الفصل السادس عشر
جلست ليدا على سرير سارودين يائسة تلوي المنديل ليّ الاضطراب، فلما دخل عليها لحظ تغير منظرها وحئول هيئتها — فما بقي شيء من تلك الفتاة المزهوة الشامخة الرأس العالية الروح — ورأى أمامه امرأة محزونة حطمها الأسى وأغار من خديها وأخمد لمعة عينيها، فحدقته هاتان العينان السوداوان ثم ما عتمتا أن جانبتاه فأدرك بغريزته أن ليدا تخشاه، وفاجأه لذلك غيظ شديد فرد الباب بعنف ومضى إليها. وقال وهو لا يكاد يغالب جماح رغبة أن يضربها: «إنك حقيقة عجيبة جدًّا! ها ذا أنا هنا في غرفة غاصة بالناس وفي جملتهم أخوك. أما كان يسعك أن تتخيري وقتًا آخر للمجيء؟ إن هذا مثير حقًّا.»
فانطلقت إليه من العينين السوداوين نظرة تداعى لها سارودين فتغيرت لهجته وابتسم وكشف عن أسنانه البيضاء، وتناول يدا ليدا وجلس إلى جانبها على السرير وقال: «حسن حسن. إن الأمر غير مهم. وإنما كان قلقي وإشفاقي عليك، ولقد سرني أنك جئت فقد كنت مشتاقًا لرؤيتك.»
ورفع سارودين يدها الحارة المعطرة إلى شفتيه وقبلها مما يلي القفاز فسألته: «أتقول حقًّا؟»
فأدهشته غرابة لهجتها، ثم نظرت إليه مرة أخرى وقالت له عيناها بأصرح ما تنطقان: «أصحيح أنك تحبني؟ إنك ترى مبلغ شقوتي الآن. وكيف أني لم أعد في شيء مما كنت. وإني لأخافك وأشعر بكل ما في حالتي من الذلة والمهانة ولكنه ليس لي معين سواك.»
فأجابها سارودين: «كيف يخامرك الشك في صدق ما أقول؟» ولكن صوته خلا من رنة الإخلاص بل لقد كان باردًا جافيًا.
وتناول يدها مرة أخرى ولثمها وأحس أنه عالق بشبكة عجيبة من الإحساسات والخواطر؛ منذ يومين فقط على هذه الوسادة بعينها كانت خصل شعرها متهدلة وهو يطوقها بذراعيه وشفاهما ملتقية في قبلة عن أحر عاطفة وأجمحها، وفي تلك اللحظة خيل إليه أن كل ما استمتع به من النساء الأخر قد تحقق، وأنه بلغ سؤاله من الإساءة إلى هذه المرأة التي جعلتها العاطفة درج يديه إساءة وحشية متعمدة — والآن … شعر لها فجأة بالمقت. وود لو استطاع أن يدفعها عنه وأن لا يراها أو يسمع صوتها بعد ذلك. وبلغ من قوة هذه الرغبة وطغيانها أن الجلوس إلى جانبها صار مؤلمًا له. على أنه نازعه خوف مبهم منها فسلبه ذلك إرادته واضطره إلى البقاء بجانبها. وكان يدرك أتم إدراك أنه ليس ثم ما يربطه بها، وأنه ما نال منها شيئًا إلا برضاها دون أن يعدها شيئًا، فكأن كلًّا منهما قد أخذ كما أعطى، بيد أنه مع ذلك أحس كأنما لصق بمادة لزجة لم يقو على التخلص منها وتوقع أن تطالبه ليدا بشيء وأنه سيكون بين أمرين: أن يوافق ويقرها على ما تدعي أو أن يأتي عملًا حقيرًا دنيئًا. وأحس أن كل قوة له مسترقة كأنما نزعت عظام رجليه وذراعيه، وكأنما صار لسانه الذي في فمه خرقة مبلولة. وأراد أن يصيح في وجهها وأن يفهمها صراحة أن ليس لها حق ما في مطالبته بشيء، ولكن قعد به عن ذلك الخوف والجبن، وندت إلى لسانه عبارة فارغة كان يعلم أنها لا محل لها على الإطلاق. «آه. المرأة. المرأة.»
فنظرت إليه ليدا مستفظعة وكأنما أضاء لذهنها بارق فأدركت في لحظة أنها فقدت كل شيء، وأن كل ما منحت من طهرها وشرفها إنما منحته رجلًا ليس له وجود، وأن حياتها وصباها وطهرها وكبرها قد ألقت بها جميعًا عند قدمي بهيم جبان نذل لم يشعر لها بالشكران على ما بذلت له بعد أن لوثها، فهمت أن تلطم كفًّا بكف وأن تسقط على الأرض يأسًا وألمًا، غير أن الرغبة في الانتقام المنبعثة عن مرارة البغض حلت محل ذلك الشعور بسرعة البرق، فقالت وأسنانها مطبقة وعينها محدقة به: «ألا تعلم أنك غاية في الغباء والسخف؟»
فجاءت قحة هذه الألفاظ ونظرة الحقد التي لا تلائم ليدا اللينة السمحة، صدمة لسارودين تراجع لها ولم يكد يفهم مدلولها وحاول أن يمزح ويضيع أثرها بالفكاهة، وقال وهو مستغرب مغيظ: «أي ألفاظ هذه؟»
فردت ليدا بمرارة وخبطت كفًّا بكف: «لست في حالة تسمح لي بانتقاء الألفاظ.»
فقطب سارودين وسألها: «لماذا كل هذه السمات الحزينة؟»
واستهواه وهو لا يشعر جمال شكلها، فجعل ينظر إلى كتفيها الرقيقتين وذراعيها البديعتي التكوين، وأشعرته إيماءات اليأس والضعف الثقة بقوته، فكأنما هما في كفتي ميزان إذا شالت إحداهما رجحت الأخرى، ووجد سارودين لذة قاسية لعلمه أن هذه الفتاة التي كان يعدها أسمى منه قد صارت معذبة من أجله، وكان في العهد الأول من علاقتهما يخافها، فسره الآن أنها هوت إلى حضيض العار.
فلان لها وتناول في رفق يديها الضعيفتين وجذبها إليه وتنبهت مشاعره وصار نفسه سريعًا وقال: «لا تراعي، سينصلح الأمر فما فيه شيء فظيع بعد كل ما يقال.»
فأجابته باحتقار: «أَوَتظن ذلك؟» وساعدها الاحتقار على أن تثوب إليها نفسها وقوتها فحدجته بنظرة غريبة العنف.
فقال سارودين وهو يحاول أن يضمها إليه ضمة يعلم أن لها سحرًا: «نعم بلا شك أظن ذلك.»
غير أنها ظلت باردة جامدة، فقال بلهجة العاتب المترفق: «تعالي تعالي. ما بالك نافرة يا حبيبتي.»
فصاحت به ليدا وهي تدفعه عنها: «دعني! أقول لك دعني!»
فتألم سارودين وحز في نفسه أن عواطفه هاجت عبثًا وحدث نفسه «إن المرأة هي الشيطان بعينه» وسألها وقد حرج صدره واحمر وجهه: «ما خطبك؟»
وكأنما أطاف سؤاله بذهنها ذكرى فسترت وجهها بكلتا يديها، وبكت بكاء الفلاحات الساذجات، وأعولت ووجهها مدفون في راحتيها وجسمها منحن وشعرها متهدل على محياها البليل المتهضم، فأسقط في يد سارودين ولم يسعه الابتسام. وإن كان على هذا خشي أن يسوأها ابتسامه، وحاول أن ينحي كفيها عن وجهها فقاومته مقاومة عنيدة وظلت تبكي.
فقال: «يا إلهي.» ونازعته نفسه أن يصيح بها وأن ينزع كفيها وأن يسبها ويشتمها وقال لها بخشونة: «لماذا تبكين؟ لقد أخطأت معي وهذا من سوء الحظ ولا حيلة الآن، فلماذا كل هذه الدموع اليوم؟ أمسكي بالله.»
وأمسك بإحدى يديها فاهتز رأسها يمنة ويسرة، فكفت عن البكاء بغتة ونحت كفيها عن وجهها المبلل بالدمع ورفعت عينها إليه كما يرفعها الطفل الخائف، وطاف بذهنها بمثل سرعة البرق أن في وسع من شاء أن يلطمها الآن، ولكن سارودين ألان من شدته، وقال بصوت المواسي: «اسمعي ياليدوتشكا، كفي عن البكاء، إنك ملومة مثلي، فلماذا تحدثين ضجة؟ لقد خسرت الكثير ولا شك، وإني لأعلم ذلك ولكنا نلنا حظًّا كبيرًا أليس كذلك؟ ويجب علينا أن ننسى …»
فانطلقت ليدا تبكي من جديد فصاح: «أوه، أمسكي عن هذا.»
ثم مشى إلى آخر الغرفة وجعل يشد شعر شاربيه بعنف وشفتاه ترجفان وصارت الغرفة ساكنة. وحط طائر على أغصان شجرة مما يلي النافذة. فاهتزت في رفق وحاول سارودين أن يكبح جماح غضبه فدنا من ليدا وطوق خصرها بذراعه، ولكنها أفلتت منه مسرعة وضربته بجمع يدها على ذقنه ضربة اصطكت لها أسنانه فصاح مغضبًا: «إلى الشيطان بها!»
وآلمته الضربة وغاظه صوت أسنانه المصطكة أكثر مما أَلِمَ للطمة.
ولم تسمع ليدا قوله هذا، ولكنها أدركت بفطرتها أن موقف سارودين مضحك فانتهزت هذه الفرصة بكل ما أوتيت المرأة من قسوة وقالت تحاكيه: «أي ألفاظ هذه؟»
فأجابها مغيظًا: «إن هذا يكفي لاستفزاز أي إنسان!»
ثم عاد فقال: «لو أني عرفت ما خطبك!»
فقالت ليدا بلهجة جارحة مرة: «أتريد أن تقول إنك ما زلت تجهل؟»
وصمتا برهة. وجعلت ليدا تنظر إليه شزرًا ووجهها أحمر كالنار، فامتقع سارودين كأنما انسدل على وجهه نقاب أصفر، ثم صرخت به صرخة المتشنج حتى لأفزعها صوتها: «ما لك صامتًا؟ لماذا لا تنطق؟ تكلم قل شيئًا تعزيني به!»
أجاب: «أنا …» وارتجفت شفته السفلى.
فصرخت مرة أخرى ودموع الحنق واليأس تكاد تخنقها: «نعم أنت، ولا أحد سواك!»
وسقط عنه كما سقط عنها نقاب الأدب والمجاملة وظهر الوحش الشارد الجامح في عيونهما كليهما.
وطافت برأس سارودين خواطر كالجرذان والفيران … وخطر له أولًا أن ينقدها مالًا وأن يقنعها بالتخلص من الجنين، ورأى أن لا بد له من بت كل صلة بها، وبذلك ينتهي الأمر، غير أنه لم يقل شيئًا، وإن كان يرى أن هذه خير وسيلة وتمتم: «لم يخطر لي قط …»
فصرخت ليدا كالمجنونة: «لم يخطر لك قط! لماذا لم يخطر لك؟ بأي حق لم تفكر؟»
فقال والألفاظ تتعثر: «ولكني يا ليدا لم أقل لك أبدًا إني …»
وخاف أن يتم ما يريد فأمسك، وفهمت ليدا مراده دون أن يصارحها به، فاسود وجهها ومسخه الاستقطاع واليأس وسقط ذراعاها إلى جانبيها وهوت إلى السرير، وقالت وكأنها تفكر بصوت عالٍ: «ماذا أصنع؟ أأغرق نفسي؟»
أجاب: «لا! لا! لا تقولي هذا!»
فرمته ليدا بنظرة قاسية وقالت: «هل تدري يا فيكتور سرجيفتش؟ أني واثقة أن هذا لا يحزنك أبدًا.» وكان في عينيها وعلى فمها الجميل المرتجف من الحزن والأسى ما جعل سارودين يدير وجهه عنها.
ثم وقفت وكانت تحسب في أول الأمر — ويعزيها حسبانها هذا — أنها ستجد فيه منقذًا لها وعونًا وأنها ستعيش معه أبدًا، فالآن كفلها ما أهداه إليها من خيبة الأمل بالمقت والتقزز منه، وودت لو هزت له قبضة يدها وبصقت احتقارها في وجهه جزاء له على إذلالها وامتهانها، ولكنها شعرت أنها ستبكي قبل أن ينطلق لسانها بحرف، وصدتها بقية من الكبر هي كل ما بقى من ليدا الحزينة الجميلة، وقالت له وأسنانها مطبقة وفي لهجتها من الاحتقار العميق ما أدهشها كما أدهشته: «أيها الوحش؟»
وانطلقت كالسهم خارجة من الغرفة وعلق كمها برتاج الباب فتمزق، فاصطبغ وجه سارودين بالحمرة إلى جذور شعره. ولو أنها قالت «أيها الشقي» أو «أيها النذل» لاحتمل منها هذا في سكون، ولكن لفظة «الوحش» خشنة لا تتفق في رأيه مع شخصيته الساحرة، فأذهله ذلك واحمر حتى بياض عينيه فتلوى وهز كتفيه مضطربًا وزر جاكتته ثم فك أزرارها وهو على أتم ما يكون اضطرابًا.
ولكنه ما عتم أن استشعر الارتياح الناجم عن الإحساس بالتخلص، فقد قضي الأمر. على أنه غاظه أنه لن يظفر مرة أخرى بليدا وأنه خسر مثل هذه الرفيقة الجميلة المشتهاة، غير أنه نفى هذا الأسف بإيماءة احتقار.
«إلى الشيطان بهن جميعًا. إن في طوقي أن أنال ما أشاء ممن أشاء منهن.»
وسوّى جاكتته وأشعل سيجارة وشفتاه لا تزالان ترتجفان ثم استعاد مألوف هيئته وكر إلى ضيوفه.