرارة وجرى بباله سمينوف مرة ثانية فقال: «إن في الموت شيئًا مفزعًا.»
فسأله بيتر: «لماذا؟ الموت؟ هو هو هو! إنه لا بد منه، الموت؟ تصور أن يحيا الإنسان أبدًا؟ هو هو! لا ينبغي لك أن تتكلم على هذا النحو. الحياة الأبدية حقًّا ماذا عساها أن تكون؟»
فعالج يوري أن يتصور الحياة الأبدية كيف تكون، فارتسم لعينه خط أبيض ضارب إلى السواد ممتد إلى غير غاية في الفضاء كأنما تقذفه موجه وتلقفه أخرى، واستعجمت كل صورة للألوان والأصوات والعواطف وتسرب بعضها في خلال بعض وغابت في ثنايا جدول مريد ينحدر أبدًا. وليس هذا في شيء من الحياة وما هو إلا الموت الدائم، فاستهول هذا الخاطر وتمتم: «نعم لا شك.»
وقال إيفانوف: «يظهر أن الأمر عظيم الوقع في نفسك.»
فسأله يوري: «ومن ذا الذي لا يعظم وقع الموت في نفسه؟»
فهز إيفانوف رأسه هزة مبهمة المعنى وشرع يحدث بيتر عن آخر ساعات سمينوف. وكان الهواء في الغرفة قد صار لا يطاق. وراقب يوري إيفانوف وهو يرشف الفودكا المتألقة في ضوء المصباح وبدا له أن كل شيء يدور ويجول. وهمس في أذنه صوت غريب ضئيل: «آ آ آ»
فقال وهو لا يدري أنه إنما يرد على هذا الصوت العجيب الهامس: «كلا! إن الموت شيء فظيع!»
فلاحظ إيفانوف متهكمًا: «إنك تضطرب له أكثر مما يجب.»
فقال يوري: «أَوَلست أنت كذلك؟»
– «أنا؟ كلا! لا ريب أني لا أشتهي الموت فليس فيه متعة كبيرة ترغب. والحياة أشهى منه وأمتع. ولكن إذا كان لا بد من الموت فإني أحب أن يكون وحيًا وأن تخلو موافاته من الجلبة والكلام الفارغ.»
فضحك سانين وقال: «وإنك لم تجرب الأمر بعد!»
فأجابه إيفانوف: «كلا! هذا صحيح.»
فقال يوري: «لقد سمعنا كل هذا من قبل. قولوا ما شئتم فالموت هو الموت وهو فظيع في ذاته وكفى هادمًا لكل لذة في الحياة أن يفكر المرء في هذه الخاتمة العنيفة التي لا مفر منها. ما معنى الحياة؟»
فصاح به إيفانوف متضايقًا: «لا معنى لها.»
فأجابه يوري: «كلا، هذا مستحيل، إن كل شيء أحكم نظامًا وأبرع ترتيبًا من …»
فقال سانين مقاطعًا: «إن رأيي أنه ما من خير في أي شيء.»
فقال يوري: «كيف تذهب إلى هذا؟ وما قولك في الطبيعة؟»
فضحك سانين ضحكة خفيفة ولوح بيده مستخفًّا وقال: «الطبيعة؟ ها ها، إني أعلم أن من المألوف أن نقول إن الطبيعة بالغة حد الكمال. والحقيقة هي أن الطبيعة مثل الإنسان نقصًا وعيوبًا. وفي وسع كل منا بدون جهد كبير أن يتصور عالمًا يكون خيرًا من هذا مائة مرة. لماذا لا تكون الحرارة والضوء سرمدًا علينا والرياض خضراء نضيرة خلقة أبدًا؟ أما عن معنى الحياة فلا أشك في أن لها معنى فإن الغاية في مطاويها مجرى الأمور وأخلق بالفوضى أن تكون شاملة محيطة إذا لم يكن ثم من غاية. ولكن هذه الغاية خارجة عن دائرة وجودنا إذ هي كائنة في أساس الوجود. هذا محقق. ونحن لا يمكن أن نكون أصل الوجود ولا آخره كذلك. وليس دورنا فيه إلا سلبيًّا إضافيًّا. ونحن نؤدي مهمتنا بمجرد حياتنا، فحياتنا ضرورية. وكذلك موتنا أيضًا.»
فقال يوري: «لأي سبب؟»
فأجاب سانين: «أنى لي أن أعلم هذا؟ وماذا يعنيني منه، فضلًا عن ذلك إن حياتي معناها خوالجي لذيذة كانت أو غير لذيذة، وكل ما هو خارج عن هذه الحدود فإلى الشيطان به! ومهما تكن النظرية التي نشاء أن نخترعها فهي لا تعدو أن تكون نظرية ولا يمكن أن تخرج عن كونها نظرية. ومن الخرف أن نبني عليها فكرة عن الحياة. ومن شاء فليذهب ذهنه في ذلك أما أنا فإني معتزم أن أحيا!»
فقال إيفانوف مقترحًا: «لنشرب جميعًا على قوة هذا العزم!»
وقال بيتر لسانين وهو يتأمله بعينيه الضعيفتين: «ولكنك تؤمن بالله أليس كذلك؟ إنه لا يؤمن أحد بشيء في هذه الأيام حتى ولا بما يسهل الإيمان به.»
فضحك سانين وقال: «نعم أؤمن بالله. ولقد آمنت به طفلًا ولا حاجة إلى المنازعة في أسباب ذلك أو تأييدها. والحقيقة أنه ليس أجدى علينا من الإيمان، فإذا كان الله موجودًا تقدمت إليه بأصدق الإيمان وأخلصه. وإذا لم يكن له وجود كان ذلك خيرًا لي.»
فقال يوري: «ولكن كل حياة تقوم على الإيمان أو عدم الإيمان.»
فهز سانين رأسه وابتسم مغتبطًا وقال: «كلا، إن حياتي ليست بقائمة على شيء من هذا القبيل.»
فسأله يوري وقد تداعت قوته: «على أي شيء تقوم حياتك إذن؟»
وقال لنفسه: «آه، ينبغي أن أكف عن الشرب.» ومسح جبينه البارد الرطب بكفه ولم يسمع ما قال سانين ردًّا عليه، فقد كان رأسه يدور وغلبته الخمر على أمره برهة.
وقال سانين: «إني أعتقد أن الله موجود وإن كنت لست على يقين جازم مطلق. وسواء أكان موجودًا أم غير موجود فإني عاجز عن تصوره، ولا أستطيع أن أعرف هذا حتى لو كنت أحر الناس إيمانا به، إن الله هو الله ولما كان غير آدمي فلسنا نستطيع أن نجري عليه المقاييس الإنسانية، إن عالمه المخلوق المحيط بنا شامل لكل شيء: للخير والشر، وللحياة والموت، وللجمال والقبح — كل شيء في الواقع — ولذلك يعجزنا كل معنى وكل تعريف محدود لأن معناه غير إنساني وآراؤه في الخير والشر ليست بإنسانية، ولا معدى لنا عن أن تكون فكرتنا عن الله وثنية في صميم أمرها وليس يسعنا إلا أن نكسو معبودنا السحنة والثوب الملائمين للأحوال الجوية في بلادنا التي نعيش فيها — سخافة — أليس كذلك؟»
فقال إيفانوف: «بلى، أصبت. كل الإصابة!»
فسأله يوري ودفع كأسه مكروبًا: «إذن ما الفائدة من الحياة؟ أو من الموت أيضًا؟»
فأجابه سانين: «إني أعرف شيئًا واحدًا هو أني لا أريد أن تكون حياتي شقية. لذلك يجب على المرء أن يرضي رغباته الطبيعية قبل كل شيء. إن الرغبة هي كل شيء. ومتى انقطعت الرغبة انقطعت الحياة معها. وإذا قتل المرء رغباته فإنه يكون قد قتل نفسه.»
فقال يوري: «ولكن رغباته قد تكون شرًّا؟»
فأجاب سانين: «ربما»
فقال يوري: «إذن ماذا يكون من أمرها؟»
فأجابه سانين في رفق وحدق في وجهه بعينيه الزرقاوين الصافيتين: «إذن … تكون شرًّا، لا أكثر ولا أقل.»
فرفع إيفانوف حاجبيه غير مصدق ولم يتكلم. وصمت يوري كذلك وحيرته هاتان العينان الزرقاوان الصافيتان لسبب ما وجعل يرنو إليهما.
وساد السكون لحظة فكان المرء يسمع فراشة هناك تصطدم مستيئسة بزجاج النافذة. وهز بيتر رأسه في حزن وتدلى رأسه المخمور إلى الجريدة القذرة الملوثة.
فعاد سانين إلى الابتسام. وكانت هذه الابتسامة المرتسمة أبدًا على ثغر سانين تثير يوري وتفتنه كذلك فقال لنفسه: «ما أصفى عينيه.»
ونهض سانين فجأة وفتح النافذة وأخرج الفراشة واندفعت موجة هواء بارد عليل كأنما أرسلتها أجنحة رقيقة.
وقال إيفانوف مجيبًا على خواطره: «نعم ليس في الناس اثنان متشابهان، فلنشرب على هذا كأسًا أخرى.»
فقال يوري وهز رأسه: «كلا! لن أشرب شيئًا آخر.»
أجاب إيفانوف: «ولماذا؟»
قال يوري: «إني لا أكثر من الشراب.»
وكانت الفودكا والحرارة قد صدعاه فطلبت نفسه الهواء الخالص وقال وهو ينهض: «لا بد لي من الخروج.»
فقال إيفانوف: «إلى أين؟ تعال. اشرب كأسًا أخرى.»
فقال يوري متلعثمًا باحثًا عن قبعته: «كلا، يجب أن …»
فرد عليه إيفانوف: «حسن عم مساء.»
وخرج يوري وأغلق الباب وراءه. وسمع سانين في هذه اللحظة يقول لبيتر: «نعم أنت لست كالأطفال. إن هؤلاء لا يستطيعون أن يميزوا بين الخير والشر، لأن نفوسهم ساذجة على الفطرة. وهذا هو السبب في أنهم …»
وكان يوري قد أتم إغلاق الباب فلم يسمع شيئًا.
وكان القمر مضيئًا في قبة السماء، وهب نسيم الليل البليل على محيا يوري وجلت له الطبيعة كل جميل محرك للخيال وجرى بذهنه سمينوف وهو يجتاز الشوارع الساكنة المضيئة. فتصور سمينوف راقدًا في قبر مظلم ساكن على أنه مع ذلك لم تعاوده تلك الهواجس المحزنة التي كانت من قبل تجثم على صدره وتسود الدنيا كلها في نظره. بل خامرته الكآبة الهادئة المطمئنة وأحس دافعًا يغريه بالشخوص بطرفه إلى القمر. وذكر سانين وهو يجتاز ميدانًا مهجورًا فسأل نفسه: «أي رجل هذا؟»
وغاظه أن في الدنيا رجلًا لا يستطيع هو أن يحلل شخصيته في لحظة فراح يجد لذة في النيل منه وقال: «إن هو إلا صواغ عبارات ليس إلا. وقد كان يتكلف الطيرة أولا ويدعي مقت الحياة ويرفه عن نفسه بالإعراب عن المستحيل من الآراء، أما الآن فإنه يعبث بالحيوانية.»
وانتقل يوري من التفكير في سانين إلى تأمل نفسه وانتهى من الموازنة إلى أنه لا يعبث بشيء ما، وأن كل خواطره وآلامه وشخصيته مبتكرة، وأنها لا تشبه خواطر الناس غيره وشخصياتهم في دقيق أو جليل.
ستكون حيًّا تستنشق الهواء وتتمتع بضوء القمر وتمر بالقبر الذي يضم رفاتي.
فرمى يوري بلحظة إلى التراب وقال لنفسه: «إن ها هنا تحت قدمي آدميين أيضًا. وإني أطأ بقدمي عقولًا وقلوبًا وعيونًا آدمية! آه وسأموت مثلهم ويمشي غيري فوقي وتخطر لهم ما يطوف بذهني الآن؛ آه، يجب أن يحيا الإنسان قبل أن يخرج الأمر من كفيه. ألا إنه يجب أن يعيش المرء! نعم ولكن على الطريقة الصحيحة حتى لا تضيع عليه لحظة من حياته ولكن كيف هذا؟»
وكانت السوق عارية بيضاء في ضوء القمر وكل ما في البلدة ساكت فغنى يوري نفسه:
ثم قال بصوت عال: «ما أثقل كل شيء وأشجاه وأرهبه!» كأنما يقول بشجوه لرفيق معه وأفزعه صوته وتلفت ونفض المكان بعينه ليرى هل سمعه أحد وخطر له أنه «سكران»
وكان الليل مشرقًا في سكون وجلال.
لما كانت سينا كارسافينا وزميلتها دوبوفا غائبتين في زيارة كانت حياة يوري مملة فاترة. وكان أبوه أبدًا في شاغل من «النادي» أو من شئون البيت.
ولم تكن لياليا وريازانتزيف يرتاحان إلى وجود شخص ثالث معهما فكان يوري يجانبهما.
وصار من عادته أن يبكر في الذهاب إلى مضجعه وأن لا يقوم إلا وقت الغداء، وكان يقضي نهاره كله بين غرفته والحديقة مفكرًا في أموره، منتظرًا أن تساعفه موجة نشاط تدفعه إلى عمل جليل.
وكان هذا العمل الجليل يتخذ في كل يوم صورة، فيومًا يكون صورة ويومًا يكون سلسلة مقالات تكشف للعالم عن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه [الديمقراطيون الاشتراكيون بأن لم يعقدوا ليوري الزعامة في حزبهم]. وطورًا تكون مقالًا في الحث على معاضدة الشعب والتعاون معه، مقالًا شاملًا ضافيًا في الموضوع. ولكن كل يوم كان يمضي عليه ولا يخلف له سوى السآمة.
وجاء إليه نوفيكوف وشافروف مرة أو مرتين يزورانه.
وحضر يوري بعض المحاضرات وأدى بعض الزيارات، غير أن هذا كله كان في نظره فارغًا لا خير فيه وليس هو بالذي يفكر فيه أو يظن أنه يفكر فيه.
وفي يوم من الأيام ذهب لزيارة ريازانتزيف وكانت غرف هذا الطبيب رحيبة مهواة حافلة بكل ما يحتاج إليه الرجل الصحيح الجسم المعافى البدن من وسائل التسلية؛ فمن عصى هندية إلى كتل حديدية وسيوف وأدوات الصيد وحقائب للطباق، وغير ذلك مما هو بسبيل الملاهي التي يباشرها الرجال الأصحاء.
فرحب به ريازانتزيف وأحسن ملاطفته ومحادثته وقدم له السجائر ثم سأله أن يخرج معه للصيد.
فقال يوري: «ليس معي بندقية.»
فقال: «خذ واحدة من هنا فإن لدي خمسًا.»
وإذ كان يوري أخا لياليا فقد أراد ريازانتزيف أن يلاطفه ما أمكنته ملاطفته. أصر على أن يأخذ يوري إحدى بنادقه وعرضها كلها عليه ليختار من بينها وفككها وشرح له تركيبها، بل لقد أطلق إحداها على هدف في الفناء. فاقتنع يوري وأخذ واحدة وبعض الخراطيش وهو يضحك.
فسر ريازانتزيف وقال: «هذا حسن جدًّا. لقد كان عزمي أن أخرج غدًا لصيد البط فلنذهب معًا.»
فقال يوري: «هذا يسرني جدًّا.»
ولما عاد إلى بيته قضى نحو ساعتين يفحص بندقيته ويتحسس زندها ويسددها إلى المصباح ثم صقل حذائي الصيد القديمين. وفي مساء اليوم التالي جاء إليه ريازانتزيف يهتز مسرورًا في مركبة يجرها جواد مضمر وصاح به من النافذة وكانت مفتوحة: «أنت مستعد؟»
وكان يوري قد احتمل حزمة الخراطيش وحقيبة الصيد والبندقية فخرج إليه مثقلًا بها وقال: «إني مستعد، مستعد.»
وكان ريازانتزيف قد أخف من هذه الأحمال فعجب ليوري وما تأهب به وقال مبتسمًا: «ستعاني البرح من هذه الأثقال. اخلعها وضعها هنا. فما بك حاجة إلى لبسها قبل أن نبلغ المكان.»
وساعد يوري على التخلص منها ووضعها تحت المقعد ثم ألهبا الجواد فأخب بالمركبة، وكان النهار قد أوشك أن ينقضي ولكن الجو كان لا يزال دافئًا كثير التراب.
وجعلت المركبة تميل يمنة ويسرة حتى اضطر يوري أن يتشبث بمقعده. وكان ريازانتزيف يتكلم ويضحك طول الطريق فلم يسع يوري إلا أن يشاطره جذله.
ولما برزا إلى الحقول كانت الأكلاء الطويلة تلمس أقدامهم وصار الجو ألطف وانقطع التراب. وبلغا حقلًا واسعًا مستويًا، فأوقف ريازانتزيف الجواد وكان يتصبب عرقا ورفع كفه إلى فمه وصاح بصوت رنان صاف: «كوسما، كوسما»
وكان المرء يرى عند نهاية الحقل صفًّا من الرجال صغيري الأجسام فشخصوا بأبصارهم إلى مصدر الصوت.
ثم اجتاز أحدهم الحقل متحرزًا بين الأخاديد ولما دنا منهما رأى يوري فلاحًا ضخمًا أبيض الشعر طويل اللحية مفتول الساعدين.
فسار إليهما وقال مبتسمًا: «إنك تحسن الصياح يا أناتول بافلوفتش.»
«عم مساء كوسما كيف حالك؟ أتسمح لي أن أترك الجواد معك؟»
فقال الفلاح بصوت ساكن ودي وأمسك اللجام: «نعم ولا شك. جئت للصيد أليس الأمر كذلك؟ ومن هذا؟» وألقى إلى يوري نظرة رقيقة فقال ريازانتزيف: «إنه ابن نقولا يجوروفتش»
أجاب: «آه نعم! إني أراه شبيها بلياليا! نعم. نعم!» وسر يوري أن هذا الفلاح الهرم المغتبط يعرف أخته ويذكرها ذكر الصديق المخلص.
وقال ريازانتزيف بصوته الطروب وتقدم زميله بعد أن احتمل بندقيته وحقيبة الصيد: «والآن فلنمض في سبيلنا.»
فقال كوسما: «أرجو أن يكون حظكما عظيمًا.»
وكان يسمعانه يلاطف الجواد وهو يجره إلى كوخه.
وكان عليهما أن يسيرا نحو ميل قبل أن يصلا إلى المستنقع، وكادت الشمس تغيب، وكانت الأرض مكسوة بالحشائش والأعشاب تحس القدم بللها وتجد الأنف ريح رطوبتها والعين جهامتها، والماء تلمع صفحته في بعض المواضع.
وكف ريازانتزيف عن التدخين ووقف ورجلاه منفرجتان وتجهم وجهه كأنما كان يهم بعمل عظيم التبعة.
ووقف يوري إلى يمينه يبحث عن مكان جاف مريح. وكان أمامهما الماء صافيًا عميقًا تنعكس في صقاله صفحة السماء المجلوة ومن ورائه الشاطئ كالخط الأسود.
وهب البط مثنى وثلاث وجعلت أفراخه تطير متريثة فوق الماء خارجة من الأعشاب محلقة فوق رأسي الصائدين صفًّا من الأشباح السوداء باديًا دون السماء، فأرسل ريازانتزيف أول طلقة فأصاب وهوت بطة مكلومة إلى الماء وجناحاها يخبطان الأعشاب فقال ريازانتزيف وضحك عاليًا: «لقد أصبتها.»
وقال يوري لنفسه وكان قد جاء دوره: «إنه رجل طيب حقيقة.»
وأطلق بندقيته فهوت ببطة ولكنها سقطت في مكان بعيد لم يصل إليه يوري وإن كان قد جرح كفيه وخاض إلى ركبتيه في الماء ولم تزده هذه الخيبة إلا حماسة وظن الأمر لهوًا طيبًا.
وكان لدخان البنادق رائحة لذيذة في هذا الجو الصافي البليل، وكانت الطلقات تبرق في الظلام فيجد المرء لبريقها وقعًا حسنًا. وجعلت الطيور الجريحة ترسم وهي تهوي أقواسًا رشيقة تحت قبة السماء الخضراء التي بدت فيها النجوم. وأحس يوري من النشاط والاغتباط ما لا عهد له به كأنما لم يمر به ما هو أمتع من هذا وأعظم إنعاشًا للنفس. وقلت الطيور الطائرة الآن وتعذر تسديد المرمى في الظلام المتكاثف.
وصاح ريازانتزيف بزميله: «يوري! يجب أن نعود الآن!»
فأسف يوري لذلك وعز عليه أن يرجع ولكنه مضى إلى رفيقه إجابة لرغبته وكان يتعثر في سيره بين الأعشاب ويخوض الماء الذي لم يعد يفترق في الظلام عن الأرض الصلبة.
فلما التقيا برقت عيونهما وكان كلاهما يلهث.
فقال ريازانتزيف: «هل مالأك الحظ؟»
فقال يوري وكشف عن حقيبته المكتظة: «أظن ذلك!»
فقال ريازانتزيف متبسطًا: «إنك أشد مني ساعدًا وأحكم رماية.»
فابتهج يوري بهذا الثناء وإن كان لا يفتأ يدعي قلة الاعتداد بالقوة الجثمانية أو المهارة وقال بغير اهتمام: «لا علم لي بأني خير أو شر. وكل ما في الأمر أن الحظ ظاهرني.»
وكان الظلام قد اشتد لما بلغا الكوخ وغمرت الدياجي حقل الليمون فلم تكن العين تأخذ منه سوى صفوفه الأولى تلتمع في ضوء النار وتلقي على الأرض ظلالًا طويلة.
وكان الجواد واقفًا ينفخ إلى جانب الكوخ حيث أوقدت النار من عيدان الكلأ الجافة، فجعلت تقعقع وهي تحترق.
وسمعا أصوات رجال ونساء يتكلمون ويضحكون. وخيل ليوري أنه يعرف أحد الأصوات وكان لينًا جذلًا.
فقال ريازانتزيف وقد أخذه العجب: «إنه سانين. ماذا جاء به إلى هنا؟»
واقتربا من النار وكان كوسما ذو اللحية البيضاء جالسًا بجانبها فرفع طرفه إليهما وهز رأسه مرحبًا بهما وسألهما بصوت غليظ عميق يخرج من تحت شاربيه المتهدلين: «كيف كان حظكما؟»
فقال ريازانتزيف: «متوسطًا.»
وكان سانين جالسًا على جذع ضخم فرفع رأسه أيضًا وابتسم لهما.
فسأله ريازانتزيف: «كيف جئت إلى هنا؟»
فقال سانين وزاد ابتسامًا: «أوه. إني أنا وكوسما صديقان قديمان.»
فضحك كوسما وانفرجت شفتاه عن بقايا أسنانه الصفراء المتداعية وجعل يربت ركبة سانين بيده الخشنة وقال: «نعم نعم. اجلسا يا أناتول بافلوفتش وذوقا هذا البطيخ وأنت يا سيدي الشاب ما اسمك؟»
فقال يوري مسرورًا: «يوري نيقولا بيفتش»
وأحس بعض الارتباك ولكنه أحب هذ الفلاح الشيخ الرقيق وارتاح إلى لهجته الودية. وقال كوسما: «يوري نيقولا بيفتش. آها. يجب أن نتصادق. اجلس يا يوري.» فجلسا قريبًا من النار على جذعين كبيرين وقال كوسما: «والآن أريانا ما صدتما.»
فأفرغا من الحقيبتين كومًا من الطيور المقتولة وتلوثت الأرض بدمها، وكان لها في ضوء النار المضطرب منظر منفر وبدا الدم أسود اللون، وكأنما كانت المخالب تتحرك.
فرفع كوسما بطة وأمر يده تحت جناحيها متحسسًا، وقال: «هذه بطة سمينة. يجب يا أناتول أن تدع اثنتين. وماذا عساك تصنع بكل هذه؟»
فقال يوري في خجل: «خذها كلها.»
فضحك الشيخ قائلًا: «لماذا آخذها كلها؟ إنك أكرم مما يجب. لا آخذ سوى اثنتين.» ودنا منهم في هذه اللحظة فلاحون آخرون ومعهم نساؤهم ولم يستطع يوري أن يميز وجوههم لفرط ما أزاغت النار من نظره، وكان الوجه تلو الوجه يخرج من الدجى ثم لا يكاد يظهر حتى يغيب.
ورمى سانين الطيور بعينه وهو عابس ثم أدار وجهه ونهض واستكره أن يرى هذه المخلوقات الجميلة مكسورة الأجنحة ملطخة بالدم والتراب.
وراقب يوري كل شيء باهتمام وهو يمص بطيخة كبيرة ناضجة شهية قطعها له كوسما بسكين يدها من العظم الأصفر وقال كوسما: «كل يا يوري. إن هذه البطيخة جيدة. إني أعرف أختك الصغيرة لياليا وأباك أيضًا. كل وتمتع.»
وشاع السرور في نفس يوري بكل شيء: برائحة الفلاحين والخبز الجديد وضوء النار والجذع الضخم الذي كان جالسًا عليه ووجه كوسما كلما أطرق. وكان إذا رفع رأسه يلفه الظلام ولا تظهر منه إلا عيناه، وكانت الظلمة الطاغية فوقهم تكسب المكان المضاء بهجة وأنسًا.
وكان يوري إذا رفع رأسه لا يرى شيئًا ثم لا تلبث السماء الشاسعة الساكنة أن تبدو متألقة فيها نجومها البعيدة. على أنه حيره أنه لا يعرف ماذا يقول لهؤلاء الفلاحين.
وكان كوسما وسانين وريازانتزيف يحدثونهم بلا كلفة وببساطة عن هذا الأمر أو ذاك ولا يهتمون بأن يتخيروا موضوعًا خاصًّا للكلام. ولما انقطع الحديث سألهم: «كيف حال الأرض؟»
وأحس أن سؤاله متكلف لا محل له فرفع كوسما لحظه وقال مجيبًا: «سنصبر. سنصبر ونرى.»
ثم طفق يحدثهم عن حقول البطيخ وغيرها من الشئون الخاصة ويوري يزداد ارتباكًا وحيرة وإن كان قد سره أن يصغى إليه.
وسمعوا وقع أقدام مقبلة وظهر في الضوء كلب أحمر صغير ذنبه أبيض ملتو وجعل يشم يوري وصاحبه ويحك جسمه بركبة سانين فمسح له هذا جلده الخشن. وجاء على أثر الكلب شيخ قصير له لحية خفيفة وعينان صغيرتان لامعتان. وفي يده بندقية صدئة ذات خرطوم واحد فقال كوسما: «إنه الجد حارسنا.»
وجلس الشيخ على الأرض ووضع إلى جانبه سلاحه وأقبل يتأمل يوري وصاحبه. ثم قال وكشف عن لثاه المجعد المشوه: «كنتما تصيدان؟ نعم. نعم. هاها! كوسما لقد آن أن تغلي البطاطس.» فالتقط ريازانتزيف بندقية هذا الشيخ وأرى يوري إياها ضاحكًا، وكانت قديمة علا الصدأ كل أجزائها، ثقيلة مشدودة بسلك ملفوف عليها، وقال لصاحبها: «أي بندقية هذه؟ ألا تخشى أن تصيد بها؟»
أجاب الشيخ: «هاها. لقد كادت تقتلني مرة. قال لي ستيبان شابكا إن المرء يستطيع أن يطلقها بدون إسطوانة. هاها. بدون أسطوانة. وقال إنه إذا كان في البندقية مقدار من الكبريت باقيًا فإنك تستطيع إطلاقها بغير أسطوانة، فوضعت البندقية المحشوة على ركبتي هكذا وأطلقت زنادها بأصبعي هكذا … انظروا، فانطلقت وكدت أقتل نفسي. هاها. حشوت البندقية وأطلقتها وكدت أقتل نفسي.»
فضحكوا جميعًا وانحدرت دموع السرور من عيني يوري وما كان أمتع هذا الشيخ الضئيل ولحيته الخفيفة وشدقيه الغائرين.
وضحك الشيخ كذلك حتى دمعت عيناه وجعل يردد قوله: «كدت أقتل نفسي! هاها»
وكان المرء يستطيع أن يسمع في الظلام وراء دائرة النور ضحكًا وأصوات بنات نأى بهن الحياء عن المجلس.
وكان سانين جالسًا على بضعة أقدام من النار في مكان غير الذي توهمه يوري.
فأوقد سانين عود كبريت ورأى يوري في ضوئه الأحمر عينيه الساكنتين الودودتين وإلى جانبه وجه غض عيناه الرقيقتان مرفوعتان إلى سانين وفيهما نور الجذل الساذج.
فنظر ريازانتزيف إلى كوسما وقال: «أيها الجد أليس خيرًا لك أن ترقب بعينيك حفيدتك؟»
فأجاب كوسما عنه وأومأ إيماءة من لا يكترث: «ما الفائدة؟ إن الشباب هو الشباب.» وضحك الشيخ والتقط بأصابعه جمرة متقدة من النار.
وسمع القوم ضحكة سانين في الظلام. وكأن الفتيات خجلن فقد انصرفن عنه وعادت أصواتهن وهي لا تكاد تسمع.
وقال ريازانتزيف وهو ينهض: «لقد آن أن نذهب أشكرك يا كوسما.»
فقال كوسما: «لا شكر البتة.» ومسح بكمه بذور البطيخ التي علقت بلحيته البيضاء. وصافحهما وأحس يوري استكراهًا لِمَسّ هذه الراحة الخشنة المعروقة.
وخفت الظلمة لما نأيا عن النار ورأيا فوقهما النجوم الزهراء المقرورة وقبة السماء الهائلة الجليلة الجمال.
وبدا الجالسون حول النار والخيل وكوم البطيخ في شملة من الظلام وقال لهما سانين: «افتحا عيونكما. عما مساء.»
فقال يوري: «عم مساء.»
وتلفت وراءه ليرى قوامه الطويل وخيل إليه أن امرأة رشيقة القد معتمدة على كتفه فخفق قلبه وذكر سينا وأحس الغيرة تدب في صدره لسانين.
وانطلقت عجلات المركبة تخطف الأرض وجعل الجواد ينفخ وهو يجري وخفيت عنهما النار والأصوات والضحكات وساد السكون، وتطلع يوري إلى السماء ورنا إلى نجومها المنثورة، ولما قاربا البلدة بدأت الأضواء تسطع هنا وههنا والكلاب تنبح.
وقال ريازانتزيف ليوري: «إن كوسما هذا فيلسوف. ألا ترى ذلك؟»
وكان يوري جالسًا خلف صاحبه ينظر إلى عنقه فنبهه السؤال وأيقظه مما كان غارقًا فيه من الخواطر السوداء وحاول أن يفهم ما ألقي إليه وأجاب بتردد: «آه، نعم!»
فقال ريازانتزيف وهو يضحك: «لم أكن أظن أن سانين فاجر إلى هذا الحد.»
ولم يكن يوري يحلم الآن فذكر منظر سانين ومحيا الفتاة الجميل في نور الكبريت وعاودته الغيرة، وما عتم أن طاف برأسه أن معاملة سانين للفتاة وضيعة مستوجبة للاحتقار فقال مجيبًا صاحبه: «كلا، ما حسبته كذلك قط.»
وكان في صوته نبرة تهكم لم يلتفت إليها ريازانتزيف فألهب الجواد بالسوط وقال بعد فترة: «إنها فتاة جميلة أليست كذلك؟ وأنا أعرفها. حفيدة الشيخ الهرم.»
فصمت يوري وانقشعت عنه سحابة التفكير واقتنع بأن سانين رجل سوء.
وهز ريازانتزيف كتفيه ثم قال: «إلى الشيطان بها! وفي ليلة كهذه أيضًا؟ وأراني أخذت كذلك. أسمع. ما قولك في أن نعود وأن …»
ولم يفهم يوري في أول الأمر ما أراد صاحبه الذي عاد فقال: «إن هناك بضع فتيات حسانًا كما تعلم. ما قولك؟ أنعود؟»
فصبغ الحياء وجه يوري وشاعت في كيانه هزة شهوة حيوانية ومثلت لعينيه ولخياله الملتهب صور مغرية ولكنه ضبط نفسه وقال بصوت جاف: «كلا! لقد آن أن نكون في البيت الآن.»
ثم زاد على ذلك بخبث: «لياليا تنتظرنا.»
فتداعى ريازانتزيف وقال: «نعم. نعم بالطبع. نعم يجب أن نكون في البيت الآن.»
وقرض يوري أسنانه وحدق في ظهر صاحبه العريض تنسجم عليه الجاكتة البيضاء وقال متحديًا مناصبًا: «لست أحب المغامرات التي من هذا القبيل.»
فأجابه ريازانتزيف ضاحكًا في فتور: «كلا! كلا! أعلم ذلك! هاها!»
ثم صمت. وقال لنفسه: «قاتلني الله. ما أغباني!»
وسارا بالمركبة إلى البيت دون أن ينبسا بحرف آخر، وكان يخيل إليهما أن الطريق لا آخر له ولما وصلا قال يوري دون أن يرفع رأسه: «ألا تدخل معي؟»
فقال ريازانتزيف مترددًا: «أ.. أ.. لا! إن علي أن أعود مريضًا. والوقت متأخر كذلك.»
فنزل يوري ولم يعن بأن يأخذ البندقية أو الطيور وكأنما صار يمقت كل شيء مما يتعلق بريازانتزيف فصاح به هذا: «لقد نسيت بندقيتك.»
فالتفت يوري وعاد فاحتمل البندقية والحقيبة بهيئة المتقزز وصافح صاحبه ودخل.
ومضى الآخر بمركبته في بطء مسافة قصيرة ثم انثنى فجأة وعطف على زقاق وكان يوري يسمع صوت العجلات آتيًا من ناحية أخرى غير التي درجت فيها المركبة أولًا، فأصغى يوري وهو ثائر النفس إلا أنه غائر وقال لنفسه: «حظ سيئ.» وأدركه العطف على أخته.