الفصل التاسع عشر
لما فتح نوفيكوف الباب بيده لسانين لم تكن لمحته تدل على الارتياح إلى هذه الزيارة لأن كل ما يذكره ليدا وحلمه المنتسخ كان يحرك آلامه.
ولاحظ سانين هذا ودخل الغرفة يبتسم، وكان كل ما فيها مبعثر على غير نظام كأنما ثارت به زوبعة، وكانت الأرض مغطاة بالأوراق والقش وغير ذلك، والسرير والكراسي عليها الكتب والثياب وأدوات الجراحة وحقيبة.
فسأله سانين مستغربًا: «أمسافر أنت؟ وإلى أين؟» فتحاشى نوفيكوف نظرة سانين ومضى في جمع أشيائه وهو مرتبك مغيظ لارتباكه ثم قال أخيرًا: «نعم لا بد لى من مغادرة هذا المكان. فقد أمرت بذلك رسميًّا.»
فنظر إليه سانين ثم إلى الحقيبة. وبعد نظرة أخرى انبسطت أسارير وجهه عن ابتسامة، وكان نوفيكوف صامتًا يجثم على صدره إحساسه بالوحدة وحزنه العميق وشرع — وهو غارق في خواطره — يلف حذاءين مع بعض الأنابيب الزجاجية. فقال سانين: «إذا كنت تحزم أمتعتك على هذه الطريقة فستصل إلى حيث تقصد بدون الأنابيب أو بدون الحذاءين.»
فأرسلت عين نوفيكوف المغروقة ردها وقالت: «آه! دعني أما ترى كيف حزني وألمي؟»
ففهم سانين هذا الرد الصامت وسكت: وكان الأصيل قد جاء وصارت السماء صافية كالبلور ثم قال سانين: «أظن أن الأرشد لك والأولى بك بدلًا أن تذهب إلى حيث لا يدري — إلا الشيطان — أن تتزوج ليدا.»
فاستدار نوفيكوف وهو يرجف وقال: «لا يسعني إلا أن أطلب إليك أن تكف عن هذا المزاح السخيف.»
قال ذلك بصوت عال شديد فرن صداه وتجاوبت به الحديقة الحالمة فسأله سانين: «لماذا هذا الغضب؟»
فأجاب نوفيكوف بصوت مخنوق: «اسمع؟»
وكان في عينه وعلى وجهه من الغضب ما جعل سانين ينكره ولا يعرفه على أنه مع ذلك سأله ضاحكًا: «أتريد أن تقول إنه لا يكون من حسن حظك أن تتزوج ليدا؟»
فصاح به نوفيكوف: «اخرس»
وتطرح إليه وفي يده حذاء قديم يلوح به فوق رأس سانين، فقال سانين بعنف وهو يتراجع: «تمهل! لا تغضب أمجنون أنت؟»
فرمى نوفيكوف الحذاء ساخطًا وأسرعت أنفاسه وعاد سانين يتكلم فقال: «لقد هممت فعلًا بهذا الحذاء أن …»
وأمسك وهز رأسه ورثى لصديقه وإن كان قد استخف سلوكه هذا فقال نوفيكوف وهو مرتبك: «إن هذا خطؤك.»
ثم شاعت في نفسه الثقة بسانين والاطمئنان إلى قوته وسكونه، وكان هو كالتلميذ الصغير يود لو قال بشجوة الحال موافق وجال الدمع في عينه وقال وهو يغالب عواطفه: «لو أنك عرفت كيف ينفطر قلبي؟ …» فقال سانين بعطف: «يا صديقي العزيز إني أعرف كل شيء.» فأجابه نوفيكوف وجلس إلى جانبه: «كلا، إنك لا تستطيع أن تعرف كل شيء.»
وأحس أنه ما من أحد به مثل حزنه وكمده فقال سانين: «نعم نعم أعرف. وأقسم على ذلك. وإذا وعدت أن لا تحمل علي مرة أخرى بحذائك القديم هذا أثبت لك ما أقول. فهل تعدني؟» أجاب: «نعم سامحني يا فولودكا!»
وسمى سانين أول أسمائه وهو ما لم يفعله من قبل، فتأثر سانين وزادت رغبته في مساعدة صديقه فقال ووضع يده على ركبة نوفيكوف: «إذن فاسمع ولنكن صريحين. إنك مسافر لأن ليدا رفضت أن تتزوجك ولأنك لما كنا عند سارودين ظننت أنها هي التي جاءت إليه سرًّا.»
فأطرق نوفيكوف ولم يسعه الكلام لفرط حزنه وكأنما نكأ سانين جرحًا رجيعًا ولاحظ سانين اضطراب صاحبه فقال لنفسه: «يا لك من أبله طيب القلب.» ثم استأنف الكلام: «أما من حيث العلاقات بين ليدا وسارودين فلا أستطيع أن أجزم بشيء لأني لا أعرف شيئًا ولكني لا أعتقد …»
ولم يتم الجملة لما رآه من اسوداد وجه صاحبه ثم عاد فقال: «إن علاقتهما من حداثة العهد بحيث لا يمكن أن يكون قد حدث شيء خطير لا سيما إذا اعتبرنا أخلاق ليدا. وأنت بالضرورة تعرف كيف أخلاق ليدا.»
فمثلت لعين نوفيكوف صورة ليدا كما عرفها وأحبها — ليدا المزهوة العالية الروح المؤتلقة العين وعليها من الجمال الناضج إكليل وضيء — فأغمض عينيه واستراح إلى كلام سانين الذي عاد فقال: «وهبهما تعابثا قليلًا فقد مضى هذا وانقضى الآن، وعلى أنه ماذا يهمك إذا كانت فتاة شابة مجنحة الخيال مثل ليدا قد تسلت قليلًا؟ أحسبك بلا جهد كبير تستطيع أن تذكر على الأقل اثنتي عشرة حادثة خلعت فيها العذار وفعلت ما هو أخطر من هذا.»
فنظر نوفيكوف إلى سانين نظرة الواثق وخاف أن يتكلم لئلا تخبو بارقة الأمل الوانية الباقية ثم تمتم: «إنك تعرف أني إذن …»، ووقف وخانته الألفاظ وخنقته العبرات فسأله سانين بصوت عال والتمعت عينه: «إذن ماذا؟ إني أستطيع أن أقول لك هذا. وهو أنه ليس بين ليدا وسارودين ولم يكن بينهما شيء.»
فنظر نوفيكوف إليه مذهولًا وشرع يتكلم: «أنا. لقد ظننت …» وأحس أنه لا يسعه أن يصدق سانين. فقال سانين بحدة: «لقد ظننت سخافات كثيرة! وكان ينبغي أن تكون أعرف بليدا. أي حب هذا مع كل ذلك التردد؟»
فطار نوفيكوف فرحًا ودفع يده إلى سانين. ولكن وجه سانين تصلب وهو يرصد تأثير كلماته في نفس صديقه.
وبدا على نوفيكوف السرور الواضح والارتياح البين إلى كون المرأة التي يشتهيها نقية طاهرة ونطقت عيناه الحزينتان الصريحتان بالغيرة الحيوانية، فنهض سانين وقال بصوت مهدد: «أَوَهو. إذن فإني أقول لك: إن ليدا لم تجب سارودين فقط بل كانت لها به علاقات غير شرعية وهي الآن حبلى.»
فسكنت الغرفة سكون الموت وابتسم نوفيكوف ابتسامة مريضة غريبة وفرك كفيه وخرجت من شفتيه المرتجفتين صرخة ضعيفة. ودل تقبض ركني فمه على الغضب المكتوم فسأله سانين: «لماذا لا تتكلم؟»
فرفع نوفيكوف يمينه ولكنه جانب عين صاحبه وكان وجهه لا يزال تشوهه هذه الابتسامة. فقال سانين بصوت منخفض كمن يحدث نفسه: «لقد عانت ليدا تجربة هائلة. ولولا أني أدركتها مصادفة لما كانت الساعة حية. ولعادت الفتاة الجميلة القوية جثة ممسوخة غارقة بين أوحال النهر تأكل منها الحشرات. وليس المهم مسألة موتها فإننا جميعًا سنموت يومًا ما، ولكن ما أوجع أن يفكر المرء في الغبطة والوضاءة التي تمنحهما شخصيتها للغير يذهبان بذهابها. نعم إن ليدا ليست منقطعة النظير في الدنيا، ولكن ويحنا لو خلت الدنيا من مثل هذا الجمال لعادت مظلمة كالقبر. أما أنا فإني مستعد أن أرتكب جريمة القتل إذا رأيت فتاة مسكينة تتقوض حياتها بهذه الطريقة السخيفة. وليس يعنيني على الإطلاق أن تتزوج ليدا أو أن تذهب إلى الشيطان، ولكنه لا يسعني إلا أن أقول لك إنك مغفل أبله! ولو أنه كانت في رأسك فكرة صحيحة واحدة أكنت تعني نفسك وسواك من أجل أن امرأة حرة في الاختيار قد أحبت رجلًا ليس بأهل لها وأطاعت غريزتها الجنسية واستوفت تمام نضوجها؟ ولست — فاعلم — بالأبله الوحيد. فإن في الدنيا ملايين مثلك يحيلون الحياة سجنًا مزويًا عن ضوء الشمس وحرارتها! وكم من مرة أطلقت فيها العنان لشهوتك برفقة مومس تشاطرك فسوقك؟ وأما ليدا فما دفعها إلا العاطفة وإلا شعور الشباب والقوة والجمال. فبأي حق تنفر منها أنت يا من تدعو نفسك رجلًا رشيدًا ذكيًّا؟ ما شأنك بماضيها؟ أهي أقل جمالًا؟ أم أقل صلاحًا لأن تُحِبَ وأن تُحَبّ؟ أم المسألة أنك كنت تريد أن تكون أول من ينالها؟ تكلم!»
فقال نوفيكوف وشفتاه ترتجفان: «إنك تعلم حق العلم أن هذا ليس كذلك.»
فصاح سانين: «نعم هو كذلك، وإلا فما السبب من فضلك؟»
فصمت نوفيكوف واسود كل شيء في نفسه، ولكن خاطر العفو والتضحية طاف برأسه كما يومض شعاع النور في الظلمة.
وكان سانين يرقبه وكأنما قرأ ما يدور في ذهنه فقال بصوت مضبوط متزن: «أراك تفكر في التضحية بنفسك من أجلها. وكأني أسمعك تقول لنفسك «سأهبط إلى دركها وأحميها من الرعاع.» هذا ما تقوله الآن لنفسك الفاضلة فيضخم شأنك في عينيك كما تضخم الدودة تغتذي بالجثة. ولكن هذا كله زور. وليس هو إلا أكذوبة؟ إنك لست مطيقًا لتضحية الذات. ولو أن ليدا مثلًا شوهها الجدري لكان من المحتمل أن تستطيع أن ترفع نفسك إلى مستوى هذه البطولة، ولكنك كنت خليقًا بعد يومين اثنين أن تسقي حياتها العلقم وأن تنبذها أو تهملها أو تمطرها التأنيب كل ساعة. أما الآن فإنك تقف من نفسك موقف العبادة. نعم لقد استحال وجهك وصار من يراك خليقًا أن يقول «انظروا! هذا قديس.» ولكنك لم تفقد شيئًا كنت تبغيه. إن أعضاء ليدا ما زالت كما كانت ولم تزايلها قوة العاطفة ولا أصابها جزر في حيويتها البديعة. ولكن من المرغوب فيه جدًّا أن يروح المرء يستمتع ويقطف أزاهير اللذات، وهو يوهم نفسه أنه إنما يأتي عملًا شريفًا!!»
فلما سمع نوفيكوف هذا الكلام فارقه عطفه على نفسه واستولى على روحه شعور أنبل وأشرف فقال معاتبًا: «إنك تجعلني أسوأ مما أنا في الواقع، ليس ينقصني الشعور كما تظن. وما أنكر أن لي آراء معينة وأن بي بعض التحرج، ولكني أحب ليدا بتروفنا، ولو أني على يقين من أنها تحبني أكنت تظن أن يطول بي التردد من أجل أن …»
وخانه صوته. وهدأ سانين فجأة واجتاز الغرفة ووقف أمام النافذة المفتوحة غارقًا في بحر من الفكر وقال: «إنها في هذه الساعة حزينة جدًّا لا يسعها أن تفكر في الحب. وكيف أعرف هل تحبك أم لا تحبك؟ ولكن يخيل لي أنك إذا ذهبت إليها وكنت بذهابك ثاني رجل لم يضطهدها من أجل حبها القصير … على كل حال لا أستطيع أن أعلم ماذا عسى أن تقول!»
وكان نوفيكوف جالسًا كأنه يحلم وأشعره الحزن والسرور نوعًا من السعادة لطيفًا كالضوء في السماء مساءً.
وقال سانين: «لنذهب إليها. ومهما يكن ما يحدث فإنه سيسرها أن ترى وجه إنسان وسط هذه الوحوش المسيخة المنتقبة. إن بك يا صديقي بعض الغباء ولكن في غبائك شيئًا ينقص سواك. تالله ما أغرب أن الدنيا كانت وما تزال تبني آمالها وسعادتها على مثل هذا الغباء! تعال نذهب.»
فابتسم نوفيكوف وقال: «إني على أتم استعداد للذهاب إليها، ولكن أتهتم بأن تراني؟»
فقال سانين ووضع يده على كتفي نوفيكوف: «لا تفكر في هذا. إذا كنت تريد أن تفعل خيرًا أو صوابًا فافعله ودع المستقبل يُعنى بنفسه.»
فقال نوفيكوف بلهجة البت: «حسن فلنذهب.»
ولما صارا في حرم الباب وقف وقال بلهجة التأكيد وعينه محملقة في وجه سانين: «اسمع سأبذل أقصى وسعي لإسعادها. وقد يبدو لك هذا الكلام مبتذلًا ولكني لا أعرف كيف أعرب عما في نفسي بما هو خير من هذا.»
فأجابه سانين بلهجة الودود: «لا يكربك هذا يا صديقي، فإني فاهم ما تريد.»