الفصل الثاني والثلاثون
كانت الشمس مضيئة والجو ساكنًا صافيًا إلا أن فيه ريح الخريف، وكان يوري يتمشى في الحديقة وهو غارق في خواطره، ينظر إلى السماء وإلى الأوراق الخضراء والصفراء وصفحة الماء المصقولة وكأنه يودعها، ويريد أن يعلق صورها بذاكرته حتى لا يُعَفِّي عليها النسيان. وكان يحس شيئًا من الكمد كأن كل ساعة تمضي بشيء ثمين لا سبيل إلى استرداده، شبابه الذي لم يغتبط به ومكانه باعتباره رجلًا نافعًا عظيمًا في العمل الذي وقف عليه كل حياته. ولم يكن يدري كيف انخذل. وكان مقتنعًا بأن له قوى كامنة يسعها أن تقلب العالم وعلمًا واسعًا لا يدانيه عقل سواه، غير أنه لم يكن يعرف تعليلًا لاقتناعه هذا، وكان يخجل أن يصارح به حتى أصدق أصفيائه.
وقال وهو يتأمل ظلال الأشجار في الماء: «آه! حسن، لعل ما أفعل الآن هو أحكم ما يمكن. والموت يُعَفّي على كل شيء مهما عاش المرء أو حاول أن يعيش. أوه! هذه لياليا آتية! ما أسعدك يا لياليا إنك تعيشين كالطائر من يوم إلى يوم لا تطلبين شيئًا ولا ينغص عليك حياتك شيء! ألا ليتني أستطيع أن أحيا حياتها …!»
على أن هذا لم يكن إلا خاطرًا زائلًا لأنه لم يكن في الحقيقة يتمنى أن يعتاض من آلامه الروحية هذا الوجود الضيق الذي يتمثل في شخصية لياليا.
ونادته ليا «يوري! يوري!» بصوت عال، وإن لم يكن بينهما إلا ثلاث خطوات، وضحكت بخبث ورمت إليه برسالة وردية اللون، فتوقع يوري أمرًا وسألها بحدة: «ممن؟»
فقالت لياليا: «من سينوتشكا كرسافينة.» وهزت له إصبعها.
فصار وجه يوري كالجمرة المتقدة، وخيل إليه أن من الحمق إن لم يكن من السخافة المطبقة أن يتلقى رسالة وردية اللون معطرة عن طريق أخته. وكربه ذلك جدًّا وانطلقت لياليا وهي سائرة بجانبه تتحدث عن حبه لسينا على عادة الأخوات اللواتي يعنيهن معاشق إخوتهن، وجعلت تصف له حبها لسينا ومبلغ سرورها إذا تزوج منها، وما كادت تفوه بكلمة الزواج المنحوسة حتى احتقن وجه يوري وطار الشر من عينه، وتمثلت له الصورة المبتذلة المألوفة البيت والزوجة والبنون، وكان لا يفزع من شيء فزعه من أن يكون له بنون.
فقال بصوت حاد أذهل أخته: «كفى هراء من فضلك!»
فأجابته مغضبة: «ما لك تكبر الأمر إلى هذا الحد؟ وماذا يهم إذا كنت عاشقًا؟ إني لا أفهم لماذا تتظاهر بأنك بطل غريب؟»
وكان في الجملة الأخيرة أثر من المكايدة النسوية، فنفذ السهم إلى القلب، وما كادت تفرغ من الكلام حتى انصرفت عنه، ودخل البيت،
عزيزي يوري
إذا سمح لك الوقت وآتتك الرغبة فإني أنتظر أن أراك اليوم في كنيسة الدير، وستكون معي عمتي وستظل في الكنيسة الوقت كله. وأخشى أن يفدحني الملل وبودي أن أحدثك عن شئون كثيرة، فوافني هناك. ولعلي أخطأت في الكتابة إليك ولكني على كل حال في انتظارك.
فطار في لحظة واحدة كل ما كان يشغل خواطره ويكظ ذهنه، وجعل يتلو الرسالة مرة بعد أخرى فرحًا مسرورًا، فقد كشفت هذه الفتاة الطاهرة الفتانة بجملة واحدة عن سر حبها له، فكأنها جاءت إليه يحدودها الحب وبذلت له نفسها، وأحس أن غايته دنت فأخذته الرعدة لما تصور أنه مالكها، وحاول أن يبتسم متهكمًا ولكن جهده ذهب عبثًا، فقد شاعت الغبطة في نفسه حتى أحس أنه كالطائر يستطيع أن يحلق فوق رءوس الأشجار ويسبح في الهواء المشمس تحت السماء الزرقاء.
ولما همت الشمس بالمغيب اكترى مركبة إلى الدير، وكان دونه النهر فركب زورقًا عبر به إلى الشاطئ الآخر، ولم يشعر إلا وهو في عرض النهر أن سعادته مبعثها تلك الرسالة الوردية فقال يحدث نفسه: «الأمر بسيط لقد عاشت عمرها في دنياها هذه. وإنها لرواية غرامية ريفية وماذا إذا كانت كذلك؟»
وكان الماء يضرب جانبي الزورق في رفق وهو يدنو من التل الأخضر، وما كاد يصل إليه حتى أنقد الملاح نصف روبل ثم شرع يصعد التل، وكانت الشمس قد دلفت إلى مغربها وانبسطت الظلال عند سفح المنحدر، وتصاعد الضباب الكثيف فخفيت وراءه ألوان الأشجار، وكان فناء الدير ساكنًا جليلًا، والأشجار كأنها تصلي، والرهبان يروحون ويغدون كالأشباح، والمصابيح تضيء فوق باب الكنيسة، ورائحة البخور ساطعة.
وناداه صوت من ورائه: «مرحبًا بك يا يوري!»
فالتفت فإذا شافروف وسانين وإيفانوف وبيتر الليتش يجتازون الفناء ويتحدثون بصوت عال والرهبان ينظرون إليهم وجلين، حتى الأشجار عادت وكأنما فقدت شيئًا من سكون العبادة. فقال شافروف ودنا منه وكان يجل يوري: «لقد حضرنا جميعًا.» فقال يووي: «نعم أراكم.» فسأله شافروف: «ألا ترافقنا؟» ودنا منه.
فأجابه يوري: «كلا! أشكرك إني مرتبط بموعد.»
فصاح إيفانوف: «أوه! هذا حسن سترافقنا إني أعرف ذلك.» وأمسك بذراعه فحاول يوري أن يتخلص وصاح: «كلا! لعن الله هذا! لا أستطيع. ربما لحقت بكم فيما بعد.»
ولم ترقه خشونة إيفانوف. فقال هذا: «حسن سننتظرك فلا تنس أن توافينا.»
فافترقوا وعادت السكينة فخيمت على الفناء، فخلع يوري قبعته ودخل الكنيسة وبه حياء وزراية، ووقعت عينه على سينا على مقربة من أحد العمدان فأسرعت دقات قلبه، وما كان أحلاها وأفتنها وأجمل شعرها الأسود المجموع إلى جيدها الأتلع، وكأنما شعرت بنظرته فتلفتت حولها والتمعت في عينيها الغبطة والحياء.
فقال يوري بصوت خفيض: «كيف أنت؟» ولم يدر أيصافحها في الكنيسة أم يمتنع عن ذلك، وتلفت كثيرون من الحضور فقلق يوري، بل لقد خجل، ولمحت سينا خجله فابتسمت له ابتسامة الأم وفي عينها نور الحب، ويوري واقف هناك سعيدًا طائعًا. ولم ترم إليه سينا بنظرة أخرى، بل جعلت ترسم الصليب على صدرها بحماسة وورع، ولكن يوري كان على يقين من أنها تفكر فيه، فكان يقينه هذا بمثابة عروة سرية وثقت ما بين قلبيهما فاضطربت دماؤه في عروقه، وبدا له كل شيء عجيبا خفي الأمر — قلب الكنيسة والتراتيل والأضواء وزفرات المتعبدين ووقع أقدام الداخلين والخارجين — كل ذلك لاحظه يوري، وكان يسمع في هذا السكون العميق خفقان قلبه وهو واقف لا يتحرك وعيناه قيد حد سينا وقدها، وكأنما كان يجب أن يقول لكل إنسان إنه لا يؤمن بالصلاة ولا الترتيل ولا الأضواء، ولكنه مع ذلك لا يقاومها، فأفضى به هذا إلى المقارنة بين غبطته الحالية واكتئابه في صبيحة هذا اليوم.
وسأل نفسه: «إذن فالمرء يستطيع أن يكون سعيدًا؟ لا شك أن كل آرائي الخاصة بالموت وعبث الحياة منطقية، ولكن الإنسان يستطيع على رغمها جميعًا أن يسعد ويهنأ. وإذا كنت سعيدًا فإن ذلك من فضل هذه الفتاة الجميلة التي لم أرها إلا منذ زمن قريب.»
رب إن كنت موجودًا فاجعل هذه العذراء تحبني واجعل حبي لها عظيمًا أبدًا.
ثم قال لنفسه وقد أخجلته عاطفته: «إن هذا كله كلام فارغ.» وهمست في أذنه سينا أن «تعال» وكان صوتها كأنه الزفرة، ومضيا إلى الفناء وخرجا من الباب الصغير المفضي إلى سفح الجبل، ولم يكن ثم أحد فكأن السور العالي قد حجبهما عن عالم الرجال، وكانت غابة البلوط تحت أرجلهما والنهر هناك يلتمع كأنه مرآة من الفضة، فتقدما إلى حافة المنحدر وكلاهما يشعر أن عليه أن يفعل شيئًا ولكن الشجاعة تنقصه، ثم رفعت سينا رأسها فالتقت شفتاها وشفتا يوري فاضطربت واصفرت وهو يحتضنها، وأحست لأول مرة أن جسمها الدافئ اللين بين ذراعيه. ودق ناقوس في هذا السكون، فخيل ليوري أنه إيذان بالاحتفال بهذه اللحظة التي وجد فيها كل منهما صاحبه ثم ضحكت سينا وتخلصت منه وقالت: «ستعجب عمتي مني ماذا أصنع! انتظر هنا فسأعود إليك.» ولقد ظل يوري لا يدري أقالت ذلك بصوت عالٍ تجاوبت بأصدائه الغابة أم سبحت إليه الألفاظ كالهمسة على أجنحة النسيم، فجلس على الحشائش وسوى شعره وسمع سينا تقول: «إني آتية يا عمتي!»