الفصل الحادي والثلاثون
خرج إيفانوف وسانين في صباح ذلك اليوم مبكرين، وكان الطل يومض في أشعة الشمس والحجاج يدلفون إلى الدير وكانت نواقيسه تدق وتجلجل والريح تحمل أصواتها على السهوب إلى الغابات الحالمة فقال إيفانوف: «لقد بكرنا.» فتلفت سانين حوله مغتبطًا مسرورًا وقال: «إذن فلنجلس قليلًا.» فجلسا على الرمل وأشعلا سيجارتين، وكان الفلاحون السائرون وراء مركباتهم يتلفتون لينظروا إليهما والنساء، والبنات يشرن ويتضاحكن، ولم يلتفت إيفانوف إلى شيء من هذا، ولكن سانين كان يبتسم ويهز رأسه لهن.
ثم بدا على سلم بيت صغير أبيض سقفه أخضر لامع صاحب خمارة «الكرون» وهو رجل طويل قصير كمي القميص وفتح الباب وهو لا يكف عن التثاؤب، ودخلت في إثره امرأة على رأسها منديل أحمر فقال إيفانوف: «دعنا ندخل.» ففعلا واشتريا قليلًا من الفودكا وبعض البقل والخضر والخبز. فقال إيفانوف لما رأى سانين يخرج كيسه: «آها! إن مالك كثير على ما يظهر يا صديقي.»
فقال سانين ضاحكًا: «لقد أخذت دفعة مقدمًا. وذلك أني على نقيض رغبة أمي قبلت أن أكون سكرتيرًا لشركة تأمين، وبهذه الطريقة استطعت أن أظفر بشيئين: قليل من المال واحتقار أمي.»
ولما صار في الطريق مرة أخرى قال إيفانوف: «أوه! إني أشعر أني الآن أحسن وأسعد!»
فقال سانين: «وكذلك أنا وما قولك في أن نخلع نعالنا؟»
فقال إيفانوف: «حسن جدًّا.»
وخلعا نعالهما وجواربهما وسارا حافيين على الرمل البليل الدافئ واستلذا ذلك بعد أن نزعا أحذيتهما الثقيلة. وقال سانين وتنفس تنفسًا عميقًا: «بديع أليس كذلك؟»
وكانت الشمس قد زادت حرارتها وهما ماضيان عن البلدة صوب الأفق الأزرق، وكانت الأطيار على أسلاك التلغراف، ومر بهما قطار ركاب، مركباته خضراء وصفراء وزرقاء ووجوه الركاب المتعبين مطلة من نوافذها، وفي آخر مركبة منه فتاتان جميلتان جعلتا تتأملان هذين الحافيين وفي عيونهما أمارات الدهشة، فضحك منهما سانين وارتجل رقصة عنيفة.
ورأيا على كثب منهما مرجًا ترتاح القدم إلى السير على نجائله فقال إيفانوف: «ما أبدع هذا.»
فقال صاحبه: «إن الحياة اليوم تستحق أن تحيا.» فنظر إيفانوف إلى سانين وخطر له أن هذه الكلمات تذكره بسارودين وبالمأساة الأخيرة، ولكن خواطر سانين كانت على ما يظهر أشد ما تكون انصرافًا عن هذا، فعجب إيفانوف إلا أن ذلك لم يسؤه.
واجتازا المرج إلى السكة الكبرى الحاشدة بالفلاحين ومركباتهم وفتياتهم، ثم بلغا الأشجار ومن ورائها النهر وإلى ناحية أخرى الدير قائمًا على تل وفوقه صليب يلتمع كالنجم المتوهج. وكانت على الشاطئ زوارق موشاة فاستأجرا منها واحدة، وكان إيفانوف يحسن التجديف، فانطلق الزورق يشق الماء ويفرق تياره، وكانت المجاديف ربما لمست أعشابًا أو أغصانا غائصة إلى قريب من رءوسها فتظل تضطرب وترتعش على سطح الماء بعد كل لمسة. وكان سانين يجدف بحدة حتى صار الماء يرغي ويزبد ويتدفع حول الدفة. وبعد لأي ما بلغا مكانًا ظليلًا بليلًا، وكان الماء من الصفاء بحيث يستطيع المرء أن يرى قاعه وما فيه من الحصى والأسماك فقال إيفانوف: «هذا مكان يحسن أن ننزل فيه.» فدفعا الزورق إلى الشاطئ ووثبا عنه وقال سانين: «لن تجد خيرًا من هذا المكان!» وغاص إلى ركبتيه في الحشائش فقال إيفانوف: «كل مكان حسن تحت الشمس.» وجاء بالشراب والخبز والخضر ووضع كل ذلك على الحشائش تحت شجرة ثم استلقى، وكانا قد نسيا الأكواب فتسلق سانين شجرة وقطع غصنا وقور جزءًا منه اتخذه كأسًا، فقال إيفانوف وكان يراقب سانين باهتمام: «ولنستحم بعد ذلك.» فقال سانين: «فكرة حسنة.» وقذف الكأس في الهواء والتقطها ثم جلسا ووقعا على الشراب والطعام، ولما أصابا كفايتهما قال إيفانوف: «لا أستطيع أن أنتظر الآن وسأذهب إلى الماء لأستحم.» وخلع ثيابه، ولما كان لا يحسن السباحة فقد اختار موضعًا قريبًا للفور، وكان سانين يراقبه ثم نضا عنه ثيابه في بطء وهدوء واندفع إلى أعمق مكان في النهر، فصاح به إيفانوف: «حاذر أن تغرق.» فضحك سانين وقال: «لا تخف.» بعد أن طفوا على وجه الماء وكان الجو يتجاوب بأصواتهما الطروبة ثم خرجا من الماء ورقدا على الحشائش وهما عاريان وجعلا يتقلبان فوقها، ثم صاح إيفانوف «هورا» وشرع يرقص رقصًا عنيفا خشنًا، فضحك سانين ووثب على قدميه وانطلق يرقص مثله، وكان جسماهما يلتمعان في ضوء الشمس وكل عضلة ظاهرة، ثم كف إيفانوف وقال لصاحبه: «تعال وإلا شربت كل ما بقي من الفودكا.» فلبسا ثيابهما وأتيا على ما بقي من الطعام والشراب وتمنى إيفانوف شربة ماء مثلجة. وقال: «دعنا نعد.» فراحا يعدوان بأسرع ما يستطيعان إلى الشاطئ وانحدرا إلى الزورق ودفعاه.
ثم قال سانين وكان راقدًا في قاع الزورق: «ألا تحس لسع الشمس؟ فأجابه إيفانوف: «هذا نذير المطر فانهض وجدف بالله.»
فقال سانين: «إنك قادر على هذا وحدك.» فضرب إيفانوف الماء بالمجدافين ضربة أطارت الرشاش إلى سانين فقال: «أشكرك» ومرا بموضع تكسوه الخضرة فسمعا ضحكًا وأصوات فتيات مرحات فقال إيفانوف: «فتيات يستحممن.» فاقترح سانين: «دعنا نذهب لننظر إليهن.» فقال إيفانوف: «ربما أبصرننا.»
أجاب سانين: «كلا لن يستطعن. وفي وسعنا أن ننزل هنا وأن ندخل بين الحشائش.» فخجل إيفانوف وقال: «دعهن.»
فأجابه: «تعال.» فقال: «لست أحب أن …»
فأجابه: «لست تحب ماذا؟»
فقال: «إنهن فتيات صغيرات، ولا أظن هذا يجمل بنا.» أجاب سانين: «إنك مجنون. هل تريد أن تقول إنك لا تشتهي أن تراهن؟» فقال إيفانوف: «ربما كنت أشتهي ولكن.»
أجاب سانين: «إذن فلنذهب إليهن ودع عنك هذا الحياء الكاذب، من ذا الذي لا يفعل ما نفعل إذا أتيحت له الفرصة؟»
فقال إيفانوف: «ولكنك إذا كنت تذهب إلى هذا فلماذا لا تراقبهن علنا؟! لماذا تختفي؟»
أجاب سانين مسرورا: «لأن الاختفاء ألذ وأمتع.»
قال: «ربما كان كذلك ولكني أنصح لك …»
أجاب: «احترامًا للعفاف على ما أظن؟» قال: «نعم.»
أجاب: «ولكن العفاف هو عين ما ينقصنا.»
فقال إيفانوف: «إذا أذنبت عينك فاقلعها.»
فصاح سانين: «أوه! أرجوك أن تكف عن هذا الكلام الفارغ وأن لا تكون مثل يوري. إن الله لم يعطنا عيوننا لنقلعها.» فابتسم إيفانوف وهز كتفيه، وقال سانين وأدار الدفة بحيث يمضي الزورق إلى الشاطئ: «اسمع يا فتى! إذا رأيت فتيات يستحممن ولم يحرك منظرهن في نفسك أية شهوة كنت في حل من أن تدعي العفاف. ومع أني آخر من يحاكيك في ذلك فإن مثل عفتك هذه تفوز عندئذ بإعجابي واحترامي، فأما وقد فطرنا على هذه الشهوات الطبيعية فإن محاولة خنقها تكون رياء ونفاقًا.»
فقال إيفانوف: «إن هذا حسن، ولكن إذا لم يكن ثم كابح للرغبات وجماح الشهوات أفضى الأمر إلى الشر.»
فأجابه سانين متهكمًا: «أي شر يا ترى؟ إن للشهوانية آثارًا سيئة أسلم لك بها ولكن هذا ذنب الشهوانية.»
فقال إيفانوف: «ربما كان الأمر كذلك ولكن …»
فقاطعه سانين قائلًا: «حسن جدًّا إذن فهل تأتي معي؟»
أجاب: «نعم ولكني …» قال سانين وهما يتسللان وسط الحشائش والأعشاب: «مغفل! هذا أنت اتئد ترفق. لا تحدث هذا الصوت.» فقال إيفانوف بحماسة: «انظر هنا! بأمل!» وكان ظاهرًا من الثياب والقبعات المكومة على الحشائش أن السابحات أتين من البلدة، وكانت بعضهن تضرب بيدها مرحة في الماء، وكانت قطراته تزل كالفضة عن أعضائهن اللينة الناعمة. وكان إحداهن واقفة على الشاطئ طلقة وضاحة، والشمس تضاعف جمال جسمها الذي كان يهتز وهي تضحك!
فقال سانين وفتنه هذا المنظر: «تأمل هذا!»
ففزع إيفانوف متراجعًا وسأله سانين: «ما خطبك؟»
فأجابه: «إنها سينا كرسافينا!»
وقال سانين: «نعم هي بعينها. ولكني لم أعرفها. ما أفتن جمالها!» فقال إيفانوف: «نعم هي كذلك!»
وعلت الأصوات وكثر الضحك في هذه اللحظة، فعلما أن الفتيات قد سمعتهما وفزعت سينا فألقت بنفسها في الماء. ولم يعد باديًا منها سوى وجهها الوردي وعينيها اللامعتين. وفر سانين وصاحبه إلى الزورق وقال سانين لما بلغاه: «ما أحسن أن يكون الإنسان حيًّا!» ومط جسمه وغنى فتجاوب الفضاء بصوته الرنان الصافي، وكانت ضحكات الفتيات لا تزال تسمع، فتطلع إيفانوف إلى السماء وقال: «ستأخذنا السماء.» وأظلمت الأشجار واكفهر الأفق وارتمت الظلال الحالكة على المروج، فقال إيفانوف «يجب أن نعجل بالهرب.»
فقال سانين وهو مغتبط: «أين؟ إنه لا مفر لنا الآن!»
وركدت الريح وزاد السكون والجهامة فقال إيفانوف: «سيغمرنا المطر فأعطني سيجارة أتسلى بها.»
وأشعل عودًا من الكبريت كان ضوءه كابيًا في هذه الظلمة، فثارت هبة من الريح مباغتة فأطفأته، وسقطت قطرة كبيرة في الزورق وأخرى على جبين سانين ثم هطل المطر وخشخشت الأشجار، وكان للقطر وهو ينهمل على النهر صوت الصفير، وفتحت ميازيب السماء، ولم يعد يسمع إلا صوت تدفق المطر فقال سانين: «بديع هذا أليس كذلك؟» وحرك كتفيه وكان القميص قد لصق بهما فقال إيفانوف: «ليس بالسيئ جدًّا.» وتجمع في قاع الزورق.
وما لبث المطر أن انقطع، وإن كانت السحب لم تنقشع، بل ظلت مكدسة وراء الغابة حيث كانت ترسل سهامًا من البرق إلى حين فقال إيفانوف: «يجب أن نرجع.» فوافق سانين وخرجا بالزورق في وسط التيار، وكانت السحب السوداء الكثيفة معلقة فوقهما، والبرق لا يكف عن الإثخان في كبد السماء. ولم يكن ثم مطر، ولكن الإحساس بالرعد كان شائعًا في الجو، وجعلت الطيور تخطف في الجو فوق سطح الماء وهي مبتلة الريش فصاح إيفانوف: «هو هو!»
ثم نزلا وسارا على الرمال وكان الظلام قد اشتد، وجعلت السحب تدنو وتسف هيادبها إلى الأرض، وهبت الريح فجأة، فثارت زوابع من التراب وأوراق الأشجار، ثم جلجل الرعد فكأنما انفطر كمد السماء وتعاقب البرق والرعد فصاح سانين: «أو هو! هو هو.» كأنما يريد أن يعلو صوته ضجة الطبيعة، ولكنه لم يكن يسمع حتى صوته.
وبلغا الحقول وكان الظلام قد أسلف والبرق يضيء لهما طريقهما ولم ينقطع الرعد فصاح سانين: «أوه! ها! هو!»
فسأله إيفانوف: «ما هذا؟»
وفي هذه اللحظة أضاء البرق فلمح إيفانوف وجه سانين وكان متوقدًا هاشا ثم أضاء مرة أخرى فإذا سانين مفتوح الذراعين يناجي العاصفة!