الفصل الثامن عشر
لم تعد ليدا إلى البيت بل حثت خطاها في طريق ينأى بها عنه، وكانت الشوارع خالية والحر يأخذ بالمخنق والظلال متقلصة إلى الحائط والسياج بعد أن هزمتها الشمس الظافرة وردتها، ففتحت ليدا مظلتها بحكم العادة وقوّتها، ولم تلتفت إلى الحر أو البرد ولا إلى النور ولا الظلمة، ولم تدر في أيها تسير، فمضت مسرعة وتجاوزت الأسيجة المعفرة المكسوة بالأكلاء ورأسها مثني وعينها إلى الأرض، ولم تصادف في طريقها إلا نفرًا من الراجلين كان يخنقهم الحر، وفيما عدا ذلك كانت البلدة ساكنة كما تكون في القيلولة.
وكان قد تبعها جرو أبيض شم رداءها ثم انطلق يعدو أمامها يلتفت إليها ويبصبص لها بذنبه كأنما يريد أن يقول لها إنهما زميلان مترافقان. ورأت ليدا عند منعطف الشارع صبيًّا صغيرًا بدينًا مضحك الهيئة أطل قميصه من جاكتته عند كتفه وخداه طويلان ملوثان بعصير بعض الفاكهة ويداه تعملان بقوة في منفاخ خشبي.
فأومأت ليدا إلى الجرو وابتسمت للصبي غير معتمدة شيئًا مما فعلت، فقد كانت روحها سجينًا، وكانت تدفعها إلى الأمام قوة غامضة تفصل ما بينها وبين الدنيا، وتجوز بها ضوء الشمس والخضرة وكل ما في الحياة من مفارح ومتع وتسوقها إلى هاوية سحيقة مظلمة أشعرها الألم أنها منها قريبة.
ومر بها ضابط تعرفه على جواده فلما أبصرها وقف وسألها بصوت طروب: «ليدا بتروفنا! إلى أين في هذا القيظ»
فارتفعت عينها بلا عمد إلى قبعته المشدودة إلى جبينه الملوح الرطب ولم تتكلم، ولكنها منحته ابتسامة الدلال المألوفة وجعلت تردد سؤاله «إلى أين؟» وهي تجهل ما عسى أن يقع لها.
وزايلها غضبها على سارودين، ولم تكد تفهم لماذا قصدت إليه، فقد كان يخيل لها أن من المستحيل أن تحيا بدونه أو أن تحتمل حزنها وحدها. أما الآن فكأنما اختفى وغاب ولم يعد له وجود في حياتها ومات الماضي ولم يبق إلا ما يعنيها وحدها، وهذا ما يسعها أن تبت فيه دون أن ترجع في ذلك إلى أحد.
وكان ذهنها يفكر بسرعة المحموم، غير أن خواطرها كانت على هذا واضحة جلية ولكن أهول ما كان يهولها هو أن ليدا الجميلة المزهوة ستذهب وتخلف وراءها مخلوقًا شقيًّا مضطهدًا ملطخًا ضعيف الحول. كلا! لا بد أن تبقى النفس المزهوة والوجه الجميل، وإذن لا بد لها أن تمضي إلى حيث لا تعلق بها الأوحال.
ولما تقرر هذا في ذهنها أحست كأنما أحاط بها فراغ وغابت الحياة والشمس والناس وصارت مستفردة بينهم كل الاستفراد، ألا لا مفر! لا معدى لها عن الموت! يجب أن تغرق نفسها. وما عتمت أن استولت عليها هذه النية واستغرقتها هالة الفكرة، فبدا لها كأن سورًا من الحجر التف بها وحجبها عن كل ما كان وكل ما عسى أن يكون.
وقالت: «ما أبسط هذا في الحقيقة!» ودارت بعينها ولم تر شيئًا …
وصارت خطاها أسرع، ولولا سعة ثوبها لجرت فقد كانت تحس أن بطأها لا يطاق.
«هنا بيت وها هنا آخر له نوافذ خضراء ثم هنالك الفضاء!»
والنهر والجسر ثم ما سيحدث … فلم تتمثل لها صورة واضحة لهذا، فكأن ثم سحابة أو ضبابًا يحجب كل شيء، غير أن هذه الحالة النفسية لم تدم إلا ريثما بلغت الجسر. ولما حنت على سور الجسر ترمق الماء المربد زايلتها ثقتها بنفسها وتملكها الخوف وإرادة الحياة، وعاودها إحساسها بكل شيء حي وسكت سمعها الأصوات وتناغي الأطيار، ورأت نور الشمس والأزاهير في الرياض والجرو الأبيض يتطلع إليها تطلع من يعدها سيدته بلا مراء، وكان مقعيًا قبالتها يرفع لها كفه ويضرب الأرض بذيله.
فرنت إليه ليدا واشتاقت أن تضمه على ساعديها إلى ثدييها، واغرورقت عيناها وغلبها الأسى والأسف على حياتها الجميلة التي درست، فمالت إلى السور وهي تكاد تفقد رشدها واتكأت على حافته الملتهبة، فسقط لسرعة انحنائها أحد قفازيها في الماء، فجعلت ترقب في فزع صامت هوية الساكن إلى صفحة الماء واندياح الدوائر فيها، فرأت قفازها الأصفر يحلولك شيئًا فشيئًا ويملؤه الماء وينقلب كأنما لواه ألم النزع ثم يهوي إلى أغوار النهر الخضراء، فحددت ليدا نظرها لترى غوصه، ولكن النقطة الصفراء لم تزل تتضاءل حتى غابت، ولم تعد تأخذ عينها إلا صفحة الماء المصقولة.
وإنها لكذلك وإذا بصوت أنثى على كثب منها يسألها: «كيف حدث هذا أيتها السيدة؟»
ففزعت متراجعة ورأت فلاحة مفرطحة الأنف ترمقها مستطلعة بعين عطوف، ومع أن هذا العطف لم يكن المقصود به إلا القفاز المفقود، إلا أن ليدا شعرت كأنما هذه الفلاحة السمينة الطيبة القلب تعرف كل شيء وترثي لها، فهمت أن تقص عليها خبرها وأن ترفه بذلك عن قلبها، غير أنها نحت هذه الفكرة وطاردتها مستسخفة إياها واحمر وجهها وتمتمت: «لا شيء!» وهي تتطرح متراجعة عن الجسر.
«هنا! مستحيل، لو أغرقت نفسي هنا لأنقذوني.»
وسارت مسافة أخرى على شاطئ النهر متوخية طريقًا ممهدًا إلى اليسار بين النهر والحقول وعلى جانبيه الأشواك والأزهار وأشجار الصفصاف منحية إلى النهر، وكان الشاطئ المنحدر مكسوًّا بالخضرة ومغمورًا بنور الشمس والنباتات تترنح نواراتها اللزجة فوق الأكلاء والأشواك التي علقت بأهداب ليدا، ولمست وهي سائرة نباتًا هائجًا فانتثرت فوقها حباته البيضاء.
وكانت ليدا تدفع نفسها دفعًا وتغالب القوة التي تحاول أن تثنيها وتقول وتكرر: «لا بد من ذلك! لا بد منه!» وهي تجر نفسها وكأن رجليها أنبت ما بينهما لما نأت عن الجسر ودنت من الموضع التي اعتزمت أن تنتهي إليه.
ولما بلغته ورأت الماء الأسود البارد في ظل الأغصان المتهدلة والتيار يندفع ويزخر عند زاوية ناتئة من الشاطئ أدركت لأول مرة كيف شوقها إلى الحياة وفزعها من الموت، ولكنه لم يكن لها مفر من الموت إذ كان البقاء مستحيلًا. فرمت بقفازها الثاني ومظلتها دون أن تنظر حولها، وعاجت عن الطريق ومالت إلى النهر بين الحشائش ومر بذهنها في تلك الهنيهة ألف خاطر وتنبه إيمانها من أعمق أعماق روحها حيث ظل راقدًا، فجعلت تردد هذه الصلاة: «رب انقذني! رب ساعدني.» وما أتمتها حتى ذكرت من حيث لا تحتسب قطعة من أنشودة كانت تدرسها في الأيام الأخيرة، فارتد ذهنها إلى سارودين ثم بدا لها وجه أمها وزاد حبها لها في تلك الآونة، فلم يثنها ذلك بل زاد عزمها مضاء فاندفعت تعدو إلى النهر، ولم تكن ليدا تدرك حتى الساعة أن أمها وسائر من يحبونها إنما يحبون منها ذلك الذي يودون أن تكونه لا ليدا على حقيقتها وبكل عيوبها ونقائصها وشهواتها. فالآن وقد حادت عن الطريق الذي لا يعدون غيره مستقيمًا فإن هؤلاء الوامقين وأمها على وجه أخص سيقسون عليها بقدر حبهم لها.
ثم اختلط كل شيء في نظرها اختلاط الحلم في مخيلة المحموم وتنازعها الخوف والشوق إلى الحياة، والإحساس بالقدر المحتوم والإنكار والاقتناع بأن الأمر قد قضي والأمل واليأس، والشعور المفزع بأنها ها هنا ستموت، ثم مثلت لعينها صورة رجل شبيه بأخيها يثب بين الأكلاء إليها.
«لم يكن يسعك أن تفعلي أسخف من هذا!» هكذا قال سانين وهو يلهث.
ومن عجيب الاتفاق أن ليدا كانت قد انقلبت إلى نفس الموضع الذي أمكنت فيه سارودين منها لأول مرة، وهو موضع تحجبه الأشجار الضخمة عن ضوء القمر، فرآها سانين وفطن إلى ما عقدت عليه نيتها، فخطر له بادئ الرأي أن يدعها وشأنها، ولكن حركاتها العصبية المضطربة حركت عطفه فتخطى مقاعد الحديقة وحواجزها وأسرع إلى إنقاذها.
فكان لصوت أخيها تأثير مفزع في نفسها، فتداعت أعصابها بعد أن شدها الصراع الباطن ودارت بها الأرض، وصار كل شيء يسبح أمام عينيها، ولم تعد تدري أفي الماء هي أم على الشاطئ. وكان سانين قد أمسك بها ولما يكد، وتراجع عن الماء وقد سرته قوته ومهارته وقال: «هذا أنت!» وأجلسها إلى سياج الحديقة وأدار عينه فيما حوله وهو يقول لنفسه: «ماذا أصنع لها؟»
ثابت إلى ليدا روحها في هذه اللحظة وشرعت تبكي بكاء أليما وهي مصفرة مضطربة، وتقول وهي تعول كالطفل: «يا إلهي! يا إلهي!»
فقال سانين ناهرًا في رفق: «سخافة مطبقة!»
ولم تسمعه ليدا ولكنها لما أخذ يتحرك تعلقت بذراعه وزاد عويلها ثم قالت لنفسها خائفة: «آه! ماذا أنا صانعة؟ لا ينبغي لي أن أبكي، يجب أن أضحك وإلا فطن إلى الأمر.» فسألها سانين وربت كتفها بحنان: «ما لك مضطربة؟» فرفعت إليه طرفها تحت القبعة وبها مثل حياء الطفل وكفت عن البكاء فقال سانين: «إنى أعرف كل شيء. القصة كلها. أعرفها من زمن مديد.»
وكانت ليدا تعلم أن أناسًا كثيرين قد فطنوا إلى نوع علاقاتها مع سارودين، ولكنها أحست لما قال سانين هذا كأنما لطمها على وجهها، فتقبض جسمها اللين ونظرت إليه بعين فاض منها الدمع، فقال سانين وهو يضحك: «ماذا دهاك الآن؟ إنك تنظرين إليّ كأني دست على قدميك.»
ثم أمسك بكتفيها المستديرتين المصقولتين فارتجفتا للمسته وردها في رفق إلى مجلسها الأول وهي مذعنة طائعة وقال: «تعالي! ماذا يحزنك؟ أهو أني أعلم كل شيء؟ أم تحسبين خطيئتك مع سارودين من الفظاعة بحيث تخافين أن تقري بها؟ الحق أني لا أفهمك يا ليدا، إذا كان سارودين لا يريد أن يتزوجك، حسن … هذا شيء يجب أن تحمدي الله عليه. لقد عرفت الآن — ولا بد أنك كنت تعرفين من قبل — أي حقير دنيء هو على الرغم من قسامته ومن صلاحه لمواقف العشق، إذ كل ما له هو الوسامة، وأحسبك الآن أصبت منها كفايتك.»
فقالت ولسانها يتعثر: «لقد أصاب هو كفايته مني … لا أنا منه! آه! ربما كنت قد أصبت كفايتي! آه! يا إلهي ماذا أصنع؟»
فقال سانين: «والآن أنت حبلى …»
فأغمضت ليدا عينيها وأطرقت. فمضى سانين في كلامه مترفقًا: «لا شك أن هذا أمر سيئ، فالوضع — أولا— عمل ثقيل مؤلم والناس — ثانيًا وهو المهم — قد يضطهدونك. على أنك يا ليدوتشكا لم تسيئي إلى أحد، ولو أنك جئت إلى هذه الدنيا بعشرة أطفال لما أضر هذا بأحد سواك.»
وأمسك سانين ليفكر وطوى ذراعيه على صدره وجعل يعض أطراف شاربه وقال: «وفي وسعي أن أشير عليك بما ينبغي لك أن تصنعي ولكنك أضعف وأسخف من أن تعملي برأيي. إنك أجبن من ذلك! ومهما يكن من الأمر فالمسألة لا تستحق أن تنتحري من جرائها. انظري إلى الشمس المشرقة وإلى النهر المنحدر الساكن، واذكري أنك إذا مت عرف كل إنسان ماذا أماتك، فأي خير لك في هذا؟ إنك لا تريدين الموت من أجل أنك حبلى، بل من أجل أنك تخافين ما سيقوله الناس. فشر ما في مصيبتك ليس في المصيبة نفسها بل في أنك تضعينها بينك وبين حياتك التي ترين أنها يجب أن تنتهي. ولكن هذا في الحقيقة لن يغير من الحياة شيئًا. إنك لا تخافين البعداء بل القريبين منك، ولا سيما من يحبونك ويعدون بذلك نفسك إحدى الكبر، لأن البذل كان في غابة أو مرج لا في سرير شرعي. وهؤلاء لن يتلكئوا في عقابك على زلتك، فأي خير في هؤلاء لك؟ إنهم قوم أغبياء غلاظ القلوب فارغو الرءوس. ولماذا تموتين من أجل قوم أغبياء غلاظ القلوب فارغي الرءوس؟»
فسألته بصوت أجش: «ولكن ماذا ينبغي أن أصنع؟ خبرني ماذا … ماذا؟»
فقال سانين: «أمامك طريقان: أن تتخلصي من هذا الطفل الذي لا يريده أحد والذي لا يفيدك ميلاده إلا المتاعب كما لا بد أن تعرفي.»
فأعربت عينا ليدا عن الاستفظاع، وعاد سانين إلى الكلام فقال: «من الظلم الشديد أن يقتل المرء مخلوقًا يقدر لذة الحياة ويعرف هول الموت. ولكن جرثومة … كتلة جامدة من اللحم والدم …»
فوجدت ليدا إحساسًا عجيبًا وشعرت في أول الأمر بالعار حتى لكأنها نضت عنها ثيابها جميعًا وراحت أصابع وحشية تجسها وتلمسها. ولم تجرؤ أن تنظر إلى أخيها وخشيت أن يميتهما العار كليهما. ولكن عيني سانين الزرقاوين كانتا ساكنتين وكان صوته متزنًا هادئًا كأنما يحدثهما عن أمور مألوفة، وهذه القوة الهادئة وعمق الصواب هما اللذان أزالا خجل ليدا وخوفها، غير أنها ما لبثت أن غلبها اليأس، فأمسكت بجبينها وجعلت أطراف ثوبها الرقيق تخفق كجناحي الطائر الفزع وقالت: «لا أستطيع كلا. لا أستطيع! أحسبك مصيبًا ولكن لا أستطيع! إن هذا فظيع!»
فقال سانين وهو يركع وينحي كفيها في رفق عن وجهها: «حسن حسن، إذا لم تستطيعي هذا فلا بد لنا أن نحتال على إخفائه على نحو ما، وسأرى لي رأيًا في حمل سارودين على الخروج من البلدة: وأنت — حسن — ستتزوجين نوفيكوف وتسعدين. إني أعرف أنك كنت حقيقة أن تقبلي نوفيكوف لولا أن لاقيت هذا الضابط اللهج! إني على يقين من هذا.»
فلما ذكر اسم نوفيكوف بدا لليدا النور في الظلمة، وخيل إليها لحظة أن من السهل إصلاح ما فسد لأن سارودين أشقاها، وهي مقتنعة أن نوفيكوف لم يكن ليصنع بها ما صنع ذاك. ولم يبق عليها إلا أن تنهض لتوها وأن تعود وأن تقول كلمة أو اثنتين لتعود الحياة وضيئة الجمال. وستحيا مرة أخرى وتحب ثانية.
ولكن حياتها في هذه المرة ستكون خيرًا وحبها أعمق وأطهر، بيد أن هذا الحلم لم يطل، فذكرت أن هذا مستحيل، وأن الحب السخيف الحقير قد لوثها وهوى بها.
وخطرت ببالها كلمة خشنة لم تكن تدري أنها تعرفها ولم تنطق بها قط، فنعتت بها نفسها فكأنما لكمها لا كم على أذنيها وصاحت: «ويحي. هل صرت حقًّا …؟ نعم نعم لا شك.»
ثم تمتمت وقد أخجلها رنين صوتها: «ماذا قلت؟»
فسألها سانين: «حسن علام عولت؟»
ونظر إلى شعرها الجميل المتهدل على جيدها الناصع المتألق في ضوء الشمس النافذ إليه من خلل الأوراق، وتملكه الخوف من أن يعجز عن إقناعها، وأشفق أن تغيب في فراغ الموت المظلم هذه المرأة الجميلة التي خلقت لتنشر السرور والغبطة، وكانت ليدا صامتة تعالج أن تصرع رغبتها في الحياة، وكانت هذه الرغبة قد طغت بها على رغم إرادتها واستولت على كيانها المرتعد. وحسبت أن من العار بعد الذي جرى لا أن تعيش فقط بل أن ترغب في الحياة. غير أن جسمها القوي المملوء حيوية رفض هذه الفكرة الممسوخة كأنها السم الزعاف.
وسألها سانين: «ما لك صامتة!»
قالت: «لأن هذا مستحيل. إنه يكون دناءة! إني …»
فقال سانين وقد نفد صبره: «لا تنطقي بهذه السخافة!»
فرفعت ليدا طرفها إليه مرة أخرى وفي عينيها المغرورقتين بارقة أمل، وكسر سانين غصنا صغيرًا عضه ثم ألقى به وقال: «دناءة! ألفاظي تذهلك. ولكن لماذا؟ إن المسألة لا يسعني لا أنا ولا أنت أن نجيب عنها جوابًا صحيحًا. جريمة؟ ما هي الجريمة؟ إذا تعرضت حياة الأم للخطر وهي تضع طفلًا وأميت هذا الطفل الحي لتنجو أمه لم يعد الناس هذا العمل جريمة بل ضرورة منحوسة! فإما أن نقضي على شيء لم يوجد بعد فهذا جرم شنيع! نعم جرم شنيع حتى ولو كانت حياة الأم بل سعادتها وهي أكبر من حياتها رهن بذلك! لماذا يكون هذا هكذا؟ لا يدري أحد! ولكن كل امرئ يذهب إلى هذا ويصيح: مرحى! — وضحك سانين ساخرًا — ويحكم معاشر الرجال يخلقون لأنفسهم خيالات وأشباحًا وأوهامًا هم أول من يروح فريستها. على أنهم يقولون إن الإنسان أشرف الكائنات وأعلاها وأنه تاج الخليقة وملكها وأراه ملكًا لم يحكم قط، ملكًا معذبًا يفزعه ظله!»
وأمسك سانين هنية ثم عاد يتكلم: «على أن هذا ليس بسبيلنا الساعة. تقولين إن هذا يكون عملًا دنيئًا. لا أدري لعل الأمر كما تقولين. وأحسب أن لو سمع نوفيكوف بما أنت فيه لأمضه جدًّا وأحزنه، وربما قتل نفسه، على أنه مع ذلك سيحبك كما أحبك من قبل. ولئن قتل نفسه ليكونن هو الملوم. أما إذا كان لبيبًا ذكيًّا فأخلق به أن لا يكترث لكونك (معذرة من هذه العبارات) ضاجعت سواه، فإن جسمك لم يفقد شيئًا بذلك — لا ولا روحك. ويا عجبًا له! أما يمكن أن يتزوج أرملة مثلًا؟ إذن فليس هذا بالذي يمنعه أن يتزوجك وإنما تمنعه — إذا منعته — آراؤه المشوشة المختلطة التي حشى بها رأسه، وأما أنت يا ليدا فلو أنه كان ممكنًا أن لا يحب الآدمي إلا مرة في حياته كلها لكانت معاودة الحب عبثًا لا يسر ولكن هذا ليس هكذا. والحب متعة مشتهاة دائمًا وستألفين نوفيكوف وتحبينه، فإذا لم تفعلي رحلنا معًا يا ليدوتشكا، إن المرء يستطيع أن يعيش حيثما اتفق أليس كذلك؟»
فتنهدت ليدا وحاولت أن تغلب ترددها وتمتمت: «ربما … صلحت الأمور … ونوفيكوف … طيب رقيق القلب. وجميل أيضًا أليس كذلك؟ نعم … لا، لا أدري ماذا أقول.»
فقال سانين: «ولو كنت أغرقت نفسك … ماذا إذن؟ إن قوى الخير والشر ما كانت لتكسب أو تخسر بذلك، وكل ما كان يحدث هو أن جثتك المشوهة الممسوخة الملطخة بالأوحال كانت تطفو وتجر إلى الأرض وتدفن. هذا كل ما كان يحدث.»
فتصورت ليدا الماء المربد والأوحال والأعشاب والفقاقيع سابحة حولها وقالت واصفرت: كلا. كلا. أبدًا. أهون من ذلك أن أحتمل كل عار … ونوفيكوف … كل شيء … «أي شيء سوى هذا»
فقال سانين ضاحكا: «انظري كيف تفزعين.»
فابتسمت ليدا بين دموعها وعزتها ابتسامتها وقالت بقوة: «مهما يكن ما يحدث فإني مصممة على الحياة.»
فصاح سانين ووثب: «حسن، إنه ليس أفظع من فكرة الموت، وما دام المرء يستطيع أن يحتمل العبء وأن لا يفقد إحساسه بمناظر الحياة وأصواتها فليحيا. ألست على صواب؟ والآن ناوليني يدك.»
فمدت إليه ليدا يدها شاكرة.
وقال سانين: «هذا حسن … ما أحلى يدك وأجملها.» فابتسمت ليدا ولم تقل شيئًا.
ولم يذهب كلام سانين سدى، فقد كانت ليدا قوية الحيوية زخارتها، وكانت الأزمة التي مرت بها قد وترت أعصابها إلى أقصى حد، فلو زاد الضغط لتمزقت، ولكن الضغط لم يزد وعاد كيانها يتجاوب بالرغبة في الحياة زاخرة قوية. فنظرت فوقها وحولها وهي ثملة وأحست السرور تنبض به كل جارحة، وكل شيء أحسته في ضوء الشمس وفي المروج الخضراء وفي النهر المؤتلق وفي وجه أخيها الساكن المبتسم وفي نفسها فكأنما كانت ترى ذلك وتسمعه لأول مرة، وصاح بها صوت طروب من أعماق صدرها: «الحياة. الحياة».
وقال سانين: «حسن، سأكون عونك في متاعبك وظهيرك وساعدك في معاركك، والآن لما كنت فتانة الجمال فهاتي قبلة.»
فابتسمت ليدا ابتسامة عرائس الغاب ولف سانين ذراعيه حول خصرها وضمها، فاهتز جسمها الحار اللين للمسته وهمرها وعانقها عناقًا حارًا وشاع في نفسها السرور وحنت إلى الحياة الرحيبة القوية، ولم تك تكترث لما تصنع فطوقت عنق أخيها بكلتا ذراعيها في بطء وزمت شفتيها لتتلقى قبلته وعيناها مفتوحتان كمغمضتين.
وأحست سعادة لا تدانيها سعادة بين ذراعي سانين ونسيت في هذه اللحظة من يقبلها أهو أخوها أو أجنبي منها، مثل الزهر تدفئها الشمس ولا تسأل من أين كل هذه الحرارة.
ثم قالت مغتبطة: «ماذا جرى آه! نعم! لقد أردت أن أغرق نفسي … ما أحمقني ولماذا؟ أوه، إن هذا جميل! هات أخرى وأخرى والآن سأقبلك أنا؛ ما أحلى هذا! ولن أكترث لما يحدث ما دمت أحيا.»
فقال سانين وأطلقها: «هذا أنت فانظري إن كل شيء حسن في الدنيا حسن، ولا ينبغي لنا أن نحيله قبيحًا ونمسخه.»
فابتسمت ليدا ابتسامة المفكر ورتبت شعرها وسوته وناولها سانين المظلة والقفاز فأدهشها في أول الأمر أن قفازها الثاني لا وجود له، ولكنها لم تلبث أن ذكرت السبب وأضحكها اهتمامها العظيم بذلك الحادث لما وقع وقالت: «حسن حسن، لقد مضى هذا وانقضى.»
وسارت مع أخيها على شاطئ النهر وأرسلت الشمس أشعتها القوية على صدرها الناضج المكتنز.