الفصل الخامس والعشرون
كتب سارودين رسالة إلى ليدا وقعت في يد أمها ماريا إيفانوفنا، وفيها يطلب إليها أن تأذن له في الحضور ليراها، ويشير إلى أن هناك أمورًا يمكن أن تسوى على نحو مرضي، فرأت ماريا إيفانوفنا أن هذه الصفحات تلقي ظلًّا مخجلًا على ابنتها الطاهرة، فارتبكت وذكرت معاشقها في صدر أيامها وما كان فيها من خدع، وزواجها وما تخلله من آلام، وكانت حياتها سلسلة طويلة من الأوجاع صاغتها قوانين الأخلاق الحرجة ومدتها إلى حدود الشيخوخة.
وهاجت لما خطر لها أن ابنتها كسرت الحائط الذي يدور بهذه الحياة القذرة، وانغمست في الدوامة التي تختلط فيها اللذات والأحزان والموت. وقالت لنفسها: «يا لها من فتاة خسيسة خبيثة!» وهوى ذراعاها إلى جانبيها. ثم خطر لها فجأة أن الأمور ربما كانت لم تبلغ هذا المدى فعزاها ذلك، وتلت الرسالة ثم تلتها غير أنها لم تستخلص شيئًا من أسلوبها الجاف المتكلف، ولما أعياها الأمر بكت بكاء مرًّا ثم سوت قبعتها وسألت الخادمة: «دونيكا! هل فلاديمير سانين هنا؟» فصاحت دونيكا: «ماذا؟» أجابت: «أيتها الحمقاء إني أسألك هل فلاديمير سانين هنا؟»
قالت: «لقد ذهب إلى المكتبة! وهو يكتب رسالة!»
وانبسطت أسارير الخادمة كأنما كانت كتابة الرسالة مبعث سرور غير عادي، فحملقت ماريا في الفتاة والتمع في عينيها الدابلتين نور الشر وقالت: «أيتها الورهاء (الحمقاء)! لئن اجترأت أن تحملي رسائل مرة أخرى لألقننك درسًا لن تنسيه عمرك!»
وكان سانين جالسًا إلى مكتب ولم تألف أمه أن تراه يكتب، فارتاحت إلى هذا المنظر على الرغم من حزنها وسألته: «ماذا تكتب؟» فقال سانين ورفع رأسه إليها باسمًا: «رسالة.»
قالت: «لمن الرسالة؟»
أجاب: «لصحفي أعرفه. فإني أفكر في الالتحاق بجريدته.»
قالت: «وهل تكتب مقالات للصحف؟»
فابتسم سانين وقال: «إني أصنع كل شيء.»
فقالت أمه: «ولكن لماذا تريد أن تذهب إلى هناك؟»
فقال سانين بصراحة: «لقد مللت العيش معك يا أماه.»
فتألمت أمه لذلك وقالت: «أشكرك.» فرامقها سانين ونازعته نفسه أن يقول لها لا ينبغي لك أن يبلغ من حمقك أن تتصوري أن رجلًا ليس له عمل يمكن أن يرتاح إلى البقاء أبدًا في مكان واحد، ولكنه لم يكن يحب أن يقول شيئًا من هذا فسكت.
فأخرجت أمه منديلها وفركته بين أصابعها ولولا رسالة سارودين وحزنها وقلقها من جرائها لساءتها خشونة ابنها ولكنها لم تزد على أن قالت: «نعم! واحد يتسلل من البيت كالذئب والأخرى.»
وأتمت الجملة إيماءة التسليم بالقضاء.
فرفع سانين رأسه إليها بسرعة وألقى القلم وسألها: «ماذا تعرفين عن هذا.»
فخجلت ماريا إيفانوفنا من أنها قرأت رسالة ليدا واحمر وجهها وأجابته بصوت المتردد يشوبه شيء من الغيظ: «الحمد لله لست بالعمياء! وإني لأستطيع أن أرى.»
فقال سانين بعد أن فكر هنيهة: «ترين! إنك لا تستطيعين أن تري شيئًا. ولكي أثبت لك ذلك دعيني أهنئك بخطبة ابنتك! وكانت ستخبرك بهذا بنفسها.»
فصاحت ماريا إيفانوفنا واعتدلت قامتها: «ماذا؟ ليدا ستتزوج؟ تتزوج من؟» أجاب: «نوفيكوف بالبداهة.»
قالت: «نعم، ولكن ما القول في سارودين؟»
فقال سانين بغضب: «أوه! إنه يستطيع أن يذهب إلى الشيطان وما شأنك بهذا؟ لماذا تتدخلين في شئون غيرك؟»
فقالت أمه وبها بعض الدهشة إلا أنها أحست هزة الفرح: «نعم ولكني لم أفهم تمامًا يا فولودجا. إن ليدا ستتزوج؟»
فهز سانين كتفيه وقال: «ما هذا الذي لا تفهمينه؟ لقد كانت تحب رجلًا وهي الآن تحب غيره، وغدًا تحب ثالثًا. حسن. بارك الله في معاشقها!»
فصاحت ماريا إيفانوفنا مغضبة: «ما هذا الذي تقوله؟»
فمال سانين إلى المكتب وطوى ذراعيه وسألها بغضب: «هل لم تحبي في حياتك إلا رجلًا واحدًا؟»
فنهضت ماريا إيفانوفنا وارتسمت على وجهها المغضن أمارات الشموخ والتعالي وقالت بحدة: «لا ينبغي للمرء أن يخاطب أمه بهذا اللسان.»
فسألها: «لا ينبغي لمن؟» فقالت: «ماذا تعني بمن؟»
فقال وصعد نظره فيها وصوبه: «من الذي لا ينبغي أن يتكلم.» ولحظ لأول مرة فراغ نظرة عينيها وسخافة هيئة القبعة على رأسها، فقالت بصوت مخنوق: «لا ينبغي لأحد أن يوجه إليّ مثل هذا الكلام.»
فقال سانين واستعاد سكينته وأمسك القلم: «مهما يكن من ذلك فقد فعلته وانقضى الأمر. لقد فزت بنصيبك من الحياة، ولا حق لك في منع ليدا من طلب نصيبها.»
فلم تجبه بشيء وراحت تحدجه بنظرات الدهشة وأسرعت فنفت ذكريات شبابها وكل ما كان في ليالي حبه الفرحة وعلق بذهنها هذا السؤال وحده: «كيف يجرؤ أن يخاطبني بهذا اللسان؟» وقبل أن تهتدي إلى جواب ما التفت إليها سانين وتناول يدها في رفق وقال: «لا يؤلمك هذا أو يزعجك وإنما يجب عليك أن تمنعي سارودين من دخول البيت لأنه يستطيع أن يلعب معنا دورًا قذرًا.»
فهدأت ماريا إيفانوفنا وقالت: «بارك الله فيك يا بني. وإني لمسرورة جدًّا فقد كنت دائمًا أحب ساكا نوفيكوف، نعم لا نستطيع أن نستقبل سارودين. هذا لا يمكن من أجل ساكا.»
فقال سانين وفي عينيه نظرة فكهة: «كلا! هو كما تقولين! من أجل ساكا.»
وسألته أمه: «وأين ليدا؟» أجاب سانين: «في غرفتها.»
فقالت: «وساكا؟» ونطقت مختصر اسمه هذا بعطف فقال سانين: «لا أدري: لقد ذهب إلى …»
وفي هذه اللحظة دخلت دونيكا الخادمة وقالت: «فيكتور سارودين وسيد آخر معه.»
فقال سانين: «اطرديهما من البيت.»
فابتسمت دونيكا ابتسامة صبيانية وقالت: «سيدي كيف أستطيع ذلك؟»
فقال سانين: «تستطيعين بالطبع! ما شأنهما هنا؟»
فأخفت دونيكا وجهها وخرجت. ومدت ماريا إيفانوفنا قامتها حتى صارت في رأي العين أصبى وأصغر لولا أن في عينيها نظرة شر. وكانت قد غيرت وجهة نظرها إلى الموضوع بسرعة مدهشة وسهولة عجيبة، فبعد أن كانت تحس لسارودين رقة في قلبها لما كانت ترجو أن يتزوج من ابنتها عادت فأحست له شنآنًا لما أدركت أن غيره سيتزوج منها وأن سارودين لم يكن إلا طالب حب.
واستدارت لتخرج ولحظ سانين تحجر وجهها وصلابة نظرتها فقال لنفسه: «ها هنا دجاجة عتيقة لك يا سارودين!» وطوى الرسالة التي كان يكتب وتبعها ليرى على أي حال ينتهي الأمر.
وبالغ سارودين وفلوتشين في تحيتها ولكن سارودين فقد سلاسة شمائله، وقلق فلوتشين قليلًا إذ كان قد جاء لغرض واحد هو أن يرى ليدا فاضطر أن يكتم غايته.
وبدا الاضطراب على سارودين على رغم تكلفه، وأحس أنه لم يكن يجمل به أن يأتي، وأشفق من لقاء ليدا، ولكنه لم يكن يحب أن يطلع فلوتشين على هذا السر إذ كان يريد أن يظهر أمامه في مظهر الفاتك اللهج فقال وتصنع الابتسام: «عزيزتي ماريا إيفانوفنا. اسمحي لي أن أقدم إليك صديقي بول فلوتشين.»
فقالت ماريا بأدب جاف: «مسرورة» ولمح سارودين جفوة النظرة التي في عينيها فاضطرب وأدرك أنه لم يكن ينبغي له أن يحضر بعد أن كان قد غفل عن هذا في حضرة صديقه، وقد تدخل ليدا في أي لحظة — ليدا أم طفله — فماذا يقول لها! كيف يواجهها؟ وربما كانت أمها على علم بما وقع بينهما! فاضطرب في كرسيه وأشعل سيجارة وهز كتفيه وحرك رجليه وتلفت يمينًا وشمالًا.
فقالت ماريا لصاحبه بصوت بارد متكلف: «هل تطول إقامتك هنا؟»
فقال «كلا!» وجعل ينظر إلى هذه السيدة الريفية نظرة الارتياح والرضى عن النفس وزج سيجارته في زاوية فمه، فكان الدخان يصعد إلى وجهها مباشرة فقالت: «لا شك أن الحياة هنا مملة بعد بطرسبرج.»
قال: «إنها على العكس لذيذة في هذه البلدة الصغيرة.»
قالت: «يحسن أن تزور الجهات المجاورة فإنها متنزهات بهيجة وفيها أماكن للسياحة والتجديف.»
فقال فلوتشين وبدأ يسأم: «بالطبع يا سيدتي بالطبع.»
وتعثر الحديث وصاروا جميعًا كأنما على وجوههم صور مستعارة باسمة تخفي تحتها عيونًا متعادية. ونظر فلوتشين عن عرض إلى سارودين نظرة لا سبيل إلى الخطأ في فهم مدلولها، ولم تفت سانين دلالتها، وكان يرقب كل شيء من الركن الذي وقف فيه.
ولكن خوف سارودين أن يستصغر أمره صاحبه ولا يرى فيه ما زعمه من اللباقة والجرأة والفتك رد إليه شيئًا من عازب ثقته بنفسه وجرأته فسأل ماريا: «وأين ليدا بتروفنا.»
فنظرت إليه ماريا غاضبة مذهولة وقالت له عيناها: «ما أنت وهذا إذا كنت لن تتزوجها.» ثم قالت بجفاء: «لا أدري! لعلها في غرفتها.»
فرمى فلوتشين نظرة أخرى إلى زميله معناها: «ألا تستطيع أن تستنزل ليدا بسرعة؟ إن هذه العجوز مملة.»
ففتح سارودين فمه ولوى شاربيه. وقال فلوتشين باسمًا وفرك كفيه ومال إلى ماريا إيفانوفنا: «لقد سمعت ثناء طيبًا على ابنتك فطمعت أن أتشرف بمعرفتها.»
فعجبت ماريا إيفانوفنا لهذا الوقح ماذا سمع عن ابنتها وقام في نفسها أن ابنتها زلت وهوت. فاضطربت ولانت نظرتها. فقال سانين لنفسه: «إذا لم يطردا الآن فسيسببان متاعب لليدا ونوفيكوف» ثم قال فجأة لسارودين وهو ينظر إلى الأرض مفكرًا: «سمعت أنك مسافر.»
فعجب سارودين كيف لم يخطر له هو هذا العذر واستحسن الفكرة وقال لنفسه: «لقد وجدت تكئة! إجازة شهرين.» قبل أن يجيب بسرعة: «نعم لقد كنت أفكر في السفر لأن الإنسان محتاج إلى الانتقال وطول مقام المرء في مكان واحد خليق أن يكسوه طبقة من الصدأ.»
فضحك سانين ضحكًا عاليًا وسره هذا الحديث الذي ليس فيه كلمة واحدة صادقة معبرة عن حقيقة ما في النفوس، وهذا الخداع الذي لم يخدع أحدًا.
ووجد ارتياحًا وحرية فنهض وقال: «إذن فكلما كان ذلك أسرع كان خيرًا.»
فتمزق الحجاب في لحظة واحدة، وتغير الثلاثة الآخرون، واصفرت ماريا إيفانوفنا ونطقت عين فلوتشين بالخوف الحيواني، ونهض سارودين في بطء وتردد وسأل بصوت مبحوح: «ماذا تعني؟»
وتطرح فلوتشين وجعل يتلفت باحثًا عن قبعته.
ولم يجب سانين على سؤال سارودين، بل ناول فلوتشين قبعته بخبث وكان هذا مفتوح الفم فخرج منه صوت مخنوق وصاح سارودين مغضبًا: «ماذا تعني بهذا؟» وقال لنفسه: «فضيحة!»
فأجاب سانين: «أعني أن وجودك هنا لا ضرورة له على الإطلاق، وأنه يسرنا أعظم السرور أن لا نراك.»
فتقدم سارودين خطوة وهو مضطرب وأسنانه تلمع مهددة كأسنان الوحش وتمتم وأنفاسه مسرعة: «آه! أهذا كذلك؟»
فقال سانين باحتقار: «اخرج.» ولكن لهجته بلغ من هولها أن حملق سارودين وتراجع.
وقال فلوتشين بأخفت صوت: «لا يدري إلا الشيطان معنى هذا.» ورفع كتفيه ومضى إلى الباب.
ولكن ليدا كانت واقفة في حرم الباب وفي ثياب غير مألوفة، وكان شعرها مضفرا والضفيرة مدلاة على ظهرها وثوبها واسع مرسل فزادت بساطته في جمال شكلها.
وابتسمت فظهر الشبه بينها وبين أخيها وقالت بصوتها الرخيم الغض: «هذا أنا. لماذا تسرعان؟ فيكتور سارودين ضع قبعتك.» فصمت سانين ونظر إلى أخته مذهولًا وقال لنفسه: «ماذا ترى تعني؟»
وما كادت تظهر حتى وجدوا لها تأثيرًا خفيًّا رقيقًا لا سبيل إلى مقاومته، فكأنها وهي واقفة هناك مروضة أمام قفص غاص بالوحوش الضارية، فهدأ الرجال وأذعنوا.
وتمتم سارودين: «هل تعلمين أننا …»
فلما سمعت صوته ارتسم على وجهها الألم فنظرت إليه وخامرها الأسى والرقة والأمل، ولكن هذه الإحساسات لم تلبث أن عفت عليها الرغبة الوحشية في أن تُرِي سارودين مبلغ خسارته، وأنها ما زالت جميلة وضاءة على الرغم من كل أساها وعارها اللذين كلفها إياهما.
فأجابته بصوت الآمر: «لا أريد أن أعرف شيئًا.» وأغمضت عينيها فأحدث وجودها تأثيرًا غريبًا في نفس فلوتشين فبرز لسانه الصغير الحاد من بين شفتيه الجافتين وصغرت عيناه واهتز كيانه. وقالت ليدا لسارودين: «لقد نسيت أن تعرف بعضنا ببعض.»
فتمتم: «فلوتشين بافل لفوفتش.» وقال لنفسه: «وهذه الجميلة كانت عشيقتي.»
والتذ هذا الخاطر وأراد أن يتظاهر أمام فلوتشين بغير الواقع وإن كان قد أمضه الشعور بخسارته التي لا تعوض.
فقالت ليدا لأمها في فتور: «إن أناسًا يريدون أن يقابلوك.»
فأجابت ماريا إيفانوفنا: «لا أستطيع الذهاب إليهم الآن.»
فألحت ليدا: «ولكنهم ينتظرون.»
فنهضت ماريا إيفانوفنا مسرعة وراقب سانين أخته وقالت هذه: «ألا تذهبون إلى الحديقة؟ إن الجو هنا حار لا يطاق.» ومضت الحديقة دون أن تتلفت وراءها.
وكأنما سحرتهم فتبعوها، وكأنما كانوا مقيدين إليها بخصل شعرها، فلو شاءت لجرتهم إلى حيث راقها، وكان أسبقهم فلوتشين الذي سباه حسنها ونسي كل ما عداه.
وجلست ليدا على كرسي هزاز تحت شجرة الزيزفون، ومدت قدميها الصغيرتين الجميلتين في جوربيها الشفافين الأسودين وحذائيها القصيرين، وكأنما كانت لها طبيعتان؛ إحداهما كلها أدب وخجل، والثانية كلها إحساس بنفسها وحسن دلالها. وكانت الأولى تغريها باستفظاع الرجال والحياة ونفسها.
ثم قالت وهي مطرقة: «والآن يا فلوتشين أي أثر كان لبلدتنا الصغيرة الفقيرة النائية في نفسك؟»
فأجابها فلوتشين وهو يفرك كفيه: «تأثير الزهرة المونقة تصافح عين الموغل في قلب الغابة المظلمة.»
ثم بدأ حديثٌ فارغٌ متكلف، كل ما يجري به اللسان منه كاذب راجف، وكل ما يطوونه هو الصادق. وجلس سانين في صمت يصغي إلى أحاديث النفوس الصامتة المخلصة التي كانت تنطق بها الوجوه والأيدي والأقدام واضطراب نبرات الصوت. وكانت ليدا شقية، وفلوتشين يشتاق جمالها، وسارودين يمقتها ويمقت سانين وفلوتشين والدنيا جميعها، وكان يحب أن يفارقهم ولكنه لم يستطع أن يتحرك، ونازعته نفسه أن يأتي أمرًا فاضحًا غير أنه لم يسعه إلا أن يدخن سيجارة بعد أخرى وهو أشد ما يكون رغبة أن يعلن إلى الحضور أن ليدا عشيقته.
وعادت ليدا فسألت فلوتشين: «وكيف تحب المقام هنا؟ ألا تأسف لتركك بطرسبرج وراءك.» ونفسها تتقطع حسرات وهي تعجب لأمرها لماذا لا تنهض وتدعهم.
فقال فلوتشين بالفرنسية ولوح بيده وحدق في ليدا: «على العكس!»
فقالت ليدا بدلال: «اسمع! اسمع! دعنا من الخطب الجميلة.» وكان جسمها يقول لسارودين: «إنك تظنني شقية أليس كذلك؟ وأنني سحقت؟ ولكنك يا صاحبي مخطئ! انظر إليّ!»
فقال سارودين: «يا ليدا بتروفنا! كيف تسمين هذا خطبة جميلة.»
فسألته ليدا بجفوة: «عفوًا يا سيدي ماذا تقول؟» كأنما لم تكن سمعته ثم عادت إلى كلام فلوتشين بلهجة أخرى: «حدثنا عن الحياة في بطرسبرج. إننا هنا نعيش كالنبات.»
ورأى سارودين أن فلوتشين يبتسم لنفسه ابتسامة من لا يصدق أن سارودين كانت له بها علاقة متينة فعض شفتيه وتوجع.
فتعلقت عين فلوتشين بجمال ليدا وانطلق يهضب وكأنه القرد الصغير يهذي بما لا يفهم وقال: «حياة بطرسبرج الشهيرة؟ إني أؤكد لك بشرفي أن حياتنا مملة لا لون لها. ولقد كانت هذه الحياة إلى ما قبل اليوم كذلك في بطرسبرج وفي غيرها.»
فقالت ليدا وأطبقت جفونها: «أكذلك تقول؟»
وأتم فلوتشين كلامه فقال: «إن الذي يجعل للحياة قيمة … هو المرأة الجميلة. وما ظنك بالنساء في المدن الكبرى؟ آه لو ترينهن! وصدقيني إني مقتنع بأنه لن ينقذ الدنيا ويخلصها — إذا كان شيء من ذلك مقدورًا لها — سوى الجمال.» ولم يكن يريد أن يقول هذا ولكنه نطق به فجأة لظنه أنه أليق ما يكون، وكانت لمحة وجهه ناطقة بالغباء والشره، وهو يكر في حديثه إلى موضوع المرأة الذي لم يكن أشهى منه عنده. وكان سارودين يحمر تارة ويصفر أخرى من الغيرة فلم يطق الجلوس في مكان واحد فنهض وجعل يتمشى وقال فلوتشين: «إن نساءنا كلهن سواء، كل واحدة منهن صورة طبق الأصل من الأخرى، فمن طلب امرأة يستحق جمالها العبادة فليذهب إلى الأقاليم حيث الأرض بكر تخرج آنق الأزهار.»
فحك سانين قفاه ووضع إحدى رجليه فوق الأخرى.
فقالت ليدا: «وما خير أن تنفتح هذه الأزهار هنا إذا لم يكن ثم من هو أهل لقطفها؟»
فاهتم سانين فجأة وقال لنفسه: «آها! أهذا ما تقصد إليه.» والتذ هذا التلاعب بالألفاظ.
فسألها فلوتشين: «أهذا ممكن؟»
فأجابته ليدا بحرارة: «نعم هو كذلك! وإني لأعني ما أقول من الذي يقطف أزهارنا السيئة الحظ؟ ما هؤلاء الرجال الذين نحسبهم أبطالًا؟»
فسألها سارودين: «ألا تظنين أنك قاسية علينا في هذا الحكم؟»
فقال فلوتشين: «كلا! إن ليدا بتروفنا مصيبة!» ونظر إلى سارودين فانقطع تيار فصاحته، فضحكت ليدا ضحكًا عاليًا وأثارت نظرها إلى سارودين، وقد امتزجت في نفسها عواطف الخجل والأسى والانتقام، وعاد فلوتشين إلى الكلام وجعلت ليدا تقاطعه بالضحك لتخفي دموعها.
فقال سارودين: «أظن أن الوقت قد أزف فلنقم.» وأحس أن الموقف لا يحتمل ولم يكن يدري لماذا. ولكن كل شيء — ضحك ليدا ونظراتها الساخرة واضطراب يديها — كان له وقع اللكم على الأذن وأضناه بغضه المتزايد لها وغيرته من فلوتشين وشعوره بما فقد فسألته ليدا: «بهذه السرعة؟»
فافتر ثغر فلوتشين ولحس شفتيه بطرف لسانه وقال بلهجة المتهكم وقد زهاه انتصاره: «لا حيلة لنا. إن فيكتور سارودين على ما يظهر متغير.»
وودعوا ولما انحنى سارودين على يد ليدا همس: «إن هذا فراق بيني وبينك.» ولم يشعر لليدا بمثل هذا المقت.
ونازعت ليدا نفسها هنيهة أن تودع تلك الساعات الحالية ساعات الحب التي نعما بها ولكنها خنقت هذه الرغبة وقالت بصوت خشن عال: «الوداع، سفر سعيد! لا تنسنا يا بافل لفوفتش!»
ولما انصرفا كانت ليدا وأخوها يسمعان فلوتشين وهو يقول: «ما أفتنها! إنها تسكرني مثل الشمبانيا!»
وجلست ليدا على الكرسي الهزاز وتغيرت هيئتها ومالت إلى الأمام وأطرقت وجعلت ترجف ودموعها تتساقط.
فقال سانين وتناول يدها: «تعالي! تعالي ما الخبر؟»
فقالت ليدا: «آه، دعني، ما أفظع الحياة!» وتدلى رأسها وغطت وجهها براحتيها وكانت ضفيرتها الناعمة المصقولة قد زلت عن كتفها إلى صدرها.
فقال سانين: «ما خير أن تبكي لمثل هذه التوافه؟»
فتمتمت ليدا: «أَوَليس في الدنيا إذن من هم خير من هؤلاء الرجال؟»
فابتسم سانين وقال: «كلا! على التحقيق. إن الإنسان سافل بطبيعته، فلا تتوقعي منه شيئًا من الخير وإذا وطنت نفسك على هذا لم يحزنك ما يصيبك من شره.»
فرفعت ليدا إليه عينيها الجميلتين المغرورقتين وسألته: «أولا تنتظر أنت كذلك شيئًا من الخير من أبناء جنسك؟»
فأجابها سانين: «كلا! بالبداهة. إني أعيش في هذه الدنيا وحدي.»