الفصل الحادي والعشرون
لما بلغ يوري غرفته الضيقة كالسجن وجد الحياة أبعث ما تكون على السآمة وخيل إليه أن حادثته الغرامية التي وقعت له مبتذلة أتم الابتذال.
«لقد سرقت منها قبلة! فأي نعمة! وما أعظم بطولتي! إن البطل يستهوي في ضوء القمر فتاته الحسنة بالألفاظ الملتهبة والقبل النارية! رباه! أي سخافة! إن المرء ليعود مغفلًا فارغًا جدًّا في هذا الجحر الصغير اللعين!»
وكان يوري وهو في المدن يتصور أن الريف هو المكان الصالح له حيث يستطيع أن يعايش القرويين ويشاطرهم كدهم تحت الشمس المحرقة. فلما أتيحت له الفرصة بدا له أن حياة القرى لا تطاق وأحس الحاجة إلى منشط من المدن التي لا يتسع سواها لقواه ومواهبه، وكان لا يفتأ يقول: «ما أحلى جلبة المدن وضوضاءها! وهزة الفصاحة المنبعثة عن قوة العاطفة!» بيد أنه لم يلبث أن كبح هذه الحماسة الصبيانية.
«وبعد فما معنى هذا؟ أي شيء هذه السياسة والعلم؟ إنها لكبيرة ما بقيت مثلًا عليا نائية ولكنها في حياة كل فرد ليست إلا تجارة ككل شيء سواها! النضال؟ جهود تيتان؟ إن ظروف الحياة الحديثة تجعل هذا مستحيلًا. إني أعاني وأجاهد وأتخطى رقاب الموانع! حسن وماذا إذن؟ أين المنتهى؟ إنه ليس في حياتي على كل حال! لقد أراد برومثيوس أن يهدي النار إلى الناس وأن يعلمهم قدحها ولقد فعل. ولك أن تعد هذا نصرًا كبيرًا وفتحًا مبينًا إذا شئت. ولكن ما الرأي فينا نحن؟ إن أقصى ما يسعنا هو أن نضيف عيدانًا موقوصة إلى نار لم نوقدها ولن نكون نحن المخمديها؟»
وخطر له أنه إذا كانت الأمور على غير ما ينبغي فذلك لأنه ليس من طراز برمثيوس! وهو خاطر محزن في ذاته كل ما أفاده هو أن أتاح له فرصة جديدة لتعذيب نفسه.
«أي برومثيوس أنا يا ترى؟ إني لا أزال أنظر إلى الأشياء من وجهة شخصية أنانية. «أنا» دائمًا «وأنا» في كل شيء. ألا أني لضعيف مهين كغيري من الناس الذين أحتقرهم من أعماق قلبي.»
وساءته هذه المقارنة حتى اختلطت خواطره فجلس برهة يفكر في الموضوع ويعالج أن يلتمس مبررًا ما، فقال وارتاح قليلًا إلى هذا الخاطر: «كلا لست مثل سواي لأني على الأقل أفكر في هذه الأمور، وهو ما يحلم بأن يفعله أمثال ريازانتزيف ونوفيكوف وسانين. إنهم لا يجري ببالهم قط أن ينقدوا أنفسهم إذ كانوا أتم ما يكونون سعادة ورضى عن نفسوهم كخنازير «زردشت» إن الحياة كلها تتلخص في ذاتيتهم الذرية، وتالله لقد أَعْدُوني بهذه السطحية! آه نعم! إذا كان المرء بين الذئاب فَلْيَعْوِ مثلها. إن هذا طبيعي.»
وجعل يوري يقطع الغرفة جيئة وذهوبًا فحدث — وذلك مألوف — أن تغير اتجاه خواطره بتغير المكان.
«حسن جدًّا. هذا كذلك وعلى كل حال فالواجب النظر في أمور كثيرة. مثال ذلك ما هو موقفي حيال سينا كرسافينا؟ وليس المهم هل أحبها حبًّا جمًّا أم قليلًا، بل المسألة متعلقة بالنتيجة. ولنفرض أني تزوجتها أو اتصلت بها اتصالًا وثيقًا، فهل تراني أعود بذلك سعيدًا؟ إن الغدر بها جريمة وأنا أحبها … حسن إذن فإني أستطيع … الأرجح في الاحتمال أن ترزق مني أبناء … «وأخجله هذا الخاطر» وليس في هذا عيب سوى أنه قيد يفقدني حريتي، فأعود رب أسرة. تقول النعيم المنزلي؟ كلا ليس هذا بسبيلي.»
«واحد. اثنان. ثلاثة» هكذا كان يعد وهو يحاول أن يتخطى مربعين ويضع قدمه على الثالث.
لو استطعت أن أكون على يقين من أن لا تحمل أو من أن أحب أبناءنا إذا رزقناهم وأقف حياتي لهم! كلا! ما أرذل هذا وأصغره! وريازانتزيف سيكون له أبناء يحبهم فأي فرق يكون بيننا؟ حياة تضحية بالذات؟ ويزعم الزاعم أن هذه هي الحياة الحقيقية؟ نعم هي كذلك ولكن تضحية لمن؟ وبأية طريقة؟ ودع عنك الطريق الذي أختاره والغاية التي أرمى إليها وأرني المثل الأعلى الذي يستحق أن أموت في سبيله. كلا! إن السبب ليس راجعًا إلى ضعفي بل مرده إلى أن الحياة نفسها ليست بأهل للتضحية أو الحماسة. وعلى هذا فلا معنى البتة لأن يعيش المرء.»
ولم يتفق له من قبل أن اقتنع بصحة هذه النتيجة مثل هذا الاقتناع. وكان على منضدته مسدس كلما مر به وهو سائر أخذت عينه حديده المصقول.
فتناوله وفحصه بعناية، وكان محشوًّا وصوب فوهته إلى صدغه وقال لنفسه: «هكذا! بانج، ثم ينقضي الأمر! فهل من الحكمة أو الغباء أن يقتل المرء نفسه؟ هل الانتحار جبن؟ إذن فأحسبني جبانًا!»
وأحس للمس الحديد البارد لجبينه الملتهب لذة وفزعًا وسأل نفسه: «وماذا عن سينا! دعني من هذا فلن أفوز بها ولهذا فإني أدع لغيري هذه المتعة.»
وأيقظ خاطر سينا ذكريات سارة حاول أن ينفيها لأنها حمق وضعف وقال: «لماذا لا أفعل؟»
فكأنما كف قلبه عن الخفقان. ثم سدد المسدس إلى جبينه في احتفال وإصرار ورفع الزناد فجمدت دماؤه في عروقه وطن في أذنه شيء ومادت به الغرفة.
ولكن الرصاصة لم تنطلق فلم يسمع سوى صوت الزناد فهوت يده إلى جانبه، وهو يكاد يُغْشَى عليه، وكانت كل شعرة ترتجف ورأسه يدور وشفتاه معصوبتان ويده من الاضطراب بحيث سقط المسدس على المنضدة. فقال وعادت إليه نفسه: «ما أغرب شأني.»
ومضى إلى المرآة ليرى فيها وجهه وقال: «أجبان أنا إذن؟ كلا! لست به. لقد فعلتها كما ينبغي وماذا أصنع إذا كانت الرصاصة لم تشأ أن تنطلق؟»
ورامقه خياله في المرآة وكان فيما يرى بادي الجد. ثم أخذ يقنع نفسه بأنه لا يعلق أية أهمية بما حدث ولأجل هذا أخرج لسانه لخياله! ونأى عن المرآة وقال بصوت عال: «إن القدر لم يشأ أن يتم ما أردت.»
وكأنما أنعشه صوته، ثم سأل نفسه: «ترى هل أبصرني أحد؟» وتلفت مذعورًا ولكن كل شيء كان ساكنًا ولم يسمع حركة وراء الباب. فكأنما لا موجود سواه ولا معذب في هذه الوحدة غيره. وأطفأ المصباح فأذهله أن رأى أولًا آشعة الفجر الحمراء ثم استلقى لينام وأحس في نومه شيئًا هائلًا ينحني فوقه ويخرج أنفاسًا من النار.