الفصل الثالث عشر
أدخل يوري ما معه ولم يجد بعد ذلك ما يصنع فانحدر إلى الحديقة وكان الليل كظلمة القبر وزاد في وقعه منظر السماء وما فيها من النجوم المتألقة، وكانت لياليا جالسة على إحدى درجات السلم وهي لا تكاد ترى في الظلام فسألته: «أهذا أنت يا يوري؟»
«نعم هو أنا.»
وجلس إلى جانبها فأسندت رأسها إلى كتفه وهي كالحالمة وفاح منها عبير الصبا الغض فتحركت حواسه وقالت: «هل آتاك الحظ في الصيد؟»
ثم سألته بعد قليل بصوت رقيق: «وأين أناتول بافلوفتش؟ لقد سمعت صوت المركبة.»
وود يوري— وقد هاج فجأة — لو يقول لها «إن أناتولك هذا بهيم قذر» غير أنه أجابها غير محتفل: «لا أدري أين هو. لقد كان عليه أن يعود مريضًا.»
فرددت لياليا لفظة «مريض» ولم تزد وشخصت بعينها إلى النجوم، ولم يسؤها أن ريازانتزيف لم يحضر فقد كانت على نقيض ذلك تبغي الوحدة لتطلق لأحلامها وخيالاتها اللذيذة العنان ولا يكبحها وجوده، وكانت العاطفة التي استولت على كيانها الغض غريبة حلوة رقيقة أشعرتها أنها تستقبل غاية منشودة محتومة إلا أنها مقلقة تطوي بها صفحة ماضيها ويبدأ بها عهد جديد بالغًا من الجدة مبلغًا جعل لياليا تحسب أنها ستصير كائنًا آخر غير الأول في كل شيء.
وعجب يوري لأخته اللعوب الضحوك كيف تغري بالسكون والتفكير، وكان هو مكروبًا مكتئبًا فبدا له أن كل شيء به مثل سهومه وفتوره — كل شيء حتى لياليا والحديقة المظلمة والسماء البعيدة الملتمعة النجوم — ولم يفطن إلى أن هذه الحالة الحالمة لا تنطوي على الحزن بل على قوة الحياة نفسها. في السماء قوى مجهولة لا حد لها تموج وتتصارع. والحديقة الغامضة تمتص من الأرض ما تحتاج إليه من العصير الحيوي. وفي قلب لياليا غبطة تامة كاملة تضن بها أن تنفي سحرها أية حركة أو شعور. وفي صدرها الحب والحنين يتجاوبان، وهي بما يختلج في نفسها منهما وضيئة كالسماء المزدانة بالنجوم وعليها كالحديقة المستسرة نقاب يخفي ما تحته.
وسألها يوري مترفقًا كأنما خشي أن يوقظها: «خبريني يا لياليا. أتحبين أناتول كثيرًا؟»
فبدا لها أن تقول «كيف تسألني عن هذا؟» ولكنها كبحت نفسها ودنت منه حتى التصقت به وفي نفسها له الشكر على أن لم يحدثها إلا عما يعنيها في حياتها — أي الرجل الذي تحبه — فقالت لياليا: «نعم أحبه حبًّا جمًّا.»
وكان صوتها من الرقة بحيث حزر يوري ما قالت إذ لم يكد يسمعه وهي تتكلم وتحاول أن تمنع دموع الفرح. ولقد خيل إلى يوري أن في صوتها نغمة أسى فزاد عطفه عليها ومقته لريازانتزيف.
فسألها وأذهله أن يسألها ذلك: «ولماذا؟»
فرفعت طرفها إليه مستغربة وضحكت في رفق وقالت: «أيها الولد الخرف! لماذا حقًّا؟ لأن … اسمع! ألم تحبب مرة في حياتك؟ إنه طيب شريف مستقيم.» وكان بودها أن تزيد على ذلك «وهو جميل قوي ولكنها خجلت ولم تزد شيئًا.»
فقال يوري: «أتعرفينه حق معرفته؟» وخطر له أنه لم يكن ينبغي أن يسألها هذا لأنها بالبداهة تحسبه خير من في العالم.
فأجابته بخجل وفي صوتها لهجة الظافر المنتصر: «إن أناتول لا يكتمني شيئًا.»
فابتسم يوري، وإذ كان يدرك أن لا سبيل إلى التراجع فقد ألح عليها بالسؤال: «أأنت على يقين جازم؟»
أجابت: «نعم واثقة بالبداهة. ولماذا لا أكون على يقين؟» وارتجف صوتها.
فقال يوري وبه شيء من الارتباك: «لا شيء. لا شيء. إنه سؤال لم أرد به شيئًا خاصًّا.»
وصمتت لياليا ولم يستطع هو أن يحزر ما يجري في ذهنها من الخواطر، ثم سألته فجأة: «لعلك تعلم عنه شيئًا!» وكان في صوتها ما ينم على الألم.
فحار يوري وقال: «لا! لا! كلا ماذا يمكن أن أعرف عن أناتول بافلوفتش.»
فقالت لياليا ملحة: «لولا أنك تعلم شيئًا لما قلت ما قلت.»
قال: «إن كل ما أعنيه هو …»
ثم قطع الكلام فجأة واستحيا وعاد فقال: «إننا معشر الرجال كلنا فساق.»
فلزمت لياليا الصمت هنيهة ثم انفجرت ضاحكة وقالت: «نعم، أعرف ذلك.»
فلم ير أن لضحكها هذا محلًّا وقال بشيء من الغيظ: «لا يحسن بك الاستخفاف بالأمور إلى هذا الحد. كذلك لا يسعك أن تحيطي بكل ما يجري. وأنت خالية الذهن مما في الحياة من حقارة. أنت أصغر سنًّا من أن تلمي بهذا وأنقى وأطهر.»
فقالت لياليا ضاحكة وقد سرها كلامه: «أهذا كذلك حقًّا؟»
ثم اتخذت لهجة الجد فقالت: «أتحسب أني لم أفكر في مثل هذه الأمور؟ لقد فكرت وآلمني وأحزنني أننا نحن النساء نكترث لسمعتنا وطهرنا وعفتنا كل هذا الاكتراث ونخاف أن نخطو خطوة لئلا … لئلا … نهوي ونسقط، على حين يعد الرجال إغراء الفتاة من مظاهر البطولة. إن هذا ظلم شنيع، أليس كذلك؟»
فقال يوري بمرارة وإن كان على ذلك قد وجد شيئًا من الارتياح إلى الاعتراف بمعايبه وذنوبه ولكنه اعتراف يخالطه الشعور بأنه ليس كالناس في شيء: «نعم هذا أظلم شيء في الدنيا. سلي من شئت منا أيرضى أن يتزوج من … (وهم أن يقول مومسًا ولكنه رد هذا اللفظ واعتاض منه) غنجة يقل لك «كلا» ومن أي الوجوه يفضل الرجل المرأة الغنجة؟ إنها تبيع نفسها في مقابلة المال على الأقل لترتزق وتعيش، فأما الرجل فيطلق لشهوته العنان بلا خجل ولا استحياء.»
فصمتت لياليا.
وكان هناك خفاش يطير تحت سقف البهو رائحًا جائيًا ولا يراه أحد واصطدم جناحاه مرات بالجدار ثم رفرف واختفى.
وأصغى يوري إلى أصوات الليل الغريبة ثم استأنف الكلام وقد زادت مرارة لهجته وصار صوته نفسه يدفعه ويستاقه فقال: «وشر ما في الأمر أنهم جميعًا يعرفون ذلك وهم مع هذا متفقون على أن الحال يجب أن يظل كذلك، ثم ترينهم يمثلون مآسي مضحكة فيسمحون بأن يتزوجوا ثم يكذبون على الله والإنسان. ولا يذهب ضحية أحط الفساق وأدنأ المستهتكين إلا أنقى الفتيات وأطهرهن.» (قال هذا وهو يفكر في سينا كرسافينا).
ولقد قال لي سمينوف مرة «كلما كانت المرأة أطهر كان صاحبها أقذر.» وأراه على صواب.
فسألته لياليا بلهجة مستغربة: «أهذا كذلك؟»
فقال يوري وعلت وجهه ابتسامة مرة: «نعم كذلك بلا مراء.»
فتمتمت لياليا وقد خنقتها العبرات: «لا أعرف، لا أعرف شيئًا عن هذا.»
فصاح بها يوري ولم يكن قد سمع ما قالت: «ماذا؟»
أجابت: «لا شك أن توليا ليس كالباقين! إن هذا مستحيل.»
وكانت هذه أول مرة ذكرت فيها اسم حبيبها بلفظ الإعزاز ثم طفقت تبكي فجأة، فوقع من نفسه بكاؤها وأمسك بيدها وقال: «لياليا! لياليا! ماذا جرى؟ لم أكن أقصد أن … لا تبكي يا عزيزتي لياليا! ازجري العين عن بكاها.»
ونحى يديها عن وجهها وقبل أصابعها التي بللها الدمع فقالت وهي تنشج: «لا! لا! إن الأمر صحيح وأنا أعلم ذلك!»
وكان قولها أنها فكرت في هذا من قبل تخيلًا محضًا ولم تكن تدري عن حياة ريازانتزيف وسلوكه شيئًا. نعم إنها تعرف أنها ليست أول من أحب ولا تجهل معنى هذا ودلالته، ولكن وقع هذا الذي تعلمه كان غامضًا زائلًا.
وكانت تحس أنها تحبه وأنه يحبها. وهذا هو الجوهر وما سواه لا قيمة له ولا وزن. فأما وقد قال أخوها ما قال بلهجة التعنيف والازدراء فقد خيل لها أنها على حرف هاوية واستهولت ما تحدثا عنه، وحسبت أن حلم سعادتها قد انتسخ وأنه لا سبيل إلى إصلاح ما فسد، وأنه لم يعد ثم محل للتفكير في حبها لريازانتزيف.
وحاول يوري وهو يكاد يبكي أن يرفه عنها وجعل يقبلها ويمسح شعرها ولكنها ألحت في البكاء واستسلمت للأسى والمرارة كالطفل.
وأسى يوري لحزنها وما بدا له من ألمها، فعدا إلى البيت وهو ممتقع اللون مضطرب فاصطدم رأسه بالباب وعاد إليها بكوبة ماء أراق نصفها على الأرض وعلى يديه، وقال لها وهو يقدمها إليها. «لا تبكي يا لياليا! لا ينبغي لك أن تبكي هكذا؟ ماذا جرى؟ ما خطبك؟ لعل أناتول بافلوفتش خير من الباقين يا لياليا؟»
وجعل يكرر ذلك وبه من اليأس خاطر.
ولكن لياليا ظلت تعول وترجف رجفًا عنيفًا حتى لكانت أسنانها تصطك بزجاج الكوبة.
وجاءت الخادمة وقالت: «ماذا جرى يا سيدتي؟»
فنهضت لياليا واتكأت على سور البهو ومضت وهي باكية تنتفض إلى غرفتها.
فقالت لها خادمتها: «سيدتي العزيزة خبريني ماذا حدث؟ أأدعو سيدي والدك؟»
وخرج في هذه اللحظة أبوها نيقولا من المكتبة يمشي بخطى بطيئة متزنة، فلما أخذت عينه لياليا وقف في الباب وقد أذهله منظرها وسأل: «ماذا حدث؟»
فأجابه يوري: «لا شيء! لا شيء! مسألة تافهة! لقد كنا نتحدث عن ريازانتزيف. كلام فارغ.»
وضحك ضحكة مستكرهة، فنظر أبوه إليه شزرًا وارتسمت على وجهه دلائل الغضب وصاح به: «ماذا بالله كنت تقول لها؟» وهز كتفيه واستدار وخرج.
فطار طائر يوري وهم بأن يجيبه جوابًا عنيفًا وقحًا ولكن ما خالجه من الحياء أسكته وعقد لسانه. وجاش بصدره الغيظ من أبيه والتوجع للياليا والاحتقار لنفسه، فلم يسعه إلا أن ينحدر إلى الحديقة وداس وهو يمشي ضفدعة تنقنق فسحقها وكادت تزل قدمه فوثب صائحًا محنقًا. وجعل يمسح قدمة مدة طويلة على الحشائش الطويلة وقد سرت في ظهرة رعدة باردة.
وعبس وأغراه الاشمئزاز الجثماني والعقلي باعتبار كل شيء مثيرًا مستفزًّا حقيرًا. وتلمس الطريق إلى مقعد جلس عليه وشخص بعينه إلى الحديقة غير معتمد شيئًا على التعيين بنظره، ولم ير إلا رقعًا عريضة سوداء في الظلام الشامل، واصطخت في صدره ورأسه الخواطر السوداء.
ورمى بعينه إلى حيث كانت تموت تلك الضفدعة الصغيرة المسكينة أو حيث ماتت بعد كرب وألم هائلين. فكأنما ماتت دنيا بأسرها وزهق عالم برمته، فيالها من حياة مفردة مستقلة لقيت حتفها الشنيع ولم يحسها أحد ولا سمع بها ديار!
واستطرد يوري من ذلك إلى خاطر مقلق غريب، هو أن كل ما يُكَوِّن الحياة من غرائز الحب أو البغض الخفية التي تدفع المرء إلى قبول شيء بعينه ورفض آخر، وإحساسه الفطري بالخير والشر، كل هذا ليس إلا ضبابًا رقيقًا يغطي شخصيته وحدها ويلفها ويحجبها. فأما أعمق تجاريبه وأوجعها فلا يكترث لها العالم في جملته الهائلة كما لم يكترث لمصرع هذه الضفدعة الصغيرة. وكان قبل ذلك يتصور أن آلامه وعواطفه تعني غيره، فنسج من هذه العلاقة شبكة معقدة بينه وبين الوجود؛ كان مصرع الضفدعة كافيًا لتحطيمها والقضاء عليها، فتركه ذلك مستفردًا يعوزه العطف والغفران.
ثم كرت خواطره إلى سمينوف وإلى ما بدا له من استخفافه بالمثل العليا التي استغرقت نفسه هو وملايين غيره من الناس، فراح يفكر في لذة الحياة الخالصة وفي سحر المرأة الجميلة وضوء القمر والبلابل، وهو موضوع كان قد شغل خواطره في اليوم التالي لآخر حديث جرى له مع سمينوف، ولم يكن يومئذ يفهم لماذا يهتم سمينوف بالتافه من الأمور كركوب زورق أو وجه فتاة حسنة، وكيف يأبى أن يكترث لأسمى الآراء وأعمقها. فأما الآن فقد أدرك أن هذا لم يكن منه بد وأنه لا سبيل إلا إليه، إذ كانت هذه الأمور التافهة هي التي تتكون منها الحياة — الحياة الحقيقية الغاصة بالإحساسات والعواطف والمتع واللذات — أما تلك الآراء السامية العميقة فليست إلا عبارات جوفاء باطلة لا يسعها أن تؤثر أضأل تأثير في ذلك السر الضخم المحجوب وراء الحياة والموت. وهب لهذه الآراء قيمة ووزنًا فستعفى عليها وتحل محلها في المستقبل آراء أخرى ليست دونها خطرًا وأهمية.
ولما انتهى إلى هذه النتيجة التي نشأت على غير انتظار من آرائه في الخير والشر حار واضطرب وأحس كأنما يواجه فراغًا هائلًا، وتحرر ذهنه لحظة وصفا وشعر بالقدرة التي يشعر بها الحالم على السبح في الفضاء إلى حيث أحب دون أن تقعد به قيود المادة، فأفزعه هذا الإحساس وجاهد بكل ما وسعه من قوة أن يجمع آراءه المألوفة في الحياة، فزايله هذا الإحساس المرعب وعاد كل شيء جهمًا ملتاثًا في نظره كما كان.
وكان يوري يقول إن الحياة هي تحقيق الحرية وإن من الطبيعي على ذلك أن يبغي المرء في حياته اللذة وأن يعيش لها. وعلى هذا تكون وجهة نظر ريازانتزيف — على انحطاطها — منطقية معقولة، إذ كان لا ينشد إلا سد حاجاته الجنسية ما أمكنه ذلك لأنها ألح الحاجات وأعنفها. ولكن هذا جره إلى القول إن الفسوق والطهر ليسا إلا أوراقًا ذاوية تكسو الحشائش النضيرة الجديدة، وإن لمثل لياليا وسينا كرسافينا من الفتيات الطاهرات الحق كل الحق في الارتماء في تيار اللذة الجثمانية. فأحس لهذا الخاطر صدمة واستقذره ورآه عبثًا وصبيانية وعالج أن ينفيه عن ذهنه وقلبه بعباراته الحادة القاسية المألوفة.
وقال وهو ينظر إلى السماء: «نعم، إن الحياة هي الشعور ولكن الناس ليسوا بهائم لا تعقل وعليهم أن يحكموا شعورهم وعواطفهم وأن يضبطوها وأن يوجهوا رغباتهم إلى ما هو خير. ولكن أَثَمّ إله فيما وراء هذه النجوم؟»
وما كاد يسأل نفسه هذا حتى شاع في جوانب نفسه إحساس مضطرب مؤلم رهيب كاد يسحقه وألح بالنظر على نجم وضيء في ذيل الدب الأكبر، وذكر أن كوسما الفلاح صاحب حقل البطيخ سمى هذه المجموعة الجليلة من النجوم عجلة أثقال، وضايقه أن يذكر هذا الوصف المرذول الوضيع وشخص إلى الحديقة المظلمة السوداء بنظره كأنما يريد أن يقابل بينها وبين السماء الوضيئة وأن يفكر فيهما ويتدبر أمريهما ثم قال لنفسه: «إذا حرم العالم طهر المرأة وحسنها وهما باكورة أزهار الربيع فماذا عسى أن يبقى للإنسان مما هو مقدس جليل؟»
وصور لنفسه وهو يقول ذلك سربًا من الغادات الفاتنات كأزهار الربيع جالسات في ضوء الشمس على المروج الخضراء في ظل الأغصان المتهدلة بالثمار والنوار، وجعلت صدورهن وأكتافهن الرقيقة البديعة التكوين وأعضاؤهن اللينة تتحرك أمام عينيه وتشيع في جسمه هزات لذة سارة، وكأنما أدارت رأسه هذه الصورة فأمر يده على جبينه يمسحه بها.
وجعل يسائل نفسه: «لماذا يثور ثائري لأن لياليا ليست بأول من أحب ريازانتزيف؟»
ولم يدر كيف يجيب عن سؤال كهذا ثم مثلت لعينه فجأة صورة سينا كرسافينا فقر ثائر نفسه، وحاول أن ينيم إحساساته التي أيقظتها هذه الصورة، ولكنه كان كلما عالج ذلك ازداد شعورًا بما يجعله ينشدها كما هي: نقية لم تمسسها يد.
وقال لنفسه لأول مرة: «نعم ولكني أحبها.»
ونفى هذا كل ما عداه من الخواطر واستحوذ على نفسه حتى لجالت الدموع في عينيه. وما هي إلا برهة ثم راح يسأل نفسه وعلى وجهه ابتسامة مرة: «لماذا إذن توددت إلى سواها من النساء قبلها؟ نعم إني لم أكن أدري أنها موجودة. وكذلك لعمري لم يكن ريازانتزيف يعرف لياليا. وكان كلانا وقتئذ يحسب أن المرأة التي يشتهي أن يفوز بها هي الوحيدة التي لا غنى له عنها، وكنا في ذلك على ضلال ولعلنا الآن مخطئون أيضًا. فلا معدى لنا عن إحدى اثنتين: أن نعف أبدًا أو أن نتمتع بالحرية الجنسية دون قيد ما ونبيح للنساء مثل ما أبحنا لأنفسنا. وعلى هذا لا يكون ريازانتزيف ملومًا من أجل أنه أحب نساء غير لياليا بل من أجل أنه لا يزال على صلة بعدة منهن، وليس هذا مما أصنع أنا في شيء.»
وزهاه هذا الخاطر وأشعره الطهر، ولكن هذا الإحساس لم يدم إلا هنيهة ثم ذكر ما تخيله من منظر الفتيات الجميلات اللينات في ضوء الشمس، وغلبه ذلك حتى ملك عليه حواسه وصار ذهنه ميدانًا تتدافع فيه الخواطر المتناقضة وأتعبه النوم على جانبه الأيمن فانقلب وتمطى على الأيسر وقال يخاطب نفسه: «الحقيقة أنه ما من امرأة عرفتها تستطيع أن ترضيني طول حياتي، والذي أسميته الحب الحقيقي مستحيل لا سبيل إلى تحقيقه، ومن الهذيان أن يحلم المرء بشيء كهذا.»
ولم يجد للتمطي على جانبه الأيسر ما قدره من الراحة، فعاد إلى الأيمن وهو قلق يتصبب تحت الغطاء الدافئ وتصدع رأسه: «إن العذرية مثل أعلى وفي تحقيقه فناء الإنسانية فهي إذن جنون — والحياة ماذا هي إن لم تكن بالجنون كذلك؟»
وكاد ينطق هذه الكلمات بصوت عال وعض على نواجذه حتى أومضت لعينه نجوم صفر.
وهكذا ظل إلى الصباح يتقلب وقد أثقلت قلبه وذهنه الخواطر الموحشة، ولما أراد أن يتخلص منها راح يقنع نفسه أنه هو أيضًا أناني شهواني مستهتك وأن شكوكه ليست إلا نتيجة الشهوة المخبوءة، غير أن هذا لم يزده إلا مَضًّا ولم يرفه عنه إلا هذا السؤال البسيط: «لماذا أعذب نفسي هكذا؟»
وأحنقه عبث هذا التشريح لنفسه ونفدت قواه فنام.