الفصل التاسع والعشرون
استفاض في البلدة الخبر بأن اثنين انتحرا في ليلة واحدة، وكان إيفانوف هو الذي أبلغ يوري ذلك، وكان يوري قد عاد من المدرسة وجلس يصور أخته لياليا، فقال إيفانوف ووضع قبعته على كرسي: «عم صباحًا.»
فسأله يوري باسمًا: «أهذا أنت؟ ما عندك من الأخبار؟»
وكان مزاجه معتدلًا ووجهه باشًّا، ذلك أنه صار مدرسًا، فقلت حاجته إلى أبيه، وتكفلت أخته المليحة الفتانة بشرح صدره.
فقال إيفانوف وفي عينه نظرة غامضة: «أخبار كثيرة: واحد شنق نفسه، وثان نسف دماغه، وثالث استحوذ عليه الشيطان!»
فصاح يوري: «من تعني؟»
فأجابه إيفانوف: «إن الكارثة الثالثة مما اخترع خيالي لزيادة التأثير، وأما من حيث الأولى والثانية فالخبر صحيح؛ فقد انتحر سارودين البارحة، وسمعت الساعة أن سلوفتشك شنق نفسه.»
فصاحت لياليا ونهضت: «مستحيل» ودنا يوري من إيفانوف وقال: «أهذا مزاح؟»
فقال إيفانوف: «كلا!» وأظهر عدم الاكتراث، وإن كان على هذا قد راعه ما حصل. وسأله يوري: «لماذا انتحر؟ ألأن سانين لكمه؟»
وسألت لياليا: «هل اتصل الخبر بسانين؟»
فأجابها إيفانوف: «نعم لقد علم سانين البارحة.»
فقال يوري: «وماذا يقول؟»
فهز إيفانوف كتفيه ولم يشأ أن يتحدث مع يوري عن سانين وقال بشيء من الضجر: «لا شيء! ما شأنه بهذا؟»
فقالت لياليا: «إنه السبب.»
فرد عليها إيفانوف: «ولكن لماذا اعتدى عليه ذلك الأحمق؟ إن هذا ليس خطأ سانين. والمسألة كلها مما يؤسف له، ولكن مرجعها إلى سخافة سارودين.»
فقال يوري: «إني أظن أن السبب أعمق من ذلك. لقد عاش سارودين بين زمرة …»
فهز إيفانوف كتفيه وقال مقاطعًا: «نعم، ولحياته بين هذه الزمرة السخيفة وتأثره بها دليل قاطع على أنه كان سخيفًا.»
ففرك يوري كفيه ولم ينبث، وآلمه أن يبسط إيفانوف لسانه في رجل مات وقالت لياليا: «قد أفهم لماذا قتل سارودين نفسه. فأما سلوفتشك! لم يخطر لي قط أن هذا محتمل! هل تعرف السبب؟» فأجابها إيفانوف: «الله أعلم! لقد كان دائمًا شاذًّا.» وجاء في هذه اللحظة ريازانتزيف في مركبته والتقى بسينا كرسافينا على السلم فصعدا معًا ودخلت سينا أمامه وقالت: «لقد جاء أناتول بافلوفتش من هناك.»
وتبعها ريازانتزيف ضاحكًا كعادته وفي يده سيجارة كان يشعلها وهو داخل وقال: «شيء حسن جدًّا. إذا استمر هذا لم يبق في المدينة شبان على الإطلاق.»
وجلست سينا دون أن تتكلم، وكان وجهها الجميل مكتئبًا فقال إيفانوف: «قص علينا ما تعرفه.»
فقال ريازانتزيف: «كنت خارجًا البارحة من النادي فاندفع إلي جندي وقال: «قد انتحر سعادته» فوثبت إلى مركبة وذهبت إلى هناك بأسرع ما أستطيع، فألقيت الفرقة كلها تقريبًا في المنزل وكان سارودين على الفراش وعرى ثوبه محلولة.»
فسألته لياليا وتعلقت بذراعه: «وفي أي موضع أطلق الرصاص على نفسه؟» فقال ريازانتزيف: «في رأسه، اخترقت الرصاصة دماغه ونقلت إلى السقف.»
فسأله يوري: «هل كان المسدس من طراز بروفنج؟»
فقال ريازانتزيف: «نعم. وما أفظع المنظر! لقد كان الحائط ملوثًا بالدم وعليه بعض عظام رأسه وكان وجهه ممسوخًا، لقد فعلها سانين! تاالله ما أقوى هذا الشاب!»
فهز إيفانوف رأسه موافقًا وقال: «أؤكد لك أنه قوي جدًّا.»
فقال يوري: «وحش خشن!»
فالتفتت إليه سينا وقالت: «رأيي أن هذا ليس بخطئه ولم يكن من المستطاع أن ينتظر حتى …»
فقاطعها ريازانتزيف: «نعم نعم. ولكنه لكمه لكمة فظيعة. لقد تحداه سارودين ودعاه إلى المبارزة.»
فصاح إيفانوف ضجرًا وهز كتفيه: «هذا أنت تهذي.»
وقال يوري: «الحقيقة أن المبارزة لا معنى لها.»
فوافقت سينا: «لا شك في ذلك.»
ولاحظ يوري أن سينا يسرها أن تنتصر لسانين فقال: «على كل حال هذا …» وخانته الألفاظ.
فاقترح ريازانتزيف: «عمل وحشي.»
ومع أن يوري لم يكن يعد ريازانتزيف إلا وحشًا آخر فقد سره أن يفدح في سانين أمام سينا. ولكن هذه لاحظت غيظ يوري فكفت عن الكلام، وكانت في الواقع معجبة بقوة سانين وشجاعته، ولم تكن مستعدة أن توافق ريازانتزيف على اعتبار المبارزة عملًا عادلًا. وقال إيفانوف متهكمًا: «إن من التمدين ولا شك أن ينسف المرء أنف صاحبه أو أن يبقر بطنه.» فقال ريازانتزيف: «وهل لَكْمُ الوجه خير؟»
فقال إيفانوف: «لا شك أنه خير. أي أذى تستطيع القبضة أن تلحقه بالرجل؟ إن الجرح يشفى بسرعة. وما من لكمة آذت أحدًا أذى بليغًا.»
فقال ريازانتزيف: «ليس هذا في الموضوع!»
فقال إيفانوف: «إذن ماذا فيه من فضلك!» وزم إيفانوف شفتيه ازدراء. فقال ريازانتزيف: «لقد كاد يفقأ له عينه. وأحسبك لا ترى هذا ضررًا بليغًا!»
فأجابه إيفانوف: «لا شك أن فقد العين خسارة، ولكنه ليس كدخول رصاصة في جسمك. إن فقد العين ليس قتلًا.»
فقال ريازانتزيف: «ولكن سارودين مات!»
فقال إيفانوف: «آه! ذلك إنما كان لأنه أراد أن يموت!»
فقال يوري وسرته صراحته: «يجب أن أعترف أني لم أنته إلى رأي في هذا الموضوع. ولا أعلم ماذا كنت أصنع لو أني كنت في موقف سانين. ولا شك أن المبارزة سخيفة ولكن التلاكم ليس خيرًا.»
فقالت سينا: «ولكن ماذا يصنع المرء إذا اضطر أن يقاتل؟»
فقال ريازانتزيف: «إن أسفنا يجب أن يكون على سلوفتشك.»
فقالت: «أين شنق نفسه؟ هل تدري؟»
فقال ريازانتزيف: «في الخص المجاور لجحر الكلب، أطلقه ثم شنق نفسه.» فخيل ليوري وسينا أنهما يسمعان صوتًا عاليًا يقول: «ارقد يا سلطان!»
ومضى ريازانتزيف في قصته فقال: «وقد كتب ورقة قبل موته نسختها، إنها وثيقة إنسانية.» وأخرج من جيبه مذكرته وقرأ: «لماذا أعيش إذا كنت لا أدري كيف ينبغي أن أعيش؟ إن أمثالي لا يستطيعون أن يجعلوا إخوانهم سعداء!»
فساد سكون رائع وترقرقت عينا سينا واحمر وجه لياليا وجاشت نفسها، وابتسم يوري ابتسامة حزينة والتفت إلى النافذة وقال ريازانتزيف: «هذا كل ما فيها!»
فقالت سينا وشفتاها ترجفان: «ماذا تريد أكثر من ذلك؟»
ونهض إيفانوف واجتاز الغرفة إلى المنضدة طلبًا للكبريت وقال: «إن هذا ليس إلا سخافة.»
فاحتجت سينا وقالت: «يا للعار!»
والتفت يوري إليه مشمئزًّا وقال ريازانتزيف: «لقد كنت دائمًا أعتقد أن سلوفتشك صبي يهودي سخيف فانظروا الآن ماذا فعل؟ إنه ليس أجل من الحب الذي يدفع المرء إلى التضحية بنفسه في سبيل الإنسانية.»
فأجابه إيفانوف: «ولكنه لم يضح بنفسه في سبيل الإنسانية.»
قال: «نعم ولكنه يستوي أن …»
فقاطعه إيفانوف وفي عينيه لمعة الغضب: «إن الأمرين لا يستويان. إنه عمل أبله لا أكثر ولا أقل.» فكان لبغضه الغريب لسلوفتشك أسوأ وقع في نفوسهم. ونهضت سينا وهمست في أذن يوري: «سأذهب إنه لا يطاق.»
فوافق يوري وقال بصوت خافت: «وحش.»
وخرج في أثر سينا، لياليا وريازانتزيف وجلس إيفانوف برهة يدخن ثم خرج أيضًا. وقال لنفسه وهو سائر في الطريق يطوح ذراعيه على عادته: «إن هؤلاء السخفاء يظنون أني عاجز عن فهم ما يفهمون ويلذ لي ظنهم هذا! ألا إني لأدرى بخواطرهم وإحساساتهم منهم أنفسهم، وأعلم كذلك أنه ليس أجل من الحب الذي يأمر المرء أن يبذل حياته للناس. فأما أن يشنق رجل نفسه لا لسبب سوى أنه لا خير فيه لأحد … كلام فارغ!»