الفصل الرابع والعشرون
وقف سولوفتشك عند الباب برهة ينظر إلى السماء الغائمة ويفرك أصابعه النحيلة. وكانت الريح تزمر حول الأبنية الخشبية وتحني رءوس الأشجار المتقاربة كأنها جند من الأشباح. وكانت السحب في سباق دائم كأنما تدفعها قوة قاهرة إلى الأمام. أو كأنما تنتظرها جيوش يخطئها الحصر رفعت رايتها السوداء وخرجت في كل قوتها الرائعة إلى ميدان تتصارع فيه العناصر. وكانت الريح كأنما تحمل من حين إلى حين ضجة المعركة النائية.
وقف سولوفتشك ينظر إلى السماء وقد ملأت روعة المنظر نفسه. فلج به الإحساس بضآلته وأنه لا شيء إزاء هذه الهيولى الهائلة. فتنهد وقال: «يا إلهي! يا إلهي!» وكان إذا أضواه الليل يعود شخصًا آخر غير الذي يعرفه الناس. وكذلك زايله القلق والارتباك الآن. واختفت أسنانه الدميمة وراء شفتيه الحساستين وارتسمت في عينيه السوداوين نظرة الجد والشجن.
ودخل البيت في بطء وأطفأ مصباحًا لا ضرورة إليه ورد المنضدة والكراسي إلى مواضعها، وكانت الغرفة لا تزال ملأى بدخان الطباق والأرض مبعثرة عليها أعقاب السجائر والكبريت. فتناول مكنسة وشرع ينظف الغرف وكان يحب أن يرى مأواه نظيفًا مرتبًا. ثم جاء بدلو ووضع في مائه كسرًا من الخبز وحمل هذا في يمينه ومد يسراه ليحفظ توازنه واجتاز الفناء بخطى قصيرة، وكان قد وضع مصباحًا صغيرًا قرب النافذة لتضيء له طريقه، ولكن الظلام مع ذلك كان طاغيًا، فلما وصل إلى مبيت الكلب تنفس الصعداء وتقدم كلبه «سلطان» ليقابله.
«آه. سلطان! كوش كوش!» أخرج هذه الأصوات ليتشجع ودفع الكلب أنفه البارد البليل في كف سيده فوضع له الدلو وقال له: «هذا أنت.» فشم الكلب الدلو ثم انطلق يأكل بنهم وسيده واقف بجانبه يتأمل الظلام المحيط ويقول لنفسه: «ماذا أصنع؟ كيف أستطيع أن أحمل الناس على تغيير آرائهم؟ لقد كنت أنا نفسي أتوقع أن يعلمني الناس كيف أعيش وكيف أفكر. ولقد ضن علي الله بصوت النبي فكيف أساعد الخلق؟»
وزام الكلب راضيًا. فقال سيده: «كل واشبع. لقد كنت أود أن أطلقك لتعدو قليلًا ولكن المفتاح ليس معي وأنا متعب مجهود … إيه ما أذكى من كانوا هنا الليلة وأعلمهم وأمهرهم! إنهم يعرفون شيئًا كثيرًا. نصارى طيبون على الأرجح! وهذا أنا … من يدري؟ لعل هذا خطئي وحدي. لقد كنت أحب أن أقول لهم كلمة. ولكني حرت كيف أقولها.»
وحملت الريح من وراء المدينة صفيرًا طويلًا هافيًا فرفع الكلب رأسه وأصغى وسقطت قطرات كبيرة من كمامته في الدلو. فقال صاحبه: «كل واشبع إن هذا صوت المطر.»
فتنهد الكلب وقال سيده: «ترى هل يعيش الناس أبدًا على هذا النحو؟ ربما أعياهم ذلك.» وهز كتفيه يائسًا. وبدت له في الظلام صورة حشد هائل من الخلق لا آخر له كالأبد يغيب ويختفي في الظلام — سلسلة قرون لا مبدأ لها ولا منتهى — سلسلة متصلة الحلقات من آلام وأوجاع لا دواء لها ولا شفاء منها وفوقها حيث عرش الله سكون أبدي!
واصطدم الكلب بالدلو فقلبه وأخذ يبصبص بذنبه، وسمع صوت سلسلته فمسح سولوفتشك ظهره وربته وأحس هزة السرور تسري في كيان الكلب ثم انقلب إلى البيت، وكان يسمع منه صوت سلسلته، وبدا الفناء أقل ظلمة والطاحون أشد جهامة بمدخنتها الطويلة والتمع في السماء خط عريض من النور أضاء المدينة هنيهة، فبدت للعين أزهارها الصغيرة الضعيفة مطرقة تحت السماء الثائرة وأعلامها السوداء المنذرة التي نشرها الليل.
وغلب الحزن سولوفتشك وراخى أعصابه الشعور بالوحدة وبخسارة لا عوض عنها، فدخل غرفته وجلس إلى المنضدة وبكى.