الفصل الثاني والعشرون
زحف الأصيل في رفق ولين وقد ترفق في حواشيه أرج الأزهار. وكان سانين جالسًا إلى منضدة قريبًا من النافذة يطالع — أو يحاول أن يطالع — في الضوء الكابي قصة يحبها وهي وصف لمصرع أسقف هرم قضى نحبه وهو لابس ثيابه اللاهوتية وفي يده صليب مرصع والبخور يَعقد في الجو سحابات.
وكان الجو في الغرفة باردًا مثله خارجها، ونسيم المساء العليل يمسح جسم سانين القوي ويملأ رئتيه ويعبث بشعره، فمضى في قراءة القصة، وكانت شفتاه تتحركان من حين إلى حين، فلو رأيته لحسبته صبيًّا كبيرًا يلتهم حكاية من حكايات المخاطرة بين الهنود، على أنه كان كلما أوغل في الكتاب اسودت خواطره، وتعجب للدنيا كيف حشيت كل هذه السخافة وللناس وكثافتهم ووحشيتهم ولنفسه كيف بَذَّهم وسَبقهم!
وفتح الباب ودخل منه زائر فرفع سانين طرفه وقال وهو يطوي الكتاب: «آها، ما عندك من الأخبار؟»
فافتر ثغر نوفيكوف عن ابتسامة حزينة وصافح سانين وقال وهو يدنو من النافذة: «لا شيء! إن كل شيء كما كان.»
ولم يكن سانين يستطيع أن يرى من نوفيكوف إلا شخصه الطويل. فظل برهة طويلة ينظر إليه ولا يتكلم.
وكان سانين قد مضى قبل ذلك بصديقه إلى ليدا التي تغيرت وزايلها الزهو والشموخ فلم ينبثا بحرف عما هو أدنى إلى قلبيهما وأعلق بهما، وكان سانين يعلم أنهما سيشقيان بعد أن يتصارحا وإنهما خليقان أن يكونا أشقى وأتعس إذا ظلا صامتين، وأن ما يستسهله هو لا يسعهما إلا بجهد جاهد فقال لنفسه: «ليكن الأمر كذلك فإن الألم ينقي الروح ويرفعها، فأما الآن فقد سنحت الفرصة الملائمة لهما.»
وكان نوفيكوف واقفًا قبل النافذة ينظر في صمت إلى مغرب الشمس، وكان ينازعه الأسى على ما فقد والشوق إلى اللذة المنتظرة، فصور لنفسه ليدا حزينة مطوقة بالعار فلو آتته الشجاعة لركع أمامها الساعة ونفث بلثماته الحرارة في يديها الباردتين وبحبه الضخم الغفور حياة جديدة في عروقها، ولكن أنى له بالقوة والقدرة على المضي إليها؟
وكان سانين يدرك ذلك فنهض في بطء وقال: «إن ليدا في الحديقة فهل نذهب إليها؟»
فأسرعت دقات قلب نوفيكوف وامتزج في نفسه الفرح والحزن أغرب امتزاج وتغير وجهه قليلًا وجعلت أصابعه تعبث بشاربيه. فأعاد سانين سؤاله في هدوء كأنما آلى أن ينهض بأمر خطير: «ما قولك في؟ هنا أنذهب؟»
فأحس نوفيكوف أن سانين يعرف كل ما في نفسه فاستحيا كالصبي وإن كان قد أراحه هذا الإحساس قليلًا. فقال سانين في رفق: «هيا بنا!»
وأمسك بكتف نوفيكوف ودفعه إلى الباب فتمتم «نعم، أنا …» وكاد يعانق سانين ولكنه لم يجترئ ولم يسعه إلا أن يرمقه بعين عبرى، وكانت الحديقة الدافئة العطرة مظلمة، وأغصان الأشجار فوق جذوعها تكون فيما بينها أقبية تحت السماء الخضراء، وعلى سطح الأرض الظامئة ضباب خفيف خافق، فكأنما هناك شبح غير مرئي يجوب مسالك الحديقة الصامتة ويسري بين الأشجار الجامدة فترجف لطيفه الأوراق والأزهار الناعسة، وكان الشفق لا يزال وهاجًا فيما وراء النهر المنحدر بين المروج الحالكة، وعلى حرفه تجلس ليدا مكبة عليه مائلة إليه كأنه روح حزين ظفره الطفل، فلما سمعت صوت أخيها ملأها يقينًا لم يلبث أن ولى أسرع مما جاء واستحوذ عليها الخوف والخجل، وأحست كأنما لا حق لها في السعادة لا ولا في الحياة، وكانت لذلك تقضي النهار كله في الحديقة وفي يدها كتاب، إذ كانت عينها لا تقوى على النظر إلى أمها. وتحدث نفسها مرة بعد أخرى إن ألم أمها لا يكون شيئًا مذكورًا بالقياس إلى ما تعانيه هي الآن، ولكنها على هذا ما اقتربت من أمها إلا تلعثم لسانها وارتسمت في عينها نظرة المذنب، فأثارت خجلاتها واضطرابها العجيب ظنون أمها وحركت شكوكها، ولمحت ذاك ليدا فصارت تلوذ بالحديقة فرارًا من نظراتها الفاحصة وأسئلتها القلقة. وهكذا كانت الليلة جالسة على حافة النهر تنظر إلى المغرب وتفكر في مصابها، وكانت الحياة لا تزال في نظرها مستعجمة وكأنما يحول بينها وبين استجلائها شبح بشع، فاستعانت بضعة كتب وسعت أفق فكرها وحررته فجنحت إلى الاعتقاد بأن سلوكها طبيعي بل حقيقي بالثناء؛ ذلك أنها لم تسئ إلى أحد، وما فعلت شيئًا سوى أن أمكنت نفسها وشخصًا آخر مثلها من اللذة الجسمية التي لا شباب بغيرها والتي تعقم الحياة بدونها وتقفر وتعود كالشجرة العارية في الخريف.
واستسخفت أن علاقتها بذلك الرجل علاقة لم تمنحها الكنيسة موافقتها بعد، ذلك أن حرية الفكر قد نقصت هذه الضرورات من زمن بعيد، وأنها لحقيقة أن تغتبط بهذه الحياة الجديدة اغتباط الزهرة استيقظت صباحًا على مس اللقاح يحمله إليها النسيم، ولكنها مع هذا أحست أنها صارت أحط وأسفل من كل منحط وسافل.
وذابت كالشمع كل هذه الآراء النبيلة الجليلة والحقائق الأبدية لاقتراب يوم الفضيحة، وصارت تفكر في أن تدوس بقدمها من يمتهنونها، بل همها الوحيد وشغلها الشاغل هو كيف تجانبهم أو تخدعهم.
على أنها مع رغبتها في إخفاء حزنها عن غيرها أحست جاذبًا إلى نوفيكوف كما تجذب الشمس الزهرة. وخيل إليها أن من الحقارة بل من الإجرام أن يراد منه إنقاذها. وحز في ضلوعها أن يتوقف أمرها على حبه وصفحه، ولكن الرغبة في الحياة كانت أقوى من الكبر.
وكان خوفها من غبائه أعظم من احتقارها له، فلم تكن تستطيع أن تنظر إلى نوفيكوف، بل كانت ترجف في حضرته كالعبد أمام ملك رقه، فما أشبهها بالطائر المهيض الجناح الذي لا يسعه أن يطير مرة أخرى.
وكانت إذا جاوز الألم طاقتها ربما فكرت في أخيها بشيء من الدهشة. وكان لا يخفى عنها أنه لا يقدس شيئًا، وأنه ينظر إليها وهي أخته نظر الذكر إلى الأنثى، وأنه أناني لا يكترث للعرف والعادة، ولكنه الرجل الوحيد الذي كانت تحس الحرية المطلقة في محضره والذي تستطيع أن تصارحه بأخفى أسرار حياتها. لقد أخطأت … حسن. وماذا في هذا؟ ولقد أمكنت رجلًا من نفسها. حسن جدًّا وهل كان هذا إلا بمشيئتها؟ وسيحتقرها الناس ويمتهنونها فماذا يهم إن أمامها الحياة وضوء الشمس والدنيا الطويلة العريضة، وأما من حيث الرجال فهم كثر وستأسى أمها وتحزن. حسن إن هذا شأنها هي إذا شاءت ذلك. وإن ليدا لتجهل شباب أمها ولا تعرف عنه لا قليلًا ولا كثيرًا ومتى ماتت فلن يبقى مجال للبحث والتنقيب. ولقد التقيا مصادفة في طريق الحياة وترافقا مسافة فهل هذا سبب يدعوهما إلى تبادل المقاومة والمعارضة؟
وتبينت ليدا أنها لن ترزق حرية أخيها، وإنما خطرت لها هذه الآراء بتأثير هذا الرجل القوي الساكن الذي تعجب به وتحبه فطافت برأسها خواطر غريبة … خواطر ليست مشروعة الصبغة وحدثت نفسها أن «آه لو كان غريبًا ولم يكن أخي!»
وبادرت فعالجت أن تخنق هذا الخاطر الفاضح المغري.
ثم ذكرت نوفيكوف فاشتاقت كالرفيق العزيز أن يمنحها عفوه ورضاه، وسمعت وقع أقدام فتلفتت، وجاء إليها سانين ونوفيكوف في سكون ولم تستطع أن تتبين وجهيهما في الظلام، ولكنها أحست أن اللحظة المرهوبة قد دنت فاصفر وجهها وكأنما أوشكت الحياة أن تنتهي.
وقال سانين: «هذا أنت؟ لقد جئت إليك بنوفيكوف وسيقول لك كل ما عنده فامكثا هنا ريثما أذهب وأعود بشيء من الشاي.»
وانقلب عنهما مسرعًا فظلا هنيهة يرقبان قميصه الأبيض يغيب في ظلمة الليل، وكان السكون من العمق بحيث ظناه لم يجاوز ظلال الأشجار المحيطة بهما.
وقال نوفيكوف بصوت رقيق متهدج وقع من قلبها أعمق وقع: «ليدا بتروفنا؟»
فقالت لنفسها: «مسكين! ما أطيبه!»
ومضى هو فقال: «إني أعرف كل شيء يا ليدا بتروفنا. ولكن حبي لك باق على عهده. وربما أحببتني يومًا ما فقولي لي هل تقبلينني زوجًا؟»
وقال لنفسه: «خير لي أن لا أكثر من الكلام في هذا إذ لا ينبغي أن تعرف أي تضحية أبذلها من أجلها.»
فصمتت ليدا فكان المرء يسمع خرير الماء في هذا السكون وعاد نوفيكوف إلى الكلام فقال: «إننا شقيان يا ليدا. ولعل الحياة تعود أخف محملًا إذا كنا معًا.» وكانت هذه الكلمات خارجة من أعماق قلبه ففاضت عينا ليدا بدموع الشكر وهي تميل إليه وتقول: «لعل وعسى.»
على أن عينيها قالتا له: «ويعلم الله أني سأكون زوجة صالحة وأني سأحبك وأحترمك.»
ففهم نوفيكوف ما قالت العينان فهوى إلى ركبتيه وتناول يدها وأمطرها قبلات حارة، فأجاشت هذه العاطفة نفس ليدا فنسيت عارها وحدثت نفسها «أن قد انقضى ومضى ذلك الأمر وسأسعد مرة أخرى. فيا لك من رجل طيب!»
وأبكاها الفرح فآتته كلتا يديها وانحنت على رأسه ولثمت شعره الناعم الحريري الذي كانت تعجب به، ومثلت لعينها صورة سارودين ولكنها لم تظهر حتى غابت.
ولما عاد سانين بعد أن أفسح لهما الوقت للتفاهم ألفاهما جالسين وأيديهما مشتبكة وهما يتحدثان بصوت خافت هادئ.
فقال سانين بهيئة الجاد: «آها! اشكرا الله واسعًا.»
وكان يهم أن يقول شيئًا آخر ولكنه عطس بدل أن يتكلم ثم قال ومسح عينيه: «إن الجو هنا رطب فاحذر البرد.»
فضحكت ليدا وتجاوب ما وراء النهر بصدى صوتها الفاتن ثم قال سانين بعد فترة: «سأذهب عنكما.»
فسأله نوفيكوف: «إلى أين تذهب؟»
قال: «إن سفاروجتش وذلك الضابط الذي يعجب بتولستوي — ما اسمه؟ — قد دعواني.»
فقالت ليدا ضاحكة: «أتعني فون دايتز؟»
– «هو بعينه. ولقد أرادا أن نكون جميعًا هناك ولكني قلت لهما إنك لست في البيت.»
فسألته ليدا ضاحكة أيضًا: «لماذا قلت له ذلك؟ ربما كنت أذهب.»
فقال سانين: «كلا. ابقيا هنا. ولو كان معي رفيق لبقيت مثلكما.» ثم تركهما.
وزحف الليل وارتمت على الأرض غيابات الطفل وبدأ أول نجم يرتعش في مرآة النهر المتدفق.