الفصل الثالث والثلاثون
تجهم الأفق ثم خفي النهر وراء الضباب وحملت الريح من المراعي صهيل الخيل هنا وهناك وتوامضت الأضواء الضعيفة. وكان يوري جالسًا ينتظر أن تعود سينا فجعل يعد هذه الأضواء: «واحد. اثنان ثلاثة. أوه. إن هناك رابعًا عند طرف الأفق كأنه النجم الضئيل، والفلاحون جالسون حوله يصنعون طعامهم ويتحدثون. أما النار التي هناك فقرية عالية اللهيب والخيل إلى جانبها تنفخ، ولكنها ليست مع هذا البعد إلا شعلة ضئيلة قد تخمد أو تغيب في أية لحظة.»
وصعب عليه أن يفكر في شيء ما لأن إحساسه بالسعادة والهناء استغرق كل مشاعره، وكان ربما تمتم من حين إلى حين تمتمة الفزع: «ستعود حالًا.»
وهكذا ظل ينتظر على قمة التل ويصغي إلى الخيل وصيحات البط فيما وراء النهر، وإلى ألف شيء آخر عرضي مما يحمله إليه النسيم عن الغابة. ثم سمع وقع أقدام تسير وراءه وحفيف ثوب تعبث به الريح، فعلم وإن كان لم يتلفت أنها هي قد جاءت، فارتجف لما تصور ما عسى أن يحدث. ووقفت سينا ساكنة بجانبه وأنفاسها معلقة، فأمسك بها يوري وحملها بين ذراعيه وسرته جرأته، وانحدر بها إلى سفح التل وكادت قدمه تزل فأسرت إليه «ستقع» واحمر وجهها وهي على هذا مغتبطة. وكان الظلام طاغيًا فوضع يوري سينا وجلس إلى جانبها، ولما كانت الأرض منحدرة فإنهما كانا كالمستلقيين جنبًا إلى جنب، فألصق يوري فمه بفمها في قبلة عن أحر عاطفة وأجمحها، ولم تتأوب أو تتمنع ولكنها كانت تضطرب اضطرابًا عنيفًا.
ثم تمتمت وهي تلهث وكان صوتها خافتًا كأنه همسة من الغابات: «أتحبني؟» فسأل يوري نفسه وهو مذهول: «ماذا أنا صانع؟.»
فجاء هذا الخاطر كالثلج وحار كل شيء في لحظة وصار كنهار الشتاء تنقصه القوة والحياة، وكانت عينا سينا تستجوبانه وتحاولان أن تستشفا من وجهه ما انطوت عليه ضلوعه، فلما رأت محياه وتغير سحنته تراجعت عنه وتخلصت من عناقه، وصار صدر يوري ميدانًا للعواطف المتدافعة، فأحس أن التراجع سخيف، وشرع من جديد يلاطفها في فتور وضعف وهي تقاومه بمثل فتوره وبروده، وعاد الموقف وليس أسخف منه في نظر يوري فأخلى سبيلها وكانت تلهث كالطريدة.
وساد سكون أليم ثم قال فجأة: «عفوًا … لا بد أني جننت!» فأسرعت أنفاسها وخطر له أنه لم يكن ينبغي أن يقول هذا الكلام الذي لا بد أن يكون قد آلمها وجرح نفسها، فأخذ على غير إرادته يعتذر بما يعلم أنه كاذب مزيف، ولم تكن له إلا رغبة واحدة هي أن يعود أدراجه لأن الموقف صار لا يحتمل.
ويظهر أنها لمحت ذلك فقد قالت: «ينبغي … أن أذهب.»
فنهضا ولم ينظر أحد منهما إلى صاحبه، وحاول يوري للمرة الأخيرة أن يوقظ نائمة إحساساته فعانقها عناقًا فاترًا، فتحركت في نفسها عاطفة الأمومة وكأنما أحست أنها أقوى منه فدنت منه ولصقت بصدره ونظرت إلى عينيه وابتسمت ابتسامة رقيقة عذبة وقالت: «عم مساء تعال إلي غدًا.» ثم طبعت على فمه قبلة حلوة أذهلت يوري ودار لها رأسه ووقف منها موقف العابد من ربه.
ولما انصرفت عنه ظل برهة طويلة يصغي إلى وقع قدميها، ثم التقط قبعته ونفض عنها أوراق الشجر الذاوية قبل أن يضعها على رأسه، ومضى إلى الدير من طريق طويل تفاديًا من لقاء سينا.
وقال لنفسه: «آه! ألا بد لي من تدنيس هذه الفتاة الطاهرة النقية؟ أينتهي الأمر بأن أفعل ما يفعله أي رجل غيري من الأوساط؟ بارك الله فيها! إن هذا يكون خسة ودناءة. ويسرني أني لم أَهْوِ إلى هذا الحضيض. وما أفظع ذلك! في لحظة واحدة، بدون كلام … ينقلب الإنسان حيوانًا!»
وهكذا كان يفكر مشمئزًّا مما كان قبل لحظة مبعث سرور وقوة له. وتنازعه الإحساس بالخجل والسخط، حتى رجلاه كان يجرهما، وحتى قبعته كانت على رأسه، وكأنها على رأس ممرور أبله.
ثم سأل نفسه يائسًا: «وبعد فهل أنا في الحقيقة كفء للحياة؟»