الفصل الثلاثون
كان يوري مطلًّا من نافذته يشهد جنازة سارودين وهم سائرون به إلى المقبرة على ألحان الموسيقى الحربية، فرأى الخيل مجللة بالسواد وقبعة الفقيد على غطاء النعش، وكانت الأزهار كثيرة، وبين المشيعين عدد كبير من السيدات. فأحزنه هذا المنظر.
وفي مساء ذلك اليوم سار مسافة طويلة مع سينا كرسافينا، غير أن جمال عينيها وفتنة محضرها لم ينفضا عنه الكآبة وقال وعيناه إلى الأرض: «ما أهول أن يتصور المرء أن سارودين لم يعد موجودًا! ضابط وسيم مرح مثله يصبح لا شيء! لقد كان المرء يخيل إليه أنه سيعيش أبدًا، وأنه لا يعرف متاعب الحياة وآلامها وشكوكها وأن هذه لن تمسه. فانظري! في صبيحة يوم رائق ذهب كأنه التراب المكنوس بعد أن عانى تجربة فظيعة لا يدري بها سواه. والآن قد مضى ولن يعود أبدًا. أبدًا. ولم يبق منه غير القبعة على النعش!»
وسكت وكانت سينا تصغي إليه ويداها تعبثان بمظلتها ولم تكن تفكر في سارودين بل كان قربها من يوري مثار لذة حادة لها، غير أنها مع ذلك شاطرته كآبته وقالت: «نعم إن الأمر محزن وهذه الموسيقى أيضًا!»
فقال يوري بلهجة التأكيد: «لست ألوم سانين. فما كان يسعه أن يفعل غير ما فعل. وأفظع ما في الأمر أن طريقي هذين الرجلين تعارضا وصار لا بد لأحدهما من أن يخلي الطريق للثاني. ومما هو فظيع أيضًا أن المنتصر لا يدرك أن نصره مروع: يزيل رجلًا من فوق ظهر الأرض في سكون ويكون مع ذلك على حق.»
فقالت: «نعم إنه على حق …» ولم تكن قد سمعت كل ما قاله يوري وجعل صدرها يعلو ويهبط، فصاح يوري مقاطعًا وهو ينظر إلى جمال جسمها ووجهها: «ولكني أقول إن هذا فظيع!» فسألته سينا بصوت رقيق واحمر وجهها فجأة وفقدت عينها لمعتها: «لكن لماذا؟»
فأجابها يوري: «غير سانين كان حقيقًا أن يندم أو أن يعاني شيئًا من ألم الروح، ولكنه لم يظهر أي دليل على ذلك، وكل ما قاله هو أني آسف جدًّا ولكن هذا ليس خطئي. خطأ حقًّا! كأنما كانت المسألة مسألة خطأ أو ملامة!»
فسألته سينا: «إذن ماذا هي؟» وارتجف صوتها وأطرقت مخافة أن تؤلم رفيقها فقال: «هذا ما لا أعرفه. ولكن الإنسان لا حق له في أن يكون مثل الوحش في أخلاقه.»
وسارا مدة في صمت وآلم سينا ما بينهما من الجفوة الوقتية، وأسفت لانقطاع هذه الصلة الروحية التي لم يكن أعذب منها ولا أحلى، وراح يوري يظن أنه قصر في إيضاح خواطره فجرح هذا الظن إحساسه بكرامته.
ثم افترقا وكانت سينا مكتئبة متألمة، ولاحظ يوري اكتئابها فسره كأنما انتقم لنفسه من إهانة شخصية. وزاد سوء خلقه لما صار في البيت. وقصت لياليا على المائدة ما قال لها ريازانتزيف عن سلوفتشك. وخلا يوري بنفسه في غرفته وشرع يصحح كراسات تلاميذه ويحدث نفسه: «ما أعظم نصيب الإنسان من الوحشية! وهل مثل هذه الوحوش البليدة تستحق أن يموت في سبيلها المرء؟» ثم خجل من عدم تسامحه وقال: «إنهم غير ملومين! ولا يعرفون ما يفعلون. وسواء عرفوا أم لم يعرفوا فهم وحوش ولا شيء غير ذلك.»
ثم كرت خواطره إلى سلوفتشك فقال: «ما أشد وحدتنا في هذه الدنيا! هذا سلوفتشك كان بين ظهرانينا، عظيم القلب مستعدًّا أن يبذل كل تضحية في سبيل غيره. ومع ذلك لم يحسه أحد ولا قدره أحد. بل الواقع أننا كنا نحتقره. وذلك لأنه لم يكن يحسن العبارة عن نفسه، ولم يكن لرغبته في إرضاء الناس من أثر سوى إسخاطهم، وإن كان في الحقيقة قد حاول أن يوثق صلاته بنا وأن يساعدنا. ألا لقد كان قديسًا نظنه قدمًا غبيًّا.»
واشتد ندمه حتى لترك عمله وجعل يقطع الغرفة ثم جلس إلى المنضدة وفتح الإنجيل وقرأ فيه: «كما تنفد السحابة وتغيب كذلك من يهبط إلى الأرض لا يصعد أبدًا، ولا يعود إلى بيته لا ولا يعرف مكانه بعد ذلك.»
ثم قال: «ما أصدق هذا وأحكمه! حتم فظيع! هذا أنا أعيش ويلج بي الظمأ إلى الحياة واللذات. ثم أقرأ هذا القضاء المبرم ولا يسعني حتى أن أحتج عليه!»
ثم ثار يأسه فأمسك بجبينه وناشد القوة الخفية: «ماذا جنى الإنسان عليك حتى تسخري منه هذا السخر؟ إذا كنت موجودة فلماذا تخفين نفسك عن عينه؟ لماذا تجعليني إذا آمنت بك لا أؤمن بإيماني؟ وإذا أجبتني كيف أعرف أأنت المجيبة أم نفسي؟ وإذا كنت على حق في رغبتي في الحياة وطلبي لها فلماذا تسلبيني هذا الحق الذي منحتني إياه؟ إذا كانت بك حاجة إلى آلامنا فدعينا نحملها من أجل حبنا لك. ولكنا لا نعرف أيهما أعظم قيمة الشجرة أم الإنسان.»
«إن الشجرة دائمة الأمل. إذا قطعت استطاعت أن تقوم مرة أخرى وأن تسترد الخضرة وتفوز بحياة جديدة، أما الإنسان فيموت ويزول؛ يرقد فلا ينهض كرة أخرى، ولو أني كنت على يقين من أني سأحيا مرة ثانية بعد ملايين السنين لرضيت أن أنتظر في صبر كل هذه القرون في الظلام.»
ثم قرأ: أي ربح يجنيه الإنسان من كل تعبه تحت الشمس؟ «جيل يمضي وجيل غيره يأتي ولكن الأرض تبقى إلى الأبد.» «والشمس أيضًا تطلع وتنحدر وتسرع إلى مكانها الذي طلعت منه.» «والريح تهب صوب الجنوب ثم تكر إلى الشمال وتدور أبدًا.» «ما رأيناه أمس نراه اليوم وسنراه غدًا. لا جديد تحت الشمس.» «ليس ثم ذكرى لما مضى. ولن تكون ثم أي ذكرى لما سيأتي في نفوس من سيتلوننا.» «أنا الواعظ كنت ملكًا على بني إسرائيل في أورشليم.»
ولما وصل إلى هذه الجملة رفع بها صوته مغضبًا يائسًا ثم تلفت حوله مخافة أن يكون قد سمعه أحد ثم تناول ورقة وشرع يكتب: «أبدأ هذه الوصية التي تنتهي حياتي بانتهائها …»
ثم قال: «رباه! ما أسخف هذا!» ودفع الورقة بعنف فسقطت على الأرض ثم عاد فقال: «ولكن ذلك المسكين الشقي سلوفتشك لم ير من السخافة أنه يعجز عن فهم معنى الحياة!»
ولم يفطن يوري إلى أنه يتمثل برجل يصفه بأنه مسكين شقي. «وعلى كل حال فهذا مصيري عاجلًا أو آجلا لا مفر من ذلك! ولكن لماذا؟ لأن …»
ووقف. وخيل إليه أن الجواب الدقيق المضبوط حاضر ولكن الألفاظ تنقصه. وكان ذهنه قد تعب واضطربت خواطره وقال: «لماذا لم أمت وأنا طفل لما مرضت بالتهاب الرئتين؟ إذن لارتحت!» وارتعد لهذا الخاطر «ولو حدث هذا لما رأيت ولا عرفت ما أعرف الآن. وهذا فظيع أيضًا.»
ورد رأسه إلى الوراء ونهض «إن هذا كفيل بأن يجن المرء.»
ومضى إلى النافذة وحاول أن يفتحها ولكن مصراعيها كانا مقفلين من الخارج، فاستخدم قلما وفتحهما ودخل الهواء البارد فنظر إلى السماء ورأى ضوء الفجر في الأفق. وكان الفجر وضيئًا ونجوم الدب الأكبر السبعة بادية، وفي الشرق المتوهج يومض كوكب الصباح. وهب نسيم عليل فحرك أوراق الشجر ومزق الضباب الذي كان يحجب صفحة الغدير حيث الأزاهير يانعة. وكانت السماء موشاة بالسحب والنجوم هنا وهنا تتلامح. وكل شيء جميل رائع كأنما كانت الأرض تتأهب لاستقبال الفجر.
ثم انقلب إلى فراشه ولكن الضوء حال بينه وبين النوم فظل مستلقيًا ورأسه موجع وعيناه مفتوحتان كمغمضتين.